المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شؤونهم وأغراضهم، وتوحيد جهودهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: شؤونهم وأغراضهم، وتوحيد جهودهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ

شؤونهم وأغراضهم، وتوحيد جهودهم.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} سيأتي لك إن شاء الله تعالى بيان مناسبتها لما قبلها في محل تفسيرها.

أسباب النزول

قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ

} الآية، قال عبد (1) الرزاق: أنبأنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قِبل المغرب، والنصارى قِبل المشرق، فنزلت: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ

} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر؛ فأنزل الله هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا} ، فدعا الرجل، فتلاها عليه، وكان في ابتداء الإِسلام قبل نزول الفرائض، إذا شهد الرجل أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وصلى إلى أي ناحية كانت، ثم مات على ذلك يرجى له، ويطمع له في خير، فأنزل الله:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ، وكانت اليهود توجهت قِبَلَ المغرب، والنصارى قِبَلِ المشرق.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ

} الآية، أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن حيَّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإِسلام بقليل، وكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العُدد والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحرُّ منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم؛ فنزل فيهم:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} .

التفسير وأوجه القراءة

‌177

- {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} قرأ حمزة وحفص بنصب

(1) المراغي بتصرف وزيادة.

ص: 120

{الْبِرَّ} على جعله خبر {لَيْسَ} مقدمًا على الاسم، و {أَنْ تُوَلُّوا} في موضع الرفع اسم {لَيْسَ} مؤخر، والمعنى: ليس توليةُ وجوهكم جهة المشرق والمغرب البر كله، وهذه القراءة أولى من وجه، وهو أنه جعل فيها اسم ليس أن تولوا، وجعل الخبر البر، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرف بالألف واللام، وقرأ الجمهور برفع البر، والمعنى: ليس البرُّ والخير الكامل توليةَ وجوهكم إلى المشرق والمغرب، والوجه أن يلي المرفوع لـ {لَيْسَ} ؛ لأنها بمنزلة الفعل المتعدي، وقراءة الجمهور أولى من وجه، وهو أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل.

وفي مصحف أُبي وعبد الله {ليس البر بأن تولوا} وخرج على زيادة الباء في خبر {ليس} وقال الأعمش في مصحف عبد الله أيضًا: {لا تحسبن البر} وكلاهما شاذ.

وهذا الخطاب (1) لأهل الكتاب؛ لأن النصارى تصلي قبل مشرق بيت المقدس، واليهود قبل مغربه، وادعى كل واحد من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته، فرد الله تعالى عليهم، وقال: ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ، ولكن البر ما بينه الله، واتبعه المؤمنون، وقيل: الخطاب عام لهم وللمسلمين، أي: ليس البر مقصورًا بأمر القبلة، أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمرها. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: والبر اسم جامع لكل الطاعات وأعمال الخير المقربة إلى الله الموجبة للثواب، والمؤدية إلى الجنة، فهو معنى من المعاني، فلا يصح الإخبار عنه بالذوات إلا بتجوز، إما بحذف مضاف من الأول تقديره: ولكن ذا البر وصاحبه من آمن بالله، ويؤيده قراءة من قرأ شذوذًا:{ولكن البار} بالألف بعد الباء الموحدة، أو من الثاني تقديره: ولكن البر الذي ينبغي أن يهتم به بر من آمن باللهِ، وهذا أوفق وأحسن، ويحتمل (2) كون البر اسم فاعل، يقال: بررت أبر، فأنا برّ وبارّ، فبنى اسم فاعله

(1) لباب النقول.

(2)

البيضاوي.

ص: 121

تارة على فعل، نحو كهل وصعب، وتارة على فاعل، والأولى ادعاء حذف الألف من البر، ومثله سرّ وقرّ وربّ، أي: سار وقار وراب.

وقرأ نافع وابن عامر: {ولكن} بسكون النون خفيفة، ورفع {البرُّ} ، وقرأ الباقون بفتح النون مشددةً، ونصب {الْبِرَّ} ، ومضمون الآية: أن البر لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب، بل بمجموع هذه الأمور المذكورة في هذه الآية.

ومعنى الآية: ليس البر والخير العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة، ولكن البر العظيم الذي يجب الاهتمام به بر من آمن بالله فالمراد بالبر هنا الإيمان بالله، والتقوى من الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

والحاصل: أن البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور ثمانية.

