الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ مِقْدَارَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ فِي الزَّكَاةِ وَجَدَهُ مِمَّا لَا يَضُرُّ الْمُخْرِجَ فَقْدُهُ، وَيَنْفَعُ الْفَقِيرَ أَخْذُهُ، وَرَآهُ قَدْ رَاعَى فِي حَالِ صَاحِبِ الْمَالِ وَجَانِبِهِ حَقَّ الرِّعَايَةِ، وَنَفَعَ الْآخِذَ بِهِ، وَقَصَدَ إلَى كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَعْلَاهُ وَأَشْرَفِهِ؛ فَأَوْجَبَ زَكَاةَ الْعَيْنِ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ دُونَ الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهَا، وَأَوْجَبَ زَكَاةَ السَّائِمَةِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ دُونَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ دُونَ مَا يَقِلُّ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّيُودِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَدُونَ الطَّيْرِ كُلِّهِ، وَأَوْجَبَ زَكَاةَ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ فِي أَشْرَفَهُ وَهُوَ الْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ دُونَ الْبُقُولِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْمَقَاثِي وَالْمَبَاطِخِ وَالْأَنْوَارِ.
وَغَيْرُ خَافٍ تَمَيُّزُ مَا أَوْجَبَ فِيهِ الزَّكَاةَ عَمَّا لَمْ يُوجِبْهَا فِي جِنْسِهِ وَوَصْفِهِ وَنَفْعِهِ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَكَثْرَةِ وُجُودِهِ، وَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْأَمْوَالِ لِمَا عَدَاهُ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ، بِحَيْثُ لَوْ فُقِدَ لَأَضَرَّ فَقْدُهُ بِالنَّاسِ، وَتَعَطَّلَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يُوجِبْ فِيهِ الزَّكَاةَ فَإِنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْفَضَلَاتِ وَالتَّتِمَّاتِ الَّتِي لَوْ فُقِدَتْ لَمْ يَعْظُمْ الضَّرَرُ بِفَقْدِهَا، وَكَذَلِكَ رَاعَى فِي الْمُسْتَحَقِّينَ لَهَا أَمْرَيْنِ مُهِمَّيْنِ:
أَحَدَهُمَا: حَاجَةُ الْأَخْذِ.
وَالثَّانِي: نَفْعُهُ؛ فَجَعَلَ الْمُسْتَحَقِّينَ لَهَا نَوْعَيْنِ: نَوْعًا يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ، وَنَوْعًا يَأْخُذُ لِنَفْعِهِ، وَحَرَّمَهَا عَلَى مَنْ عَدَاهُمَا.
[فَصَلِّ حِكْمَةُ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ دُونَ لِسَانِ الْقَاذِفِ]
ِ مَثَلًا]
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَقَطَعَ يَدَ السَّارِقِ الَّتِي بَاشَرَ بِهَا الْجِنَايَةَ، وَلَمْ يَقْطَعْ فَرْجَ الزَّانِي وَقَدْ بَاشَرَ بِهِ الْجِنَايَةَ، وَلَا لِسَانَ الْقَاذِفِ وَقَدْ بَاشَرَ بِهِ الْقَذْفَ " فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ فَصْلًا نَافِعًا فِي الْحُدُودِ وَمَقَادِيرِهَا، وَكَمَالِ رُتَبِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا، وَاقْتِضَاءِ كُلِّ جِنَايَةٍ لِمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ لِلْعُقُولِ اقْتِرَاحٌ، وَنُورِدُ أَسْئِلَةً لَمْ يُورِدْهَا هَذَا السَّائِلُ، وَنَنْفَصِلُ عَنْهَا بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ أَحْسَنَ انْفِصَالٍ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ لَمَّا خَلَقَ الْعِبَادَ وَخَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَجَعَلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَبْلُوَ عِبَادَهُ وَيَخْتَبِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ فِي حِكْمَتِهِ بُدٌّ مِنْ تَهْيِئَةِ أَسْبَابِ الِابْتِلَاءِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَخَارِجًا عَنْهَا، فَجَعَلَ فِي أَنْفُسِهِمْ الْعُقُولَ الصَّحِيحَةَ وَالْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْإِرَادَةَ وَالشَّهَوَاتِ وَالْقُوَى وَالطَّبَائِعَ وَالْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْمَيْلَ وَالنُّفُورَ وَالْأَخْلَاقَ
الْمُتَضَادَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِآثَارِهَا اقْتِضَاءَ السَّبَبِ لِمُسَبِّبِهِ وَاَلَّتِي فِي الْخَارِجِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تَطْلُبُ النُّفُوسُ حُصُولَهَا فَتُنَافِسُ فِيهِ، وَتَكْرَهُ حُصُولَهُ فَتَدْفَعُهُ عَنْهَا، ثُمَّ أَكَّدَ أَسْبَابَ هَذَا الِابْتِلَاءِ بِأَنْ وَكَّلَ بِهَا قُرَنَاءَ مِنْ الْأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ الظَّالِمَةِ الْخَبِيثَةِ وَقُرَنَاءَ مِنْ الْأَرْوَاحِ الْخَيِّرَةِ الْعَادِلَةِ الطَّيِّبَةِ، وَجَعَلَ دَوَاعِيَ الْقَلْبِ وَمُيُولَهُ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَهُمَا؛ فَهُوَ إلَى دَاعِي الْخَيْرِ مَرَّةً وَإِلَى دَاعِي الشَّرِّ مَرَّةً، لِيَتِمَّ الِابْتِلَاءُ فِي دَارِ الِامْتِحَانِ، وَتَظْهَرَ حِكْمَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ الْحَقِّ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ، وَهُمَا مُقْتَضَى مُلْكِ الرَّبِّ وَحَمْدِهِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مُلْكُهُ وَحَمْدُهُ فِيهِمَا كَمَا ظَهَرَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ بِحُكْمِ إيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ لِيُتِمَّ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَأَقَامَ سُوقَ الْجِهَادِ لِمَا حَصَلَ مِنْ الْمُعَادَاةِ وَالْمُنَافَرَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْإِرَادَاتِ كَمَا حَصَلَ بَيْنَ مَنْ قَامَتْ بِهِ.
فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حُصُولِ مُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا قَارَنَهَا مِنْ الْأَسْبَابِ مِنْ التَّنَافُسِ وَالتَّحَاسُدِ وَالِانْقِيَادِ لِدَوَاعِي الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَتَعَدِّي مَا حُدَّ لَهُ وَالتَّقْصِيرُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تُعُبِّدَ بِهِ، وَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَيْهَا اغْتِرَارُهَا بِمَوَارِدِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ مِنْ مَصَادِرِهَا، وَإِيثَارِهَا مَا تَتَعَجَّلُهُ مِنْ يَسِيرِ اللَّذَّةِ فِي دُنْيَاهَا عَلَى مَا تَتَأَجَّلُهُ مِنْ عَظِيمِ اللَّذَّةِ فِي أُخْرَاهَا، وَنُزُولِهَا عَلَى الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ، وَتَجَافِيهَا عَنْ الْغَائِبِ الْمَوْعُودِ وَذَلِكَ مُوجِبُ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ جَهْلِهَا وَظُلْمِهَا؛ فَاقْتَضَتْ أَسْمَاءُ الرَّبِّ الْحُسْنَى وَصِفَاتُهُ الْعُلْيَا وَحِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ وَنِعْمَتُهُ السَّابِغَةُ وَرَحْمَتُهُ الشَّامِلَةُ وَجُودُهُ الْوَاسِعُ أَنْ لَا يَضْرِبَ عَنْ عِبَادِهِ الذِّكْرَ صَفْحًا، وَأَنْ لَا يَتْرُكَهُمْ سُدًى، وَلَا يُخَلِّيَهُمْ وَدَوَاعِيَ أَنْفُسِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ، بَلْ رَكَّبَ فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ مَعْرِفَةَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ وَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ وَمَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا، وَلَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى عَرَّفَهُمْ بِهِ مُفَصَّلًا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَقَطَعَ مَعَاذِيرَهُمْ بِأَنْ أَقَامَ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ لَهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَصَرَفَ لَهُمْ طُرُقَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَضَرَبَ لَهُمْ الْأَمْثَالَ وَأَزَالَ عَنْهُمْ كُلَّ إشْكَالٍ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ غَايَةَ التَّمْكِينِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهِ بِكُلِّ سَبَبٍ، وَسَلَّطَهُمْ عَلَى قَهْرِ طِبَاعِهِمْ بِمَا يَجُرُّهُمْ إلَى إيثَارِ الْعَوَاقِبِ عَلَى الْمُبَادِي وَرَفْضِ الْيَسِيرِ الْفَانِي مِنْ اللَّذَّةِ إلَى الْعَظِيمِ الْبَاقِي مِنْهَا، وَأَرْشَدَهُمْ إلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ وَإِيثَارِ مَا تَقْضِي بِهِ عُقُولُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَأَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ بِمَا أَوْصَلَهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْعُقُوبَةِ وَالْمَثُوبَةِ وَالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَتَحْقِيقِ ذَلِكَ بِالتَّعْجِيلِ لِبَعْضِهِ فِي دَارِ الْمِحْنَةِ لِيَكُونَ عَلَمًا وَإِمَارَةً لِتَحْقِيقِ مَا أَخَّرَهُ عَنْهُمْ فِي دَارِ الْجَزَاءِ
وَالْمَثُوبَةِ، وَيَكُونُ الْعَاجِلُ مُذَكِّرًا بِالْآجِلِ، وَالْقَلِيلُ الْمُنْقَطِعُ بِالْكَثِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَالْحَاضِرُ الْفَائِتُ مُؤْذِنًا بِالْغَائِبِ الدَّائِمِ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَظُنُّهُ بِهِ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ مِمَّنْ أَنْكَرَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، وَظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ فَأَرْدَاهُ ظَنُّهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ.
[مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ شَرْعُ الْحُدُودِ]
فَكَانَ مِنْ بَعْضِ حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَرَحْمَتِهِ أَنْ شَرَعَ الْعُقُوبَاتِ فِي الْجِنَايَاتِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فِي الرُّءُوسِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ، كَالْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ؛ فَأَحْكَمَ سُبْحَانَهُ وُجُوهَ الزَّجْرِ الرَّادِعَةَ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ غَايَةَ الْإِحْكَامِ، وَشَرَعَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَصْلَحَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، مَعَ عَدَمِ الْمُجَاوَزَةِ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الْجَانِي مِنْ الرَّدْعِ؛ فَلَمْ يَشْرَعْ فِي الْكَذِبِ قَطْعَ اللِّسَانِ وَلَا الْقَتْلَ، وَلَا فِي الزِّنَا الْخِصَاءَ، وَلَا فِي السَّرِقَةِ إعْدَامَ النَّفْسِ.
وَإِنَّمَا شَرَعَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ مُوجِبُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ وَعَدْلِهِ لِتَزُولَ النَّوَائِبُ، وَتَنْقَطِعَ الْأَطْمَاعُ عَنْ التَّظَالُمِ وَالْعُدْوَانِ، وَيَقْتَنِعَ كُلُّ إنْسَانٍ بِمَا آتَاهُ مَالِكُهُ وَخَالِقُهُ؛ فَلَا يَطْمَعُ فِي اسْتِلَابِ غَيْرِهِ حَقَّهُ.
