الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صَلَاةُ رَغْبَةٍ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ جَاءَتْ سُنَّتُهُ وَشَرِيعَتُهُ بِأَكْمَلَ مَا جَاءَتْ بِهِ شَرَائِعُ الرُّسُلِ وَسُنَنُهُمْ وَعَلَى آلِهِ.
[رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بجواز انْتِفَاع الْمُرْتَهِنِ بِالْمَرْهُونِ]
[انْتِفَاعُ الْمُرْتَهِنِ بِالْمَرْهُونِ]
الْمِثَالُ السَّبْعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ بِجَوَازِ رُكُوبِ الْمُرْتَهِنِ لِلدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ وَشُرْبِهِ لَبَنَهَا بِنَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَنَا زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ» وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ وَأَعْدَلِهَا، وَلَا أَصْلَحُ لِلرَّاهِنِ مِنْهُ، وَمَا عَدَاهُ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الرَّاهِنَ قَدْ يَغِيبُ وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَتُهُ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي تَحْفَظُ الرَّهْنَ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَوْ يَتَعَذَّرُ رَفْعُهُ إلَى الْحَاكِمِ وَإِثْبَاتُ الرَّهْنِ وَإِثْبَاتُ غَيْبَةِ الرَّاهِنِ وَإِثْبَاتُ أَنَّ قَدْرَ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ هِيَ قَدْرُ حَلْبِهِ وَرُكُوبِهِ وَطَلَبِهِ مِنْهُ الْحُكْمَ لَهُ بِذَلِكَ، وَفِي هَذَا مِنْ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ مَا يُنَافِي الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ؛ فَشَرَعَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ الْقَيِّمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَشْرَبَ لَبَنَ الرَّهْنِ وَيَرْكَبَ ظَهْرَهُ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ لَوْ لَمْ تَأْتِ بِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَهُوَ يَخْرُجُ عَلَى أَصْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا أَنْفَقَ عَلَى الرَّهْنِ صَارَتْ النَّفَقَةُ دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ أَدَّاهُ عَنْهُ، وَيَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ وَقْتٍ وَاسْتِئْذَانُ الْحَاكِمِ، فَجَوَّزَ لَهُ الشَّارِعُ اسْتِيفَاءَ دَيْنِهِ مِنْ ظَهْرِ الرَّهْنُ وَدَرِّهِ، وَهَذَا مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لَهُمَا، وَهِيَ بِلَا شَكٍّ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ مَنْفَعَةِ ظَهْرِهِ وَإِرَاقَةِ لَبَنِهِ أَوْ تَرْكُهُ يَفْسُدُ فِي الْحَيَوَانِ أَوْ يُفْسِدُهُ حَيْثُ يَتَعَذَّرُ الرَّفْعُ إلَى الْحَاكِمِ، لَا سِيَّمَا وَرَهْنُ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا إنَّمَا يَقَعُ غَالِبًا بَيْنَ أَهْلِ الْبَوَادِي حَيْثُ لَا حَاكِمَ، وَلَوْ كَانَ فَلَمْ يُوَلِّ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ الْحَاكِمَ هَذَا الْأَمْرَ.
الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ فِي غَيْبَةِ أَحَدِ الْمُعَاوِضَيْنِ لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي تَرْكِ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ أَعْظَمُ مِنْ الضَّرَرِ فِي تَرْكِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يُرِيدُ حِفْظَ الْوَثِيقَةِ لِئَلَّا يَذْهَبَ مَالُهُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِبَقَاءِ الْحَيَوَانِ، وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ إمَّا النَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا كَمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا.
[الْعُرْفُ يَجْرِي مَجْرَى النُّطْقِ]
[الْعُرْفُ يَجْرِي مَجْرَى النُّطْقِ] . وَقَدْ جَرَى الْعُرْفُ مَجْرَى النُّطْقِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَوْضِعٍ مِنْهَا نَقْدُ الْبَلَدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَتَقْدِيمُ الطَّعَامِ إلَى الضَّيْفِ، وَجَوَازُ تَنَاوُلِ الْيَسِيرِ مِمَّا يَسْقُطُ مِنْ النَّاسِ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ، وَالشُّرْبُ مِنْ خَوَابِي السَّيْلِ وَمَصَانِعِهِ فِي الطُّرُقِ، وَدُخُولُ الْحَمَّامِ وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ
