المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عنهما أشق، فإذا سهل عليكم اتقاء الله بتركهما .. كان - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: عنهما أشق، فإذا سهل عليكم اتقاء الله بتركهما .. كان

عنهما أشق، فإذا سهل عليكم اتقاء الله بتركهما .. كان اتقاء الله بترك غيرهما أسهل وأخف، وقيل: لعلكم تتقون المعاصي بالمحافظة على عبادة الصوم؛ فإنه يكسر الشهوة ويضعف دواعي المعاصي، كما ورد في الحديث "ومن لم يستطع - يعني الباءة - فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء"؛ أي: قاطع لشهوته كما تنقطع بالخصي، وقيل معناه: لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين؛ لأن الصوم من شعارهم.

‌184

- صوموا {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} ؛ أي: أيامًا مقدرات بعدد معلوم ثلاثين يومًا، وهي شهر رمضان، ويقال (1): إن فريضة رمضان نزلت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك قبل غزوة بدر بشهر وأيام، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان على رأس ثمانية عشر شهرًا من الهجرة، وشرط وجوبه الإطاقة بأن كان صحيحًا مقيمًا.

{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ} أيها الأمة المحمدية {مَرِيضًا} مرضًا يشق معه الصوم ويضره، أو يزيد بالصوم ولو في أثناء النهار {أَوْ} كان عازمًا {عَلَى} إتمام {سَفَرٍ} ومتلبسًا به ولو قصيرًا، فلا يبيح (2) السفر الفطر إذا طرأ في أثناء النهار، وهذا سر التعبير بـ {عَلَى} السفر دون المرض؛ أي: فمن كان مريضًا أو عازمًا على إتمام السفر، ومتمكنًا منه بأن كان متلبسًا به وقت طلوع الفجر إن لم يشق معه الصوم، فإن المسافر يباح له الفطر، وإن لم يجهده الصوم، ولا فرق في السفر بين كونه برًّا أو بحرًا أو جوًا، والحق (3) أن ما صدق عليه مسمى السفر؛ فهو الذي يباح عنده الفطر، وكذا ما صدق عليه مسمى المرض؛ فهو الذي يباح عنده الفطر، وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة، واختلفوا في الأسفار المباحة، والحق أن الرخصة ثابتة فيه، وكذا اختلفوا في سفر المعصية؛ أي: فمن كان منكم مريضًا أو مسافرًا، فأفطر في رمضان .. فعليه عدة؛ أي: فواجب عليه

(1) خازن.

(2)

جمل.

(3)

شوكاني.

ص: 153

صيام عدد ما أفطر من رمضان للمرض أو للسفر {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ؛ أي: من أيام غير رمضان قضاءً عما أفطر في رمضان، وقرىء {عدةً} بالنصب؛ أي: فليصم عدة من أيام أخر، ولو مفرقًا. وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أنه قال: إن الله تعالى لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فَوَاتِر، وإن شئت فَفَرق، وروي أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: علي أيام من رمضان فيجزيني أن أقضيها متفرقة، فقال له:"أرأيت لو كان عليك دين فقضيته الدرهم والدرهمين أما كان يجزيك"؟ قال: نعم، قال:"فالله أحق أن يعفو ويصفح".

وعن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هل أصوم على السفر؟ فقال:"صم إن شئت، وأفطر إن شئت" وروى الشافعي أن عطاء قال لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، فقال: إلى مر الظهران؟ فقال: لا، لكن أقصر إلى جدة وعسفان والطائف. قال مالك: بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد.

{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ؛ أي: يقدرون على الصوم بأن لم يكن لهم عذر مرضٍ ولا سفر؛ أي: القادرين على الصوم إن أفطروا {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ؛ أي: جزاء وضمان قدر ما يأكله مسكين واحد في يوم واحد، يعطيه للمسكين بدل كل يوم من رمضان؛ وهو مدٌّ من غالب قوت بلده.

وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية (1)، هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام؛ لأنه شق عليهم؛ لأنهم لم يتعودوا الصيام، فرخص لهم في الإفطار، فكان من أطعم كل يوم مسكينًا .. ترك الصوم وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا قول الجمهور.

وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى

(1) شوكاني.

ص: 154

الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ..} كان من أراد أن يفطر ويفتدي فعل، حتى نزلت هذه الآية التي بعدها فنسختها، وفي رواية حتى نزلت هذه الآية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . متفق عليه.

وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصةً إذا كانوا لا يطيقون الصوم إلا بمشقة.

والمعنى على هذا: وعلى الذين يقدرون على الصوم مع المشقة فدية. وعن عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: {وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين} : قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا، وهو حديث آحاد؛ أي لا يحتج به في إثبات القرآن الكريم.

وقراءة (1) الجمهور: {يُطِيقُونَهُ} - بكسر الطاء وسكون الياء - من أطاق، وأصله: يطوقونه، نقلت الكسرة إلى الطاء، وانقلبت {الواو} ياء؛ لانكسار ما قبلها. وقرأ أحمد {يطوقونه} على الأصل من غير إعلال، من أطوق، كقولهم أطول في أطال. وقرأ ابن عباس {يطَوّقونه} بفتح الطاء مخففة وتشديد {الواو} المفتوحة؛ أي: يكلفونه. وروى ابن الأنباري عن ابن عباس {يَطّيَقونه} بفتح الياء وتشديد الطاء والياء المفتوحتين بمعنى: يطيقونه، وما عدا قراءة الجمهور شاذ لا يقرأ به.

وقرأ أهل المدينة والشام: {فديةُ طعامِ} مضافًا إضافة بيانيةً؛ أي: بإضافة فدية إلى طعام، وعليها يتعين جمع المساكين، وأما على عدم الإضافة: فيصح الجمع والإفراد، فالقراءت ثلاث، وقرؤوا أيضًا:{مساكين} بالجمع، وقرأ ابن عباس:{طَعَامُ مِسْكِينٍ} ؛ وهي قراءة أبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وكله في المتواتر.

و {الفدية} الجزاء؛ وهو القدر الذي يبذله الإنسان يقي به نفسه من تقصيرٍ

(1) شوكاني.

ص: 155