المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ينفقونه من أموالهم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ينفقونه من أموالهم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه

ينفقونه من أموالهم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضهم على الصدقة، فقالوا: ماذا ننفق؟ قيل: سائله أيضًا عمرو بن الجموح، سأل أولًا عن المنفق والمصرف، ثم سأل عن كيفية الإنفاق، وقيل: السائل معاذ بن جبل وثعلبة، وقال الرازي: كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق، ويدلان على عظيم ثوابه .. سألوا عن مقدار ما كلفوا به: هل هو كل المال أو بعضه؟ فأعلمهم الله تعالى أن العفو؛ أي: الفاضل عن الكفاية مقبول. {قُلِ} لهم يا محمَّد في الجواب أنفقوا {الْعَفْوَ} ؛ أي: المال الفاضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله، ومن تلزمه مؤنتهم، فكان (1) الرجل منهم بعد نزول هذه الآية يأخذ من كسبه ما يكفيه، وينفق باقيه إلى أن فرضت الزكاة، فنَسخت آية الزكاة التي في براءة هذه الآية، وكل صدقة أمروا بها قبل الزكاة، وقراءة الجمهور بالنصب، وقرأ أبو عمر وحده {العفوُ} بالرفع.

وقال الشوكاني: والعفو هو ما سهل وتيسر، ولم يشق على القلب، والمعنى على النصب: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تجهدوا فيه أنفسكم، وعلى الرفع: الذي أُمرتم بإنفاقه هو العفو؛ أي: ما فضل عن نفقة العيال {كَذَلِكَ} ؛ أي: كما بين الله لكم قدر المنفق، وحكم الخمر والميسر بأن فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} الدالة على الأحكام

‌220

- الشرعية {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} ؛ أي: لكي تتأملوا {في} أحوال {الدُّنْيَا} فتعرفوا أنها فانية، فتزهدوا فيها {و} تتفكروا في أمور {الآخرة} فتعرفوا أنها باقية، فتقبلوا عليها، فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة .. علمتم أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا؛ لبقاء الآخرة.

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} كان أهل الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى، وربما تزوجوا باليتيمة طمعًا في مالها، ثم إن الله تعالى أنزل قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} .

(1) الواحدي.

ص: 286

وقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى والمقاربة من أموالهم، والقيام بأمورهم، فاختلَّت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم، فثقل ذلك على الناس، فقال عبد الله بن رواحة - وقيل: ثابت بن رفاعة الأنصاري -: يا رسول الله، ما لكلِّنا منازل تسكنها الأيتام، ولا كلنا يجد طعامًا وشرابًا يردهما لليتيم، فهل يجوز مخالطة اليتامى بالطعام والشراب والمسكن أم لا؟ فنزلت هذه الآية؛ أي: يسألونك يا محمَّد عن مخالطة اليتامى في أموالهم، أيخالطونهم أم يعتزلونهم؟ {قُلْ} لهم في الجواب {إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}؛ أي: مخالطة اليتامى وإصلاح أموالهم من غير أخذ أجرة ولا عوض خير لهم من ترك مخالطتهم، وأعظم أجرًا لكم {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} في الطعام والخدمة والسكن، وهذا فيه (1) إباحة المخالطة وحث عليها؛ أي: شاركوهم في أموالهم واخلطوها بأموالكم ونفقاتكم ومساكنكم وخدَمكم ودوابكم، فتصيبوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم، أو تكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم {فَإِخْوَانُكُمْ} في الدين؛ أي: فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضًا، ويصيب بعضهم من مال بعضٍ، على وجه الإصلاح والرخاء. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ} لمال اليتيم بالمخالطة {مِنَ الْمُصْلِحِ} له، ويعلم الذي يقصد بالمخالطة الخيانة وأكل مال اليتيم بغير حق، والذي يقصد الإصلاح، فيجازي كلًّا على قصده، فاتقوا الله في مال اليتيم، ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعةً إلى إفساد مال اليتيم، وأكله بغير حق {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} إعناتكم وإحراجكم وتضييقكم، والتشديد عليكم {لَأَعْنَتَكُمْ}؛ أي: لأوقعكم في العنت والمشقة، وشدد عليكم في شأن اليتامى بتحريم مخالطتهم ومداخلتكم عليهم، ولكن وسع عليكم بتجويزها لكم، فاشكروا هذه النعمة {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ}؛ أي: غالب يقدر أن يشدد على عباده، ويعنتهم ويكلفهم ما لا يطيقونه، ولكنه {حَكِيمٌ} يحكم ما تقتضيه الحكمة، وتتسع له الطاقة، لا يكلف عباده إلا ما تتسع له طاقتهم.

وفي وصفه تعالى بالعزة (2) - وهو الغلبة والاستيلاء -: إشارةٌ إلى أنه مختص

(1) الخازن.

(2)

البحر المحيط.

ص: 287