الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمعنى: وإذا رجع بعضهم إلى بعض أظهروا شدة العداوة على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان، صار ذلك كنايةً عن الغضب، حتى يقال في الغضبان: إنه يعضُّ يده غيظًا، وإن لم يكن هناك عضٌّ. والعرب تصف المغتاظ، والنادم بعضِّ الأنامل، والبنان، وإنما فعلوا ذلك لما رأوا من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، وصلاح ذات بينهم ونصر الله إياهم حتى عجز أعداؤهم أن يجدوا سبيلًا إلى التشفي منهم، فاضطروا إلى مداراتهم.
{قُلْ} لهم: يا محمَّد {مُوتُوا} ملتبسين {بِغَيْظِكُمْ} وغضبكم، وهذا أمرٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يدعو عليهم بدوام ما يوجب هذا الغيظ، وهو قوة الإِسلام، وأن يدعو عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون، وليس أمرًا بالإقامة على الغيظ؛ فإن الغيظ كفرٌ، والأمر بالكفر غير جائز، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى:{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} أنه تعالى أمر رسوله بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظًا بإعزاز الإِسلام، وإذلالهم به كأنه قيل: حدث نفسك بذلك.
{إنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ؛ أي: عالمٌ بما في القلوب؛ فيعلم ما تنطوي عليه صدوركم أيها المنافقون من البغضاءِ، والحقدِ، والحسد، ولا يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم، وما يبديه بعضكم لبعضٍ من تدبير المكائد، ونصب الحيل للمؤمنين، وما تنطوي عليه صدور المؤمنين من حب الخير والنصح لكم، ويجازي كلا على ما قدم من خير أو شر، واعتقد من إيمان أو كفر.
ومعنى قوله: {بِذَاتِ الصُّدُورِ} ؛ أي: بالمضمرات ذوات الصدور، وجعلت صاحبة للصدر لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها نحو أصحاب الجنة، وأصحاب النار
120
- {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} ؛ أي: إن تصبكم منفعة الدنيا كانتصاركم على أعدائكم المقاومين المعارضين لدعوتكم، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وكصحة البدن، وحصول الخصب، والفوز بالغنيمة {تَسُؤْهُمْ}؛ أي:
تحزنهم تلك الحسنة {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} ؛ أي: مضرة كمرض، وفقر، وانهزام من عدو، وقتل، ونهب، وغارة وحدوث اختلاف بين جماعتكم {يَفْرَحُوا بِهَا}؛ أي: بإصابتها إياكم؛ أي: يسر المنافقون من اليهود، وغيرهم بتلك المصيبة التي أصابتكم، فإنهم متناهون في عداوتكم فاجتنبوهم. فالحسنة (1) هنا: ما يسر من رخاءٍ، وخصبٍ، ونصرة، وغنيمة، ونحو ذلك من المنافع، والسيئة ضد ذلك.
قال (2) قتادة في بيان ذلك: فإذا رأوا من أهل الإِسلام ألفة وجماعةً وظهورًا على عدوهم غاظهم ذلك، وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإِسلام فرقةً واختلافًا، أو أصيب طرف من أطراف بلاد المسلمين سرهم ذلك، وأعجبوا به، وابتهجوا، وهم كلما خرج منهم قرن، أكذب الله أحدوثته، وأوطأ محلته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، وذلك قضاء الله تعالى فيمن مضى منهم، وفيمن بقي إلى يوم القيامة انتهى.
{وَإِنْ تَصْبِرُوا} على عداوتهم، وإذايتهم، وقيل: إن تصبروا على مشاق التكاليف فتمتثلوا الأوامر {وَتَتَّقُوا} ؛ أي: تخافوا موالاتهم، وتتوكلوا في أموركم على الله أو تتقوا كل ما نهيتم عنه وحظر عليكم، ومن ذلك اتخاذ الكافرين بطانة {لَا يَضُرُّكُمْ} أيها المؤمنون، ولا ينقصكم {كَيْدُهُمْ}؛ أي: كيد الكفار ومكرهم وحيلتهم التي دبروها لأجلكم {شَيْئًا} من الضرر بفضل الله عز وجل، وحفظه الموعود للصابرين، والمتقين؛ لأنكم قد وفيتم الله بعهد العبودية فهو يفي لكم بحق الربوبية، ويحفظكم من الآفات، والمخافات كما قال سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} والكيد: احتيال الشخص ليقع غيره في مكروه. قال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك، فاجتهد في اكتساب الفضائل. وقد جرت سنة الله في القرآن أن يذكر الصبر في كل مقامٍ يشق على النفس احتماله، ولا شك أن حبس الإنسان سره عن وديده، وعشيره، ومعامله، وقريبه، مما يشق عليه، فإن من لذات النفوس أن تفضي بما
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.
