المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أعطوا. وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم {أَتَوْا} بالقصر. وقرأ ابن - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: أعطوا. وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم {أَتَوْا} بالقصر. وقرأ ابن

أعطوا. وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم {أَتَوْا} بالقصر. وقرأ ابن جبير، والسلمي {بِمَا أَتَوْا} مبنيًّا للمفعول.

‌189

- {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وتدبيرهما، وخزائنهما فكيف يكون من له ملك السموات والأرض فقيرًا، وفيه تكذيب لمن قال:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} {واللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه، ومنه عقاب هؤلاء الكفرة {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر على تعجيل العقوبة لهم على ذلك القول؛ لكنه تفضل على خلقه بإمهالهم، وعلى إظهار دينكم ونصركم عليهم.

والمعنى: لا تحزنوا (1) أيها المؤمنون، ولا تضعفوا، وبينوا الحق، ولا تكتموا منه شيئًا، ولا تشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، ولا تفرحوا بما عملتم، فإن الله يكفيكم ما أهمكم، ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها، فإن لله ملك السموات والأرض، يعطي من يشاء، وهو على كل شيء قدير، لا يعز عليه نصركم على من يؤذونكم بأيديهم، وألسنتهم من أهل الكتاب والمشركين.

وفي هذا إيماء إلى أن الخير في اتباع ما أرشد إليه، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ووعد له بالنصر، وفيه تعريض بذم أولئك المخالفين، ووصفهم بأنهم لا يؤمنون إيمانًا صحيحًا يظهر أثره في أخلاقهم وأعمالهم؛ إذ لو كانوا كذلك، ما تركوا العمل بكتابه، وآثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا.

الإعراب

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} .

{لَقَدْ} اللام موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {سَمِعَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوفة مستأنفةٌ. {قَوْلَ الَّذِينَ} مفعول به ومضاف إليه. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} مقول محكي لـ {قالوا} وإن شئت قلت:{إنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ}

(1) المراغي.

ص: 319

اسمها منصوب {فَقِيرٌ} خبرها مرفوع، والجملة في محل النصب مقول لـ {ـقالوا} . {وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة {إن} .

{سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} .

{سَنَكْتُبُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {ما} اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل النصب مفعول به. {قالوا} فعل وفاعل، والجملة صلة {لما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما قالوه، ويصح كون {ما} مصدرية، والمصدر المؤول منها مفعول به لـ {نكتب} تقديره: سنكتب قولهم ذلك. {وَقَتْلَهُمُ} بالنصب معطوف على {ما} أو على المصدر المؤول منها على كونه مفعولًا لـ {نكتب} . وبالرفع معطوف على {ما} أيضًا على كونه نائب فاعل لـ {كتب} على قراءة الياء {قتل} مضاف. والهاء مضاف إليه، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. {الْأَنْبِيَاءَ} مفعول المصدر أعني {قتلهم} منصوب به. {بِغَيْرِ حَقٍّ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قتلهم} أو حال منه.

{وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .

{وَنَقُولُ} {الواو} عاطفة. {نقول} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {نكتب} . {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} مقول محكي لـ {نقول} ، وإن شئت قلت {ذُوقُوا}: فعل، وفاعل. {عَذَابَ الْحَرِيقِ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {ـنقول} .

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)} .

{ذَلِكَ} مبتدأ. {بِمَا} {الباء} حرف جر وسبب. {ما} : موصولة أو موصوفة في محل البحر بالباء، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائن بسبب الذي قدمته أيديكم، والجملة الإسمية مستأنفة. {قَدَّمَتْ}: فعل ماض، وتاء تأنيث. {أَيْدِيكُمْ}: فاعل، والجملة صلة لـ {مَا} ، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما قدمته أيديكم {وَأَنَّ اللَّهَ} : الواو

ص: 320

عاطفة. {أَنَّ} : حرف نصب. {اللَّهَ} : اسمها. {لَيْسَ} : فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على الله. {بِظَلَّامٍ}:{الباء} : زائدة في خبر {لَيْسَ} . {بِظَلَّامٍ} خبر {لَيْسَ} : منصوب بفتحة مقدرة. {لِلْعَبِيدِ} جار ومجرور متعلق {بِظَلَّامٍ} وجملة {لَيْسَ} في محل الرفع خبر {أن} ، وجملة {أن} في تأويل مصدر معطوف على {ما} في قوله {بِمَا قَدَّمَتْ} تقديره: ذلك العذاب كائن بسبب الذي قدمته أيديكم، وبسبب عدم كون الله ظلامًا للعبيد.

