المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أحدهما: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشرٌ كسائر الأنبياءِ، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: أحدهما: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشرٌ كسائر الأنبياءِ،

أحدهما: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشرٌ كسائر الأنبياءِ، وهؤلاء قد ماتوا أو قتلوا.

والثاني: أن الحاجة إلى الرسول هي تبليغ الذين، فإذا تَمَّ له ذلك .. فقد حصل الغرض، ولا يلزم من قتله فساد دينه.

وفي الآية هداية وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب أو عدم استمرارها، ذا صلة بوجود القائد، بحيث إذا قتل انهزم الجيش، أو استسلم للأعداء بل يجب أن تكون المصالح العامة جاريةً على نظام ثابت، لا يزلزله فقد الرؤساء، وعلى هذا تجري الحكومات، والحروب في عصرنا هذا.

ومن توابع هذا النظام أن تعد الأمة لكل أمرٍ عدته، فتوجد لكل عملٍ رجالًا كثيرين حتى إذا فقدت معلمًا أو مرشدًا أو قائدًا أو حكيمًا أو رئيسًا أو زعيمًا وجدت الكثير ممن يقوم مقامه، ويؤدِّي لها من الخدمة ما كان يؤدِّيه، وحينئذ يتنافس أفرادها، ويحفزون عزائمهم للوصول إلى ما يمكن أن يصل إليه كسب البشر، وينال كلٌّ منه بقدر استعداده وسعيه وتوفيق الله له.

وقرأ الجمهور {الرُّسُلُ} في قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} بالتعريف على سبيل التفخيم للرسل والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله. وفي مصحف عبد الله {رسل} بالتنكير، وبها قرأ ابن عباس وقحطان بن عبد الله. وقرأ الجمهور {عَلَى عَقِبَيْهِ} بالتثنية، وقرأ ابن أبي إسحاق على {عَقِبَهِ} بالإفراد.

‌145

- {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ} ؛ أي: وليس من شأن النفوس، ولا من سنة الله فيها {أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: إلّا بأمر الله وقضائه وقدره، وعلمه، وإرادته، ومشيئته التي بها يجري نظام الحياة، وترتبط فيها الأسباب بالمسببات.

وذلك أنَّ الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح، فلا يموت أحدٌ إلا بإذن الله تعالى وأمره، {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} منصوب بعامل محذوف تقديره: كتب الله الموت على عباده كتابًا مقرونًا بأجل معين لا يتغير، ومؤقت أبوقت لا يتقدم، ولا يتأخر، فكثيرٌ من الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب أو يتعرضون لعدوى الأمراض، أو يتصدون لأفاعيل الطبيعة، وهم مع ذلك لا يصابون بالأذى، فالشجاع المقدام قد يسلم في الحرب، ويقتل الجبان المتخلف،

ص: 163

ويفتك المرض بالشاب القوي، ويترك الضعيف الهزيل وتغتال عوامل الأجواء الكهل المستوي وتتجاوز الشيخ الضعيف فللأعمار آجالٌ، وللآجال أقدارٌ لا تخطوها. والأقدار هي السنن التي عليها تقوم نظم العالم، وإن خفيت على بعض الناس، وإذا كان محيانا ومماتنا بإذن الله فلا محل للخوف والجبن، ولا عذر في الوهن والضعف. وقيل: الكتاب اللوح المحفوظ؛ لأن فيه آجال جميع الخلق، وفي الآية تحريض المؤمنين على الجهاد، وتشجيعهم على لقاء العدو، فإنه إذا كان الأجل محتومًا ومؤقتًا بميقاتٍ، وأن أحدًا لا يموت قبل بلوغ أجله، وإن خاض المعارك واقتحم المهالك .. فلا فائدة إذًا للخوف والجبن والحذر.

