المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ومعنى تمني الموت: تمني الشهادة في سبيل الله، والقتال لنصرة - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ومعنى تمني الموت: تمني الشهادة في سبيل الله، والقتال لنصرة

ومعنى تمني الموت: تمني الشهادة في سبيل الله، والقتال لنصرة الحق، ولو ذهبت نفوسكم دونه.

وصفوة القول: لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الميدان، فها أنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه، وأنتم تنظرون إليه، لا تغفلون عنه، فما بالكم دهشتم عندما وقع الموت فيكم، وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون به، ومن تمنى الشيء، وسعى إليه لا ينبغي أن يحزنه لقاؤه ويسوءَه.

وفي الآية الكريمة: تنبيهٌ لكل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس، والتمنّي، والتشهّي، وهديه إلى اختبار نفسه بالعمل الشاقّ، وعدم الثقة منها بما دون الجهاد، والصبر على المكاره في سبيل الحق حتى يأمن الدعوى الخادعة التي يتوهم فيها أنه صادق فيما يدعي مع الغفلة، أو الجهل بعجزه عنه.

وكثيرًا ما يتصور بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه، ويفكر في خدمتهما، ويتمنى لو يتاح له أن يساهم في تلك الخدمة بنفسه، أو بماله، حتى إذا احتيج إليه وجد من نفسه الضعف، فأعرض عن العمل قبل الشروع، أو بعد أن ذاق مرارته، وكابد مشقته.

ولكن المؤمن حقًّا من وصل الأمر به إلى حد اليقين فيما يعتقد أنه حقٌّ، وذلك يستدعي العمل مهما كان شاقًّا، والجهاد مهما كان عسيرًا، والصبر على المكاره، وإيثار الحق على الباطل. وقد كان في الذين خوطبوا بهذه الآية جماعة ممن كانوا في المرتبة العليا من صدق الجهاد، والصبر على المكاره، وأولئك هم المجاهدون الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثبات الجبال الراسيات، وهم نحو ثلاثين رجلًا؛ لكنه جعل الخطاب عامًّا ليكون الإرشاد والنصح عامًّا للجميع، فيتهم ذوو المراتب العالية أنفسهم بالتقصير فيزدادوا كمالًا على كمالهم، ويرعوي المقصرون، وينزعوا عن خداع أنفسهم لهم، وهذا من التمحيص العظيم الذي له أجمل العواقب في تهذيب الأنفس.

‌144

- وقد ظهر أثر ذلك في نفوس أولئك القوم فيما بعد، ورباهم تربيةً كانت بها

ص: 159

عزائمهم ماضيةً، وهممهم صادقةً فلم يهنوا، ولم يضعفوا، ولم يستكينوا فيما حاولوه من جسيم الأمور. ثم نزل (1) في مقالتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلغنا يا نبيَّ الله أنك قتلت فلذلك انهزمنا فقال الله {وَمَا مُحَمَّدٌ} صلى الله عليه وسلم {إِلَّا رَسُولٌ}؛ أي: إلا بشر مرسل إلى كافة الناس {قَدْ خَلَتْ} ومضت {مِنْ قَبْلِهِ} ، أي من قبل محمد {الرُّسُلُ} عليه وعليهم صلوات الله وسلامه أجمعين. فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم، وسنتهم بعد خلوهم. فعليكم يا أمة محمد أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه؛ لأن المقصود من بعثةِ الرسل تبليغ الرسالة، وإلزام الحجة، لا وجوده وخلوده بين أظهر قومه.

ومحمدٌ اسم (2) علم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى وصفه بذلك وتخصيصه بمعناه، وهو الذي كثرت خصاله الحميدة، والمستحق لجميع المحامد المخلوقية؛ لأنه الكامل في نفسه صلى الله عليه وسلم؛ أي: في خلقه وخلقه، فسماه باسمين مشتقين من اسمه المحمود سبحانه وتعالى، فسمَّاه محمدًا، وأحمد.

وفي ذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أرْسَلَ عَبْدَهُ

بِبُرْهَانِهِ وَاللهُ أَعْلَى وَأَمْجَدُ

أغَرُّ عَلَيْهِ لِلنَّبُوَّةِ خَاتَمٌ

مِنَ اللهِ مِنْ نُوْرٍ يَلُوْحُ وَيشْهَدُ

وَضَمَّ اْلإِلهُ اْسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ

إِذَا قَالَ في الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ

وَشَقَّ لَهُ مِنْ إِسْمِهِ ليُجِلَّهُ

فَذُوْ الْعَرْشِ مَحْمُوْدٌ وَهَذَا محمَّدُ

وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". متفق عليه. والعاقب الذي ليس بعده نبيٌّ، وسماه الله رؤوفًا رحيمًا.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا

(1) تنوير المقياس.

