المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ربما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها. أسباب - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٢

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ربما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها. أسباب

ربما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها.

أسباب النزول

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً

} الآية، أخرج (1) ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: لما نزلت آية {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وقد كان تخلف عنه ناس في البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس في البوادي، هلك أصحاب البوادي فنزلت:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} . وأخرج عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان المؤمنون لحرصهم على الجهاد إذا بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سرية خرجوا فيها، وتركوا النبي، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة في رقة من الناس فنزلت.

التفسير وأوجه القراءة

‌120

- وفي قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} إلخ، زيادة تأكيد لوجوب الغزو مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ أي: ما صح ولا جاز لأهل المدينة عاصمة الإِسلام ومقر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي لساكنيها من المهاجرين والأنصار، {و} لا لـ {من حولهم من الأعراب}؛ أي: من سكان البوادي، كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم، {أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} ، صلى الله عليه وسلم، ويتأخروا عنه في الخروج للغزو في سبيل الله، كما فعل بعضهم في غزوة تبوك، ولا في غيره من شؤون الأمة ومصالح الملة، فإن السمع والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واجب وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا. وإنما (2) خصهم الله سبحانه وتعالى بالذكر؛ لأنهم قد استنفروا فلم ينفروا، بخلاف غيرهم من العرب فإنهم لم يستنفروا مع كون هؤلاء لقربهم وجوارهم أحق بالنصرة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، {وَلَا} أن، {يَرْغَبُوا} ويتخلفوا، {بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ} صيانة وحفظ، {نفسه} صلى الله عليه وسلم، الشريفة فيشحون بأنفسهم ويصونونها، ولا يشحون بنفس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويصونونها كما شحوا بأنفسهم وصانوها، بل واجب عليهم أن يكابدوا معه المشاق ويجاهدوا بين يديه

(1) لباب النقول.

(2)

الشوكاني.

ص: 96

أهل الشقاق، ويبذلوا أنفسهم دون نفسه؛ أي (1)؛ لا يختاروا إِبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد، بل أمروا بأن يصحبوه في البأساء والضراء، ويلقوا أنفسهم بين يديه في كل شدة.

والمعنى (2): ولا ينبغي لهم أن يفضلوا أنفسهم على نفسه، فيرغبوا في الراحة والسلامة، ولا يبذلوها فيما يبذل فيه نفسه الشريفة، بل عليهم أن يصحبوه في البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط، علمًا بأنها أعز نفس على الله وأكرمها فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها فضلًا عن أن يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه.

والخلاصة: أن المتخلف يفضل نفسه ويؤثرها على نفس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، التي لا يكمل إيمان أحد حتى يحبه أكثر من حبه لنفسه.

وفي ذلك نهي شديد عن عملهم، وتوبيخ لهم عليه وتهييج لمتابعته، صلى الله عليه وسلم، بأنفة وحمية، والإِشارة في قوله:{ذَلِكَ} إلى ما يفيده السياق من وجوب متابعته، صلى الله عليه وسلم، والنهي عن التخلف عنه؛ أي: ذلك الوجوب والنهى عن التخلف عنه، صلى الله عليه وسلم، {بـ} سبب، {أنهم لا يصيبهم} ولا ينالهم في سفرهم ولا غزواتهم، {ظَمَأٌ} ولا عطش، {وَلَا نَصَبٌ} ولا تعب. وقرأ عبيد بن عمير:{ظمأ} بالمد مثل سفه وسفاها. وقرأ غيره: بالقصر وهما لغتان، مثل خطأ وخطاء. {وَلَا مَخْمَصَةٌ} ولا مجاعة ولو يسيرًا، وكذا يقال، فيما قبله، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وطاعته والجهاد لإعلاء كلمته، {ولا يطئون}؛ أي: ولا يدوسون بأرجلهم وحوافر خيولهم وأخفاف بعيرهم {مَوْطِئًا} ؛ أي: دوسًا ووطئًا، {يَغِيظُ} ويغضب، {الْكُفَّارَ} ويضيق صدورهم أو لا يدوسون مكانًا من أمكنة الكفار يغيظهم الدوس فيها، يعني: ولا يضعون قدمًا على الأرض يكون ذلك القدم سببًا لغيظ الكفار، وغمهم وحزنهم. وقرأ زيد بن علي:{يغيظ} بضم الياء {وَلَا

(1) النسفي.

(2)

المراغي.

ص: 97

يَنَالُونَ}؛ أي: ولا يصيبون {من عدو} وكفار، {نيلا}؛ أي: إصابة أسرًا أو قتلًا أو هزيمةً أو غنيمةً، أو نحو ذلك قليلًا كان أو كثيرًا، {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ}؛ أي: إلا حالة كونهم يكتب لهم بكل واحد من الأمور الخمسة، {عَمَلٌ صَالِحٌ} وثواب حسن جزيل؛ لأن من قصد طاعة الله تعالى، كان جميع حركاته وسكناته حسنات مكتوبةً له عند الله تعالى. وجملة (1) كتب، حالية فهذا التركيب نظير قولك: ما جاء زيد إلا راكبًا، اهـ شيخنا. وفي "أبي السعود" {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ}؛ أي: بكل واحد من الأمور المعدودة عمل صالح، وحسنة مقبولة، مستوجبة بحكم الوعد الكريم للثواب الجميل وقيل الزلفى، اهـ.

والمعنى: أي لم (2) يكن لهم حق التخلف، بل يجب عليهم الاتباع بسبب أن كل ما يصيبهم في جهادهم من أذًى وإن كان قليلًا كظمأ لقلة الماء أو نصب لبعد الشُّقَّة أو لقلة الظهر، أو مجاعة لقلة الزاد، ومن إيذاء للعدو وإن صغر كوطء أرضه الذي يعده استهانة بقوته، فيغيظه أن تمسه أقدام المؤمنين، أو حوافر خيولهم، أو النيل منه بجرح، أو قتل أو أسر أو هزيمة، أو غنيمة إلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح يجزى عليه بالثواب العظيم، وما أكثر هذه الأعمال الصالحة التي تشمل كل حركة من بطشة يد، أو وطأة قدم، أو عروض جوع، أو عطش أو نحو ذلك، ولما كان الظمأ أشق الأشياء المؤذية للمسافر بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصًا في شدة الحر كغزوة تبوك، بدىء به أولًا، وثنى بالنصب وهو التعب؛ لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشيء من العطش والسير، وأتى ثالثًا بالجوع لأنه حالة يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة، بخلاف العطش والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر، فكان الإخبار بما يعرض للمسافر أولًا فثانيًا فثالثًا، ذكره أبو حيان.

وفي الآية إيماء إلى أن من قصد خيرًا كان سعيه فيه من قيام أو قعود أو مشي أو كلام، أو نحو ذلك مشكورًا مثابًا عليه وإلى أن المدد القادم بعد انقضاء

(1) الفتوحات.

(2)

المراغي.

ص: 98