الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ مُكِّنَ مِنْ بَيْعِ مُدِّ حِنْطَةٍ بِمَدَّيْنِ كَانَ ذَلِكَ تِجَارَةً حَاضِرَةً، فَتَطْلُبُ النُّفُوسُ التِّجَارَةَ الْمُؤَخَّرَةَ لِلَذَّةِ الْكَسْبِ وَحَلَاوَتِهِ؛ فَمُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مُنِعُوا مِنْ التَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ إتْمَامًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، وَرِعَايَةً لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَدْ يَتَعَاقَدَانِ عَلَى الْحُلُولِ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِصَبْرِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَكَمَا يَفْعَلُ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: يُطْلِقُونَ الْعَقْدَ وَقَدْ تَوَاطَئُوا عَلَى أَمْرٍ آخَرَ، كَمَا يُطْلِقُونَ عَقْدَ النِّكَاحِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى التَّحْلِيلِ، وَيُطْلِقُونَ بَيْعَ السِّلْعَةِ إلَى أَجَلٍ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُعِيدُهَا إلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ الثَّمَنِ؛ فَلَوْ جُوِّزَ لَهُمْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَأَطْلَقُوا الْبَيْعَ حَالًّا وَأَخَّرُوا الطَّلَبَ لِأَجْلِ الرِّبْحِ، فَيَقَعُوا فِي نَفْسِ الْمَحْذُورِ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَثْمَانِ بِجِنْسِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الْأَثْمَانِ، وَمُنِعُوا مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَقْوَاتِ بِجِنْسِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الْأَقْوَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي بَيْعِ التِّبْرِ وَالْعَيْنِ؛ لِأَنَّ التِّبْرَ لَيْسَ فِيهِ صَنْعَةٌ يُقْصَدُ لِأَجْلِهَا؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ أَلَّا يُفَاضِلَ بَيْنَهَا، وَلِهَذَا قَالَ:" تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا سَوَاءٌ " فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا النَّسَاءِ فِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسَيْنِ، وَرِبَا الْفَضْلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ هَذَا تَحْرِيمُ الْمَقَاصِدِ وَتَحْرِيمَ الْآخَرِ تَحْرِيمُ الْوَسَائِلِ وَسَدُّ الذَّرَائِعِ، وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ شَيْءٌ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ.
[فَصَلِّ حِكْمَةُ إبَاحَةِ الْعَرَايَا وَنَحْوِهَا]
فَصْلٌ:
[حِكْمَةُ إبَاحَةِ الْعَرَايَا وَنَحْوِهَا]
وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ كَالْعَرَايَا؛ فَإِنَّ مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أَخَفُّ مِمَّا حَرَّمَ تَحْرِيمَ الْمَقَاصِدِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَصُوغُ وَالْحِيلَةُ إنْ كَانَتْ صِيَاغَتُهُ مُحَرَّمَةً كَالْآنِيَةِ حُرِّمَ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ، وَبَيْعُ هَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ عُبَادَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُقَابَلَةَ الصِّيَاغَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْأَثْمَانِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَآلَاتِ الْمَلَاهِي. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الصِّيَاغَةُ مُبَاحَةً - كَخَاتَمِ الْفِضَّةِ وَحِلْيَةِ النِّسَاءِ وَمَا أُبِيحَ مِنْ حِلْيَةِ السِّلَاحِ وَغَيْرِهَا - فَالْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ هَذِهِ بِوَزْنِهَا مِنْ جِنْسِهَا فَإِنَّهُ سَفَهٌ وَإِضَاعَةٌ لِلصَّنْعَةِ. وَالشَّارِعُ أَحْكَمُ مِنْ أَنْ يُلْزِمَ الْأُمَّةَ بِذَلِكَ، فَالشَّرِيعَةُ لَا تَأْتِي بِهِ، وَلَا تَأْتِي بِالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ ذَلِكَ وَشِرَائِهِ
لِحَاجَةِ
النَّاسِ إلَيْهِ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا أَلْبَتَّةَ، بَلْ يَبِيعُهَا بِجِنْسٍ آخَرَ، وَفِي هَذَا مِنْ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ مَا تَتَّقِيهِ الشَّرِيعَةُ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ذَهَبٌ يَشْتَرُونَ بِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْبَائِعُ لَا يَسْمَحُ بِبَيْعِهِ بِبُرٍّ وَشَعِيرٍ وَثِيَابٍ؛ وَتَكْلِيفُ الِاسْتِصْنَاعِ لِكُلِّ مَنْ احْتَاجَ
