المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أو الكواكب السيارة، أو غيرها من الأحياء كالملائكة والجن {مَنْ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٢

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: أو الكواكب السيارة، أو غيرها من الأحياء كالملائكة والجن {مَنْ

أو الكواكب السيارة، أو غيرها من الأحياء كالملائكة والجن {مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ}؛ أي: من ينشىء المخلوقات من العدم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} في القيامة للجزاء؛ أي: من له التصرف في هذا الكون ببدء الخلق في طور، ثم إعادته في طور آخر. وفي هذا سؤالان: سؤال عن البدء، وسؤال عن الإعادة.

ولما كانوا لا يجيبون عن هذا السؤال، كما أجابوا عن الأسئلة الأولى، لإنكارهم للبعث والمعاد، لقن الله سبحانه وتعالى رسوله الجواب، فقال:{قُلِ} لهم، يا محمَّد، في الجواب {اللَّهُ} سبحانه وتعالى هو الذي {يَبْدَأُ الْخَلْقَ}؛ أي: ينشىء المخلوقات من العدم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يوم القيامة للمجازاة، لا جواب غيره، إذ القادر على بدء الخلق يكون قادرًا على إعادته بالأولى، وهم ينكرون إعادة الأحياء الحيوانية، دون الأحياء النباتية، إذ هم يشاهدون بدء خلق النبات في الأرض حين ما يصيبها ماء المطر في فصل الشتاء وموته بجفافه في فصل الصيف والخريف، ثم إعادته بمثل ما بدأه مرة بعد أخرى، ويقرون بأن الله تعالى هو الذي يفعل البدء والإعادة؛ لأنهم يشاهدون كلًّا منهما، وهم لا يسلمون إلا بما يرون بأعينهم، أو يلمسونه بأيديهم. وقد أمر الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، أن يرشدهم إلى جهلهم وينبههم للتفكير في أمرهم فقال:{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} والاستفهام فيه تعجبي؛ أي: فكيف تصرفون من الحق، الذي لا محيد عنه، وهو التوحيد إلى الضلال البين، وهو الإشرك وعبادة الأصنام، وذلك من دواعي الفطرة، وخاصة العقل حين تفكيره في المصير،

‌35

- ثم جاء باحتجاج آخر على ما ذكره، إلزامًا لهم عقب الإلزام الأول، فسألهم عن شأن من شؤون الربوبية المقتضى لاستحقاق الألوهية، وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية فقال:{قُلْ} لهم، يا محمَّد، {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}؛ أي: هل من هؤلاء الشركاء الذين عبدتموهم من دون الله من يهدي ويرشد غيره إلى الحق والصواب، مما فيه صلاحكم في الدين والدنيا، بوجه من وجوه الهداية، التي بها تتم حكمة الخلق، كما يدل على ذلك قوله:{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} إذ أدنى مراتب المعبودية، هداية المعبود لعابديه إلى الحق.

والهداية لها أنواع:

1 -

هداية الغريزة والفطرة التي أودعها الله في الإنسان والحيوان.

ص: 223

2 -

هداية الحواس، من سمع وبصر ونحو ذلك.

3 -

هداية التفكير والاستدلال بوساطة هذه الوسائل.

4 -

هداية الدين، وهو للنوع البشري في جملته بمثابة العقل للأفراد.

5 -

هداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق، وتسهيل سبله، ومنع الصوارف عنه.

ولما كانوا لا يستطيعون أن يدعوا أن أحدًا من أولئك الشركاء يهدي إلى الحق، لا من ناحية الخلق، ولا من ناحية التشريع .. لقن الله رسوله الجواب، فقال:{قُلْ} لهم، أيها الرسول، في الجواب، لا جواب غيره:{اللَّهُ} سبحانه وتعالى هو الذي {يَهْدِي} ويرشد من يشاء {لِلْحَقِّ} ؛ أي: إلى الحق دون غيره من شركائكم، بما نصب من الأدلة والحجج، وأرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، وهدى إلى النظر والتدبر وأعطى من الحواس.

وفي "السمين": {هدى} يتعدى إلى اثنين، ثانيهما، إما باللام، أو بإلى، وقد يحذف الحرف تخفيفًا، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر، فعدى الأول والثالث بإلى، والثاني باللام، وحذف المفعول الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير: هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق، قال: الله يهدي من يشاء للحق، أفمن يهدي غيره إلى الحق، وقد تقدم أن التعدية بإلى وباللام من باب التفنن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري: يقال: هداه للحق وإلى الحق، فجمع بين اللغتين اهـ. والمراد بالحق في المواضع الثلاثة ضد الباطل. وعبارة الخطيب قل هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق بنصب الحجج وخلق الاهتداء وإرسال الرسل، ولما كانوا جاهلين بالحق في ذلك أو معاندين .. أمرَ الله تعالى رسولَه، صلى الله عليه وسلم، أن يجيب بقوله:{قُلِ اللَّهُ} الذي له الإحاطة الكاملة، يهدي للحق من يشاء، لا أحد ممن زعمتموه شركاء. فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها، جهل محض. اهـ. يعني أن الله هو الذي يهدي للحق، فهو أحق بالاتباع لا هذه الأصنام التي لا تهتدي إلا أن تهدى، اهـ "خازن". والمعنى: قل لهم يا محمَّد: هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإِسلام، ويدعو الناس

