الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُسْقِطُ وَطْؤُهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إتْمَامِ النُّسُكِ، فَيَكُونُ ارْتِكَابُهُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذَا الصَّائِمُ إذْ أَفْطَرَ عَمْدًا لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ فِطْرُهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إتْمَامِ الْإِمْسَاكِ، وَلَا يُقَالُ لَهُ: قَدْ بَطَلَ صَوْمُكَ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْكُلَ فَكُلْ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ وَقَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا طَرَدْتُمْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ إذَا أَفْسَدَهَا، وَقُلْتُمْ: يَمْضِي فِيهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا.
قِيلَ: مِنْ هَاهُنَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُضِيَّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَجَّ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ كَمَا لِلصِّيَامِ وَقْتٌ مَحْدُودٌ وَهُوَ الْغُرُوبُ، وَلِلْحَجِّ مَكَانٌ مَخْصُوصٌ لَا يُمْكِنُ إحْلَالُ الْمُحْرِمِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِ كَمَا لَا يُمْكِنُ فِطْرُ الصَّائِمِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى وَقْتِ الْفِطْرِ، فَلَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهُ وَلَا فِعْلُ الْحَجِّ ثَانِيًا فِي وَقْتِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا ثَانِيًا فِي وَقْتِهَا؛ وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ وَقْتَ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ بِقَدْرِ فِعْلِهِ لَا يَسَعُ غَيْرَهُ، وَوَقْتُ الصَّلَاةِ أَوْسَعَ مِنْهَا فَيَسَعُ غَيْرُهَا، فَيُمْكِنُهُ تَدَارُكَ فِعْلَهَا إذَا فَسَدَتْ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ، وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ إذَا فَسَدَا إلَّا فِي وَقْتٍ آخَرَ نَظِيرَ الْوَقْتِ الَّذِي أَفْسَدَهُمَا فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[فَصَلِّ الْعُذْرُ بِالنِّسْيَانِ عَلَى خِلَاف الْقِيَاس]
فَصْلٌ [الْعُذْرُ بِالنِّسْيَانِ]
وَأَمَّا مَنْ أَكَلَ فِي صَوْمِهِ نَاسِيًا فَمَنْ قَالَ: " عَدَمُ فِطْرِهِ وَمُضِيِّهِ فِي صَوْمِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ نَاسِيًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِمَا تَرَكَهُ، كَمَا لَوْ أَحْدَثَ وَنَسِيَ حَتَّى صَلَّى، وَاَلَّذِينَ قَالُوا:" بَلْ هُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ " حُجَّتُهُمْ أَقْوَى؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ، وَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ؛ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ فَلَمْ يَفْعَلْ فِي صَوْمِهِ مُحَرَّمًا فَلَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ إنَّمَا تَبْطُلُ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ أَوْ تَرْكِ مَأْمُورٍ.
وَطَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ.
وَطَرْدُهُ أَيْضًا أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي إحْرَامِهِ أَوْ صِيَامِهِ نَاسِيًا لَمْ يَبْطُلْ صِيَامُهُ وَلَا إحْرَامُهُ.
وَكَذَلِكَ مَنْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ أَوْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ نَاسِيًا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ قَتْلِ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ فَهُوَ كَدِيَةِ الْقَتِيلِ.
وَأَمَّا اللِّبَاسُ وَالطِّيبُ فَمِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ، وَكَذَلِكَ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ.
وَطَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ
عَلَيْهِ نَاسِيًا لَمْ يَحْنَثْ، سَوَاءٌ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعَتَاقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا لَمْ يُعَدَّ عَاصِيًا، وَالْحِنْثُ فِي الْأَيْمَانِ كَالْمَعْصِيَةِ فِي الْإِيمَانِ.
فَلَا يُعَدُّ حَانِثًا مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا.
وَطَرْدُ هَذَا أَيْضًا أَنَّ مَنْ بَاشَرَ النَّجَاسَةَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ تَرَكَ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ أَوْ الْوُضُوءَ أَوْ الزَّكَاةَ أَوْ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ نَاسِيًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ مَا أُمِرَ بِهِ، فَهُوَ فِي عُهْدَةِ الْأَمْرِ.
وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ نَاسِيًا يُجْعَلُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَنِسْيَانُ تَرْكِ الْمَأْمُورِ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي سُقُوطِهِ، كَمَا كَانَ فِعْلُ الْمَحْظُورِ نَاسِيًا عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ عَنْ فَاعِلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْفَرْقُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْمُفْطِرَاتِ فِي الصَّوْمِ مِنْ بَابِ الْمَأْمُورَاتِ، وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ، وَلَوْ كَانَ فِعْلُ الْمُفْطِرَاتِ مِنْ بَابِ الْمَحْظُورِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ كَفِعْلِ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ.
قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الصَّوْمِ شَرْطٌ، وَلَوْلَاهَا لَمَا كَانَ عِبَادَةً، وَلَا أُثِيبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ فَكَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي كَوْنِ هَذَا التَّرْكِ عِبَادَةً، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالصَّوْمِ، بَلْ كُلُّ تَرْكٍ لَا يَكُونُ عِبَادَةً وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ فَعَلَهُ نَاسِيًا لَمْ يَأْثَمْ بِهِ، فَإِذَا نَوَى تَرْكَهَا لِلَّهِ ثُمَّ فَعَلَهَا نَاسِيًا لَمْ يَقْدَحْ نِسْيَانُهُ فِي أَجْرِهِ، بَلْ يُثَابُ عَلَى قَصْدِ تَرْكِهَا لِلَّهِ، وَلَا يَأْثَمُ بِفِعْلِهَا نَاسِيًا، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ فِعْلَ النَّاسِي غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» فَأَضَافَ فِعْلَهُ نَاسِيًا إلَى اللَّهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُرِدْهُ وَلَمْ يَتَعَمَّدْهُ، وَمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ، فَلَمْ يُكَلَّفْ بِهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُكَلَّفُ بِفِعْلِهِ، لَا بِمَا يُفْعَلُ فِيهِ، فَفِعْلُ النَّاسِي كَفِعْلِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَلَمَ الصَّائِمُ فِي مَنَامِهِ أَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فِي الْيَقَظَةِ لَمْ يُفْطِرْ، وَلَوْ اسْتَدْعَى ذَلِكَ أَفْطَرَ بِهِ؛ فَلَوْ كَانَ مَا يُوجَدُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ كَمَا يُوجَدُ بِقَصْدِهِ لَأَفْطَرَ بِهَذَا وَهَذَا. [هَلْ هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ؟] .
فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تُفَطِّرُونَ الْمُخْطِئَ كَمَنْ أَكَلَ يَظُنُّهُ لَيْلًا فَبَانَ نَهَارًا أَفْطَرَ.
قِيلَ: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا قَالُوا: فِعْلُ الْمُخْطِئِ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، بِخِلَافِ النَّاسِي.