{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأكُلُهُ النَّارُ} .

{الَّذِينَ} نعت (1) للذين في قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} . فالسماع مسلط عليه، والتقدير: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله عهد إلينا إلخ، أو منصوب على الذم بفعل محذوف تقديره: أذم الذين قالوا إن الله عهد إلينا إلخ. والجملة المحذوفة مستأنفة. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} إلى قوله {تَأكُلُهُ النَّارُ} مقول محكي لـ {قالوا}. وإن شئت قلت:{إِنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ} اسهما. {عَهِدَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ} . {إِلَيْنَا} جار ومجرور متعلق بـ {عهد} ، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} ، وجملة {إن} في محل النصب مقول لـ {قالوا} . {أَلَّا نُؤْمِنَ} {أن} حرف نصب ومصدر، ويجوز أن تكتب أن مفصولة وموصولة، ومنهم من يحذفها في الخط اكتفاءً بالتشديد. قاله العكبري. {لا} نافية. {نُؤْمِنَ} منصوب بـ {أن} ، وفاعله ضمير يعود على الكفار القائلين. {لِرَسُولٍ} جار ومجرور متعلق بـ {ـنُؤمِن} والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: بعدم إيماننا لرسول، والجار المحذوف متعلق بـ {عهد} . {حَتَّى يَأتِيَنَا} {حَتَّى} حرف جر وغاية بمعنى إلى {يأتي} فعل

(1) الخازن.

ص: 321

مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى. بمعنى: إلى. و {نا} ضمير المتكلمين في محل النصب مفعول به، وفاعله ضمير يعود على {رسول} . {بِقُرْبَانٍ} جار ومجرور متعلق بـ {يأتى} ، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حتى} ، بمعنى إلى تقديره: إلى إتيانه إيانًا. {بِقُرْبَانٍ} الجار والمجرور متعلق بـ {نؤمن} . {تَأكُلُهُ النَّارُ} فعل ومفعول به، وفاعل، والجملة في محل البحر، صفة لـ {ـقربان} ولكنها صفة سببية.

{قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

{قُلْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد صلى الله عليه وسلم، والجملة مستأنفة. {قَدْ جَاءَكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت {قَدْ} حرف تحقيق. {جَاءَكُمْ رُسُلٌ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قل} {مِنْ قَبْلِي} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ {رسل}. {بِالْبَيِّنَاتِ} جار ومجرور متعلق بـ {جاء}. {وَبِالَّذِي} جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله:{بِالْبَيِّنَاتِ} . {قُلْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره، قلتموه، والخطاب في قوله {قَدْ جَاءَكُمْ} وبقوله:{قُلْتُمْ} وبقوله: {قَتَلْتُمُوهُمْ} وبقوله: {إِنْ كُنْتُمْ} لمن في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم، وإن كان الفعل لأجدادهم، لرضاهم به. {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} الفاء زائدة. {لم} {اللام} حرف جر. {م} اسم استفهام في محل الجر باللام مبني، بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين ما الموصولة. الجار والمجرور متعلق بما بعده، أعني {قَتَلْتُمُوهُمْ} ، {قَتَلْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لـ {قل} . {إِنْ كُنْتُمْ} إن حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، في محل الجزم {بإن} على كونه فعل شرط لها. {صَادِقِينَ} خبر {كان} وجواب {إن} معلوم ما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين، فلم قتلتموهم، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لـ {قُلْ} .

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} .