إلَيْهِ إمَّا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ، وَالْحِيَلُ بَاطِلَةٌ فِي الشَّرْعِ وَقَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِشَهْوَةِ الرُّطَبِ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ الْحَاجَةِ إلَى بَيْعِ الْمَصُوغِ الَّذِي تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ؟ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا جَوَازُ بَيْعِهِ كَمَا تُبَاعُ السِّلَعُ؛ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِالدَّرَاهِمِ فَسَدَتْ
مَصَالِحُ النَّاسِ
، وَالنُّصُوصُ الْوَارِدَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْمَنْعِ، وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً أَوْ مُطْلَقَةً، وَلَا يُنْكِرُ تَخْصِيصَ الْعَامِّ وَتَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: لَمْ تَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْحِيلَةُ، وَلَا سِيَّمَا فَإِنَّ لَفْظَ النُّصُوصِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ ذُكِرَ تَارَةً بِلَفْظِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَقَوْلِهِ:«الدَّرَاهِمُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرُ بِالدَّنَانِيرِ» وَفِي الزَّكَاةِ قَوْلُهُ: «فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ» وَالرِّقَّةُ: هِيَ الْوَرِقُ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ، وَتَارَةً بِلَفْظِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ فَإِنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَانَ نَهْيًا عَنْ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ وَإِيجَابًا لِلزَّكَاةِ فِيهِمَا، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ جُمْلَةِ مَا عَدَاهُمَا، بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ؛ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ وَيَجْرِي الرِّبَا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ لَا فِي كُلِّهَا، وَفِي هَذَا تَوْفِيَةُ الْأَدِلَّةِ حَقَّهَا، وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ بِشَيْءٍ لِدَلِيلٍ مِنْهَا.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحِلْيَةَ الْمُبَاحَةَ صَارَتْ بِالصَّنْعَةِ الْمُبَاحَةِ مِنْ جِنْسِ الثِّيَابِ وَالسِّلَعِ، لَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَلَا يَجْرِي الرِّبَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَثْمَانِ كَمَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَبَيْنَ سَائِرِ السِّلَعِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ بِالصِّنَاعَةِ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ مَقْصُودِ الْأَثْمَانِ، وَأُعِدَّتْ لِلتِّجَارَةِ، فَلَا مَحْذُورَ فِي بَيْعِهَا بِجِنْسِهَا، وَلَا يَدْخُلُهَا:" إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " إلَّا كَمَا يَدْخُلُ فِي سَائِرِ السِّلَعِ إذَا بِيعَتْ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَعُ فِيهَا، لَكِنْ لَوْ سَدَّ عَلَى النَّاسِ ذَلِكَ لَسَدَّ عَلَيْهِمْ بَابَ الدَّيْنِ، وَتَضَرَّرُوا بِذَلِكَ غَايَةَ الضَّرَرِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّاسَ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْحِلْيَةَ، وَكَانَ النِّسَاءُ يَلْبَسْنَهَا، وَكُنَّ يَتَصَدَّقْنَ بِهَا فِي الْأَعْيَادِ وَغَيْرِهَا؛ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهَا لِلْمَحَاوِيجِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَبِيعُونَهَا؛ وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهَا لَا تُبَاعُ بِوَزْنِهَا فَإِنَّهُ سَفَهٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ الْحَلَقَةِ وَالْخَاتَمِ وَالْفَتْخَةِ لَا تُسَاوِي دِينَارًا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فُلُوسٌ يَتَعَامَلُونَ بِهَا، وَهُمْ كَانُوا أَتْقَى لِلَّهِ وَأَفْقَهَ فِي دِينِهِ وَأَعْلَمَ بِمَقَاصِدِ رَسُولِهِ مِنْ أَنْ يَرْتَكِبُوا الْحِيَلَ أَوْ يُعَلِّمُوهَا النَّاسَ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَاعَ الْحُلِيُّ إلَّا بِغَيْرِ جِنْسِهِ أَوْ بِوَزْنِهِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الصَّرْفِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ إنَّمَا كَانَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَمَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، كَمَا أُبِيحَتْ الْعَرَايَا مِنْ رِبَا الْفَضْلِ، وَكَمَا أُبِيحَتْ ذَوَاتُ