في الضمير إلى من تسكن إليه وتأنس به.
ولمَّا نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من دونهم، من خلطائهم، وعشرائهم، وحلفائهم، لما بدا منهم من البغضاء والحسد، حسن أن يذكرهم بالصبر على هذا التكليف الشاق عليهم، واتقاء ما يجب اتقاءه للسلامة من عواقب كيدهم.
وفي الآية عبرة للمسلمين في معاملة الأعداء؛ فإنَّ الله أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكافرين، واتقاءِ شرهم، ولم يأمرهم بمقابلة الشر بمثله؛ إذ من دأب القرآن أن لا يأمر إلا بالمحبة، والخير، ودفع السيئة بالحسنة كما قال:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
فإن تعذر تحويل العدو إلى محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها .. جاز دفع السيئة بمثلها من غير بغي، كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مع بني النضير؛ فإنه حالفهم، ووادَّهم فنكثوا العهد، وخانوا، وأعانوا عليه عدوه من قريش وسائر العرب، وحاولوا قتله، فلم يكن هناك وسيلةٌ لعلاجهم إلا قتالهم وإجلاؤهم من ديارهم.
وقرأ الجمهور (1){إِنْ تَمْسَسْكُمْ} بالتاء، وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل؛ لأن تأنيث الحسنة مجازيٌّ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة في رواية عنه:{لَا يَضِرْكُمْ} بفتح الياء وكسر الضاد، وسكون الراء من ضار يَضِير، ويقال: ضار يضور، وكلاهما بمعنى ضَرَّ. وقرأ الكوفيون، وابن عامر {لا يضُرُّكم} بضم الضاد والراء المشددة على الجزم بسكون مقدر للإتْباع من ضر يضر. وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه بضم الضاد، وفتح الراء المشددة للتخفيف، وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد. والفتح: هو الكثير المستعمل. وقرأ الضحاك بضم الضاد، وكسر الراء المشددة على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أُبي {لا يضرركم} بفك الإدغام، وهي لغة أهل الحجاز: وعليها في الآية {إِنْ تَمْسَسْكُمْ} ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله.
{إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {بِمَا يَعْمَلُونَ} بـ {الياء} باتفاق القراء
(1) البحر المحيط.
العشرة؛ أي: بما يعمل المنافقون من عداوتهم ومكرهم، وإذايتهم إياكم {مُحِيطٌ} فيعاقبهم عليه، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، وهي قراءة شاذة بـ {التاء} الفوقية، والمعنى عليها: إنه تعالى عالم بما تعملون من الصبر والتقوى وغيرهما، فيفعل بكم أيها المؤمنون ما أنتم مستحقون له.
والمعنى (1): إنه تعالى عالم بعمل الفريقين، ومحيط بأسباب ما يصدر من كل منهما، ومقدماته، ونتائجه، وغاياته، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما للآخر، ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه ما يعلمه ذلك المحيط بعمله، وعمل من يناهضه ويناصبه العداوة، فهداية الله للمؤمنين خير وسيلةٍ للوصول إلى أغراضهم، ومآربهم. وهذه الجملة كالعلة لكون الاستعانة بالصبر، والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح.
وخلاصة المعنى: أن الله قد دلكم على ما ينجيكم من كيد أعدائكم، فعليكم أن تمتثلوا، وتعلموا أنه محيط بأعمالهم، وهو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بكم فثقوا به، وتوكلوا عليه.
الإعراب
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} .
{لَيْسُوا} فعل ناقص، واسمه {سَوَاءً} خبرها، وجملة {ليس} من اسمها وخبرها مستأنفة. {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر مقدم. {أُمَّةٌ} مبتدأ مؤخر. {قَائِمَةٌ} صفة له. والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. وفي "الفتوحات" قوله (2):{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} استئنافٌ مبين لكيفية عدم تساويهم، ومزيلٌ لما فيه من الإبهام كما أن ما سبق من قوله تعالى:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} الخ مبين لقوله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الخ. انتهى.
{يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} .
(1) المراغي.
(2)
جمل.
{يَتْلُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صفة ثانية لـ {أُمَّةٌ} . {آيَاتِ اللَّهِ} مفعول به، ومضاف إليه. {آنَاءَ اللَّيْلِ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يَتْلُونَ} {وَهُمْ} {الواو} حالية {هم} مبتدأ، وجملة {يَسْجُدُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {يَتْلُونَ} .
{يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل. {بِاللَّهِ} جار ومجرور متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ} {وَالْيَوْمِ} معطوف على لفظ الجلالة. {الْآخِرِ} صفة لليوم. والجملة الفعلية في محل الرفع بدل من جملة {يتلون} على كونها صفة ثانية لـ {أمة} . وقال أبو البقاء: (1) إن شئت .. جعلتها حالًا، وإن شئت .. جعلتها مستانفةً انتهى. وقال أبو حيان (2): والظاهر في {يُؤْمِنُونَ} أن يكون صفة، أي: تاليةٌ مؤمنةٌ، وجوَّزوا أن تكون الجملة مستأنفةً، أو في موضع الحال من الضمير في {يَسْجُدُونَ} ، وأن تكون بدلًا من السجود. قيل: لأنَّ السجود بمعنى الإيمان {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} {الواو} عاطفة {يأمرون} فعل وفاعل {بِالْمَعْرُوفِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {يُؤْمِنُونَ} {وَيَنْهَوْنَ} {الواو} عاطفة {ينهون} فعل وفاعل {عَنِ الْمُنْكَرِ} متعلق به، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يُؤْمِنُونَ} {وَيُسَارِعُونَ} {الواو} عاطفة. {يسارعون} فعل وفاعل. {فِي الْخَيْرَاتِ} متعلق به، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يُؤْمِنُونَ} . {وَأُولَئِكَ} {الواو} استئنافية {أولئك} مبتدأ. {مِنَ الصَّالِحِينَ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة.
{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} .
{وَمَا يَفْعَلُوا} {الواو} استئنافية {ما} اسم شرط جازم يجزم فعلين في
(1) أبو البقاء.
(2)
البحر المحيط.
محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. {يفعلوا} فعل وفاعل مجزوم بما على كونه فِعْلَ شرط لها. {مِنْ خَيْرٍ} متعلق بـ {يَفْعَلُوا} أو حال من ما {فَلَنْ} : {الفاء} : رابطة لجواب {ما} الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بـ {لَنْ}. {لن}: حرف نفي ونصب. {يُكْفَرُوهُ} فعل مضارع، مغير الصيغة منصوب بـ {لن} ، و {الواو} نائب فاعل له، وهو المفعول الأول، و {الهاء} في محل النصب مفعول ثان له؛ لأنه ضُمِّن معنى حُرم فيتعدى إلى مفعولين، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {ما} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ما الشرطية من فعل شرطها، وجوابها مستأنفة. {وَاللَّهُ} الواو استئنافية {الله} مبتدأ {عَلِيمٌ} خبره {بِالْمُتَّقِينَ} متعلق بـ {عَلِيمٌ} .
{إِنَّ} حرف نصب وتوكيد. {الَّذِينَ} في محل النصب اسمها {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، {لَن} حرف نفي ونصب. {تُغْنِيَ} فعل مضارع منصوب بـ {لَن} {عَنْهُمُ}: جار ومجرور متعلق به. {أَمْوَالُهُمْ} فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} مستأنفة. {وَلَا أَوْلَادُهُمْ} الواو عاطفة {لا} زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. {أَوْلَادُهُمْ} معطوف على {أَمْوَالُهُمْ} {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور حال من {شَيْئًا} لأنه صفة نكرة، قدمت عليها، فيعرب حالًا {شَيْئًا} مفعول به منصوب بـ {تُغْنِيَ} .
{وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
{وَأُولَئِكَ} {الواو} استئنافية {أولئك أصحاب النار} مبتدأ وخبر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {هُمْ} مبتدأ. {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدُونَ} وهو خبر عن المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من {أَصْحَابُ النَّارِ} .