أحدها: الإيمان بالله، وذكره بقوله:{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} ؛ أي: صَدَّق بوجوده، وقدمه وبقائه، وربوبيته وألوهيته، وسائر صفاته، وإنما قدم الإيمان بالله؛ لأنه أساس كل بر، فأهل الكتاب أخلُّوا بذلك؛ لأن اليهود تقول: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فالإيمان (1) بالله لا يكون إلا إذا كان متمكنًا من النفس مصحوبًا بالإذعان والخضوع، واطمئنان القلب بحيث لا تبطره نعمة، ولا تؤيسه نقمة كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} والإيمان بالله يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطنة الدينية، ودعوى الوساطة عند الله ودعوى التشريع، والقول على الله بلا إذنه، فلا يرضى مؤمن أن يكون عبدًا ذليلًا لأحد من البشر، وإنما يخضع لله وشرعه.

وثانيها: الإيمان باليوم الآخر، وذكره بقوله:{وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ؛ أي: ولكن البرَّ برُّ مَنْ آمن باليوم الآخر؛ أي: صدق بمجيء يوم البعث والجزاء بعلم الموت

(1) البحر المحيط.

ص: 122

مع ما فيه من الحساب والميزان، والجنة والنار، فاليهود أخلوا بهذا الإيمان حيث قالوا: لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة، والنصارى أنكروا المعاد الجسماني.

والإيمان باليوم الآخر يعلم الإنسان أن له حياة أخرى في عالم غيبي غير هذا العالم، فلا يقصر سعيه وعمله على ما يصلح الجسد، ولا يجعل أكبر همه لذات الدنيا وشهواتها فحسب.

وثالثها: الإيمان بالملائكة، وذكره بقوله:{وَالْمَلَائِكَةِ} ؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالملائكة؛ أي: صدق بوجودهم، وأنهم عباد الله لا يعصون ما أمرهم، فاليهود أخلوا بذلك حيث أظهروا عدواة جبريل عليه السلام، فالإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي، والنبوة، واليوم الآخر، فمن أنكرهم أنكر كل ذلك؛ لأن ملك الوحي هو الذي يفيض العلم بإذن الله على النبي بأمور الدين، كما قال تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} . وقال أيضًا: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} .

ورابعها: الإيمان بكتب الله، وذكره بقوله:{وَالْكِتَابِ} ؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن وصدق بكتب الله المنزلة من السماء، فاليهود والنصارى قد أخلوا بذلك حيث لم يقبلوا القرآن، فالإيمان بالكتب السماوية التي جاءت بها الأنبياء يستدعي امتثال ما فيها من أوامر ونواه؛ إذ من أيقن أن هذا الشيء حسن نافع .. توجهت نفسه إلى قبوله والعمل به، ومن اعتقد أنه ضار .. ابتعد عنه ونفرت نفسه منه.

وخامسها: الإيمان بالنبيين، وذكره بقوله:{وَالنَّبِيِّينَ} ؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالنبيين؛ أي: صدق بنبوتهم وصحة ما جاؤوا به عن الله من الشرائع، فاليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء، وطعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

والإيمان بالنبيين يستدعي الاهتداء بهديهم، والتخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم.

وقد جاء في "الصحيحين": أن جماعة من أمته صلى الله عليه وسلم يردون الحوض يوم القيامة، فيذادون عنه؛ أي: يطردون دونه، فيقول:"أمتي"، فيقال: إنك لا تدري

ص: 123

ما أحدثوا بعدك، فيقول:"سحقًا لمن بدل بعدي".

وإنما خص الإيمان (1) بهذه الأمور الخمسة؛ لأنه يدخل تحت كل واحد منها أشياء كثيرة مما يلزم المؤمن أن يصدق بها.

وقدم الإيمان (2) بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل؛ لأن المكلف له مبدأ ووسط ومنتهى، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط: فلا تتم إلا بالرسالة؛ وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة: الملائكة الآتين بالوحي، والموحى به، وهو الكتاب، والموحى إليه، وهو الرسول.

وقدم الإيمان على أفعال الجوارح، وهو إيتاء المال والصلاة والزكاة؛ لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان، وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان حصلت حقيقة الإيمان.

فإن قلتَ: لِمَ قدم هنا ذكر اليوم الآخر وأخَّره في قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ؟

قلتُ: إنما قدمه هنا وأخره هناك؛ لأجل أن الكافر لا يحرف الآخرة ولا يعتني بها، وهي أبعد الأشياء عن الحقائق عنده، فلذلك أخره هناك، ولما ذكر هنا حال المؤمنين، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة، وكل ما يفعله ويتحراه فإنه يقصد به وجه الله تعالى، ثم أمر الآخرة قدم ذكره هنا تنبيهًا على أن البر مراعاة الله، ومراعاة الآخرة، ثم مراعاة غيرهما.