[تَفَاوَتَتْ الْجِنَايَاتُ فَتَفَاوَتَتْ الْعُقُوبَاتُ]
وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَاتِ الْأَرْبَعِ مَرَاتِبَ مُتَبَايِنَةً فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَدَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي شِدَّةِ الضَّرَرِ وَخِفَّتِهِ، كَتَفَاوُتِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّظْرَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَصْلُحُ إلْحَاقُهَا فِي الْعُقُوبَةِ بِعُقُوبَةِ مُرْتَكِبِ الْفَاحِشَةِ، وَلَا الْخَدْشَةِ بِالْعُودِ بِالضَّرْبَةِ بِالسَّيْفِ، وَلَا الشَّتْمِ الْخَفِيفِ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا وَالْقَدَحِ فِي الْأَنْسَابِ؛ وَلَا سَرِقَةِ اللُّقْمَةِ وَالْفَلْسِ بِسَرِقَةِ الْمَالِ الْخَطِيرِ الْعَظِيمِ، فَلَمَّا تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُ الْجِنَايَاتِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْعُقُوبَاتِ، وَكَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّاسَ لَوْ وُكِّلُوا إلَى عُقُولِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَتَرْتِيبِ كُلِّ عُقُوبَةٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْجِنَايَةِ جِنْسًا وَوَصْفًا وَقَدْرًا لَذَهَبَتْ بِهِمْ الْآرَاءُ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَتَشَعَّبَتْ بِهِمْ الطُّرُقُ كُلَّ مُشَعَّبٍ، وَلَعَظُمَ الِاخْتِلَافُ وَاشْتَدَّ الْخَطْبُ، فَكَفَاهُمْ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَحْكُمُ الْحَاكِمِينَ مُؤْنَةَ ذَلِكَ، وَأَزَالَ عَنْهُمْ كُلْفَتَهُ، وَتَوَلَّى بِحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ تَقْدِيرَهُ نَوْعًا وَقَدْرًا، وَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ جِنَايَةٍ مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَيَلِيقُ بِهَا مِنْ النَّكَالِ، ثُمَّ بَلَغَ مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ أَنْ جَعَلَ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ كَفَّارَاتٍ لِأَهْلِهَا، وَطُهْرَةً تُزِيلُ عَنْهُمْ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْجِنَايَاتِ إذَا قَدِمُوا عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَهَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ وَالْإِنَابَةُ؛ فَرَحِمَهُمْ بِهَذِهِ الْعُقُوبَاتِ أَنْوَاعًا مِنْ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ دَائِرَةً عَلَى سِتَّةِ أُصُولٍ: قَتْلٍ، وَقَطْعٍ، وَجَلْدٍ، وَنَفْيٍ، وَتَغْرِيمِ مَالٍ، وَتَعْزِيرٍ.
[الْقَتْلُ وَمُوجِبُهُ]
فَأَمَّا الْقَتْلُ فَجَعَلَهُ عُقُوبَةَ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَنْفُسِ؛ فَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَكَالْجِنَايَةِ عَلَى الدِّينِ بِالطَّعْنِ فِيهِ وَالِارْتِدَادِ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْجِنَايَةُ أَوْلَى بِالْقَتْلِ وَكَفِّ عُدْوَانِ الْجَانِي عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ عُقُوبَةٍ؛ إذْ بَقَاؤُهُ بَيْنَ أَظْهُرِ عِبَادِهِ مَفْسَدَةٌ لَهُمْ، وَلَا خَيْرَ يُرْجَى فِي بَقَائِهِ وَلَا مَصْلَحَةَ؛ فَإِذَا حَبَسَ شَرَّهُ وَأَمْسَكَ لِسَانَهُ وَكَفَّ أَذَاهُ وَالْتَزَمَ الذُّلَّ وَالصَّغَارَ وَجَرَيَانَ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ وَأَدَاءَ الْجِزْيَةِ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ، وَالدُّنْيَا بَلَاغٌ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ، وَجَعَلَهُ أَيْضًا عُقُوبَةَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفُرُوجِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ وَاخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ وَالْفَسَادِ الْعَامِّ.