ص: 322

{فإن} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلت لهم يا محمَّد ما أمرتك به، وكذبوك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك:{إن كذبوك} {إن} حرف شرط جازم. {كَذَّبُوكَ} فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بإن على كونه فعلَ شرط لها، وجواب الشرط محذوف جوازًا دل عليه السياق تقديره: فاصبر، وتسل على تكذيبهم إياك، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {فَقَدْ كُذِّبَ} {الفاء} تعليلية. {قد} حرف تحقيق. {كُذِّبَ رُسُلٌ} فعل ونائب فاعل. {مِنْ قَبْلِكَ} جار ومجرور صفة لـ {رسل} ، والجملة الفعلية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وإنما أمرتك يا محمَّد بالصبر على تكذيبهم لتكذيب رسل من قبلك، وصبرهم على إذاية قومهم. {جَاءُوا} فعل وفاعل. {بِالْبَيِّنَاتِ} جار ومجرور متعلق بـ {جاؤوا} . {وَالزُّبُرِ} معطوف على البينات. وكذلك {والكتاب} معطوف عليه. {الْمُنِيرِ} صفة للكتاب، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {رُسُلٌ} وصح مجىء الحال منه لتخصصه بالصفة أعني الجار والمجرور، أو في محل الرفع صفة ثانية لـ {رسل} .

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} .

{كُلُّ نَفْسٍ} مبتدأ، ومضاف إليه. {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} خبر ومضاف إليه، وإنما أُنث الخبر لاكتساب المبتدأ التأنيث من المضاف إليه والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} الواو استئنافية. {إنما} ما أداة حصر بمعنى {ما} النافية وإلّا المثبتة، والمعنى: وما توفون أجوركم إلا يوم القيامة. {تُوَفَّوْنَ} فعل مغير، ونائب فاعل. {أُجُورَكُمْ} مفعول ثان، ومضاف إليه، والمفعول الأول جعل نائبًا عن الفاعل، والأصل: وإنما يوفيكم الله. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {توفون} . {فَمَنْ زُحْزِحَ} {الفاء} فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن توفية الأجور يوم

ص: 323

القيامة، وأردتم بيان من فاز فيه، ومن لم يفز .. فأقول لكم: من زحزح. {من زحزح} {من} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما. {زُحْزِحَ} فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم، بـ {من} الشرطية، ونائب فاعله ضمير يعود على {من} . {عَنِ النَّارِ} جار ومجرور متعلق بـ {زحزح} . {وَأُدْخِلَ} {الواو} عاطفة. {أدخل} فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم معطوف على {زُحْزِحَ} على كونه فعل شرط لمن، ونائب فاعله ضمير يعود على {من} . {الْجَنَّةَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {أدخل} أو منصوب على التوسع بإسقاط الخافض. {فَقَدْ فَازَ} {الفاء} رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا لكون الجواب مقرونًا بـ {قد} . {قد} حرف تحقيق. {فَازَ} فعل ماض في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة من الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} {الواو} استئنافية. {ما} نافية. {الْحَيَاةُ} مبتدأ. {الدُّنْيَا} صفة له. {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} إلا أداة استثناء مفرغ. {مَتَاعُ الْغُرُورِ} خبر، ومضاف إليه، والجملة الإسمية مستأنفة.

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} .

{لَتُبْلَوُنَّ} {اللام} موطئة للقسم. {تبلون} فعل مضارع مغير الصيغة، مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وإنما أعرب مع اتصال نون التوكيد به لِعَدَمِ مباشَرَتِها له لفصلها عنه بضمير الفاعل، والواو ضمير لجماعة المذكور المخاطبين في محل الرفع نائب فاعل. و {نون التوكيد} الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، وسيأتي الإعلال الجاري فيه في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى. والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القمسم المحذوف مستأنفة {فِي أَمْوَالِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تبلون} . {وَأَنْفُسِكُمْ} معطوف على {أَمْوَالِكُمْ} .

{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .

ص: 324

{وَلَتَسْمَعُنَّ} {الواو} عاطفة. و {اللام} موطئة للقسم. {تسمعن} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين مع نون التوكيد في محل الرفع فاعل ونون التوكيد الثقيلة: حرف لا محل لها من الإعراب، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، والقسم المحذوف معطوف على جملة القسم المحذوف في قوله:{لَتُبْلَوُنَّ} . {مِنَ الَّذِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {تسمعن} {أُوتُوا الْكِتَابَ} . {أُوتُوا} فعل، ونائب فاعل. {الْكِتَابَ} مفعول ثان لـ {أوتوا} لأنه بمعنى أعطوا. {مِنْ قَبْلِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {أوتوا} والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلَ لها من الإعراب.

{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} .

{وَمِنَ الَّذِينَ} {الواو} عاطفة. {الَّذِينَ أُوتُوا} جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . {أَشْرَكُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {أَذًى} مفعول {تسمعن} منصوب بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين {كَثِيرًا} صفة لـ {أذى} .

{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .

{وَإِنْ تَصْبِرُوا} الواو استئنافية. {إن} حرف شرط. {تَصْبِرُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {وَتَتَّقُوا} فعل وفاعل معطوف على {تَصْبِرُوا} . {فَإِنَّ ذَلِكَ} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية. {إن} حرف نصب وتوكيد. {ذَلِكَ} في محل النصب اسمها. {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} جار ومجرور، ومضاف إليه وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأصل: فإن ذلك من الأمور المعزومة؛ أي: المفروضة. الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر {إن} ، وجملة إن في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية مستأنفة.

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)} .

ص: 325

{وَإِذْ أَخَذَ} الواو استئنافية. {إذ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمَّد قصة إذا أخذ الله. {أَخَذَ اللَّهُ} فعل وفاعل. {مِيثَاقَ الَّذِينَ} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ} ، والتقدير: واذكر يا محمَّد لأمتك قصة وقت أخذ الله ميثاق الذين {أُوتُوا الْكِتَابَ} . {أُوتُوا} فعل ونائب فاعل. {الْكِتَابَ} مفعول ثان لـ {أوتوا} والجملة صلة الموصول. {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} {اللام} واقعة في جواب قسم دل عليه أخذ الميثاق؛ لأن الميثاق العهد المؤكد باليمين، تقديره: وعزتي وجلالي لتبيننه للناس. {تبينن} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل؛ لأن أصله لتبينوننه كما سيأتي لك في بحث التصريف إن شاء الله تعالى. و {الهاء} ضمير الغائب في محل النصب مفعول به. {لِلنَّاسِ} جار ومجرور متعلق بـ {تبينن} ، والجملة الفعلية جواب للقسم المقدر لا محلَ لها من الإعراب، وجملة القسم المقدر جملة معترضة لا محلَ لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. {وَلَا تَكْتُمُونَهُ} الواو عاطفة. {لا} نافية. {تَكْتُمُونَهُ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله {لَتُبَيِّنُنَّهُ} على كونها جوابَ القسم المقدر. {فَنَبَذُوهُ} {الفاء} عاطفة. {نبذوه} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله:{أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ} على كونها مضافًا إليه. {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} {وَرَاءَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {نبذوه} ، وهو مضاف. {ظهور} مضاف إليه {ظهور} مضاف. و {الهاء} ضمير الغائبين في محل الجر مضاف إليه. {وَاشْتَرَوْا بِهِ} الواو عاطفة. {وَاشْتَرَوْا} فعل وفاعل. {بِهِ} متعلق به. {ثَمَنًا} مفعول به لـ {اشتروا} . {قَلِيلًا} صفة لـ {ثمنا} والجملة معطوفة على جملة {نبذوه} . {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} {فَبِئْسَ} {الفاء} استئنافية. {بئس} فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه، وجوبًا لشبهه بالمثل تقديره: هو يعود على الثمن القليل. {ما} نكرة موصوفة في محل النصب تمييز لفاعل {بئس} . {يَشْتَرُونَ} فعل وفاعل، والجملة صفة لما، والرابط محذوف، تقديره: فبئس هو أي ذلك

ص: 326

الثمن شيئًا يشترونه. وجملة {بئس} في محل الرفع خبر للمخصوص بالذم المحذوف وجوبًا، تقديره: فبئس شيئًا يشترونه، هو، أي: ذلك الثمن، والجملة الإسمية مستأنفة، ويحتمل كون {مَا} مصدرية، وجملة {يَشْتَرُونَ} صلتها، و {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لبئس تقديره: فبئس شراؤهم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: شراؤهم هذا.