وسادسها: بذل الأموال على وفق أمر الله تعالى، واليهود أخلوا بذلك؛

(1) المراغي.

(2)

الخازن.

ص: 124

لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل، وذكره بقوله:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من أعطى المال على حبه؛ أي: لأجل حب الله ورضاه، أو أعطى مع حب المال، أو أعطى مع حب الإيتاء، يريد أن يعطيه، وهو طيب النفس بالإيتاء، فالضمير إما راجع إلى الله، أو إلى المال، أو إلى المصدر المفهوم من الفعل.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال:"أن تصدق وأنت صحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان" متفق عليه؛ أي: أعطى المال في حال صحته ومحبته إياه {ذَوِي الْقُرْبَى} ؛ أي: أصحاب قرابة المعطي؛ المحاويج منهم، وآثرهم به على نفسه، وإنما قيدناهم بالفقراء والمحاويج منهم؛ إذ الإعطاء للأغنياء هدية لا صدقة، كما ذكره الكرخي.

وإنما قدمهم على من بعدهم؛ لأنهم أحق بالإعطاء، وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان صدقة وصلة" أخرجه النسائي.

وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة - أي: جارية - ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: "أوقد فعلت"؟ قالت: نعم. قال: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" متفق عليه.

والمراد بذوي القربى كل من بينه وبين المعطي قرابة بولادة، ولو كان غير محرم. {وَالْيَتَامَى}؛ أي: وأعطى يتامى المسلمين؛ يعني: الصغار الفقراء الذين لا والد لهم ولا كاسب؛ لأنهم في حاجة إلى معونة ذوي اليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم، وتفسد تربيتهم، فيكونوا ضررًا على أنفسهم وعلى الناس. {وَالْمَسَاكِينَ}؛ أي: وأعطى المحاويج الذين أقعدهم العجز عن طلب ما يكفيهم،

ص: 125

فيجب على المسلمين أن يساعدوهم، ويقدموا لهم المعونة؛ إذ هم أعضاء من جسم الأمة، ومن مصلحة أفرادها التعاون والتآزر؛ حفظًا لكيانها، وإبقاءً على بنيانها من التداعي إلى الهدم والزوال، وهو جمع مسكين سمي بذلك؛ لأنه دائم السكون إلى الناس؛ لأنه لا شيء له. {وَابْنَ السَّبِيلِ}؛ أي: وأعطى المسافر المنقطع عن أهله؛ أي: المنقطع به السفر دون وطنه؛ لذهاب نفقته أو وقوف دابته سمي المسافر ابن السبيل؛ أي: الطريق، لملازمته إياها في السفر، أو لأن الطريق تبرزه، فكأنها ولدته، وفي أمر الشارع بمواساته وإعانته في سفره ترغيب منه في السياحة والضرب في الأرض. {وَالسَّائِلِينَ}؛ أي: وأعطى الطالبين للإحسان الذين اضطروا إلى تكفف الناس لشدة عوزهم، ولو كانوا أغنياء. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اعطوا السائل ولو جاء على فرس" أخرجه أبو داود.

وعن زيد بن أسلم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطوا السائل ولو جاء على فرسٍ" أخرجه مالك في "الموطأ"، وعن أم نجيد رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن المسكين ليقوم على بابي فلم أجد شيئًا أعطيه إياه. قال:"إن لم تجدي إلا ظلفًا محرقًا فادفعيه إليه في يده" أخرجه أبو داود، والترمذي وقال حديث حسن صحيح.

{وَفِي الرِّقَابِ} : معطوف على المفعول الأول، وهو {ذَوِي الْقُرْبَى}؛ أي: وأعطى المال ودفعه في فك الرقاب وتحريرها وعتقها، ويشمل ذلك ابتياع الأرقاء وعتقهم، ومساعدة الأسرى على الافتداء، وإعانة المكاتبين على أداء نجومهم. والمكاتَب: هو الرقيق الذي يشتري نفسه من مولاه بثمنٍ يجعله منجمًا بنجمين فأكثر.

والبذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين، ولا بملك نصاب محدود من المال، ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة، بل هو موكول إلى طاقة المعطي وحال المعطى، وقد أغفل الناس أداء هذه الحقوق التي حثَّ عليها الكتاب الكريم، مع ما فيها من التكافل العام بين المسلمين، ولو أدوها ..

ص: 126

لكانوا في معايشهم من خير الأمم، ولدخل كثير من الناس في الإِسلام؛ لما يرون فيه من جميل العناية بالفقراء، وأن لهم حقوقًا في أموال الأغنياء، فتتوثق الصلة بين الطوائف المختلفة من المسلمين.