عَقْدَ الْإِجَارَةِ مَعَ الْحَمَّامِيِّ لَفْظًا، وَضَرْبُ الدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ إذَا حَرَنَتْ فِي السَّيْرِ وَإِيدَاعُهَا فِي الْخَانِ إذَا قَدِمَ بَلْدَةً أَوْ ذَهَبَ فِي حَاجَةٍ، وَدَفْعُ الْوَدِيعَةِ إلَى مَنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ خَادِمٍ أَوْ وَلَدٍ، وَتَوْكِيلُ الْوَكِيلِ لِمَا لَا يُبَاشِرُهُ مِثْلُهُ بِنَفْسِهِ، وَجَوَازُ التَّخَلِّي فِي دَارِ مَنْ أُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ إلَى دَارِهِ وَالشُّرْبُ مِنْ مَائِهِ وَالِاتِّكَاءُ عَلَى الْوِسَادَةِ الْمَنْصُوبَةِ، وَأَكْلُ الثَّمَرَةِ السَّاقِطَةِ مِنْ الْغُصْنِ الَّذِي عَلَى الطَّرِيقِ، وَإِذْنُ الْمُسْتَأْجِرِ لِلدَّارِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ أَضْيَافِهِ فِي الدُّخُولِ وَالْمَبِيتِ وَالثَّوَى عِنْدَهُ وَالِانْتِفَاعُ بِالدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْهُمْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَفْظًا اعْتِمَادًا عَلَى الْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ، وَغَسْلُ الْقَمِيصِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِلُّبْسِ مُدَّةً يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْغَسْلِ، وَلَوْ وَكَّلَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فِي بَيْعِ شَيْءٍ وَالْعُرْفُ قَبْضُ ثَمَنِهِ مَلَكَ ذَلِكَ، وَلَوْ اجْتَازَ بِحَرْثِ غَيْرِهِ فِي الطَّرِيقِ وَدَعَتْهُ الْحَاجَةُ إلَى التَّخَلِّي فِيهِ فَلَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا سِوَاهُ إمَّا لِضِيقِ الطَّرِيقِ أَوْ لِتَتَابُعِ الْمَارِّينَ فِيهَا، فَكَيْفَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ وَالتَّيَمُّمِ بِتُرَابِهِ؟ وَمِنْهَا لَوْ رَأَى شَاةَ غَيْرِهِ تَمُوتُ فَذَبَحَهَا حِفْظًا لِمَالِيَّتِهَا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا تَذْهَبُ ضِيَاعًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَامِدِي الْفُقَهَاءِ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ: هَذَا تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْيَابِسُ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إنَّمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ وَتَرْكُ التَّصَرُّفِ هَا هُنَا هُوَ الْإِضْرَارُ.
وَمِنْهَا لَوْ اسْتَأْجَرَ غُلَامًا فَوَقَعَتْ الْأَكَلَةُ فِي طَرَفِهِ فَتَيَقَّنَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْطَعْهُ سَرَتْ إلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ جَازَ لَهُ قَطْعُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا لَوْ رَأَى السَّيْلَ يَمُرُّ بِدَارِ جَارِهِ فَبَادَرَ وَنَقَبَ حَائِطَهُ وَأَخْرَجَ مَتَاعَهُ فَحَفِظَهُ عَلَيْهِ جَازَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَضْمَنْ نَقْبَ الْحَائِطِ وَمِنْهَا لَوْ قَصَدَ الْعَدُوُّ مَالَ جَارِهِ فَصَالَحَهُ بِبَعْضِهِ دَفْعًا عَنْ بَقِيَّتِهِ جَازَ لَهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ. وَمِنْهَا لَوْ وَقَعَتْ النَّارُ فِي دَارِ جَارِهِ فَهَدَمَ جَانِبًا مِنْهَا عَلَى النَّارِ لِئَلَّا تَسْرِيَ إلَى بَقِيَّتِهَا لَمْ يَضْمَنْ. وَمِنْهَا لَوْ بَاعَهُ صُبْرَةً عَظِيمَةً أَوْ حَطَبًا أَوْ حِجَارَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ مِلْكَهُ مِنْ الدَّوَابِّ وَالرِّجَالِ مَا يَنْقُلُهَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ لَفْظًا. وَمِنْهَا لَوْ جَذَّ ثِمَارَهُ أَوْ حَصَدَ زَرْعَهُ ثُمَّ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَرْغَبُ عَنْهُ عَادَةً جَازَ لِغَيْرِهِ الْتِقَاطُهُ وَأَخْذُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ لَفْظًا. وَمِنْهَا لَوْ وَجَدَ هَدْيًا مُشْعَرًا مَنْحُورًا لَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْتَطِعَ مِنْهُ وَيَأْكُلَ مِنْهُ.
وَمِنْهَا لَوْ أَتَى إلَى دَارِ رَجُلٍ جَازَ لَهُ طَرْقُ حَلْقَةِ الْبَابِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ تَصَرَّفَ فِي بَابٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ لَفْظًا.
وَمِنْهَا الِاسْتِنَادُ إلَى جِدَارِهِ وَالِاسْتِظْلَالُ بِهِ. وَمِنْهَا الِاسْتِمْدَادُ مِنْ مِحْبَرَتِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ اسْتَأْذَنَهُ فِي ذَلِكَ.
وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ حَيْثُ «أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ، فَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجَاءَهُ
بِالدِّينَارِ وَالشَّاةِ الْأُخْرَى» فَبَاعَ وَأَقْبَضَ وَقَبَضَ بِغَيْرِ إذْنٍ لَفْظِيٍّ اعْتِمَادًا مِنْهُ عَلَى الْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ اللَّفْظِيِّ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَلَا إشْكَالَ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِوَجْهٍ مَا، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي اسْتِشْكَالِهِ؛ فَإِنَّهُ جَارٍ عَلَى مَحْضِ الْقَوَاعِدِ كَمَا عَرَفْته.