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} .
{مَثَلُ} مبتدأ، وهو مضاف و {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الجر
مضاف إليه. {يُنْفِقُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لِـ {ما} أو صفة لها، والعائد محذوف تقديره: ينفقونه {فِي هَذِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {يُنْفِقُونَ} . {الْحَيَاةِ} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عنه. {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةِ} {كَمَثَلِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة {مثل} مضاف. {رِيحٍ} مضاف إليه {فِيهَا} جار ومجرور خبر مقدم. {صِرٌّ} مبتدأ، والجملة في محل الجر صفة لـ {رِيحٍ} . وفي "الفتوحات"(1) ويجوز أن يكون فيها وحده هو الصفة و {صِرٌّ} فاعل به، وجاز ذلك لاعتماد الجار على الموصوف، وهذا أحسن؛ لأن الأصل في الأوصاف الإفراد، وهذا قريب منه انتهى.
{أَصَابَتْ} فعل ماض، و {التاء} علامة التأنيث، وفاعله ضمير يعود على {رِيحٍ} والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ {رِيحٍ}. {حَرْثَ قَوْمٍ}: مفعول به، ومضاف إليه. {ظَلَمُوا} فعل وفاعل. {أَنْفُسَهُمْ} مفعول به؛ ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {قَوْمٍ} {فَأَهْلَكَتْهُ} الفاء: عاطفة، {أهلكته} فعل ومفعول. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} {الواو} استئنافية. {ما} نافية {ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. {وَلَكِنْ} الواو عاطفة. {لكن} حرف استدراك. {أَنْفُسَهُمْ} مفعول به مقدم على عامله، ومضاف إليه {يَظْلِمُونَ} فعل وفاعل، وجملة الاستدراك معطوفة على جملة النفي.
{يا} حرف نداء. {أيُّ} منادى نكرة مقصودة في محل النصب مبني على الضم. {ها} حرف تنبيه زِيدَت تعويضًا عمَّا فاتَ {أيُّ} من الإضافة. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الرفع، أو النصب صفة لـ {أيُّ} وجملة النداء مستأنفة
(1) جمل.
{آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {لَا تَتَّخِذُوا} {لا} ناهية. {تَتَّخِذُوا} فعل وفاعل مجزوم {بلا} الناهية، والجملة، جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {بِطَانَةً} مفعول به. {مِنْ دُونِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه صفة أولى لـ {بِطَانَةً} {لَا يَأْلُونَكُمْ} {لا} نافية. {يَأْلُونَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول. و {يَألُو} يتعدى لمفعول واحد، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ {بِطَانَةً} {خَبَالًا} منصوب على التمييز، أو على نزع الخافض تقديره:{لا يألونكم} في تخبيلكم، ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال {وَدُّوا} فعل وفاعل. {مَا عَنِتُّمْ} {مَا} مصدرية. {عَنِتُّمْ} فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لـ {ما} المصدرية. {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره؛ ودوا عنتكم، وجملة {وَدُّوا} من الفعل والفاعل مستأنفة، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير، في {يَأْلُونَكُمْ} ، و {قد} مقدرةٌ معه حينئذٍ.
{قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} .
{قَدْ} حرف تحقيق. {بَدَتِ الْبَغْضَاءُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل {يَأْلُونَكُمْ} {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {بَدَتِ} أو حال من {الْبَغْضَاءُ} ، تقديره: حالة كون البغضاء ظاهرةً من أفواههم {وَمَا تُخْفِي} {الواو} استئنافية. {ما} موصولة في محل الرفع مبتدأ. {تُخْفِي صُدُورُهُمْ} فعل وفاعل، ومضاف إليه. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وما تخفيه. {أَكْبَرُ} خبر المبتدأ والجملة مستأنفة.
{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} .
{قَدْ} حرف تحقيق {بَيَّنَّا} فعل وفاعل {لَكُمُ} جار ومجرور متعلق به {الْآيَاتِ} مفعول به، والجملة مستأنفة. {إِنْ كُنْتُمْ} إن حرف شرط. {كنتم} فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بأن على كونه فعل شرط لها. وجملة {تَعْقِلُونَ} خبر {كان} ، وجواب {إنْ} معلوم ممَّا قبلها تقديره: إن كنتم تعقلون فلا توالوهم، وجملة إن الشرطية مستأنفة.
{هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} .
{ها} حرف تنبيه لتنبيه المؤمنين المخاطبين على خطئهم في موالاة الكفار. {أنتم} مبتدأ. {أُولَاءِ} منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء في محل النصب على المفعولية مبني على الكسر لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ وإنما حُرِّك فرارًا من التقاء الساكنين، وكانت الحركة كسرةً لأنها الأصل في حركة التخلص، وجملة النداء معترضةٌ لاعتراضها بين المبتدأ والخبر. {تُحِبُّونَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الإسمية مستأنفة. {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} الواو حالية {لا} نافية. {يُحِبُّونَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من الهاء في {تُحِبُّونَهُمْ} {وَتُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {تُحِبُّونَهُمْ} {بِالْكِتَابِ} متعلق بـ {تؤمنون} {كُلِّهِ} توكيد لـ {الكتاب} ومضاف إليه.
{وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} .
{وَإِذَا لَقُوكُمْ} الواو عاطفة. {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {لَقُوكُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، والظرف متعلق بالجواب، وجملة {إذا} من فعل شرطها، وجوابها في محل الرفع معطوفة على جملة قوله {تحبونهم} على كونها خبر المبتدأ {آمَنَّا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالُوا} .
{وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} .
{وَإِذَا} {الواو} عاطفة {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {خَلَوْا} فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرطٍ لها. {عَضُّوا} فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا في محل الرفع معطوفة على جملة قوله {تُحِبُّونَهُمْ} على كونها خبر المبتدأ {عَلَيْكُمُ} جار ومجرور متعلق بـ {عضوا} . {الْأَنَامِلَ} مفعول به منصوب بـ {عضوا} . {مِنَ الْغَيْظِ} جار ومجرور متعلق بـ {عضوا} أيضًا. وفي "الفتوحات"
قوله {تُحِبُّونَهُمْ} خبر عن المبتدإ، وكذلك قوله {وتؤمنون} الخ. وقوله:{وَإِذَا لَقُوكُمْ} وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا} وقوله: {إن يمسسكم} الخ انتهى شيخنا.
{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
{قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد صلى الله عليه وسلم، والجملة مستأنفة. {مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} مقول محكي، وإن شئت قلت:{مُوتُوا} فعل وفاعل. {بِغَيْظِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل تقديره: ملتبسين بغيظكم، والجملة في محل النصب مقول القول. {إِنَّ} حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ} اسمها. {عَلِيمٌ} خبرها {بِذَاتِ الصُّدُورِ} جار ومجرور، ومضاف إليها متعلق بعليم، وجملة إن مستأنفة أو مقول القول لـ {قل} .
{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} .
{إنْ} حرف شرط جازم. {تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها. {تَسُؤْهُمْ} فعل ومفعول مجزوم بـ {إن} على كونه جواب شرط لها، والفاعل ضمير يعود على حسنة، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على جملة {تُحِبُّونَهُمْ} على كونها خبر المبتدأ. {وَإِنْ تُصِبْكُم} {الواو} عاطفة. {إن} حرف شرط. {تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} فعل ومفعول، وفاعل مجزوم بـ {إنْ} على كونها فِعْلَ شرط لها. {يَفْرَحُوا} فعل وفاعل، مجزوم بـ {إن} على كونه جوابًا لها. {بِهَا} متعلق به، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة قوله:{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} .
{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} .
{وَإِنْ} {الواو} استئنافية. {إن} حرف شرط. {تَصْبِرُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {إنْ} على كونه فِعْل شرط لها. {وَتَتَّقُوا} الواو عاطفة {تتقوا} فعل وفاعل معطوف على {تَصْبِرُوا} {لَا يَضُرُّكُمْ} {لا} نافية. {يضركم} فعل مضارع ومفعول مجزوم بـ {إنْ} على كونه جواب الشرط لها. {كَيْدُهُمْ} فاعل ومضاف إليه {شَيْئًا} منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة مصدر محذوف
تقديره: ضررًا شيئًا، وجملة إن الشرطية مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} {إنَّ} حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ} اسمها. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {مُحِيطٌ} الآتي. {يَعْمَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: يعملونه. {مُحِيطٌ} هو خبر إن مرفوع وجملة {إنَّ} من اسمها وخبرها مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
{لَيْسُوا سَوَاءً} سواء: اسم مصدر بمعنى الاستواء، ويوصف به على أنه بمعنى مستوٍ، فيحتمل حينئذ ضميرًا، ويرفع الظاهر. ومنه قولهم: مررت برجلٍ سواءٍ والعدم، برفع العدم على أنه معطوف على الضمير المستكن في سواء، ولا يثنى ولا يجمع، إما لكونه في الأصل مصدرًا، وإما للاستغناء عن تثنيته بتثنية نظيره، وهو سِيٌ بمعنى مثل تقول: ما سيَّان، أي؛ مثلان ويستعمل للواحد، والمثنى، والجمع بلفظ واحد، فيقال: هما سواء وهم سواءٌ.