{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)} .

{لَا} ناهية جازمة. {تَحْسَبَنَّ} فعل مضارع. في محل الجزم بـ {لا} الناهية مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ونون التوكيد: حرف لا محل له من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت: يعود على محمَّد صلى الله عليه وسلم، أو على كل من يصلح للخطاب، والجملة الفعلية مستأنفة. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ {حسب} والثاني: محذوف دل عليه قوله الآتي {بِمَفَازَةٍ} ؛ تقديره: لا تحسبن الذين يفرحون فائزين ناجينَ من العذاب {يَفْرَحُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {يَفْرَحُونَ} . {أَتَوْا} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما أتوه، وفعلوه. {وَيُحِبُّونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {يَفْرَحُونَ} على كونها صلة الموصول. {أَنْ يُحْمَدُوا} {أن} حرف مصدر. {يُحْمَدُوا} فعل مغير، ونائب فاعل، والجملة صلة {أن} المصدرية و {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ويحبون حمد الناس إياهم. {بما} جار ومجرور متعلق بـ {يُحْمَدُوا} . {لَمْ يَفْعَلُوا} فعل وفاعل وجازم، والجملة صلة لـ {ما} أو صلة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: بما لم يفعلوه. {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} {الفاء} زائدة. {لا} ناهية جازمة. {تَحْسَبَنَّهُمْ} فعل ومفعول أول في محل الجزم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد صلى الله عليه وسلم. {بِمَفَازَةٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف مفعول ثان لـ {حسب} تقديره: فلا تحسبنهم كائنين بمنجى من العذاب، والجملة الفعلية

ص: 327

مؤكدة لجملة حسب الأولى. {مِنَ الْعَذَابِ} جار ومجرور صفة لـ {مفازة} . {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {الواو} عاطفة. {لهم} جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ} صفة له، والجملة الإسمية معطوفة على جملة {تحسبن} الأولى، وهنا أوجه كثيرة من الإعراب، تتعدد بتعدد القراءات، أعرضنا عنها صفحًا؛ لئلا يطول الكلام، وفيما ذكرنا كفاية لمن له عناية.

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)} .

{وَلِلَّهِ} {الواو} استئنافية. {لِلَّهِ} جار ومجرور خبر مقدم. {مُلْكُ} مبتدأ مؤخر. {السَّمَاوَاتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ} معطوف على السموات والجملة الإسمية مستأنفة {وَاللَّهُ} الواو عاطفة. {الله} مبتدأ. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ} وهو خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله:{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} على كونها مستأنفة.

التصريف ومفردات اللغة

{ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} يقال: ذاق الطعام، إذا أدرك طعمه من حلاوة، أو حموضة، أو مرارة. وأصل الذوق: وجود الطعم في الفم، ثم استعمل في إدراك سائر المحسوسات. {الْحَرِيقِ} المحرق، فهو فعيل بمعنى: مفعل، كأليم بمعنى مؤلم، وإضافة العذاب إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع. {بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}؛ أي: بذي ظلم، فـ {ظلام} من صيغ النسب على حد قول ابن مالك:

ومع فاعل وفعال وفعل

في نسب أغنى عن اليا فقبل

{إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} يقال: عهد إليه بكذا، إذا أمره به، وأوصاه إليه. {بِقُرْبَانٍ} و {القربان}: مصدر بمعنى اسم المفعول، وهو ما يتقرب به إلى الله من حيوان، ونقد، وغيرهما. {وَالزُّبُرِ} جمع زبور (1) كرسول ورسل، وهو

(1) البحر المحيط.

