الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصَلِّ حُكْمُ عَلِيٍّ فِي جَمَاعَةٍ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ وَفْقَ الْقِيَاسِ]
ِ] . وَمِمَّا أَشْكَلَ عَلَى جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَظَنُّوهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ الْقِيَاسِ الْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ فِي الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ تَنَازَعُوا الْوَلَدَ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَذِهِ الْحُكُومَةَ وَنُبَيِّنُ مُطَابَقَتَهَا لِلْقِيَاسِ؛ فَذَكَرَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَلِيلِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: إنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَتَوْا عَلِيًّا يَخْتَصِمُونَ إلَيْهِ فِي وَلَدٍ قَدْ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لِاثْنَيْنِ: طِيبَا بِالْوَلَدِ لِهَذَا، فَقَالَا: لَا، ثُمَّ قَالَ لِاثْنَيْنِ: طِيبَا بِالْوَلَدِ لِهَذَا، فَقَالَا: لَا، ثُمَّ قَالَ لِاثْنَيْنِ: طِيبَا بِالْوَلَدِ لِهَذَا، فَقَالَا: لَا، فَقَالَ: أَنْتُمْ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ، إنِّي مُقْرِعٌ بَيْنَكُمْ، فَمَنْ قُرِعَ فَلَهُ الْوَلَدُ وَعَلَيْهِ لِصَاحِبَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَهُ لِمَنْ قُرِعَ لَهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَضْرَاسُهُ أَوْ نَوَاجِذُهُ» . وَفِي إسْنَادِهِ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكَنْدَرِيُّ الْأَجْلَحُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. لَكِنْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ إلَى عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ:«أُتِيَ عَلِيٌّ بِثَلَاثَةٍ وَهُوَ بِالْيَمَنِ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لِاثْنَيْنِ: أَتُقِرَّانِ لِهَذَا؟ قَالَا: لَا، حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِاَلَّذِي صَارَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَجَعَلَ لِصَاحِبَيْهِ عَلَيْهِ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» . وَقَدْ أُعِلَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ بِإِسْقَاطِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَيَكُونُ مُرْسَلًا، قَالَ النَّسَائِيّ: وَهَذَا أَصْوَبُ، قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ، وَلَا يُوجِبُ إرْسَالًا لِلْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ عَبْدَ خَيْرٍ سَمِعَ مِنْ عَلِيٍّ وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، فَهَبْ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْمَتْنِ، فَمِنْ أَيْنَ يَجِيءُ الْإِرْسَالُ؟
وَبَعْدُ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَذَهَبَ إلَى الْقَوْل بِهِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَقَالَ: هُوَ السُّنَّةُ فِي دَعْوَى الْوَلَدِ.
وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِهِ فِي الْقَدِيمِ.
وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَسُئِلَ عَنْهُ فَرَجَّحَ عَلَيْهِ حَدِيثَ الْقَافَةِ وَقَالَ: حَدِيثُ الْقَافَةِ أَحَبُّ إلَيَّ.
وَهَاهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا دُخُولُ الْقُرْعَةِ فِي النَّسَبِ.
وَالثَّانِي: تَغْرِيمُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ ثُلُثَيْ دِيَةِ وَلَدِهِ لِصَاحِبَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَعِيدٌ عَنْ الْقِيَاسِ؛ فَلِذَلِكَ قَالُوا: هَذَا مِنْ أَبْعَدِ شَيْءٍ عَنْ الْقِيَاسِ.