الْأَسْبَابِ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَكَمَا أُبِيحَ النَّظَرُ لِلْخَاطِبِ وَالشَّاهِدِ وَالطَّبِيبِ وَالْمُعَامِلِ مِنْ جُمْلَةِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ حُرِّمَ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ التَّشْبِيهِ بِالنِّسَاءِ الْمَلْعُونِ فَاعِلُهُ، وَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاحَ بَيْعُ الْحِلْيَةِ الْمَصُوغَةِ صِيَاغَةً مُبَاحَةً بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا؛ لِأَنَّ
الْحَاجَةَ
تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَتَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ إنَّمَا كَانَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ؛ فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُقْتَضَى أُصُولِ الشَّرْعِ، وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهِ أَوَبِالْحِيَلِ، وَالْحِيَلُ بَاطِلَةٌ فِي الشَّرْعِ، وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ جَعْلُ الزِّيَادَةِ فِي مُقَابَلَةِ الصِّيَاغَةِ الْمُبَاحَةِ الْمُتَقَوِّمَةِ بِالْأَثْمَانِ فِي الْغُصُوبِ وَغَيْرِهَا، وَإِذَا كَانَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ يُجَوِّزُونَ بَيْعَ عَشَرَةٍ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فِي خِرْقَةٍ تُسَاوِي فَلْسًا، وَيَقُولُونَ: الْخَمْسَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْخِرْقَةِ، فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ بَيْعَ الْحِلْيَةِ بِوَزْنِهَا وَزِيَادَةً تُسَاوِي الصِّنَاعَةَ؟ وَكَيْفَ تَأْتِي الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الْفَاضِلَةُ الَّتِي بَهَرَتْ الْعُقُولَ حِكْمَةً وَعَدْلًا وَرَحْمَةً وَجَلَالَةً بِإِبَاحَةِ هَذَا وَتَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَهَلْ هَذَا إلَّا عَكْسٌ لِلْمَعْقُولِ وَالْفِطَرِ وَالْمَصْلَحَةِ؟ وَاَلَّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ مُبَالَغَتُهُمْ فِي رِبَا الْفَضْلِ أَعْظَمَ مُبَالَغَةٍ، حَتَّى مَنَعُوا بَيْعَ رِطْلِ زَيْتٍ بِرِطْلِ زَيْتٍ، وَحَرَّمُوا بَيْعَ الْكُسْبِ بِالسِّمْسِمِ، وَبَيْعَ النَّشَا بِالْحِنْطَةِ، وَبَيْعَ الْخَلِّ بِالزَّبِيبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَرَّمُوا بَيْعَ مُدِّ حِنْطَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدٍّ وَدِرْهَمٍ وَجَاءُوا إلَى رِبَا الْفَضْلِ النَّسِيئَةَ فَفَتَحُوا لِلتَّحَيُّلِ عَلَيْهِ كُلَّ بَابٍ، فَتَارَةً بِالْعَيِّنَةِ، وَتَارَةً بِالْمُحَلِّلِ، وَتَارَةً بِالشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ الْمُتَوَاطَأِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُطْلِقُونَ الْعَقْدَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطٍ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَالْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ وَالْمُتَعَاقِدَانِ وَمَنْ حَضَرَ أَنَّهُ عَقْدُ رِبًا مَقْصُودُهُ وَرُوحُهُ بَيْعُ خَمْسَةَ عَشَرَ مُؤَجَّلَةً بِعَشَرَةٍ نَقْدًا لَيْسَ إلَّا، وَدُخُولُ السِّلْعَةِ كَخُرُوجِهَا حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، فَهَلَّا فَعَلُوا هَهُنَا كَمَا فَعَلُوا فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمَدٍّ وَدِرْهَمٍ، وَقَالُوا: قَدْ يُجْعَلُ وَسِيلَةً إلَى رِبَا الْفَضْلِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُدُّ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يُسَاوِي بَعْضَ مُدٍّ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَقَعُ التَّفَاضُلُ؟ فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ حُرِّمَتْ هَذِهِ الذَّرِيعَةُ إلَى رِبَا الْفَضْلِ وَأُبِيحَتْ تِلْكَ الذَّرَائِعُ الْقَرِيبَةُ الْمُوَصِّلَةُ إلَى رِبَا النَّسِيئَةِ بَحْتًا خَالِصًا؟ وَأَيْنَ مَفْسَدَةُ بَيْعِ الْحِلْيَةِ بِجِنْسِهَا وَمُقَابَلَةِ الصِّيَاغَةِ بِحَظِّهَا مِنْ الثَّمَنِ إلَى مَفْسَدَةِ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ كُلِّ مَفْسَدَةٍ وَأَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ؟ وَإِذَا حَصْحَصَ الْحَقُّ فَلْيَقُلْ الْمُتَعَصِّبُ الْجَاهِلُ مَا شَاءَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[السِّرُّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلصِّفَاتِ فِي الْبُيُوعِ مُقَابِلٌ؟]