(2)

الخازن.

ص: 160

نفسه أسماءً: فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا المقفى، ونبي التوبة، ونبي الرحمة". رواه مسلم. والمقفى هو آخر الأنبياء الذي لا نبي بعده.

والهمزة في قوله: {أَفَإِنْ مَاتَ} للاستفهام (1) الإنكاري، والفاء للعطف ورتبتها التقديم، لأنها حرف عطف. وإنما قدمت الهمزة، لأن لها صدر الكلام. وقال ابن الخطيب: الأوجه: أن يقدر محذوف بعد الهمزة، وقبل الفاء، وتكون الفاء عاطفة، ولو صرح به لقيل أتؤمنون به مدة حياته؛ فإن مات كما مات موسى، وإبراهيم وغيرهما {أَوْ قُتِلَ} كما قتل زكريا، ويحيى {انْقَلَبْتُمْ} ورجعتم {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وأدباركم، وارتددتم راجعين عن دينكم، فتخالفوا سنن أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد موتهم، والرسول ليس مقصودًا لذاته، بل المقصود ما أرسل به من الهداية التي يجب على الناس أن يتبعوها.

أي: لا ينبغي منكم الارتداد حينئذٍ؛ لأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم مبلغ لا معبودٌ، وقد بلَّغكم والمعبود باقٍ، فلا وجه لرجوعكم عن الدين الحق لو مات من بلغكم إياه.

روي (2) أنه لما رمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بحجرٍ فكسر رباعيته، وشج وجه، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ حتى قتله ابن قميئة، وهو يرى أنه قتل النبيَّ عليه الصلاة والسلام فقال: قد قتلت محمدًا، وصرخ صارخ أن محمدًا قد قتل، فانكفأ الناس، وجعل الرسول عليه السلام يدعو "إليَّ عبادَ الله" فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه، وحموه حتى كشفوا عنه المشركين، وتفرق الباقون، وقال بعضهم: ليت لنا رسولًا إلى عبد الله بن أبي، فيأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان، وقال ناسٌ من المنافقين: لو كان محمد نبيًّا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم، ودينكم الأول، وقال أنس بن النضر؛ عم أنس بن مالك في تلك الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر، وبلغت فيها القلوب الحناجر، يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب

(1) الفتوحات الإلهية.

(2)

البيضاوي.

ص: 161

محمد حيٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إنّي أعتذر إليك مما قال هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه فنزلت {وَمَنْ يَنْقَلِبْ} أي: ومن يرجع {عَلَى عَقِبَيْهِ} ؛ أي: إلى دينه الأول، وهو الشرك {فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}؛ أي: فلن ينقص الله رجوعه شيئًا، وإنما يهلك نفسه بإقباله على العذاب، أو المعنى؛ ومن يرجع عن جهاده ومكافحته الأعداء فلن يضر الله شيئًا بما فعل، بل يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب وحرمانها من الثواب، فالله قد وعد بنصر من ينصره ويعز دينه، ويجعل كلمته هي العليا، وهو لا محالة منجزٌ وعده، ولا يحول دون ذلك ارتداد الضعفاء، والمنافقين على أعقابهم فهو سيثبت المؤمنين، ويمحصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص، فيقيموا دينه وينشروا دعوته، ويرفعوا شأنه وتنشر على الخافقين رايته، وهو الذي بيده الخلق، والأمر، وهو القادر على كل شيء {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} له نعمه عليهم بالإيمان، والهداية إلى أقوم السبل الثابتين على دين الإِسلام، الذي هو أجل نعمةٍ وأعز معروفٍ كأنس بن النضر وأمثاله، أي: يجازيهم في الدنيا والآخرة بما يستحقون من النصر على أعدائهم، والثواب الجسيم.

وفي الآية إرشادٌ إلى أن المصائب التي تحل بالإنسان لا مدخل لها في كونه على حق أو باطل، فكثيرًا ما يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا، وصاحب الباطل بالنعم والعطايا.

وفيها إيماءٌ إلى أنا لا نعتمد في معرفة الحق والخير على وجود العلم بحيث نتركهما عند موته بل نسير على منهاجهما حين وجوده وبعد موته.

والخلاصة: أن الله أوجب علينا أن نستضيء بالنور الذي جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم، أمَّا ما يصيب جسمه من جرحٍ أو ألمٍ، وما يعرض له من حياةٍ أو موت، فلا مدخل له في صحة دعوته، ولا في إضعاف النور الذي جاء به، فإنما هو بشرٌ مثلكم خاضعٌ لسنن الله كخضوعكم.

والخلاصة: أن قتل محمد صلى الله عليه وسلم لا يوجب ضعفًا في دينه، لأمرين:

ص: 162