فَيُقَالُ: الْقُرْعَةُ قَدْ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ فُقْدَانِ مُرَجِّحٍ سِوَاهَا مِنْ بَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ قَافَةٍ، وَلَيْسَ
بِبَعِيدٍ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقُرْعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ إذْ هِيَ غَايَةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ تَرْجِيحِ الدَّعْوَى، وَلَهَا دُخُولٌ فِي دَعْوَى الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ بِقَرِينَةٍ وَلَا أَمَارَةٍ، فَدُخُولُهَا فِي النَّسَبِ الَّذِي يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ الْخَفِيِّ الْمُسْتَنِدِ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَأَمَّا أَمْرُ الدِّيَةِ فَمُشْكِلٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَتْلٍ يُوجِبُ الدِّيَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْوِيتُ نَسَبِهِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ لَهُ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَطْءُ كُلِّ وَاحِدٍ صَالِحٌ لِجَعْلِ الْوَلَدِ لَهُ، فَقَدْ فَوَّتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ بِوَطْئِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَنْ كَانَ لَهُ الْوَلَدُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ لِأَحَدِهِمْ صَارَ مُفَوِّتًا لِنَسَبِهِ عَلَى صَاحِبَيْهِ فَأَجْرَى ذَلِكَ مَجْرَى إتْلَافِ الْوَلَدِ، وَنُزِّلَ الثَّلَاثَةُ مَنْزِلَةَ أَبٍ وَاحِدٍ، فَحِصَّةُ الْمُتْلِفُ مِنْهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ إذْ قَدْ عَادَ الْوَلَدُ لَهُ؛ فَيَغْرَمُ لِكُلٍّ مِنْ صَاحِبَيْهِ مَا يَخُصُّهُ، وَهُوَ ثُلُثُ الدِّيَةِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا: أَنَّهُ لَمَّا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِمَا بِوَطْئِهِ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ شَرْعًا هِيَ دِيَتُهُ، فَلَزِمَهُ لَهُمَا ثُلُثَا قِيمَتِهِ وَهِيَ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَصَارَ هَذَا كَمَنْ أَتْلَفَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثَا الْقِيمَةِ لِشَرِيكَيْهِ؛ فَإِتْلَافُ الْوَلَدِ الْحُرِّ عَلَيْهِمَا بِحُكْمِ الْقُرْعَةِ كَإِتْلَافِ الرَّقِيقِ الَّذِي بَيْنَهُمْ، وَنَظِيرُ هَذَا تَضْمِينُ الصَّحَابَةِ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ الْأَمَةِ لَمَّا فَاتَ رِقُّهُمْ عَلَى السَّيِّدِ بِحُرِّيَّتِهِمْ، وَكَانُوا بِصَدَدِ أَنْ يَكُونُوا أَرِقَّاءَ لَهُ، وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ مَا يَكُونُ مِنْ الْقِيَاسِ وَأَدَقِّهِ، وَلَا يَهْتَدِي إلَيْهِ إلَّا أَفْهَامُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ هَذَا أَيْضًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْفِقْهِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَلِهَذَا وَلَدُ الْحُرِّ مِنْ أَمَةِ الْغَيْرِ رَقِيقٌ، وَوَلَدُ الْعَبْدِ مِنْ الْحُرَّةِ حُرٌّ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ بِالْأَمَةِ رُقَّ نِصْفُهُ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِالْحُرَّةِ عَتَقَ نِصْفُهُ؛ فَوَلَدُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ بِهَذَا الْمَغْرُورِ كَانُوا بِصَدَدِ أَنْ يَكُونُوا أَرِقَّاءَ لِسَيِّدِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا دَخَلَ الزَّوْجُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَرْأَةِ دَخَلَ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَوْلَادُهُ أَحْرَارًا، وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ اعْتِقَادَ الْوَاطِئِ، فَانْعَقَدَ وَلَدُهُ أَحْرَارًا، وَقَدْ فَوَّتَهُمْ عَلَى السَّيِّدِ، وَلَيْسَ مُرَاعَاةُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْآخَرِ، وَلَا تَفْوِيتُ حَقِّ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ؛ فَحَفِظَ الصَّحَابَةُ الْحَقَّيْنِ وَرَاعُوا الْجَانِبَيْنِ، فَحَكَمُوا بِحُرِّيَّةِ الْأَوْلَادِ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُمْ رَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى حُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ، وَلَوْ تَوَهَّمَ رِقَّهُمْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُضَيِّعُوا حَقَّ السَّيِّدِ، بَلْ حَكَمُوا عَلَى الْوَاطِئِ بِفِدَاءِ أَوْلَادِهِ، وَأَعْطُوا الْعَدْلَ حَقَّهُ؛ فَأَوْجَبُوا فِدَاءَهُمْ بِمِثْلِهِمْ تَقْرِيبًا لَا بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ وَفُّوا الْعَدْلَ بِأَنْ مَكَّنُوا الْمَغْرُورَ مِنْ الرُّجُوعِ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ؛ لِأَنَّ غُرْمَهُ كَانَ بِسَبَبِ غُرُورِهِ، وَالْقِيَاسُ وَالْعَدْلُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ تَسَبَّبَ إلَى إتْلَافِ مَالِ شَخْصٍ أَوْ تَغْرِيمِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ
مَا غَرِمَهُ، كَمَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ؛ إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ إتْلَافٌ بِسَبَبٍ، وَإِتْلَافُ الْمُتَسَبِّبِ كَإِتْلَافِ الْمُبَاشِرِ فِي أَصْلِ الضَّمَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَبَعْدُ ذَلِكَ كُلِّهِ فَهَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ كَمَا هُوَ بَعْضُ الْأُمِّ وَجُزْءٌ مِنْهَا فَهُوَ بَعْضُ الْأَبِ، وَبَعْضِيَّتُهُ لِلْأَبِ أَعْظَمُ مِنْ بَعْضِيَّتِهِ لِلْأُمِّ، وَلِهَذَا إنَّمَا يَذْكُرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ تَخْلِيقَهُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ كَقَوْلِهِ:{فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5]{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] وَنَظَائِرُهَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي إنْ لَمْ تَخْتَصَّ بِمَاءِ الرَّجُلِ فَهِيَ فِيهِ أَظْهَرُ، وَإِذَا كَانَ جُزْءًا مِنْ الْوَطْءِ وَجُزْءًا مِنْ الْأُمِّ فَكَيْفَ كَانَ مِلْكًا لِسَيِّدِ الْأُمِّ دُونَ سَيِّدِ الْأَبِ؟ وَيُخَالِفُ الْقِيَاسَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْبَذْرِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ بَذْرَ غَيْرِهِ فَزَرَعَهُ فِي أَرْضِهِ كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ.
قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ الْوَلَدَ مُنْعَقِدٌ مِنْ مَاءِ الْأَبِ كَمَا هُوَ مُنْعَقِدٌ مِنْ مَاءِ الْأُمِّ، وَلَكِنْ إنَّمَا تَكُونُ وَصَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي بَطْنِ الْأُمِّ؛ فَالْأَجْزَاءُ الَّتِي صَارَ بِهَا كَذَلِكَ مِنْ الْأُمِّ أَضْعَافُ أَضْعَافُ الْجُزْءِ الَّذِي مِنْ الْأَبِ، مَعَ مُسَاوَاتِهَا لَهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ؛ فَهُوَ إنَّمَا تَكُونُ فِي أَحْشَائِهَا مِنْ لَحْمِهَا وَدَمِهَا، وَلَمَّا وَضَعَهُ الْأَبُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ أَصْلًا، بَلْ كَانَ كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ مَاءً مَهِينًا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلِهَذَا لَوْ نَزَا فَحْلُ رَجُلٍ عَلَى رَمَكَةِ آخَرَ كَانَ الْوَلَدُ لِمَالِكِ الْأُمِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَذْرِ فَإِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لَهُ قِيمَةٌ قَبْلَ وَضْعِهِ فِي الْأَرْضِ يُعَاوَضُ عَلَيْهِ بِالْأَثْمَانِ، وَعَسْبُ الْفَحْلِ لَا يُعَاوَضُ عَلَيْهِ، فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا طَرَدْتُمْ ذَلِكَ فِي النَّسَبِ، وَجَعَلْتُمُوهُ لِلْأُمِّ كَمَا جَعَلْتُمُوهُ لِلْأَبِ.
قِيلَ: قَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ لِلْأَبِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ اللَّهِ شَرْعًا وَقَدَرًا؛ فَإِنَّ الْأَبَ هُوَ الْمَوْلُودُ لَهُ، وَالْأُمُّ وِعَاءٌ وَإِنْ تَكَوَّنَ فِيهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْوَلَدَ خَلِيفَةَ أَبِيهِ وَشَجْنَتِهِ وَالْقَائِمَ مَقَامَهُ، وَوَضَعَ الْأَنْسَابَ بَيْنَ عِبَادِهِ؛ فَيُقَالُ: فُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ، وَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُهُمْ وَتَعَارُفُهُمْ وَمُعَامَلَاتُهُمْ إلَّا بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] فَلَوْلَا ثُبُوتُ الْأَنْسَابِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ لَمَا حَصَلَ التَّعَارُفُ، وَلَفَسَدَ نِظَامُ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ النِّسَاءَ مُحْتَجِبَاتٍ مَسْتُورَاتٍ عَنْ الْعُيُونِ؛ فَلَا يُمْكِنُ فِي الْغَالِبِ أَنْ
تُعْرَفَ عَيْنُ الْأُمِّ فَيَشْهَدُ عَلَى نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهَا، فَلَوْ جُعِلَتْ الْأَنْسَابُ لِلْأُمَّهَاتِ لَضَاعَتْ وَفَسَدَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِلْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلِهَذَا إنَّمَا يُدْعَى النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِآبَائِهِمْ لَا بِأُمَّهَاتِهِمْ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ يُدْعَى النَّاسُ بِآبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ:«لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ» .
فَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْحِكْمَةِ أَنْ جَعَلَ الْحُرِّيَّةَ وَالرِّقَّ تَبَعًا لِلْأُمِّ، وَالنَّسَبَ تَبَعًا لِلْأَبِ، وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ إنَّمَا يَجْمَعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ أَوْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا طَرَدْتُمْ ذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ، بَلْ جَعَلْتُمُوهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ، وَالْوَلَاءُ لَحْمَةٌ كَلَحْمَةِ النَّسَبِ.
قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْوَلَاءُ مِنْ آثَارِ الرِّقِّ وَمُوجَبَاتُهُ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِي حُكْمِهِ، فَكَانَ لِمَوَالِي الْأُمِّ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ شَائِبَةُ النَّسَبِ وَهُوَ لَحْمَةٌ كَلَحْمَتِهِ رَجَعَ إلَى مَوَالِي الْأَبِ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ عَنْ مَوَالِي الْأُمِّ، فَرُوعِيَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَثَرَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْتُمْ الْوَلَدَ فِي الدَّيْنِ تَابِعًا لِمَنْ لَهُ النَّسَبُ، بَلْ أَلْحَقْتُمُوهُ بِأَبِيهِ تَارَةً وَبِأُمِّهِ تَارَةً.
قِيلَ: الطِّفْلُ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا تَابِعًا لِغَيْرِهِ؛ فَجَعَلَهُ الشَّارِعُ تَابِعًا لِخَيْرِ أَبَوَيْهِ فِي الدِّينِ تَغْلِيبًا لِخَيْرِ الدِّينَيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ التَّبَعِيَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْبَعَ مَنْ هُوَ عَلَى دِينِ الشَّيْطَانِ، وَتَنْقَطِعُ تَبَعِيَّتُهُ عَمَّنْ هُوَ عَلَى دِينِ الرَّحْمَنِ؛ فَهَذَا مُحَالٌ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرْعِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَاجْعَلُوهُ تَابِعًا لِسَابِيهِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ تَبَعِيَّتَهُ لِأَبَوَيْهِ قَدْ انْقَطَعَتْ وَصَارَ السَّابِي هُوَ أَحَقَّ بِهِ.
قِيلَ: نَعَمْ، وَهَكَذَا نَقُولُ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ إمَامِ أَهْلِ الشَّامِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَام ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِسَابِيهِ إذَا سُبِيَ وَحْدَهُ، قَالُوا: لِأَنَّ تَبَعِيَّتَهُ قَدْ انْقَطَعَتْ عَنْ أَبَوَيْهِ وَصَارَ تَابِعًا لِسَابِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَالثَّانِي لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْ أَبَوَيْهِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إنْ سُبِيَ مَعَ الْأَبِ
تَبِعَهُ فِي دِينِهِ، وَإِنْ سُبِيَ مَعَ الْأُمِّ وَحْدَهَا فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَفُقَهَاءُ أَهْلِ الثَّغْرِ أَصَحُّ وَأَسْلَمُ مِنْ التَّنَاقُضِ؛ فَإِنَّ السَّابِيَ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ لِأَبَوَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا عَلَيْهِ حُكْمٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ كَوْنِهِمَا أَسِيرَيْنِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، بَلْ انْقِطَاعُ تَبَعِيَّتِهِ لَهُمَا فِي حَالِ أَسْرِهِمَا وَقَهْرِهِمَا وَإِذْلَالِهِمَا وَاسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِمَا أَوْلَى مِنْ انْقِطَاعِهَا حَالَ قُوَّةِ شَوْكَتِهِمَا وَخَوْفِ مَعَرَّتِهِمَا، فَمَا الَّذِي يُسَوِّغُ لَهُ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ وَالشِّرْكَ بِهِ وَأَبَوَاهُ أَسِيرَانِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَمَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَوَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَنَاقُضٌ مَحْضٌ؟