فَإِنْ قِيلَ: الصِّفَاتُ لَا تُقَابَلُ بِالزِّيَادَةِ، وَلَوْ قُوبِلَتْ بِهَا لَجَازَ بَيْعُ الْفِضَّةِ الْجَيِّدَةِ بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ الرَّدِيئَةِ، وَبَيْعُ التَّمْرِ الْجَيِّدِ بِأَزْيَدَ مِنْهُ مِنْ الرَّدِيءِ، وَلَمَّا أَبْطَلَ الشَّارِعُ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ مُقَابَلَةِ الصِّفَاتِ بِالزِّيَادَةِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّنْعَةِ الَّتِي هِيَ أَثَرُ فِعْلِ الْآدَمِيِّ وَتُقَابَلُ بِالْأَثْمَانِ وَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْأُجْرَةَ وَبَيْنَ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ لَا أَثَرَ لِلْعَبْدِ فِيهَا وَلَا هِيَ مِنْ صَنْعَتِهِ؛ فَالشَّارِعُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ مَنَعَ مِنْ مُقَابَلَةِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِزِيَادَةٍ؛ إذْ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى نَقْضِ مَا شَرَعَهُ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ التَّفَاضُلِ؛ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ فِي هَذِهِ الْأَجْنَاسِ ظَاهِرٌ، وَالْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ جِنْسًا بِجِنْسِهِ إلَّا لِمَا هُوَ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ، فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَلَوْ جَوَّزَ لَهُمْ مُقَابَلَةَ الصِّفَاتِ بِالزِّيَادَةِ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ رِبَا الْفَضْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصِّيَاغَةِ الَّتِي جَوَّزَ لَهُمْ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا مَعَهُ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ إذَا جَازَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّيَاغَةِ مُفْرَدَةً جَازَتْ عَلَيْهَا مَضْمُومَةً إلَى غَيْرِ أَصْلِهَا وَجَوْهَرِهَا؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقُولُ لِصَاحِبِ هَذِهِ الصِّيَاغَةِ: بِعْ هَذَا الْمَصُوغَ بِوَزْنِهِ وَاخْسَرْ صِيَاغَتَك، وَلَا يَقُولُ لَهُ: لَا تَعْمَلْ هَذِهِ الصِّيَاغَةَ وَاتْرُكْهَا، وَلَا يَقُولُ لَهُ: تَحَيَّلْ عَلَى بَيْعِ الْمَصُوغِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ، وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ: لَا تَبِعْهُ إلَّا بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ بِجِنْسِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ هَذَا قَدْ سَلِمَ لَكُمْ فِي الْمَصُوغِ، فَكَيْفَ يَسْلَمُ لَكُمْ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ إذَا بِيعَتْ بِالسَّبَائِكِ مُفَاضَلًا وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ صِنَاعَةِ الضَّرْبِ؟ قِيلَ: هَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ وَارِدٌ، وَجَوَابُهُ أَنَّ السِّكَّةَ لَا تَتَقَوَّمُ فِيهِ الصِّنَاعَةُ
لِلْمَصْلَحَةِ
الْعَامَّةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا؛ فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَضْرِبُهَا لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ الضَّارِبُ يَضْرِبُهَا بِأُجْرَةٍ فَإِنَّ الْقَصْدَ بِهَا أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِلنَّاسِ لَا يَتَّجِرُونَ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالسِّكَّةُ فِيهَا غَيْرُ مُقَابَلَةٍ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُرْفِ، وَلَوْ قُوبِلَتْ بِالزِّيَادَةِ فَسَدَتْ الْمُعَامَلَةُ، وَانْتَقَضَتْ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي ضُرِبَتْ لِأَجْلِهَا، وَاِتَّخَذَهَا النَّاسُ سِلْعَةً، وَاحْتَاجَتْ إلَى التَّقْوِيمِ بِغَيْرِهَا، وَلِهَذَا قَامَ الدِّرْهَمُ مَقَامَ الدِّرْهَمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ الدَّرَاهِمَ رَدَّ نَظِيرَهَا، وَلَيْسَ الْمَصُوغُ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَأْخُذُ مِائَةً خِفَافًا وَيَرُدُّ خَمْسِينَ ثِقَالًا بِوَزْنِهَا وَلَا يَأْبَى ذَلِكَ الْآخِذُ وَلَا الْقَابِضُ وَلَا يَرَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ خَسِرَ شَيْئًا؟ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَصُوغِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاؤُهُ لَمْ يَضْرِبُوا دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَهَا فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِضَرْبِ الْكُفَّارِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنْ تُجَوِّزُوا بَيْعَ فُرُوعِ الْأَجْنَاسِ بِأُصُولِهَا مُتَفَاضِلًا؛ فَجَوَّزُوا بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالْخُبْزِ مُتَفَاضِلًا وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ.