الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ شَيْخُنَا: وَقَدْ تَأَمَّلْتُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَرَأَيْتُ الصَّحَابَةَ أَفْقَهَ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمَهَا، اعْتَبَرُوا هَذَا بِمَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَسَائِلِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ.
فَالْمَنْقُولُ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَكُلُّ قَوْلٍ سِوَى ذَلِكَ فَمُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ مُنَاقِضٌ لِلْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلَ غَيْرَ هَذِهِ مِثْلَ مَسْأَلَةِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ وَمَسْأَلَةِ مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْمَسَائِلِ، لَمْ أَجِدْ أَجْوَدَ الْأَقْوَالِ فِيهَا إلَّا أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ، وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ مَا عَلِمْتُ قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا كَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ.
وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّعْمَةِ السَّابِغَةِ وَالْعَدْلِ التَّامِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى.
[فَصَلِّ مَسْأَلَةُ الزُّبْيَةِ]
وَمِمَّا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَضَايَا الصَّحَابَةِ وَجَعَلُوهُ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنْ الْقِيَاسِ مَسْأَلَةُ التَّزَاحُمِ، وَسُقُوطِ الْمُتَزَاحِمِينَ فِي الْبِئْرِ، وَتُسَمَّى «مَسْأَلَةُ الزُّبْيَةِ. وَأَصْلُهَا أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ حَفَرُوا زُبْيَةً لِلْأَسَدِ؛ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى رَأْسِهَا، فَهَوَى فِيهَا وَاحِدٌ، فَجَذَبَ ثَانِيًا، فَجَذَبَ الثَّانِي ثَالِثًا، فَجَذَبَ الثَّالِثُ رَابِعًا، فَقَتَلَهُمْ الْأَسَدُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ عَلَى الْيَمَنِ، فَقَضَى لِلْأَوَّلِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ، وَلِلثَّانِي بِثُلُثِهَا، وَلِلثَّالِثِ بِنِصْفِهَا، وَلِلرَّابِعِ بِكَمَالِهَا، وَقَالَ: أَجْعَلُ الدِّيَةَ عَلَى مَنْ حَضَرَ رَأْسَ الْبِئْرِ؛ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هُوَ كَمَا قَالَ» رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، ثنا أَبُو عَوَانَةَ وَأَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ: ذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى هَذَا تَوْقِيفًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ، وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِأَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا حَصَلَتْ مِنْ فِعْلٍ مَضْمُونٍ وَمُهْدَرٍ سَقَطَ مَا يُقَابِلُ الْمُهْدَرَ وَاعْتُبِرَ مَا يُقَابِلُ الْمَضْمُونَ، كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، أَوْ أَتْلَفَ مَالًا مُشْتَرَكًا أَوْ حَيَوَانًا سَقَطَ مَا يُقَابِلُ حَقَّهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ مَا يُقَابِلُ حَقَّ شَرِيكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي إتْلَافِ مَالِ أَحَدِهِمَا أَوْ قَتْلِ عَبْدِهِ أَوْ حَيَوَانِهِ سَقَطَ عَنْ الْمُشَارِكِ مَا يُقَابِلُ فِعْلَهُ، وَوَجَبَ عَلَى الْآخَرِ مِنْ الضَّمَانِ بِقِسْطِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَكَ هُوَ وَأَجْنَبِيٌّ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ كَانَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الضَّمَانِ وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى ثَلَاثَةٌ
بِالْمَنْجَنِيقِ فَأَصَابَ الْحَجَرُ أَحَدَهُمْ فَقَتَلَهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا قَابَلَ فِعْلَ الْمَقْتُولِ سَاقِطٌ وَيَجِبُ ثُلُثَا دِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِينَ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَاخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمُغْنِي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلِيٌّ عليه السلام فِي مَسْأَلَةِ الْقَارِصَةِ وَالْوَاقِصَةِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ ثَلَاثَ جَوَارٍ اجْتَمَعْنَ فَرَكِبَتْ إحْدَاهُنَّ عَلَى عُنُقِ الْأُخْرَى فَقَرَصَتْ الثَّالِثَةُ الْمَرْكُوبَةَ فَقَمَصَتْ فَسَقَطَتْ الرَّاكِبَةُ فَوَقَصَتْ أَيْ كَسَرَتْ عُنُقَهَا فَمَاتَتْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ عليه السلام، فَقَضَى بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا عَلَى عَوَاقِلِهِنَّ، وَأَلْغَى الثُّلُثَ الَّذِي قَابَلَ فِعْلَ الْوَاقِصَةِ؛ لِأَنَّهَا أَعَانَتْ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهَا.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَوْ مَاتُوا بِسُقُوطِ بَعْضِهِمْ فَوْقَ بَعْضٍ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ هَلَكَ بِسَبَبٍ مَرْكَبٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: سُقُوطُهُ، وَسُقُوطُ الثَّانِي، وَالثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ.