{آنَاءَ اللَّيْلِ} الآناء: الساعات، وفي مفردها: لغاتٌ خمسٌ: إنىً كـ (معىً)، وأنىً كـ (فتىً)، وإنىٌ كـ (نحىٌ)؛ وأنىٌ كـ (ظبيٌ)؛ وإنو كجرو. فالهمزة في آناء منقلبة عن ياء على اللغات الأربعة الأولى كرداء، وعن واوٍ على اللغة الأخيرة نحو كساء، وكل واحد من هذه المفردات الخمس يطلق على الساعة من الزمان كما يؤخذ من "القاموس".
{أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} الأمة الجماعة، ويجمع على أمم. قائمة: أي مستقيمة عادلة من قولك: أقمت العود فقام أي: استقام {يَتْلُونَ} التلاوة القراءة، وأصلها: الاتباع فكأنها إتباع اللفظ اللفظ.
{وَيُسَارِعُونَ} من سارع - من باب فاعل - يسارع مسارعة، ولكن المفاعلة ليست على بابها، بل للمبالغة في معنى الثلاثي. والمسارعة في الخير: فرط الرغبة فيه؛ لأن من رغب في الأمر يسارع في توليه والقيام به، والمعنى يبادرون مع كمال الرغبة في فعل أصناف الخيرات القاصرة والمتعدية.
{فِيهَا صِرٌّ} الصر البرد الشديد المحرق، قاله ابن عباس، وأصله من الصرير الذي هو الصوت من قولهم: صر الشيء إذا صوت، ويراد به الريح الشديدة الباردة.
{بِطَانَةً} : بطانة الرجل، وكذا وليجته من يعرفه أسراره ثقة به، مشبهٌ ببطانة الثوب يقال: بطن فلان من فلان بطونًا، وبطانة إذا كان خاصًّا به داخلًا في أمره. وفي "الفتوحات" بطانة الرجل خاصته الذين يباطنهم في الأمور، ولا يظهر غيرهم عليها مشتقةٌ من البطن انتهى.
{لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} يألونكم من ألا في الأمر يألو من باب دعا وسما إذا قصر فيه، ويقال: لا آلوك نصحًا أي: لا أمنعك نصحًا، ولا آلوك جهدًا أي لا أنقصك جهدًا، ويقال: آلوت في الأمر إذا قصرت فيه. والخبال والخبل: الفساد الذي يلحق الحيوان، يقال في قوائم الفرس؛ خبل وخبال، أي: فسادٌ من جهة الاضطراب؛ والخبال أيضًا النقصان، ومنه رجلٌ مخبول ومخبلٌ، ومختبلٌ إذا كان ناقصَ العقلِ ويقال: خَبَل من باب ضرب فهو خابل، وخبله بالتشديد فهو مخبل. {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} يقال: ود الشيء إذا أحبه. والعنت المشقة، وشدة الضرر. وقال الراغب: هنا المعاندة والمعانتة متقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة هي: أن يتحرى مع الممانعة المشقة، ويقال: عنت الأمر إذا شق من باب فرح. {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ} البغضاء مصدر كالسراء، والضراء يقال: منه بغض الرجل، فهو بغيض كالظريف كظرف فهو ظريف.