[الْقَطْعُ وَمُوجِبُهُ]
وَأَمَّا الْقَطْعُ فَجَعَلَهُ عُقُوبَةَ مِثْلِهِ عَدْلًا، وَعُقُوبَةَ السَّارِقِ؛ فَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ بِهِ أَبْلَغَ وَأَرْدَعَ مِنْ عُقُوبَتِهِ بِالْجَلْدِ، وَلَمْ تَبْلُغْ جِنَايَتُهُ حَدَّ الْعُقُوبَةِ بِالْقَتْلِ؛ فَكَانَ أَلْيَقَ الْعُقُوبَاتِ بِهِ إبَانَةَ الْعُضْوِ الَّذِي جَعَلَهُ وَسِيلَةً إلَى أَذَى النَّاسِ، وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ ضَرَرُ الْمُحَارِبِ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ السَّارِقِ وَعُدْوَانُهُ أَعْظَمَ؛ ضَمَّ إلَى قَطْعِ يَدِهِ قَطْعَ رِجْلِهِ؛ لِيَكُفَّ عُدْوَانَهُ، وَشَرَّ يَدِهِ الَّتِي بَطَشَ بِهَا، وَرِجْلِهِ الَّتِي سَعَى بِهَا، وَشَرَعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ خِلَافٍ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الشِّقِّ بِكَمَالِهِ، فَكَفَّ ضَرَرَهُ وَعُدْوَانَهُ، وَرَحِمَهُ بِأَنْ أَبْقَى لَهُ يَدًا مِنْ شِقٍّ وَرِجْلًا مِنْ شِقٍّ.
[الْجَلْدُ وَمُوجِبُهُ]
وَأَمَّا الْجَلْدُ فَجَعَلَهُ عُقُوبَةَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَعْرَاضِ، وَعَلَى الْعُقُولِ، وَعَلَى الْأَبْضَاعِ، وَلَمْ تَبْلُغْ هَذِهِ الْجِنَايَاتُ مَبْلَغًا يُوجِبُ الْقَتْلَ وَلَا إبَانَةَ طَرْفٍ، إلَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَبْضَاعِ فَإِنَّ مَفْسَدَتَهَا قَدْ انْتَهَضَتْ سَبَبًا لِأَشْنَعِ الْقِتْلَاتِ، وَلَكِنْ عَارَضَهَا فِي الْبِكْرِ شِدَّةُ الدَّاعِي وَعَدَمُ الْمُعَوِّضِ، فَانْتَهَضَ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ، وَلَمْ يَكُنْ الْجَلْدُ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي الزَّجْرِ فَغَلَّظَ بِالنَّفْيِ وَالتَّغْرِيبِ؛ لِيَذُوقَ مِنْ أَلَمِ الْغُرْبَةِ وَمُفَارَقَةِ الْوَطَنِ وَمُجَانَبَةِ الْأَهْلِ وَالْخُلَطَاءِ مَا يَزْجُرُهُ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ؛ وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْعُقُولِ بِالسُّكْرِ فَكَانَتْ مَفْسَدَتُهَا لَا تَتَعَدَّى السَّكْرَانَ غَالِبًا وَلِهَذَا لَمْ يُحَرَّمْ السُّكْرُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَمَا حُرِّمَتْ الْفَوَاحِشُ وَالظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ، وَكَانَتْ عُقُوبَةُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ مِنْ الشَّارِعِ، بَلْ ضَرَبَ فِيهَا بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ وَالْجَرِيدِ، وَضَرَبَ فِيهَا أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا اسْتَخَفَّ النَّاسُ بِأَمْرِهَا
وَتَتَابَعُوا فِي ارْتِكَابِهَا غَلَّظَهَا الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الَّذِي أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَسُنَّتُهُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَجَعَلَهَا ثَمَانِينَ بِالسَّوْطِ، وَنَفَى فِيهَا، وَحَلَقَ الرَّأْسَ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فِقْهِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، وَلَمْ يَنْسَخْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حَدًّا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ فَهُوَ عُقُوبَةٌ تَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَزِيَادَةُ أَرْبَعِينَ وَالنَّفْيُ وَالْحَلْقُ أَسْهَلُ مِنْ الْقَتْلِ.
