المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فعلموا أن المسلم ما خلق للهو واللعب، ولا للكسل، والتواكل، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: فعلموا أن المسلم ما خلق للهو واللعب، ولا للكسل، والتواكل،

فعلموا أن المسلم ما خلق للهو واللعب، ولا للكسل، والتواكل، ولا لنيل الظفر، ونيل السيادة، بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في المخلوقات، بل خلق ليكون أكثر الناس جدًّا في العمل، وأعظمهم تفانيًا، في أداء الواجب إتباعًا للنواميس، والسنن التي وضعها الله في الخليقة.

وقد تجلَّى أثر هذا التمحيص في الغزوات التي تلت هذه الوقعة ففي "غزوة حمراء الأسد" أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتبع المشركين فيها إلا من شهد القتال بأحد، فامتثل المؤمنون أمره بقلوب مطمئنةٍ، وعزائم صادقةٍ، وهم على ما هم عليه من الجراح المبرحة، والقلوب المتكسرة.

{وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} ؛ أي: وليهلك الكافرين في الحرب، ويستأصلهم شيئًا فشيئًا، إن كانت الغلبة للمؤمنين على الكافرين. ويجعل اليأس يسطو على قلوبهم، وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم، فلا يبقى لديهم شجاعةٌ، ولا بأسٌ، ولا قلٌّ (1)، ولا كثرٌ من عزة النفس، فيكون وجودهم كالعدم، لا فائدة فيه، ولا أثر له فالكافرون المبطلون، لا يثبت لهم حالٌ مع المؤمنين الصادقين، وإنما يظهرون إذا لم يوجد من أهل الحق والعدل في ينازعهم ويقاوم باطلهم، كما هو مشاهد في عصرنا هذا. لأن الإِسلام راح إلا الاسم، فهذه مصيبةٌ، ما أعظمها، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.

‌142

- وأم في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} منقطعةٌ عند الأكثرين تقدَّر ببل، وهمزة الإنكار، والخطاب فيه للذين انهزموا يوم أحد أي أظننتم (2) أن تدخلوا الجنة وتفوزوا بنعيمها، والحال أنه لم يجتمع فيكم الجهاد في سبيل الله، والصبر فيه على مشاقه؟ أي: لا تحسبوا دخولها {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} . أي؛ والحال: أنه لم ير الله المجاهدين منكم في سبيل الله

(1) وَقُلُّ الشيء: عُلُوَّهُ وارتفاعه، يقال: قَلَّ الشي يَقِلُّ - من باب ضرب - قِلًّا وقَلًّا إذا علا وكُثْرُ الشيء عظمته. اهـ مؤلفه.

(2)

مراح.

ص: 155

يوم أحد، ولم ير الصابرين على قتال عدوّهم مع نبيهم؛ أي: لا تحسبوا (1) أن تدخلوا الجنة بدون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد من جراحٍ، وألم، وكل مكروه، وأريد بحالة نفي علم الله بالذين جاهدوا، والصابرين الكناية عن حالة نفي الجهاد، والصبر عنهم. لأن الله إذا علم شيئًا فذلك المعلوم محقق الوقوع، فكما كنى بعلم الله عن التحقق في قوله:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} كنى بنفي العلم عن نفي وقوع اجتماع الجهاد والصبر فيهم، فكأنه، قال: لا تحسبوا دخول الجنة مع أنكم لم تجاهدوا، ولم تصبروا على شدائد الحرب. وقال الطبريُّ (2) المعنى: أظننتم يا معشر أصحاب محمد: أن تنالوا كرامة ربكم، ولما يتبين لعبادي المؤمنين المجاهدون منكم في سبيل الله، والصابرون عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من ألمٍ ومكروه. انتهى.

وفي هذه (3) الآية معاتبةٌ لمن انهزم يوم أحد، والمعنى: أم حسبتم أيها المنهزمون أن تدخلوا الجنة كما دخلها الذين قتلوا، وبذلوا مهجهم لربهم عن وجل، وصبروا على ألم الجراح، والضرب، وثبتوا لعدوهم يوم بدر من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم.

والخلاصة: لا تحسبوا دخول الجنة والحال أنه لم يقع منكم الجهاد مع الصبر على مكابده، وذلك بعيدٌ، وإنما استبعد هذا؛ لأن الله تعالى لما أوجب الجهاد قبل هذه الوقعة، وأوجب الصبر على تحمل متاعبه، وبين وجوه المصالح فيه في الدين والدنيا، كان عن البعيد أن يظن الإنسان أنه يصل إلى السعادة، والجنة مع إهمال هذه الطاعة.

وجهاد (4) النفس على أداء حقوق الله، وحقوق العباد مما يشق عليها احتماله، ويحتاج إلى مجاهدتها وترويضها حتى تذلل، ويسهل عليها أداء تلك الحقوق. وربما فضل هذا الجهاد جهاد الأعداء في ميدان القتال، وخوض غمار الوغى وأصعب من هذا، وأشق دعوة الأمة إلى خيرٍ لها في دينها ودنياها، أو بث

(1) التحرير والتنوير.

(2)

تفسير الطبري.

(3)

الخازن.

(4)

المراغي.

ص: 156