{والأفواه} معروفة، وهو جمع فم، وأصله فوه فلامه هاء يدل على ذلك جمعه على أفواه، وتصغيره على فويه، والنسب إليه فوهي، وهل وزنه فعل بسكون العين، أو فعل بفتحها؟ خلاف للنحويين انتهى. سمين. وفي الفم تسع لغات، ذكرت في بعض كتب النحو {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ} والعض: وضع الأسنان على الشيء بقوة، والفعل منه على فعل بكسر العين، يقال: عضضت بكسر العين في الماضي: أعض بالفتح في المضارع عضًّا وعضيضًا. والعض كله بالضاد إلا في قولهم: عظ الزمان إذا اشتد، وعظت الحرب إذا اشتدت، فإنهما
بالظاء أخت الطاء. والأنامل جمع أنملة، وهي رؤوس الأصابع، وقال ابن عيسى: أصلها النمل المعروف، وهي مشبهة به في الدقة، والتصرف بالحركة ومنه رجل نمل أي: نمام.
وعض الأنامل كناية عن شدة الغيظ والغضب {مِنَ الْغَيْظِ} والغيظ: مصدر غاظه يغيظه إذا أغضبه، وفسره الراغب: بأنه أشد الغضب، قال: وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من نوازف دم قلبه. {بِذَاتِ الصُّدُورِ} ؛ أي: بالخواطر القائمة بالقلب، والدواعي التي تدعو إلى الأفعال. فذات هنا تأنيث ذي بمعنى صاحبة الصدور، وجعلت صاحبة الصدور لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها.
{كَيْدُهُمْ} الكيد المكر، وهو مصدر: كاده يكيده إذا مكر به، وهو الاحتيال بالباطل. قال ابن قتيبة: وأصله المشقة من قولهم: فلان يكيد بنفسه؛ أي: يعالج مشقات النزع وسكرات الموت.
البلاغة
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أتى بالجملة الإسمية لتدل على الدوام والاستمرار، كما أتى بالجملة الفعلية في قوله:{يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} ، وفي قوله:{يَسْجُدُونَ} للدلالة على التجدد والحدوث.
والإشارة بالبعيد في قوله: {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} لبيان علو درجتهم وسمو منزلتهم في الفضل {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} فيه تشبيه تمثيلي حيث شبه ما كانوا ينفقونه في المفاخر، وكسب الثناء بالزرع الذي أصابته الريح العاصفة الباردة فدمرته وجعلته حطامًا.
{لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} فيه استعارة حيث شبه الأصفياء ببطانة الثوب الملتصقة به، واستعير اسم المشبه به للمشبه على طريقة الاستعارة الأصلية، والجامع شدة الالتصاق على حد:"الناس دثارٌ والأنصار شعارٌ".
وقال أبو حيان: تضمنت هذه الآيات ضروبًا من أنواع الفصاحة والبلاغة:
منها: التكرار في قوله: {أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ} والاكتفاء بذكر بعض الشيء
عن كله إذ كان فيه دلالة على الباقي في {يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
ومنها: المقابلة في قوله: {وَيَأْمُرُونَ} {وَيَنْهَوْنَ} ، وفي قوله:{بِالْمَعْرُوفِ} و {الْمُنْكَرِ} ويجوز أن يكون طباقًا معنويًّا، وفي قوله:{حَسَنَةٌ} و {سَيِّئَةٌ} و {تَسُؤْهُمْ} هو {يَفْرَحُوا} .
ومنها: الاختصاص في قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} ، و {أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} .
ومنها: التشبيه في قوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} ، و {بِطَانَةً} و {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} ، و {تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} و {تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} شبه حصولهما بالمس والإصابة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {ظَلَمَهُمُ} و {يَظْلِمُونَ} .
ومنها: تسمية الشيء باسم محله في قوله: {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} عبر بها عن الألسنة؛ لأنها محلها.
ومنها: الحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
المناسبة
مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة، ثم أعلمهم ببغضهم إياهم، ثم أمرهم بالصبر والتقوى، وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئًا .. ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد، وما كان فيها من كيد المنافقين، إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا، ثم خرجوا معهم، وانشقوا عنهم في الطريق، ورجعوا بثلث الجيش، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، واتبعه في الانخذال، والرجوع ثلاث مئة رجل من المنافقين، وغيرهم من المؤمنين، ليوقع الفشل بين صفوف المسلمين، ويخذلوهم أمام عدوهم، وما كان من كيد المشركين، وتألبهم عليهم، ولم يكن لذلك من واق إلا الصبر - حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا مواقعهم - وإلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر وعنه نهى، وذكرهم أيضًا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم؛ إذ جعلوا الصبر جنتهم، وتقوى الله عدتهم، فأصابوا من
عدوهم ما أصابوا، وكان لهم الفلج والنصر عليهم مما لا يزال مكتوبًا في صحيفة الدهر مثلًا خالدًا لصدق العزيمة، والبعد عن مطامع هذه الحياة.
