المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٢

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ

قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ

} الآيات الثلاث، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين أن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم .. أتبعه بذكر هذه الآيات للدلالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان. وهذه الآيات الثلاث تكملة لما قبلها، وبيان لسنن الله تعالى في الأمم مع رسلهم، وفي خلق البشر مستعدين للإيمان والكفر والخير والشر، وفي تعلق مشيئة الله وحكمته بأفعاله، وأفعال عباده ووقوعها وفقهما.

قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين أن سننه في نوع الإنسان، أن خلقه مستعدًّا للإيمان والكفر، الخير والشر، ولم يشأ أن يجعله على طريقة واحدة، إما الكفر وحده وإما الإيمان وحده، وأنك أيها الرسول لا تقدر على جعله على غير ذلك .. بين هنا أن مدار سعادته على استعمال عقله، في التمييز بين الخير والشر، وما على الرسول إلا التبشير والإنذار، وبيان الطريق المستقيم الذي يوصل إلى السعادة، وما الدين إلا مساعد للعقل على حسن الاختيار، إذا أحسن النظر والتفكر اللذين أمر الله تعالى بهما. فليحذر أولئك القوم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المكذبين فإن سنتنا لا تغيير فيها ولا تبديل فننجي رسلنا والذين آمنوا معهم، ونهلك من كذبهم وندخله سواء الجحيم.

وقال أبو حيان: قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا

} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما تقدم قوله {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ

} وكان ذلك مشعرًا بما حل بالأمم الماضية المكذبة ومصرحًا بهلاكهم في غير ما آية .. أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية، فقال: ثم ننجي رسلنا، والمعنى: أن الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل، ثم نجينا الرسل والمؤمنين.

التفسير وأوجه القراءة

‌88

- {وَقَالَ مُوسَى} بعد أن أعد قومه بني إسرائيل للخروج من مصر على قدر ما يستطيع من الإعداد الديني والدنيوي، وغرس في قلوبهم الإيمان وحب العزة

ص: 345

والكرامة ونحو ذلك، وتوجه إلى الله أن يتم أمره {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ}؛ أي: أعطيت فرعون وأشراف قومه وكبراءهم {زِينَةً} ؛ أي: ما يتزين به من حلي وحلل، وآنية وماعون، وأثاث ورياش {وَأَمْوَالًا} كثيرة من صامت وناطق، أي: من ذهب وفضة وزروع وأنعام، يتمتعون بها، وينفقون منها في حظوظهم وشهواتهم. فالمراد (1) بالزينة: ما يتزين به من ملبوس ومركوب وغلمان وحلية وفراش وسلاح، وأثاث البيت الفاخر والأشياء الجميلة، والمال ما زاد على هذه الأشياء، من الصامت ونحوه {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم كرر النداء تأكيدًا للدعاء والاستغاثة فقال:{رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا، آتيت فرعون وملأه زينة وأموالًا {لِيُضِلُّوا} غيرهم {عَن سَبِيلِكَ}؛ أي: لتكون عاقبة ذلك إضلال عبادك، عن السبيل الموصلة إلى مرضاتك، باتباع الحق والعدل وصالح العمل. والمعنى (2): إنك آتيتهم النعم المذكورة ليشكروها، ويتبعوا سبيلك، فكان عاقبة أمرهم أنهم كفروها، وضلوا عن سبيلك، وأضلوا غيرهم. وقد جرت (3) سنّة الله بأن كثرة الأموال تورث الكبرياء والخيلاء والبطر والطغيان، وتخضع رقاب الناس لأربابها، كما قال تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} . وقد أثبت البحث والتنقيب في نواويس قبور المصريين التي كشفت حديثًا، وفيما حفظ في دور الآثار المصرية، وغيرها من العواصم الأوروبية، ما يشهد بكثرة تلك الأموال، ووجود أنواع من الزينة والحلي، لم تكن لتخطر على البال، ويدل على أرقى أنواع المدنية والحضارة التي لا تضارعها مدنية العصر الحاضر، مع ما بلغه العلم والرقي العقلي في الإنسان.

قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} وقد اختلف (4) في هذه اللام الداخلة على الفعل، فقال: الخليل وسيبويه: إنها لام العاقبة والصيرورة، والمعنى: أنه لما كان عاقبة أمرهم الضلال صار كأنه سبحانه، أعطاهم ما أعطاهم من النعم، ليضلوا، فتكون اللام على هذا، متعلقة بـ {ءَاتَيْتَ}. وقيل إنها لام كي؛ أي:

(1) الخازن.

(2)

الفتوحات.

(3)

المراغي.

(4)

الشوكاني.

ص: 346

أعطيتهم لكي يضلوا. وقال قوم: إن المعنى: أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا، فحذفت لا، كما قال سبحانه:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} . قال النحاس: ظاهر هذا الجواب حسن، إلا أن العرب لا تحذف لا إلا مع أن، فموه صاحب هذا التأويل بالاستدلال بقوله:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} وقيل: اللام للدعاء عليهم، والمعنى: ابتلهم بالهلاك عن سبيلك، واستدل هذا القائل بقوله سبحانه بعد هذا:{اطمس} و {اشدد} . وقد أطال صاحب "الكشاف" في تقرير هذا بما لا طائل تحته، والقول الأول هو الأولى، كما اقتصرنا عليه في حلّ الآية.

وقرأ (1) أبو الفضل الرقاشي {إنك آتيت} على الاستفهام. وقرأ الكوفيون وقتادة والأعمش وعيسى والحسن والأعرج بخلاف عنهما: {ليضلوا} بضم الياء من أضلّ الرباعي. وقرأ الحرميان، نافع وابن كثير والعربيان، أبو عمرو وابن عامر ومجاهد وأبو رجاء والأعرج وشيبة وأبو جعفر، وأهل مكة، بفتحها من ضل الثلاثي. وقرأ الشعبي: بكسرها والى بين الكسرات الثلاث.

ولما قدم ذكر الأموال، وهي أعز ما ادخر، دعا بالطموس عليها، فقال:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} ؛ أي: ربنا امحق أموالهم، وأهلكها بالآفات التي تستأصل زروعهم، والجوائح التي تهلك أنعامهم، وتنقص مكاسبهم، فيذوقوا ذل الحاجة. وقرأ الشعبي وفرقة {اطمس} بضم الميم، وهي لغة مشهورة. قال ابن (2) عباس ومحمد بن كعب، صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحًا وأثلاثًا وأنصافًا، ولم يبق لهم معدن، إلا طمس عليه، فلم ينتفع بها أحد بعد. وقال قتادة بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد أهلكها حتى لا ترى {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}؛ أي: اجعلها قاسية ومربوطة حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان {فَلَا يُؤْمِنُوا} جواب (3) للدعاء أو دعاء بلفظ النهي، أو عطف على {لِيُضِلُّوا} {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وإنما دعا موسى عليهم بهذا الدعاء، لما علم

(1) البحر المحيط.

(2)

البحر المحيط.

(3)

المراح.

ص: 347