وَسُقُوطُ الثَّلَاثَةِ فَوْقَهُ مِنْ فِعْلِهِ وَجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَسَقَطَ مَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، وَبَقِيَ الرُّبُعُ الْآخَرُ لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْ فِعْلِهِ وَإِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنْ التَّزَاحُمِ فَلَمْ يُهْدَرْ؛ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ هَلَاكَهُ كَانَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: جَذْبُ مَنْ قَبْلَهُ لَهُ، وَجَذْبُهُ هُوَ لِثَالِثٍ، وَرَابِعٍ؛ فَسَقَطَ مَا يُقَابِلُ جَذْبُهُ وَهُوَ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَاعْتُبِرَ مَا لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ الثُّلُثُ الْبَاقِي؛ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَحَصَلَ تَلَفُهُ بِشَيْئَيْنِ: جَذْبُ مَنْ قَبْلَهُ لَهُ، وَجَذْبُهُ هُوَ لِلرَّابِعِ، فَسَقَطَ فِعْلُهُ دُونَ السَّبَبِ الْآخَرِ؛ فَكَانَ لِوَرَثَتِهِ النِّصْفُ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلَيْسَ مِنْهُ فِعْلٌ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجْذُوبٌ مَحْضٌ، فَكَانَ لِوَرَثَتِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَقَضَى بِهَا عَلَى عَوَاقِلِ الَّذِينَ حَضَرُوا الْبِئْرَ لِتَدَافُعِهِمْ وَتَزَاحُمِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: عَلَى هَذَا سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّكُمْ لَمْ تُوجِبُوا عَلَى عَاقِلَةِ الْجَاذِبِ شَيْئًا مَعَ أَنَّهُ مُبَاشِرٌ، وَأَوْجَبْتُمْ عَلَى عَاقِلَةِ مَنْ حَضَرَ الْبِئْرَ وَلَمْ يُبَاشِرْ، وَهَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ، الثَّانِي: أَنَّ هَذَا هَبْ أَنَّهُ يَتَأَتَّى لَكُمْ فِيمَا إذَا مَاتُوا بِسُقُوطِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَكَيْفَ يَتَأَتَّى لَكُمْ فِي مَسْأَلَةِ الزُّبْيَةِ، وَإِنَّمَا مَاتُوا بِقَتْلِ الْأَسَدِ؟ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَجَاذَبُوا فَغَرِقُوا فِي الْبِئْرِ.
قِيلَ: هَذَانِ سُؤَالَانِ قَوِيَّانِ؛ وَجَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْجَاذِبَ لَمْ يُبَاشِرْ الْإِهْلَاكَ وَإِنَّمَا تَسَبَّبَ إلَيْهِ، وَالْحَاضِرُونَ تَسَبَّبُوا بِالتَّزَاحُمِ، وَكَانَ تَسَبُّبُهُمْ أَقْوَى مِنْ تَسَبُّبِ الْجَاذِبِ؛ لِأَنَّهُ أُلْجِئَ إلَى الْجَذْبِ؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَلْقَى إنْسَانٌ إنْسَانًا عَلَى آخَرَ فَنَفَضَهُ عَنْهُ لِئَلَّا يَقْتُلَهُ فَمَاتَ فَالْقَاتِلُ هُوَ الْمُلْقِي.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلتَّلَفِ كَالْأَسَدِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ، لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الْإِحَالَةُ عَلَيْهِ أَلْغَى فِعْلَهُ، وَصَارَ الْحُكْمُ لِلسَّبَبِ؛ فَفِي مَسْأَلَةِ الزُّبْيَةِ لَيْسَ لِلرَّابِعِ فِعْلٌ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ مَحْضٌ.
