الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقَوْلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنَ الْأَبِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنًا، وَنَفَقَةُ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَالِكِهِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُرْتَهِنُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، فَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى رَبِّهِ كَانَ أَحَقَّ بِالرُّجُوعِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ، فَإِنْ قَالَ الرَّاهِنُ: أَنَا لَمْ آذَنْ لَكَ فِي النَّفَقَةِ، قَالَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْكَ، وَأَنَا أَسْتَحِقُّ أَنْ أُطَالِبَكَ بِهَا لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرُ، فَإِذَا رَضِيَ الْمُنْفِقُ بِأَنْ يَعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الرَّهْنِ وَكَانَتْ نَظِيرَ النَّفَقَةِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إلَى صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مَحْضٌ، فَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ النَّصُّ لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ، وَطَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ، أَنَّ الْمُودَعَ وَالشَّرِيكَ وَالْوَكِيلَ إذَا أَنْفَقَ عَلَى الْحَيَوَانِ وَاعْتَاضَ عَنْ النَّفَقَةِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ جَازَ ذَلِكَ كَالْمُرْتَهِنِ
[فَصَلِّ رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ]
فَصْلٌ [الْحُكْمُ فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ]
وَمِمَّا قِيلَ: " إنَّهُ مِنْ أَبْعَدِ الْأَحَادِيثِ عَنْ الْقِيَاسِ " حَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ وَمِثْلُهَا مِنْ مَالِهِ لِسَيِّدَتِهَا» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قِبَلِ إسْنَادِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ يَحْتَجُّونَ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ، وَلَكِنْ لِإِشْكَالِهِ أَقْدَمُوا عَلَى تَضْعِيفِهِ مَعَ لِينٍ فِي سَنَدِهِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ ثَلَاثَةِ أُصُولٍ صَحِيحَةٍ كُلٌّ مِنْهَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ. [مَنْ أَتْلَفَ مَالِ غَيْرِهِ ضَمِنَهُ]
أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ غَيَّرَ مَالَ غَيْرِهِ بِحَيْثُ فَوَّتَ مَقْصُودَهُ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ بِمَا أَزَالَ اسْمَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَحَدُهَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النَّقْصِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّانِي: يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِذَلِكَ، وَيَضْمَنُهُ لِصَاحِبِهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالثَّالِثُ: يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِهِ وَتَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا؛ فَإِنْ فَوَّتَ صِفَاتِهِ الْمَعْنَوِيَّةَ - مِثْلَ أَنْ يُنْسِيَهُ صِنَاعَتَهُ، أَوْ يُضْعِفَ قُوَّتَهُ، أَوْ يُفْسِدَ عَقْلَهُ أَوْ دِينَهُ -
فَهَذَا أَيْضًا يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فِيهِ بَيْنَ تَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ، وَلَوْ قَطَعَ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي فَعِنْدَ مَالِكٍ يَضْمَنُهَا بِالْبَدَلِ وَيَمْلِكُهَا لِتَعَذُّرِ مَقْصُودِهَا عَلَى الْمَالِكِ فِي الْعَادَةِ؛ أَوْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فَصْلٌ [الْمُتْلَفَاتُ تُضْمَنُ بِالْجِنْسِ]
الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْمُتْلَفَاتِ تُضْمَنُ بِالْجِنْسِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ، حَتَّى الْحَيَوَانُ فَإِنَّهُ إذَا اقْتَرَضَهُ رَدَّ مِثْلَهُ كَمَا اقْتَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَكْرًا وَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرُورُ يَضْمَنُ وَلَدَهُ بِمِثْلِهِمْ كَمَا قَضَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَقِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عليهما السلام مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ الْمَاشِيَةَ كَانَتْ قَدْ أَتْلَفَتْ حَرْثَ الْقَوْمِ فَقَضَى دَاوُد بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ كَأَنَّهُ ضَمَّنَهُمْ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ إلَّا الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُمْ الْغَنَمَ بِالْقِيمَةِ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَحَكَمَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَاشِيَةِ يَقُومُونَ عَلَى الْحَرْثِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ فَضَمَّنَهُمْ إيَّاهُ بِالْمِثْلِ، وَأَعْطَاهُمْ الْمَاشِيَةَ يَأْخُذُونَ مَنْفَعَتَهَا عِوَضًا عَنْ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي فَاتَتْ مِنْ غَلَّةِ الْحَرْثِ إلَى أَنْ يَعُودَ، وَبِذَلِكَ أَفْتَى الزُّهْرِيُّ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَنْ أُتْلِفَ لَهُ شَجَرٌ. فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَغْرِسُهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ، فَغَلَّظَ الزُّهْرِيُّ الْقَوْلَ فِيهِمَا، وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَحُكْمُ سُلَيْمَانَ هُوَ مُوجَبُ الْأَدِلَّةِ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ بِالْمِثْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقَالَ: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] وَقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وَإِنْ كَانَ مِثْلُ الْحَيَوَانِ وَالْآنِيَةِ وَالثِّيَابِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذِّرًا فَقَدْ دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: الضَّمَانُ بِالدَّرَاهِمِ الْمُخَالِفَةِ لِلْمِثْلِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمَقْصُودِ وَالِانْتِفَاعِ وَإِنْ سَاوَتْ الْمَضْمُونَ فِي الْمَالِيَّةِ، وَالضَّمَانُ بِالْمِثْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ الْمُسَاوِي لِلْمُتْلَفِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْمَقْصُودِ وَالِانْتِفَاعِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذِّرَةً حَتَّى فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمُمَاثَلَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجِنْسَ إلَى الْجِنْسِ أَقْرَبُ مُمَاثَلَةً مِنْ الْجِنْسِ إلَى الْقِيمَةِ؛ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَمُوجَبُ النُّصُوصِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ]
وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ مَرْفُوعَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الثَّابِتَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقِيَاسِ الْعَادِلِ؛ فَإِذَا طَاوَعَتْهُ الْجَارِيَةُ فَقَدْ أَفْسَدَهَا عَلَى سَيِّدَتِهَا فَإِنَّهَا مَعَ الْمُطَاوَعَةِ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا إذْ تَصِيرُ زَانِيَةً، وَلَا تُمَكِّنُ سَيِّدَتَهَا مِنْ اسْتِخْدَامِهَا حَقَّ الْخِدْمَةِ، لِغَيْرَتِهَا مِنْهَا وَطَمَعِهَا فِي السَّيِّدِ، وَاسْتِشْرَافِ السَّيِّدِ إلَيْهَا، وَتَتَشَامَخُ عَلَى سَيِّدَتِهَا فَلَا تُطِيعُهَا كَمَا كَانَتْ تُطِيعُهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْجَانِي إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَالِ بِمَا يَنْقُصُ قِيمَتَهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمِثْلِ، فَقَضَى الشَّارِعُ لِسَيِّدَتِهَا بِالْمِثْلِ، وَمَلَكَهُ الْجَارِيَةَ؛ إذْ لَا يَجْمَعُ لَهَا بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، وَأَيْضًا فَلَوْ رَضِيَتْ سَيِّدَتُهَا أَنْ تَبْقَى الْجَارِيَةُ عَلَى مِلْكِهَا وَتُغَرِّمُهُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا كَانَ لَهَا ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ تَرْضَ وَعَلِمَتْ أَنَّ الْأَمَةَ قَدْ فَسَدَتْ عَلَيْهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ بِخِدْمَتِهَا كَمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْقَضَاءِ أَنْ يَغْرَمَ السَّيِّدُ مِثْلَهَا وَيَمْلِكُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَاطْرُدُوا هَذَا الْقِيَاسَ وَقُولُوا: إنَّ الْأَجْنَبِيَّ إذَا زَنَى بِجَارِيَةِ قَوْمٍ حَتَّى أَفْسَدَهَا عَلَيْهِمْ أَنَّ لَهُمْ الْقِيمَةَ أَوْ يُطَالِبُوهُ بِبَدَلِهَا.
قِيلَ: نَعَمْ هَذَا مُوجَبُ الْقِيَاسِ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ انْقَطَعَ الْإِلْحَاقُ؛ فَإِنَّ الْإِفْسَادَ الَّذِي فِي وَطْءِ الزَّوْجِ بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ الْإِفْسَادِ الَّذِي فِي وَطْءِ الْأَجْنَبِيِّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَجَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ جَوَابٌ مُرَكَّبٌ؛ إذْ لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إجْمَاعَ فَصْلٌ.