أسباب النزول
قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا
…
} الآية، أخرج البخاري رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} بني سلمة من الخزرج، وبني حارثة من الأوس، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول، والله وليهما، وأخرجه مسلم أيضًا.
قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الأولى من الفجر يقول: "اللهم العن فلانًا، وفلانا بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، فأنزل الله عز وجل {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله:{فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أخرجه البخاري.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أخرجه مسلم، وأخرجه أيضًا أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه. وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأحمد، وابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: "اللهم العَن فلانًا، وفلانًا لأحياء من العرب حتى أنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
استطراد دعت إليه الحاجة
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها، نزلت في غزوة أحد، فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الوقعة، ليستعين به القارئ على فهمها، ويعرف مواقع أخبارها ويستيقن من حكمها وأحكامها، ولكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشًا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وحقدوا على أهلها إيواءهم
للمسلمين، وتهددوهم، فكان لا بد من الاستعداد للدفع وقد صار النبي صلى الله عليه وسلم داعية للدين ورئيسًا لحكومة المدينة وقائدًا لجيشها.
هذا، وقد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات؛ بها انتشر الإِسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ، وقد اشترك النبي صلى الله عليه وسلم في تسع منها أشهرها.
وقعة بدر
كانت قريش ترى أن محمدًا وأصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل، ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة، وهي على طريق التجارة إلى الشام، فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة، ونالوا أول انتصارٍ لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر بئر بين مكة والمدينة كانت لرجل يسمى بدرًا، فسميت باسمه، وكانت هذه الوقعة نصرًا مؤزرًا للمسلمين، وكارثة كبرى على المشركين، وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد
أحدٌ: جبل على نحو ميل من المدينة إلى الشمال. سمي أحدًا لتوحده عن الجبال. ولما خذل المشركون في وقعة بدر، ورجع ففُهم إلى مكة مقهورين أخذ أبو سفيان يؤلب المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش، فاجتمعوا للحرب، وكانوا نحو ثلاثة آلاف، فيهم سبع مئة دارع، ومعهم مئتا فرس، وقائدهم: أبو سفيان بن حرب، ومعه زوجه هند بنت عتبة، وكانت جملة النساء اللاتي معهم خمس عشرة امرأة، ومعهن الدفوف يضربن بها، ويبكين على قتلى بدر، ويحرضن المشركين على حرب المسلمين، وساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاث من الهجرة. وكان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم المقام في المدينة، وقتالهم بها، ورأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم، فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة وأحدٍ، فانخذل عنه عبد الله بن أبي بن سلول في ثلث الناس ونزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الشعب من أحد،
وجعل ظهره إلى الجبل، وكان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مئة فيهم مئة دارع، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين، وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مصعب بن عمير، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ولواؤهم مع بني عبد الدار. ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان، ومعها النسوة يضربن بالدفوف وهي تقول:
وِيْهَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ
…
وِيْهَا حُمَاةَ الأَدْبَارِ
…
ضَرْبًا بِكُلِّ بَتَّارِ
وقاتل حمزة قتالًا شديدًا. ولما قتل مصعب بن عمير أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الراية لعليّ بن أبي طالب. ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة، وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بملازمته. فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين، ووقع الصراخ أن محمدًا قد قتل، وانكشف المسلمون، وأصاب العدو منهم. وكان يوم البلاء على المسلمين، وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلًا وعدة قتلى المشركين اثنين وعشرين رجلًا. ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابته حجارتهم حتى وقع، وأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول:"كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم". وجعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} .
ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشجة، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنية من ثنياته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته، وطمع فيه المشركون، وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وأصابت طلحة يومئذٍ ضربة شديدة شلت يده منها، وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجدعن الأنوف، وصلمن الآذان، واتخذن منها قلائد، وبقرت هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح، وصعد الجبل، وصرخ