فَلَهُ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَالثَّالِثُ فَاعِلٌ وَمَفْعُولٌ بِهِ فَأَلْغَى مَا يُقَابِلُ فِعْلَهُ وَاعْتَبَرَ فِعْلَ الْغَيْرِ بِهِ، فَكَانَ قِسْطُهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَالثَّانِي كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ جَاذِبٌ لِوَاحِدٍ وَالْمَجْذُوبُ جَاذِبٌ لِآخَرَ؛ فَكَانَ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ تَأْثِيرِ الْغَيْرِ فِيهِ ثُلُثُ السَّبَبِ لِجَذْبِ
الْأَوَّلِ لَهُ فَلَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ السَّبَبِ مِنْ فِعْلِهِ، وَهُوَ سُقُوطُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ سَقَطُوا بِجَذْبِهِ مُبَاشَرَةً وَتَسَبُّبًا، وَرُبُعُهُ مِنْ وُقُوعِهِ بِتَزَاحُمِ الْحَاضِرِينَ، فَكَانَ حَظُّهُ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَحْمِيلِ عَاقِلَةِ الْقَتِيلِ مَا يُقَابِلُ فِعْلَهُ، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، وَهَذَا هُوَ خِلَافُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ شُرِعَتْ مُوَاسَاةً وَجَبْرًا، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْقَاتِلَ لِنَفْسِهِ أَوْ مُشَارِكًا فِي قَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ مَضْمُونًا كَمَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَ نَفْسِهِ أَوْ أَتْلَفَ مَالَ نَفْسِهِ؛ فَقَضَاءُ عَلِيٍّ عليه السلام أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ، وَهُوَ أَوْلَى أَيْضًا مِنْ أَنْ يُحْمَلَ فِعْلُ الْمَقْتُولِ عَلَى عَوَاقِلِ الْآخَرِينَ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَنْجَنِيقِ أَنَّهُ يُلْغِي فِعْلَ الْمَقْتُولِ فِي نَفْسِهِ وَتَجِبُ دِيَتُهُ بِكَمَالِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِينَ نِصْفَيْنِ، وَهَذَا أَبْعَدُ عَنْ الْقِيَاسِ مِمَّا قَبْلَهُ؛ إذْ كَيْفَ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ وَالْأَجَانِبُ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ تَحَمَّلَتْهَا الْعَاقِلَةُ لَكَانَتْ عَاقِلَتُهُ أَوْلَى بِتَحَمُّلِهَا، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ؛ فَالصَّوَابُ مَا قَضَى بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنه.
وَهُوَ أَيْضًا أَحْسَنُ مِنْ تَحْمِيلِ دِيَةِ الرَّابِعِ لِعَاقِلَةِ الثَّالِثِ، وَتَحْمِيلِ دِيَةِ الثَّالِثِ لِعَاقِلَةِ الثَّانِي، وَتَحْمِيلِ دِيَةِ الثَّانِي لِعَاقِلَةِ الْأَوَّلِ، وَإِهْدَارُ دِيَةِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ مِنْ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَجْنِ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ الْجَانِي عَلَى الثَّانِي فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَالثَّانِي عَلَى الثَّالِثِ، وَالثَّالِثُ عَلَى الرَّابِعِ، وَالرَّابِعُ لَمْ يَجْنِ عَلَى أَحَدٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ فَهَذَا قَدْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ فِي ظَاهِرِ الْقِيَاسِ أَصَحُّ مِنْ قَضَاءِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، إلَّا أَنَّ مَا قَضَى بِهِ عَلِيٌّ أَفْقَهُ؛ فَإِنَّ الْحَاضِرِينَ أَلْجَئُوا الْوَاقِفِينَ بِمُزَاحَمَتِهِمْ لَهُمْ فَعَوَاقِلُهُمْ أَوْلَى بِحَمْلِ الدِّيَةِ مِنْ عَوَاقِلِ الْهَالِكِينَ، وَأَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ هَلَاكِ أَوْلِيَائِهِمْ وَحَمْلِ دِيَاتِهِمْ، فَتَتَضَاعَفُ عَلَيْهِمْ الْمُصِيبَةُ، وَيُكْسَرُوا مِنْ حَيْثُ يَنْبَغِي جَبْرُهُمْ، وَمَحَاسِنُ الشَّرِيعَةِ تَأْبَى ذَلِكَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ مُصَابٍ حَظًّا مِنْ الْجَبْرِ، وَهَذَا أَصْلُ شَرْعِ حَمْلِ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ جَبْرًا لِلْمُصَابِ وَإِعَانَةً لَهُ.
وَأَيْضًا فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ كَمَا هُمَا مَجْنِيٌّ عَلَيْهِمَا فَهُمَا جَانِيَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَعَلَى مَنْ جَذَبَاهُ، فَحَصَلَ هَلَاكُهُمْ بِفِعْلِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَأَلْغَى مَا قَابَلَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ، وَاعْتَبَرَ جِنَايَةَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ.
وَهُوَ أَيْضًا أَحْسَنُ مِنْ تَحْمِيلِ دِيَةِ الرَّابِعِ لِعَوَاقِلِ الثَّلَاثَةِ، وَدِيَةِ الثَّالِثِ لِعَاقِلَةِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ، وَدِيَةِ الثَّانِي لِعَاقِلَةِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَيْضًا حَظٌّ مِنْ قِيَاسٍ تَنْزِيلًا لِسَبَبِ السَّبَبِ مَنْزِلَةِ السَّبَبِ، وَقَدْ اشْتَرَكَ فِي هَلَاكِ الرَّابِعِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ قَبْلَهُ، وَفِي هَلَاكِ الثَّالِثِ الِاثْنَانِ، وَانْفَرَدَ بِهَلَاكِ الثَّانِي الْأَوَّلُ، وَلَكِنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ عليه السلام أَدَقُّ وَأَفْقَهُ.