ص: 328

الكتاب مأخوذ من الزبر، وهو الكتابة يقال: زبرت بكذا إذا كتبته، فالزبور فعول بمعنى مفعول؛ أي: مزبور بمعنى مكتوب، كالركوب بمعنى المركوب، وقال امرؤ القيس:

لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي

كَخَطِّ زَبُوْرٍ في عَسِيْبٍ يَمَانِ

ويقال: زبرته إذا قرأته، وزبرته إذا حسنته، وتزبرته إذا زجرته، وقال الزجاج: الزبور كل كتاب ذي حكمة. وقيل: أصله (1) من الزبر بمعنى الزجر، وسمي الكتاب الذي فيه الحكمة زبورًا؛ لأنه يزبر أي يزجر عن الباطل ويدعو إلى الحق. وفي المختار الزبرُ الزجرُ والانتهار، وبابه نَصَر والزبرُ أيضًا الكتابة، وبابه ضرب انتهى.

{وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} ؛ أي: الواضح المعنى من أنار الشيء إذا وضح.

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} تطلق النفس على الروح، وعلى مجموع الجسد، والروح الذي هو الحيوان، وهذا المعنى الثاني هو الأقرب المتبادر هنا. وفي المختار: النفس الروح، يقال: خرجت نفسه، والنفس الجسد، ويقولون: ثلاثة أنفس فيذكرونه لأنهم يريدون به الإنسان انتهى. وفي المصباح أن النفس تطلق على جملة الحيوان والنفس إن أريد بها الروح تؤنث وإن أريد بها الشخص تذكر انتهى. والموت أمر وجودي يضاد الحياة.

{فَمَنْ زُحْزِحَ} الزحزحة الإبعاد والتنحية وهو من ملحق الرباعي على وزن فعلل أصله من الزح وهو الجذب بعجلة {فَقَدْ فَازَ} يقال: فاز فوزًا من باب قال إذا ظفر، والفوز: النجاة مما يحذر والظفر بما يؤمل.

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} {الْحَيَاةُ} العيش، وهي المعيشة. والمعيشة: كسب الإنسان، وتحصيله ما يعيش به من مطعم ومشرب وملبس وغيرها. {الدُّنْيَا}: بمعنى القربى، وهي صفة مؤنث مذكره أدنى؛ لأنه من دنا يدنو دنوًا فهو أدنى، وهي دنيا بوزن فعلى. {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} والمتاع: كل ما استمتع به الإنسان من مال وغيره، وفي "السمين" يجوز أن يكون الغرور فعولًا بمعنى مفعول؛ أي: متاع

(1) الخازن.

ص: 329

المغرور؛ أي: المخدوع. وأصل الغرور الخِداع انتهى. والغرور في الأصل: إما مصدر غره يغره غرورًا إذا خدعه، وإما جمع غار.

{لَتُبْلَوُنَّ} أصله لتبلوونن بواوين أولاهما لام الكلمة؛ لأنه من بلا يبلو من باب غزا، وثانيهما: واو الضمير فحذفت النون الأولى التي هي علامة الرفع، لتوالي الأمثال مع نون التوكيد، وتحركت الواو الأولى التي هي لام الكلمة، وانفتح ما قبلَها، فقلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، الألف وواو الضمير، فحذفت الألف لئلا يلتقيَ ساكنان، وضمت الواو دلالةً على المحذوف، وإن شئت قلت استثقلت الضمة على الواو الأولى، فحذفت فالتقى ساكنان، وهما: الواوان فحذفت الواو الأولى، وحركت الواو الثانية التي هي واو الضمير بحرة مجانسة دلالةً على المحذوف، فعلم من مجموع هذين التصريفين: أن الواوَ المحذوفةَ هي لام الكلمة، وأن هذه الواوَ الموجودةَ هي ضمير الجمع، وهي نائب الفاعل.