وَأَيْضًا فَيُقَالُ لَهُمْ: إذَا سُبِيَ الْأَبَوَانِ ثُمَّ قُتِلَا فَهَلْ يَسْتَمِرُّ الطِّفْلُ عَلَى كُفْرِهِ عِنْدَكُمْ أَوْ تَحْكُمُونَ بِإِسْلَامِهِ؟ فَمِنْ قَوْلِكُمْ إنَّهُ يَسْتَمِرُّ عَلَى كُفْرِهِ كَمَا لَوْ مَاتَا فَيُقَالُ: وَأَيُّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ أَوْ مَعْنًى مُعْتَبَرٍ أَوْ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ بَيْنَ أَنْ يُقْتَلَا فِي حَالِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ الْأَسْرِ وَالسَّبْيِ؟ وَهَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ لِأَجْلِهِ إذَا سُبِيَ وَحْدَهُ زَائِلًا بِسَبَائِهِمَا ثُمَّ قَتْلُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ؟ وَأَيْضًا فَهَلْ تَعْتَبِرُونَ وُجُودَ الطِّفْلِ وَالْأَبَوَيْنِ فِي مِلْكِ سَابٍ وَاحِدٍ أَوْ يَكُونُ مَعَهُمَا فِي جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ؟
فَإِنْ اعْتَبَرْتُمْ الْأَوَّلَ طُولِبْتُمْ بِالدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ اعْتَبَرْتُمْ الثَّانِيَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ انْقِطَاعُ تَبَعِيَّتِهِ لَهُمَا وَاسْتِيلَائِهِمَا عَلَيْهِ، وَاخْتِصَاصِهِ بِسَابِيهِ، وَوُجُودِهِمَا بِحَيْثُ لَا يُمَكَّنَانِ مِنْهُ وَمِنْ تَرْبِيَتِهِ وَحَضَانَتِهِ، وَاخْتِصَاصِهِمَا بِهِ لَا أَثَرَ لَهُ، وَهُوَ كَوُجُودِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الطِّفْلَ لَمَّا لَمْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ جَعْلِهِ تَابِعًا لِغَيْرِهِ، وَقَدْ دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يُجْعَلَ تَابِعًا لِمَالِكِهِ وَسَابِيهِ وَمَنْ هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُجْعَلَ تَابِعًا لِأَبَوَيْهِ وَلَا حَقَّ لَهُمَا فِيهِ بِوَجْهٍ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَأَيْضًا فَإِنَّ وِلَايَةَ الْأَبَوَيْنِ قَدْ زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ الْمِيرَاثُ وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ وَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ، فَمَا بَالُ وِلَايَةِ الدَّيْنِ الْبَاطِلِ بَاقِيَةٌ وَحْدَهَا؟
وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى مَنْعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَشْتَرُوا رَقِيقًا مِنْ سَبْيِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى الْأَمْصَارِ، وَاشْتُهِرَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَهُوَ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ فِي تَمْلِيكِهِ لِلْكَافِرِ وَنَقْلِهِ عَنْ يَدِ الْمُسْلِمِ قَطْعًا لِمَا كَانَ بِصَدَدِهِ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَعَالِمِ الْإِسْلَامِ وَسَمَاعِهِ الْقُرْآنَ، فَرُبَّمَا دَعَاهُ ذَلِكَ إلَى اخْتِيَارِهِ، فَلَوْ كَانَ تَابِعًا لِأَبَوَيْهِ عَلَى دِينِهِمَا لَمْ يُمْنَعَا مِنْ شَرَاهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْأَبَوَانِ أَنْ تَحْكُمُوا بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ لِانْقِطَاعِ تَبَعِيَّتِهِ لِلْأَبَوَيْنِ وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ مُسْلِمٌ بِأَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَقَدْ زَالَ مُعَارِضُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ تَهْوِيدُ الْأَبَوَيْنِ وَتَنْصِيرِهِمَا.
قِيلَ: قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاحْتَجَّ