الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شاس بن قيس اليهودي - وكان عظيم الكفر، شديد الطعن علي المسلمين، شديد الحسد لهم - على نفر من الأنصار الأوس والخزرج، وهم في مجلس يتحدثون، وقد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام، فشق ذلك على اليهودي، فجلس إليهم، وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك في بعاث، وهو موضع في المدينة، وكان يوم بعاث يومًا اقتتل فيه الأوس والخزرج قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بمئة وعشرين سنة، وكان الظفر فيه للأوس.
وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار، فتنازع القوم وتغاضبوا، وقالوا: السلاح السلاح، فاجتمع من القبيلتين خلق عظيم، فوصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، وقال: أترجعون إلى أحوال الجاهلية، وأنا بين أظهركم، وقد أكرمكم الله بالإسلام، وألف بين قلوبكم! فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان، ومن كيد ذلك اليهودي، فألقوا السلاح، وعانق بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما كان يوم أقبح أولًا وأحسن آخرًا من ذلك اليوم.
قال الواحدي: اصطفوا للقتال، فنزلت الآية إلى قوله:{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام بين الصفين فقرأهن ورفع صوته، فلما سمعوا صوت النبي صلى الله عليه وسلم أنصتوا له وجعلوا يستمعون له، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضًا، وجعلوا يبكون.
التفسير وأوجه القراءة
92
- {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} أي: لن تصيبوا، ولن تظفروا بثواب البر والخير وهو الجنة. والبر اسم جامع لكل خير، والكلام على حذف مضاف كما قدرنا، أو لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله سبحانه وتعالى الذي هو الرحمة والرضا، والجنة، أو لن تكونوا أبرارًا {حَتَّى تنُفِقُوا} وتصرفوا وتخرجوا {مِمَّا تُحِبُّونَ} من أموالكم وجاهكم وعلمكم في معاونة الناس، وبدنكم في طاعة الله، ومهجتكم في سبيله؛ يعني من جيد أموالكم، وأنفسها عندكم، قال
تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} وقيل: هو أن تنفق من مالك ما أنت محتاج إليه، قال تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنفُسِهِم وَلَو كانَ بِهِم خَصَاصَةٌ} وقال أبو بكر الوراق: معنى الآية: لن تنالوا بري لكم إلا ببركم بإخوانكم، والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم، وقيل: المعنى لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبرارًا إلا بالإنفاق المضاف إلى سائر أعمالكم. قاله ابن عطية. ومن في قوله: {مِمَّا تُحِبُّونَ} للتبعيض، ويدل على ذلك قراءة عبد الله الشاذة:{حتى تنفقوا بعض ما تحبون} {وَمَا} : موصولة. خاطبهم هنا بأن آية الإيمان وميزانه الصحيح هو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص، وحسن النية، ولكنكم أيها المدعون لتلك الدعاوي آثرتم شهوة المال على مرضاة الله، ولو أنفق أحدكم شيئًا من ماله، فإنما ينفق من أردأ ما يملك، وأبغضه إليه؛ لأن محبة المال في قلبه تفوق محبة الله تعالى، والرغبة في ادخاره، تعلو الرغبة فيما عند ربه من الرضا والثواب، فكيف ترجون أن تكونوا من المؤمنين الصادقين، وأنتم لا تنفقون ما تحبون؟ والمعنى: لن تصلوا إلى بر الله تعالى بأهل طاعته، برضاه عنهم، وتفضله برحمتهم، ونيلهم مثوبته، ودخولهم جنته، وصرف عذابه عنهم، حتى تنفقوا ما تهواه نفوسكم من كرائم أموالكم. وقد أثر عن السلف الصالح: أنهم إذا أحبوا شيئًا .. جعلوه لله تعالى.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماءٍ فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله عز وجل، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بخ بخ - كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء - ذاك مال رابح، أو قال: ذلك مال رابح، أرى أن تجعلها في الأقربين" فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، متفق عليه، وفي رواية لمسلم:
فجعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال: لما نزلت هذه الآية .. جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها: (سبل) لم يكن له مال أحب إليه منها، فقال: هي صدقة، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة فكأن زيدًا وَجِدَ - حزن - في نفسه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه قال:"أما إن الله قد قبلها".
فهذا الأثر وما قبله دلائل واضحات على حسن السياسة الدينية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما يختلج في القلوب، فقد رأى أن أبا طلحة وزيدًا قد خرجا عن أحب أموالهما إليهما بعاطفة الدين، فجعل ذلك في الأقربين، ليثبت قلوبهما، ويكمل إيمانهما، ولا يجعل للشيطان سبيلًا ينفذ به إلى ما بين الجوخ (1) فيندمان إذا هما رأيا أموالهما في أيدى الغرباء، إذ كثيرًا ما يفارق المرء شيئًا محبوبًا لديه باختياره لعاطفة الدين، أو للجود به على غيره، ثم لم يلبث إلا قليلًا حتى يعاوده الحنين إليه، ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم: يأمر عمال الصدقة بإبقاء كرائم الأموال والبعد عنها حين جباية الصدقات.
وهناك من الشواهد ما يدل على هذا أيضًا، فقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: حضرتني هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} الآية، فذكرت ما أعطاني الله تعالى، فلم أجد أحب، إلي من مرجانة - جارية رومية - فقلت: هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى .. لنكتحها فأنكحتها نافعًا (مولى له كان يحبه كأحد أولاده).
فتأمل وانظر تر أن نفسه قد راودته بعد عتقها على أن يستبقيها له، ولا يفارقها، لولا أن كان مما عود نفسه عليه .. ألا يرجع في شيء جعله لله، ومع ذلك جعلها لأحب الناس إليه، وهو مولاه. وعلى الجملة فآثار السلف في
(1) الجوخ: نسيج من الصوف يجمع على أجواخ.