{وَلَتَسْمَعُنَّ} أصله لتسمعونن حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، وواو الضمير لالتقاء الساكنين مع نون التوكيد {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} والصبر تلقي المكروه بالاحتمال، وكظم النفس عليه مع دفعه بروية، ومقاومة ما يحدث من الجزع، والتقوى الابتعاد عن المعاصي {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} مأخوذ من قولهم: عزمت عليك أن تفعل كذا؛ أي: ألزمتك إياه على وجه لا يجوز الترخص فيه، وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: المعزوم عليه بمعنى أنه يجب العزم عليه، والتصميم للقلب عليه، وأصله ثبات في الرأي على الشيء إلى إمضائه {مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الميثاق العهد المؤكد باليمين، وأصله: موثاق قلبت الواو ياء لوقوعها بعد كسرة؛ لأنه من وثق يثق وثوقًا وميثاقًا {بِمَفَازَةٍ} المفازة المفعلة من فَازَ بمعنى مكان الفوز؛ أي: النجاة من المكروه، وأصلها مفوزة تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها بحسب الآن، فقلبت ألفًا فصار مفازةً. {لله ملك} الملك بضم الميم ما يملكه الإنسان، ويتصرف به، والعظمة، والسلطَة يجمع على أملاك، وملوك.

ص: 330

البلاغة

{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} أكدت اليهود الجملة التي نسبوها إلى الله بـ {إن} واسمية الجملة، مبالغةً في نسبة الفقر إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، ولم يؤكدوا في الجملة التي نسبوها إلى أنفسهم، كأنهم خرجوا تلك الجملة مخرج ما لا يحتاج إلى تأكيد، كان الغنى وصف لازم لهم، لا يمكن فيه نزاع فيحتاج إلى تأكيد، وهذا دليل على تعنتهم وتعمقهم في الكفر والطغيان.

{سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} فيه مجاز عقلي من الإسناد إلى الآمر، لأنه تعالى لا يكتب ذلك بنفسه، بل يأمر الملائكة بالكتابة.

{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} فيه مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل لعلاقة الجزئية.

{تَأكُلُهُ النَّارُ} فيه استعارة تصريحية تبعية؛ لأنه شبه الإحراق بالأكل، لأن الأكل إنما يكون في الإنسان والحيوان. {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فيه استعارة تبعية؛ لأن حقيقة الذوق ما يكون بحاسة اللسان.

{مَتَاعُ الْغُرُورِ} قال الزمخشري: شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام، ويغر به حتى يشتريه، والشيطان هو المدلس الغرور فهو من باب الاستعارة.

{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} فيه استعارة تصريحية تبعية؛ لأنه شبَّه عدمَ التمسك، والعمل به، بإلقاء شيء مرمي خَلْفَ ظهر الإنسان. وفي "الفتوحات" نَبَذَ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به، والإعراض عنه بالكلية، وشبه أيضًا أخذ عوض حقير من حطام الدنيا على كتم آيات الله باشتراء ثمنٍ قليلٍ على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.

وقال أبو حيان (1): لقد تضمنت هذه الآياتُ من ضروب الفصاحة والبلاغة

(1) البحر المحيط.

ص: 331

والمحسنات البديعية:

منها: التجنيس المغاير في قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} .

ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {قَالُوا} ، و {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} و {كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ} .

ومنها: الطباق في قوله: {فَقِيرٌ} و {أَغْنِيَاءُ} ، و {الْمَوْتِ} و {الْحَيَاةُ} و {زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ} .

ومنها: الالتفات في قوله: {سَنَكْتُبُ} و {نَقُوْل} و {أجوركم} ، إذ تقدمه كل نفس.

ومنها: التكرار في لفظ الجلالة، وفي البينات.

ومنها: الاستعارة في قوله: {سَنَكْتُبُ} على قول من لم يجعل الكتابة حقيقةً، {قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} و {تَأكُلُهُ النَّارُ} ، {وذوقوا} {وذائقة} .

ومنها: المذهب الكلامي في قوله: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} .

ومنها: الاختصاص في قوله: {أيديكم} .

ومنها: الإشارة في قوله: {ذلك} والشرط المتجوز فيه.