وَأَمَّا إذَا اسْتَكْرَهَهَا فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْوَطْءِ مُثْلَةٌ؛ فَإِنَّ الْوَطْءَ يَجْرِي مَجْرَى الْجِنَايَةِ، وَلِهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ عُقْرٍ أَوْ عُقُوبَةٍ، وَلَا يَجْرِي مَجْرَى مَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ، فَهِيَ لَمَّا صَارَتْ لَهُ بِإِفْسَادِهَا عَلَى سَيِّدَتِهَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا كَمَا فِي الْمُطَاوَعَةِ، وَأَعْتَقَهَا عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَثَّلَ بِهَا.
قَالَ شَيْخُنَا: وَلَوْ اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ اسْتَكْرَهَ أَمَةَ الْغَيْرِ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَتْ عَلَيْهِ، وَضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا، إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَمَةِ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ وَإِلَّا فَمُوجَبُ الْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33]
فَهَذَا نَهْيٌ عَنْ إكْرَاهِهِنَّ عَلَى كَسْبِ الْمَالِ بِالْبِغَاءِ، كَمَا قِيلَ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ لَهُ إمَاءٌ يُكْرِهُهُنَّ عَلَى الْبِغَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا اسْتِكْرَاهًا لِلْأَمَةِ عَلَى أَنْ يَزْنِيَ بِهَا هُوَ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّمْثِيلِ بِهَا، وَذَاكَ إلْزَامٌ لَهَا بِأَنْ تَذْهَبَ هِيَ فَتَزْنِيَ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْعِتْقُ بِالْمُثْلَةِ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، ثُمَّ شُرِعَ بَعْدَ ذَلِكَ. [مَا مِنْ نَصٍّ صَحِيحٍ إلَّا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْعَقْلِ]
قَالَ شَيْخُنَا: وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَدَقِّ الْأُمُورِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهَذَا الَّذِي ظَهَرَ فِي تَوْجِيهِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَمَا عَرَفْتُ حَدِيثًا صَحِيحًا إلَّا وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ قَالَ: وَقَدْ تَدَبَّرْتُ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَمَا رَأَيْتُ قِيَاسًا صَحِيحًا يُخَالِفُ حَدِيثًا صَحِيحًا، كَمَا أَنَّ الْمَعْقُولَ الصَّحِيحَ لَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ، بَلْ مَتَى رَأَيْتُ قِيَاسًا يُخَالِفُ أَثَرًا فَلَا بُدَّ مِنْ ضَعْفِ أَحَدِهِمَا، لَكِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِمَّا يَخْفَى كَثِيرٌ مِنْهُ عَلَى أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ، فَإِنَّ إدْرَاكَ الصِّفَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِهَا وَمَعْرِفَةِ الْمَعَانِي الَّتِي عُلِّقَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ، فَمِنْهُ الْجَلِيُّ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمِنْهُ الدَّقِيقُ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّهُمْ؛ فَلِهَذَا صَارَتْ أَقْيِسَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ تَجِيءُ مُخَالِفَةً لِلنُّصُوصِ لِخَفَاءِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، كَمَا يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَا فِي النُّصُوصِ مِنْ الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ، انْتَهَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّكُمْ خَرَّجْتُمْ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَاسِ، فَمَا تَصْنَعُونَ بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ وَقَدْ وَطِئَ فَرْجًا لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ؟ قِيلَ: الْحَدِيثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى الضَّمَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تُخَرِّجُونَ حَدِيثَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي ذَلِكَ: «أَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ جُلِدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ رُجِمَ بِالْحِجَارَةِ» عَلَى الْقِيَاسِ.
قِيلَ: هُوَ بِحَمْدِ اللَّهِ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ، مُطَابِقٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا؛ فَإِنَّ إحْلَالَهَا شُبْهَةٌ كَافِيَةٌ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْهَا بِالْإِحْلَالِ كَانَ الْفَرْجُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَكَانَتْ الْمِائَةُ تَعْزِيرًا لَهُ وَعُقُوبَةً عَلَى ارْتِكَابِ فَرْجٍ حَرَامٍ عَلَيْهِ، وَكَانَ إحْلَالُ الزَّوْجَةِ لَهُ وَطْأَهَا شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تُخَرِّجُونَ التَّعْزِيرَ بِالْمِائَةِ عَلَى الْقِيَاسِ.