ص: 224

إلى الحق، فإذا قالوا: لا، فقل لهم: الله يهدي للحق دون غيره. وقوله: {أفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ

} الخ، سؤال ثامن، لم يذكر جوابه لوضوحه، والاستفهام للتقرير والتوبيخ، كما أشرنا إليه أولًا، والفاء لترتيب الاستفهام على ما سبق، من تحقيق هدايته تعالى صريحًا، وعدم هداية شركائهم المفهوم من القصر، والهمزة متأخرة في الاعتبار وإنما تقديمها في الذكر لإظهار عراقتها في الاستفهام، واقتضاء الصدارة كما هو رأي الجمهور، اهـ "أبو السعود".

فالهمزة في قوله: {أفمن يهدي} داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أعميتم عن إبصار الحق، أم عاندتم، فمن يهدي ويرشد من يشاء إلى الحق والصلاح .. {أحق} وأولى من غيره بـ {أَن} يطاع و {يُتَّبَعَ} فيما شرعه ويعبد دون غيره {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي} غيره ولا يهتدي بنفسه، فضلًا عن هداية غيره إلا أن يهدى؛ أي لا يهتدي في حال من الأحوال إلا في حال هدايته تعالى له، إذ لا هادي غيره، وهذا حال أشراف شركائهم من الملائكة والمسيح، وعزير عليهم السلام، أو من لا ينتقل من مكان إلى مكان، إلا أن ينقل إليه؛ لأن الأصنام خالية عن الحياة والقدرة؛ أي: أهذا الأخير أحق، أن يتبع، أم الأول فالجواب الأول أحق أن يتبع، وترك ذكر الجواب لوضوحه كما مر.

والاستفهامان في قوله: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} للتعجيب من حالهم وسوء صنيعهم وقبيح فعلهم، وللتقريع والتوبيخ {فَمَا لَكُمْ} أي: فأي شيء ثبت لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاء لله تعالى، فإنهم عاجزون عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم، أو أي شيء أصابكم، وماذا حل بكم حتى اتخذتم هؤلاء شركاء وجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم، الذي لا خالق ولا رازق ولا هادي لكم سواه {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بالباطل وتجعلون لله شركاء، أو كيف تحكمون بجواز عبادتهم وشفاعتهم عنده تعالى بدون إذنه.

وهاتان (1) جملتان، أنكر في الأولى، وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا

(1) البحر المحيط.

ص: 225

يهتدى، وأنكر في الثانية حكمهم بالباطل، وتسوية الأصنام برب العالمين.

وقد اختلف (1) القراء في {لا يهدى} فقرأ أهل المدينة إلا ورشًا، أم لا يهدي، بفتح الياء، وسكون الهاء وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين. قال النحاس: لا يقدر أحد أن ينطق به. وقال المبرد: من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة. وسيبويه: يسميه اختلاس الحركة. وقرأ أبو عمرو وقالون: في رواية كذلك، إلا أنه اختلس الحركة؛ أي: بين الفتح والإسكان. وقرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن: كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء؛ أي: قرءوا بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. قال النحاس: هذه القراءة بينة في العربية، والأصل فيها يهتدي فنقلت حركة التاء إلى الهاء، وأدغمت التاء في الدال. وقرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر مثل قراءة ابن كثير، إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا؛ لأن الكسر هو الأصل عند التقاء الساكنين. قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر. وقرأ أبو بكر عن عاصم في رواية يحيى بن آدم {يهدى} بكسر الياء والهاء وتشديد الدال للاتباع، ونقل عن سيبويه أنه لا يجيز {يهدى} ويجيز تِهدى ونِهدى وإِهدى قال: لأن الكسرة في الياء تثقل. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب: {يهدى} بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال، من هدى يهدي. قال النحاس، وهذه القراءة لها وجهان في العربية، وإن كانت بعيدة:

الأول: أن الكسائي والفراء، قالا: إن يهدي بمعنى يهتدي.

الثاني: أن أبا العباس قال: إن التقدير: أم لا يهدي غيره ثم تم الكلام.

وقال بعد ذلك: {إلا أن يهدى} ؛ أي: لكنه يحتاج أن يهدي فهو استثناء منقطع، كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي: لكنه يحتاج أن يسمع.

والمعنى على القراءات المتقدمة (2): أفمن يهدي الناس إلى الحق، وهو الله سبحانه، أحق أن يتبع ويقتدى به، أم الأحق بأن يتبع ويقتدى به من لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره، فضلًا عن أن يهدي غيره، والاستثناء على هذا استثناء

(1) البحر المحيط والشوكاني.

(2)

الشوكاني.

ص: 226