الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِلُزُومِهَا لَهُ حَلَفَ بِهَا، فَقَصْدُهُ أَلَّا يَكُونَ الشَّرْطُ فِيهَا وَلَا الْجَزَاءُ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، فَلَمْ يُلْزِمْهُ الشَّارِعُ بِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهُ وَلَا مُتَقَرِّبٍ بِهِ إلَى اللَّهِ، فَلَمْ يَعْقِدْهُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا عَقَدَهُ بِهِ، فَهُوَ يَمِينٌ مَحْضَةٌ، فَإِلْحَاقُهُ بِنَذْرِ الْقُرْبَةِ إلْحَاقٌ لَهُ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ، وَقَطْعٌ لَهُ عَنْ الْإِلْحَاقِ بِنَظِيرِهِ، وَعُذْرُ مَنْ أَلْحَقَهُ بِنَذْرِ الْقُرْبَةِ شُبْهَةٌ بِهِ فِي اللَّفْظِ وَالصُّورَةِ، وَلَكِنْ الْمُلْحِقُونَ لَهُ بِالْيَمِينِ أَفْقَهُ وَأَرْعَى لِجَانِبِ الْمَعَانِي، وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ:" إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ " فَحَنِثَ أَنْ لَا يَكْفُرَ بِذَلِكَ إنْ قَصَدَ الْيَمِينَ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْيَمِينِ مَنْعٌ مِنْ الْكُفْرِ، وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ احْتَجَّ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَكَالْحَلِفِ بِقَوْلِهِ:" إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ " وَحَكَاهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي الْعِتْقِ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ إجْمَاعًا لَهُمْ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ.
قَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ بَزِيزَةَ فِي شَرْحِ أَحْكَامِ عَبْدِ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيِّ، فَاجْتَهَدَ خُصُومُهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَكَانَ حَاصِلُ مَا رَدُّوا بِهِ قَوْلَهُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: - وَهُوَ عُمْدَةُ الْقَوْمِ - أَنَّهُ خِلَافُ مَرْسُومِ السُّلْطَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِلَافُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ الْمَقْصُودَيْنِ كَقَوْلِهِ: " إنْ أَبْرَأْتنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ " فَفَعَلْت.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعَمَلَ قَدْ اسْتَمَرَّ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، فَنَقَضَ حُجَجَهُمْ وَأَقَامَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، وَصَنَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ وَرَقَةٍ، ثُمَّ مَضَى لِسَبِيلِهِ رَاجِيًا مِنْ اللَّهِ أَجْرًا أَوْ أَجْرَيْنِ، وَهُوَ وَمُنَازِعُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَخْتَصِمُونَ.
[فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الضَّبُعِ وَغَيْرِهِ مِنْ ذِي النَّابِ]
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: " وَحَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَأَبَاحَ الضَّبُعَ وَلَهَا نَابٌ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ خَفِيَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُهُ فَقَالَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ: وَأَمَّا الضَّبُعُ فَرُوِيَ عَنْهُ فِيهَا حَدِيثٌ صَحَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فَذَهَبُوا إلَيْهِ وَجَعَلُوهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ أَحَادِيثِ التَّحْرِيمِ، كَمَا خَصَّتْ الْعَرَايَا لِأَحَادِيثِ الْمُزَابَنَةِ.
وَطَائِفَةٌ لَمْ تُصَحِّحْهُ وَحَرَّمُوا الضَّبُعَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ ذَاتِ الْأَنْيَابِ، وَقَالُوا: وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَصَحَّتْ صِحَّةً لَا مَطْعَنَ فِيهَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ الضَّبُعِ فَتَفَرَّدَ بِهِ
عَبْدُ الرَّحْمَنَ بْنُ أَبِي عُمَارَةَ، وَأَحَادِيثُ تَحْرِيمِ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ كُلُّهَا تُخَالِفُهُ، قَالُوا: وَلَفْظُ الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ جَابِرٌ رَفَعَ الْأَكْلَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْ يَكُونَ إنَّمَا رَفَعَ إلَيْهِ كَوْنَهَا صَيْدًا فَقَطْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا صَيْدًا جَوَازَ أَكْلِهَا، فَظَنَّ جَابِرٌ أَنَّ كَوْنَهَا صَيْدًا يَدُلُّ عَلَى أَكْلِهَا، فَأَفْتَى بِهِ مِنْ قَوْلِهِ وَرَفَعَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا سَمِعَهُ مِنْ كَوْنِهَا صَيْدًا.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ لَفْظَ الْحَدِيثِ لِيَتَبَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ «عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَارَةَ قَالَ: قُلْت لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: آكُلُ الضَّبُعَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَسَمِعْت ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ هُوَ كَوْنُهَا صَيْدًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ قَالَ: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ ابْنِ أَبِي عُمَارَةَ عَنْ جَابِرٍ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ فَقَالَ: هِيَ صَيْدٌ، وَفِيهَا كَبْشٌ» قَالُوا: وَكَذَلِكَ حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ: «الضَّبُعُ صَيْدٌ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ جَزَاءُ كَبْشٍ مُسِنٍّ وَيُؤْكَلُ» قَالَ الْحَاكِمُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ:" وَيُؤْكَلُ " يَحْتَمِلُ الْوَقْفَ وَالرَّفْعَ، وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ لَمْ تُعَارَضْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّتِي تَبْلُغُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ فِي التَّحْرِيمِ.
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ حَدِيثُ جَابِرٍ صَرِيحًا فِي الْإِبَاحَةِ لَكَانَ فَرْدًا، وَأَحَادِيثُ تَحْرِيمِ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ مُسْتَفِيضَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ ادَّعَى الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ تَوَاتُرَهَا، فَلَا يُقَدَّمُ حَدِيثُ جَابِرٍ عَلَيْهَا.
قَالُوا: وَالضَّبُعُ مِنْ أَخْبَثِ الْحَيَوَانِ وَأَشْرَهْهُ، وَهُوَ مُغْرًى بِأَكْلِ لُحُومِ النَّاسِ وَنَبْشِ قُبُورِ الْأَمْوَاتِ وَإِخْرَاجِهِمْ وَأَكْلِهِمْ، وَيَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَيَكْسِرُ بِنَابِهِ.
قَالُوا: وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، وَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَوَاتَ الْأَنْيَابِ، وَالضَّبُعُ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا وَهَذَا.
وَقَالُوا: وَغَايَةُ حَدِيثِ جَابِرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا صَيْدٌ يُفْدَى فِي الْإِحْرَامِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَكْلُهَا، وَقَدْ قَالَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ ثَعْلَبًا فَقَالَ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، هِيَ صَيْدٌ، وَلَكِنْ لَا يُؤْكَلُ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الثَّعْلَبِ، فَقَالَ: الثَّعْلَبُ سَبُعٌ؛ فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ سَبُعٌ وَأَنَّهُ يُفْدَى فِي الْإِحْرَامِ، وَلَمَّا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الضَّبُعِ كَبْشًا ظَنَّ جَابِرٌ أَنَّهُ يُؤْكَلُ فَأَفْتَى بِهِ.
وَاَلَّذِينَ صَحَّحُوا الْحَدِيثَ جَعَلُوهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا، حَتَّى قَالُوا: وَيُحَرَّمُ أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ إلَّا الضَّبُعَ، وَهَذَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يُخَصِّصَ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ فُرْقَانٍ بَيْنَهُمَا.