ومنها: الزيادة للتوكيد في قوله: {بالزبر} و {بالكتاب} في قراءة من قرأ كذلك.

ومنها: الحذف في مواضع انتهى.

والله سبحانه وتعالى أعلم

* * *

ص: 332

قال الله سبحانه جلَّ وعلا:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} .

المناسبة

قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

} الآية، مناسبة (1) هذه الآية لما قبلها واضحة؛ لأنه تعالى لما ذكر أنه مالك السموات والأرض، وذكر قدرتَه، ذكرَ أن في خلقهما دلالات واضحةً لذوي العقول.

قال الرازي: واعلم أنه لما كان المقصود من هذا الكتاب الكريم جَذبَ القلوب، والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الإله الحق، وطال الكلامُ في تقرير الكلام، والجواب عن شبهات المبطلين، عاد إلى إثَارةٍ

(1) لباب النقول.

ص: 333

القلوب بذكر ما يدلُّ على التوحيد، والألوهية والكبرياء والجلال، فذكر هذه الآية.

وأيضًا في ختم هذه السورة بهذه الآية مناسبة لمبدئها؛ لأنه سبحانه وتعالى لمَّا بَدأَ هذه السورةَ الكريمة بذكر أدلة التوحيد، والألوهية، والنبوة .. خَتَمَها بذكر دلائل الوحدانية، والقدرة ودلائل الخلق، والإيجاد؛ ليستدل منها الإنسان على البعث والنشور، فكان ختامها مسكًا، كابتدائها، فيتأمل الإنسان في كتاب الله المنظور - الكون الفسيح - بعد أن تأمل في كتاب الله المسطور القرآن العظيم.

قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)} . مناسبتها لما قبلها: أنه لما وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم، وكانوا في الدنيا في غاية الفقر، والشدة، والكفار كانوا في رخاء ولَيْنِ عيش ذَكر في هذه الآية ما يسليهم، ويصبرهم على تلك الشدة، فبين لهم حقارةَ ما أُوتيَ هؤلاء من حظوظ الدنيا، وذَكَر أنها متاعٌ قليل زائل، فلا ينبغي للعاقل أن يوازن بينه وبين النعيم الخالد المقيم، قوله تعالى:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوالَ الكفار وأحوالَ أهل الكتاب، وأن مصيرهم إلى النار، ذَكَرَ حَالَ من آمن من أهل الكتابِ، وأنَّ مصيرَهم إلى الجنة فقال:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الآية.

أسباب النزول

قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: أتت قريش اليهودَ فقالوا بمَ جاءكم موسى من الآيات؟ قالوا: عصاه، ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى، فقالوا: كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه، والأبرص، ويحيي الموتى، فأتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبًا، فدعا ربَّه فنزلت الآية {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} والمعنى: تفكروا واعتبروا أيها الناس: فيما خلقته وأنشأته من

ص: 334

السموات، والأرض لمعاشكم، وأرزاقكم.

قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ

} الآية (1)، سبب نزولها: ما أخرجه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والترمذي والحاكم، وابن أبي حاتم، عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله: لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى

} إلى آخر الآية.

قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

} الآية، سبب نزولها: ما روى النسائي عن أنسٍ قال: لما جاء نعي النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلوا عليه، فقالوا: يا رسول الله نصلي على عبد حبشي، فأنزل الله عز وجل {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

} الآية. وروى ابن جرير نَحوه عن جابر. وفي المستدرك عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت في النجاشي هذه الآية {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} وقيل (2): نزلت في أربعين رجلًا من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدقوه. وقيل: نزلت في عبد الله بن سلام، وأصحابه الذين آمنوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: نزلت في جميع مؤمني أهل الكتاب، وهذا القول أولى وأشمل.

قوله تعالى (3): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا

} أخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجدَ، يصلون الصلوات في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها.

وقد ثبت في "الصحيح" وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا

(1) لباب النقول.

(2)

الخازن.

(3)

الشوكاني.

ص: 335