المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى

الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" رواه مسلم.

وروى البخاري غيره: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا".

والحفاظ لوحدة الأمة، ومناط بقاء جامعتها أمر بعض أفرادها بعضًا بالاستمساك بالخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

ثم ذكر ما حل باليهود من الذل والصغار بسبب البغي والعدوان.

التفسير وأوجه القراءة

‌104

- {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} ؛ أي: ولتوجد منكم يا معشر المؤمنين {أُمَّةٌ} ؛ أي: جماعةٌ متميزةٌ يقتدي بها فرق الناس {يَدْعُونَ} الناس {إِلَى الْخَيْرِ} ويحثونهم على ما فيه صلاح معاشهم، ومعادهم، فأفضل الدعوة، الدعوة إلى توحيد الله وإلى إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات، وإلى تقديسه عن الأنداد والشركاء، وعن مشابهة المخلوقات في ذاته، وصفاته، وأفعاله؛ لأنها أساس الدين ومبنى الإيمان.

{وَيَأْمُرُونَ} الناس {بِالْمَعْرُوفِ} شرعًا، والمعروف كلُ ما استحسنه الشرع والعقل، والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبًا .. فواجب، وإن كان مندوبًا .. فمندوب {وَيَنْهَوْنَ} الناس {عَنِ الْمُنْكَرِ} شرعًا، والمنكر ضد المعروف، وهو ما عرف بالعقل، والشرع قبحه. فالنهي عن الحرام واجب كله، لأن تركه واجب. وهذه الأمور من فروض الكفاية؛ لأنها لا تليق إلا من العالم بالحال، وسياسة الناس حتى لا يوقع المأمور، أو المنهي في زيادة الفجور، فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل، وأمر بالمنكر، ونهى عن المعروف، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة.

وقوله (1){وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} من باب عطف الخاص على العام؛ إظهارًا لترفهما، وأنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله عباده بالدعاء إليه كما قيل، في عطف جبريل وميكال على الملائكة، وحذف مفعول

(1) الشوكاني.

ص: 50

الأفعال الثلاثة إيذانًا بالعموم؛ أي: كل من وقع منه سبب يقتضي ذلك.

وقرأ الجمهور (1){وَلْتَكُنْ} بإسكان اللام، وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، والزهري، وعيسى بن عمر، وأبو حيوة، بكسرها، وعلة بنائها على الكسر مذكورةٌ في كتب النحو، وسنبينها لك في مقام الإعراب إن شاء الله تعالى.

وقرأ عثمان وعبد الله بن الزبير {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم} قال أبو بكر ابن الأنباري: وهذه الزيادة تفسيرٌ من ابن الزبير، وكلام من كلامه، غلط فيه بعض الناقلين عنه، فألحقه بألفاظ القرآن، وقد روي عن عثمان كما مر آنفًا أنه قرأها كذلك، ولكن لم يكتبها في مصحفه، فدل على أنها ليست من القرآن.

وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع مقامها.

فائدة (2): ويشترط فيمن يقوم بهذه الدعوة شروط أربعةٌ؛ ليؤدي وظيفته خير الأداء، ويكون مثلًا صالحًا يحتذى به في علمه وعمله:

الأول: أن يكون عالمًا بالقرآن والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاءِ الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.

الثاني: أن يكون عالمًا بحال من توجه إليهم بالدعوة في شؤونهم واستعدادهم وطباعهم وأخلاقهم، أي: معرفة أحوالهم الاجتماعية.

والثالث: أن يكون عالمًا بلغة الأمة التي يراد دعوتها، وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة بتعلم العبرانية لحاجته إلى محاورة اليهود، الذين كانوا يحاورونه ومعرفة حقيقة حالهم.

والرابع: معرفة الملل ومذاهب الأمم، وبذلك يتيسر له معرفة ما فيها من

(1) البحر المحيط.

(2)

المراغي.

ص: 51

باطلٍ، فإن الإنسان إن لم يتبين له بطلان ما هو عليه، لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره، وإن دعاه إليه، وبالجملة فلا يقوم بهذه الدعوة إلا خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام، وحكمة التشريع، وفقهه، وهم الذين أشار إليهم الكتاب الكريم بقوله:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .

وهؤلاء يقومون بتطبيق أحكام الله تعالى على مصالح العباد في كل زمان ومكان على مقدار علمهم في المساجد، والمعابد، والمنتديات العامة، وفي المحافل عند سنوح فرصةٍ. فإذا هم فعلوا ذلك كثر في الأمة الخير، وندر فيها وقوع الشر، وائتلفت قلوب أهاليها، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وسعدوا في دنياهم وآخرتهم. وأمة هذه حالها تسود غيرها من الأمم باجتماع كلمتها، واتفاق أهوائها إذ لا مطمع لها إلا رفعة شأن دينها، وعزة أبنائها وسيادتها العالم كله. ولن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدته، وكملوا أنفسهم بالمعارف والعلوم التي تحتاج إليها الأمم التي تبغي السعادة والرقي، وتخلقوا بفاضل الأخلاق، وحميد الصفات حتى يكونوا مثلًا عليا يحتذى بها، ويشار إليهم بالبنان.

وإن ما أودع في ديننا من هذا، وما خلفه لنا السلف الصالح من الكنوز والثروة العلمية، فيه غنية لمن يريد الخير والفلاح، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن خير الناس، فقال:"آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم للرحم".

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم".

وعن علي رضي الله عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن غضب لله غضب الله له. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع

ص: 52