وسابعها: إقامة الصلاة وأداء الزكاة، فاليهود كانوا يمنعون الناس منهما، وذكره بقوله:{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} المفروضة؛ أي: أداها في أوقاتها المحدودة لها. {وَآتَى الزَّكَاةَ} ؛ أي: وأعطى الزكاة المفروضة في مصارفها المبينة شرعًا، وقوله:{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} معطوف على {آمَنَ} على كونها صلة لـ {مَنْ} ؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله، وبر من أقام الصلاة وآتى الزكاة.

والمرادُ بإقامة الصلاة: أداؤها على أقوم وجه، ولا يستحق ذلك بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فحسب، بل إنما يكون ذلك بوجود سرِّ الصلاة وروحها، ومن آثاره تحلي المصلي بالأخلاق الفاضلة، وتباعده من الرذائل، فلا يفعل فاحشةً ولا منكرًا.

وقلما تجيء (1) الصلاة في القرآن الكريم إلا وهي مقترنة بالزكاة، وذلك لأن الصلاة تهذب الروح، والمال قرين الروح، فبذله ركن عظيم من أعمال البر، ومن ثم أجمع الصحابة على محاربة مانعي الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مانعها يهدم ركنًا من أركان الإِسلام، وينقض أساس الإيمان، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه سبعين مرة.

وثامنها: الوفاء بالعهد، واليهود نقضوا العهد، وذكره بقوله:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} معطوف على {مَنْ آمَنَ} على كونه خبر {لكِنِ} ؛ أي: ولكن البرَّ المؤمنون بالله، واليوم الآخر، والموفون بعهدهم؛ أي: ولكن البرَّ برُّ المؤمنين بالله، وبر الموفين بعهدهم؛ أي: المتمِّين بعهدهم فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين الناس. {إذا عَاهَدُوا} الله أو الناس، يعني: إذا وعدوا أنجزوا، وإذا نذروا أوفوا، وإذا حلفوا برّوا في أيمانهم، وإذا قالوا صدقوا في أقوالهم، وإذا ائتمنوا أدوا.

(1) البحر المحيط.

ص: 127

وفي الوفاء بالعهود (1) والعقود حفظ كيان المجتمع من أن ينحل عقده، كما أن الغدر والإخلاف فيها هادم للنظام مفسد للعمران، فما من أمة فقدت الوفاء بالعهد - وهو ركن الأمانة، وقوام الصداق - إلا حل بها العقاب الإلهي، فانتزعت الثقة من بين أفرادها حتى بين الأهل والعيال، فيعيشون متخاذلين، وكأنهم وحوش مفترسة ينتظر كل واحد وثبة الآخر عليه إذا أمكن يده أن تصل إليه، ومن ثم يضطر أفرادها إلى الاستيثاق في عقودهم بكلِّ ما يقدرون عليه، ويحترس كل منهم من غدر الآخر، فلا يكون هناك تعاون ولا تناصر، بل تباغض وتحاسد، ولا سيما بين الأقارب، ولو شمل الناس الوفاء .. لسلموا من هذا البلاء.

وفي مصحف عبد الله (2): {والموفين} نصبًا على المدح وهي قراءة شاذ شذوذًا، وقرأ الجحدري {بعهودهم} على الجمع، {وَالصَّابِرِينَ}: مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: وأمدح الصابرين. {فِي الْبَأْسَاءِ} ؛ أي: عند الشدة والفقر والفاقة. {وَالضَّرَّاءِ} ؛ أي: وعند التفسير من مرض، وفقد أهل وولد ومال. {وَحِينَ الْبَأْسِ}؛ أي: وفي وقت شدة القتال في سبيل الله، وكثرة الضرب والطعان، ومنازلة الأقران.

إنما خص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال؛ لأن من صبر فيها .. كان في غيرها أصبر، وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد، فذكر أولًا الصبر على الفقر، ثم الصبر على المرض؛ وهو أشد من الفقر، ثم الصبر على القتال، وهو أشد من الفقر والمرض.

وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب شذوذًا:{والصابرون} عطفًا على {الموفون} ، وعن البراء رضي الله عنه قال: كنا والله إذا احمر البأس .. نتَّقي به، وإن الشجاع منّا الذي يُحاذي به؛ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه، قوله: احمر البأس؛ أي: اشتد الحرب، ونتقي به؛ أي: نجعله وقاية لنا من العدو، {أُولَئِكَ}

(1) المراغي.

(2)

المراغي.

ص: 128