وفي الآية أيضًا إشارة إلى كلاءة الله وحفظه لرسوله صلى الله عليه وسلم مع غلبة العدو له والتفافهم عليه، وإسلام أصحابه له فرصةً للمختلس، فلم يبق سببٌ من أسباب الهلاك إلا قد حصل، ولكن لما كان الله حافظًا له لم يضره شيء. وفيها أيضًا: إشارةٌ إلى أن قومه قد قصروا في الذَّبِّ عنه {وَمَنْ يُرِدْ} ويقصد بعمله الصالح {ثَوَابَ الدُّنْيَا} ، وحظها ومنفعتها {نُؤْتِهِ مِنْهَا}؛ أي: نعطه من الدنيا ما يكون جزاء لعمله مما نشاء أن نعطيه إياه على ما قدرنا له، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} . نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد، وطلبوا الغنيمة {وَمَنْ يُرِدْ} ويقصد بعمله الصالح {ثَوَابَ الْآخِرَةِ} ونعيمها {نُؤْتِهِ مِنْهَا} نعطه من حظوظ الآخرة، ونعيمها ما يريد مما نشاء من الأضعاف على حسب ما جرى به الوعد الكريم. نزلت في الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد.

واعلم: أن هذه الآية، وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها عامةٌ في جميع الأعمال؛ وذلك لأنَّ الأصل في ذلك كله يرجع إلى نية العبد، فإن كان يريد بعمله الدنياء. فليس له جزاء إلا فيها، وكذلك من أراد بعمله الدار الآخرة فجزاؤه أيضًا فيها.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمالُ بالنياتِ". الحديث متفق عليه.

وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 164

قال: "من كانت نيته طلب الآخرة، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا، جعل الله الفقر بين عينيه، وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب الله له".

وذلك (1) لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب الدواعي والقصود، لا ظواهر الأعمال كما في الحديث المذكور، فإن من وضع الجبهة على الأرض مثلًا في صلاة الظهر والشمس قدامه، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى .. كان ذلك من أعظم دعائم الإِسلام، وإن قصد به عبادة الشمس، كان ذلك من أعظم دعائم الكفر {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}؛ أي: سنثيب الثابتين على شكر نعمة الله تعالى في الدنيا والآخرة، الذين يعرفون أنعم الله عليهم من القوى، ويصرفونها إلى ما خلقوا لأجله من طاعة الله تعالى، ويستعملوها فيما يرقى بهم إلى مراقي الكمال، فيعملون صالح الأعمال التي ترفع نفوسهم، وتنفع أمتهم كأنس بن النضر، وأمثاله الذين جاهدوا، وصبروا مع النبي صلى الله عليه وسلم بما كان لهم من الإرادة القوية التي كانت السبب في انجلاء المشركين عن المسلمين.

وقرأ الجمهور (2){نُؤْتِهِ} الموضعين بالنون، وكذلك قرؤوا {سَنَجْزِي} بالنون أيضًا، وهو إلتفاتٌ إذ هو خروج من غيبةٍ إلى تكلمٍ بنون العظمة، وقرأ الأعمش {يُؤْتِهِ} بالياء فيهما، وفي {سَيجْزِي} وهو على ما سبق من الغيبة.

وأدغم (3) أبو عمرو وحمزة والكسائي، وابن عامر، بخلاف عنه دال {يُرِدْ} في الثاء والباقون بالإظهار. وقرأ أبو عمرو بالإسكان في هاء {نُؤْتِهِ} في الموضعين وصلًا ووقفًا، وقالون وهشامٌ بخلاف عنه بالاختلاس وصلًا، والباقون بالإشباع وصلًا. فأما السكون فقالوا: إنَّ الهاء لما حلت محل ذلك المحذوف أعطيت ما كان تستحقه من السكون، وأما الاختلاس فلأستصحاب ما كانت عليه الهاء قبل حذف لام الكلمة، فإن الأصل نؤتيه فحذفت الياء للجزم، ولم يعتد

(1) المراغي.

(2)

البحر المحيط.

(3)

الفتوحات.

ص: 165