فَصْلٌ [تَغْرِيمُ الْمَالِ وَمُوجِبُهُ]
وَأَمَّا تَغْرِيمُ الْمَالِ - وَهُوَ الْعُقُوبَةُ الْمَالِيَّةُ - فَشَرَعَهَا فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا تَحْرِيقُ مَتَاعِ الْغَالِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَمِنْهَا حِرْمَانُ سَهْمِهِ، وَمِنْهَا إضْعَافُ الْغُرْمِ عَلَى سَارِقِ الثِّمَارِ الْمُعَلَّقَةِ، وَمِنْهَا إضْعَافُهُ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ الْمُلْتَقَطَةِ، وَمِنْهَا أَخْذُ شَطْرِ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَمِنْهَا عَزْمُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَحْرِيقِ دُورِ مَنْ لَا يُصَلِّي فِي الْجَمَاعَةِ لَوْلَا مَا مَنَعَهُ مِنْ إنْفَاذِهِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ الذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ فِيهَا فَتَتَعَدَّى الْعُقُوبَةُ إلَى غَيْرِ الْجَانِي، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ عُقُوبَةُ الْحَامِلِ، وَمِنْهَا عُقُوبَةُ مَنْ أَسَاءَ عَلَى الْأَمِيرِ فِي الْغَزْوِ بِحِرْمَانِ سَلَبِ الْقَتِيلِ لِمَنْ قَتَلَهُ، حَيْثُ شَفَعَ فِيهِ هَذَا الْمُسِيءُ، وَأَمَرَ الْأَمِيرُ بِإِعْطَائِهِ، فَحُرِمَ الْمَشْفُوعُ لَهُ عُقُوبَةً لِلشَّافِعِ الْآمِرِ.
[التَّغْرِيمُ نَوْعَانِ مَضْبُوطٌ، وَغَيْرُ مَضْبُوطٍ]
وَهَذَا الْجِنْسُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مَضْبُوطٌ، وَنَوْعٌ غَيْرُ مَضْبُوطٍ؛ فَالْمَضْبُوطُ مَا قَابَلَ الْمُتْلَفَ إمَّا لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَإِتْلَافِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ كَإِتْلَافِ مَالِهِ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّ تَضْمِينَ الصَّيْدِ مُتَضَمِّنٌ لِلْعُقُوبَةِ بِقَوْلِهِ:{لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] وَمِنْهُ مُقَابَلَةُ الْجَانِي بِنَقِيضِ قَصْدِهِ مِنْ الْحِرْمَانِ، كَعُقُوبَةِ الْقَاتِلِ لِمُوَرِّثِهِ بِحِرْمَانِ مِيرَاثِهِ، وَعُقُوبَةِ الْمُدَبَّرِ إذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ بِبُطْلَانِ تَدْبِيرِهِ، وَعُقُوبَةِ الْمُوصَى لَهُ بِبُطْلَانِ وَصِيَّتِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ عُقُوبَةُ الزَّوْجَةِ النَّاشِزَةِ بِسُقُوطِ نَفَقَتِهَا وَكِسْوَتِهَا.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي غَيْرُ الْمُقَدَّرِ فَهَذَا الَّذِي يَدْخُلُهُ اجْتِهَادُ الْأَئِمَّةِ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَأْتِ فِيهِ الشَّرِيعَةُ بِأَمْرٍ عَامٍّ، وَقَدْرٍ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ كَالْحُدُودِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ: هَلْ حُكْمُهُ مَنْسُوخٌ أَوْ ثَابِتٌ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ، وَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ؛ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى النَّسْخِ، وَقَدْ فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ.