الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصروا عليها إلى أن حضرهم الموت، وَيئِسوا من الحياة التي يتمتعون بها، وحينئذ يقول أحدهم: إني تبتُ الآن، وما هو من التائبين بل من المدعين الكاذبين.
والخلاصة: أن التوبةَ لمثل هؤلاء ليست مقبولةً حتمًا، فأمرهم مفوَّضٌ إلى الله تعالى، وهو العليمُ بحالهم، وحديثُ قبول التوبة "ما لم يغرغر" أو تَبلُغ روحه الحلقوم: المرادُ منه حصول التوبة النصوح، بأن يُدركَ المذنبُ قبحَ ما كان قد عمله من السيئات، ويندَمَ على مزاولتها، ويزولَ حبه لها، بحيث لو عاشَ لم يعدْ إليها، وقلَّما يحصل مثل هذا الإدراك للمصر على السيئات المستأنس بها في عامة أيام الحياة، وإنما يَحصل له إدراك العجز عنها، واليأس منها، وكراهةُ ما يتوقعه من قُرْبِ العقاب عليها عندَ الموت.
{وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} ؛ أي: وليس قبول التوبة للذين يموتون على الكفر إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب؛ أي: لا تقبل توبة لهؤلاء ولا لهؤلاء، فقد سوى الله بين الذين سوفوا توبتَهم إلى أن حضر الموتُ، وبين الذين ماتوا على الكفر، في أنَّ توبتهم لا تقبل، فكما أن المائتَ على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، كذلك المسوف إلى حضور الموت فكلٌ منهما جَاوَزَ الحد المضروب للتوبة، إذ هي لا تكون إلا عند التكليف والاختيار.
{أُولَئِكَ} المذكورون من الفريقين {أَعْتَدْنَا} وهيأنا {لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ؛ أي: مؤلمًا موجعًا في الآخرة؛ أي: هذان الفريقان اللذان استعبدَهما سلطان الشهوة، وخرَجَا عن نهج الفطرة، وهُدى الشريعةِ: أعدَدْنا وهيأنا لهم العذابَ الموجعَ في الآخرةِ، جزاءًا وفاقًا لما اكتسَبت أيديهم من السيئات مع إصرارهم عليها حتى المماتِ، إذ أنهم أفسدوا قلوبَهم، ودسوا نفوسَهم، فصارت تهبط بهم خَطَايَاهم إلى الدرك الأسفل من النيران، والهَوَان، وتعجز عن الصعود إلى معاهد الكرامةِ والرضوانِ، وهذه الجملة تأكيدٌ لعدم قبول توبتهم.
19
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ ورسوله {لَا يَحِلُّ} ، ولا يجوز {لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ} عَيْنَ النساء وذاتها بنكاحِهن {كَرْهًا} أي مكرهات غيرَ راضيات له إذا
مات أقاربُكم عنهن؛ أي: لا يحل لكم أيها المؤمنون: أن تسيروا على سنةِ الجاهلية في هضم حقوق النساء، فتجعلوهن ميراثًا لكم، كالأموال، والعبيد، وتتصرفوا فيهن كما تَشاءُون، وهنَّ كارهات لذلك، فإن شاء أحدكم تزوج امرأةَ من يموت من أقاربه، وإن شاء زوجها غيره، وإن شاء أمسكها ومَنَعَها الزواجَ، كما مر بيان ذلك كله في أسباب النزول.
{و} كذلك {لا} يحل لكم أيها المؤمنون أن: {تَعْضُلُوهُنَّ} وتحبسوهن في نكاحكم، وتضيّقوا عليهن بسوء العشرة، حتى أُلْجِئَت إلى الافتداء بمالها {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}؛ أي: لتأخذوا منهن، وتردوا عنهن بعضَ ما أعطيتموهن من المهور بسبب اختلاعهن، ومن باب أولى أَخَذُ الجميع. وقرأ ابن مسعود، {ولا أن تعضلوهن} وهذه القراءة تقوي احتمالَ النصب على احتمال الجزم، وقال ابن عطية: واحتمال النصب أقوى. انتهى؛ أي: لا يحل لكم أيها المؤمنون إرثُ ذاتِ نساءِ أقاربكم، إذا ماتوا عنهن بتزوجها كُرهًا من غير رِضَاهَا، ولا يحل لكم أيضًا العضل، والتضييق على أزواجكم اللاتي في نكاحكم، ومضارتُهن بسوء العشرة لِيُكْرِهْنَكُم، ويَضْطَرِرْنَ إلى الافتداء منكم بالمال، والصداق الذي أَخَذْنَ منكم أو بالمال الذي وَرِثَتْ من زوجها الأول، فقد كانوا يتزوجون من يعجبهم حَسْنُها، ويزوِّجون من لا تعجبهم، أو يمسكونها حتى تفتدِيَ بما كانت وَرِثَتْ من قريب الوارث، أو بما كانت أخذت من صداق ونحوه، أو بكلّ هذا، وربما كلفوها الزيادةَ إن علموا أنها تَسْطِيعها.
أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأةَ الشريفةَ فلعلها، ما توافِقُهُ فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها؛ فإذا خَطَبَها خاطبٌ، فإن أعطَتْه وأَرْضَتْهُ أذِنَ لها، وإلا عَضَلها، وكثيرًا ما كانوا يضيّقون عليهن ليفتدِينَ منهم بالمال.
وقرأ حمزة والكسائي {كَرْهًا} بضم الكاف هنا، وكذا في التوبة، وفي الأحقاف، وقرأ عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر في الأحقاف بالضم، والباقون بالفتح، وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك، قال الفراء:
الكره بالفتح: الإكراه، وبالضم: المشقةُ، فما أُكرِه عليه فهو كَرُه بالفتح، وما كان من قِبَلِ نفسه، فهو كُرْهُ بالضم.
{إِلَّا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم بفتح الياء؛ أي: بينها من يدَّعِيها، ويوضحها والباقون بالكسرة؛ أي: بينةٍ في نفسها، ظاهرة من النشوز وشَكاسة الخلق، وإيذاء الزوج وأهلِه بالبذاء والسلاطة، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب إلا أن يفحشن عليكم، وقرأ ابن عباس {مبينة} بكسر الباء وسكون الياء: من أبانَ الشيء فهو مبين؛ أي: لا تعضلوهن في حال من الأحوال، إلا في الحال التي يفعلنَ فيها بالفاحشة، المبينة، الواضحة الظاهرة، الفاضحة دون الظنة والشبهةِ، فإذا نشزن عن طاعتكم وسَاءَتْ عشرتهن، ولم ينفع معهن التأديبُ، أو تبيَّنَ ارتكابهن للزنا، أو السرقة، أو نحو ذلك من الأمور الفاحشة الممقوُتة عند الناس، فلكم حينئذ أن تعضلوهن، وتضيقوا عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق وغيره من المال؛ لأن الفُحْشَ قد أتى من جانبها، فقد عُذِرْتُم حينئذ في طلب الخلع، وإنما اشترِطَ في الفاحشة أن تكونَ مبينةً؛ أي: ظاهرةً فاضحةً لصاحبها؛ لأنه رُبَّما ظلَمَ الرجل المرأةَ بإصابتها الهفوةَ الصغيرةَ، أو بمجرد سوء الظن، والتهمة، فمن الرجال الغَيور السيء الظنّ الذي يؤاخذ بأتفه الأمور، ويعده عظيمًا.
وإنما أبيح للرجل أن يضيِّق على امرأته إذا أتت بهذه الفاحشة المبينة؛ لأنها ربما كَرِهته، ومالَت إلى غيره فتؤذيه بفاحش القول، أو الفعل؛ ليملها، ويسأم معاشرتها؛ فيطلقها؛ فتأخذ ما كان أعطاها، وتتزوج غيره، وتتمتع بمال الأول، وربما فعلت مع الثاني ما فعلت مع الأول، فإذا عَلِمَ النساء أن العضلَ والتضييقَ بيد الرجال، ومما أبيح لهم إذا هن آذينَهُم وأهنَّهم؛ فإن ذلك يكفهن عن ارتكابها، والاحتيالِ بها على أرذلِ أنواعِ الكسب.
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ؛ أي: وعاشروا أيها: الأزواج، وساكنوا مع زوجَاتِكم بالوجه المعروف في هذه الشريعة، وبَيْنَ أهلها من حسن المعاشرة؛ أي: وعليكم أيها الأزواجُ أن تحسنوا معاشرةَ نسائِكم فتُخَالطُوهُنَّ بما تألُفُه
طباعهن، ولا يستنكرهُ الشرعُ، ولا العرفُ، ولا تضيقوا عليهن في النفقة، ولا تؤذوهن بقولٍ ولا فعلٍ، ولا تقابلوهنَ بعبُوسٍ الوجه، ولا تقطيب الجَبين، والمعاشرة بالمعروفِ هو: الإنصافُ في الفعل المبيت والنفقة والإجمال في القول، وفي المَثلِ: المرأة تَسْمُنُ مِن أُذنها.
وفي كلمة المعاشرة: معنى المشاركة، والمساواة؛ أي: عاشروهنَ بالمعروف. وليعاشِرْنكم كذلك، فيجب أن يكونَ كل من الزوجين مدْعَاةً لسرور الآخر، وسبب هناءته وسعادته في معيشته، ومنزله، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} أي فإن كرهتم أيها الأزواج صحبةَ زوجَاتكِم لعيب في أخلاقِهن أو دَمامةِ في خلقهن مما ليس لهن فيه كسب، أو لتقصير في العمل الواجب عليهنَّ كخِدمةِ البيت، والقيام بشُؤونه مما لا يخلو عن مِثلِه النساء في أعمالهنَ أو لميل منكم إلى غيرهن، فَاصْبِرُوا، ولا تَعْجلُوا بمضارتهن، ولا بمفارقتهن {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} ويؤولَ الأمرُ إلى ما تحبونه من ذهابِ الكراهة وتبدلِها بالمحبة {وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ}؛ أي: في ذلك المكروه لكم {خَيْرًا كَثِيرًا} ، ونفعًا كبيرًا لكم، فجواب الشرط محذوف، والفاء في عسى معلِّلُة لذلك المحذوف، وعسَى هنَا للتحقق، لا للرجاء، والمعنَى: فإن كرهتموهن .. فاصبرُوا، ولا تفارقُوهن؛ لأنه قد ثبَتَ وحقَّ كراهتكم شيئًا وجعل الله فيه خيرًا كثيرًا. وفي "القاموس"(1) عسى للترجي في المحبوب، والإشفاق في المكروه، واجتمَعا في قوله تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية. وللشك واليقين، وقد تشبه بكاد ومن الله للإيجاب انتهى.
ومن الخير الكثير: الأولادُ الأَنْجابُ فرُبَّ امرأة يملها زوجها، ويَود فراقَها ثم يجيئه منها مَنْ تقرُّ به عَينه من الأولاد النجباء، فيَعْلَو قَدْرُها عنده بذلك.
ومن ذلك أن يصلُحَ حالها بصبره وحسن معاشرته فتكون من أعظم أسباب
(1) قاموس.
سعادته، وسروره في انتظام معيشته، وحسن خدمته، ولا سيما إذا أصيب بالأمراض، أو بالفقر، والعَوَزِ فتكون خَيْرَ سلوى وعون في هذه الأحوال، فيجب على الرجل أن يتذكر مثلَ ذلك كما يذكر أنه قلما يخلو من عيب تصبر عليه امرأته في الحال، والاستقبال، وقيل (1) أن ترى مُتَعَاشِرَين يرضى كل واحد منهما جميعَ خلق الآخر، ويقال: ما تعاشر اثنان إلا وأحدهما يتغامض عن الآخر، وفي صحيح مسلم "لا يفرك مؤمن مؤمنةً، إن كره منها خلقًا رضيَ منها آخر" وأنشدوا في هذا المعنى:
وَمَنْ لَا يُغَمِّضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيْقِهِ
…
وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيْهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ
وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ
…
يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمُ لَهُ الْدَّهْرَ صَاحِبُ
وقد جاء (2) قوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} في سِياق حديث النساء دستورًا كاملًا، وحاكمًا عادلًا إذا نحن اتبعناه كان له الأثرُ الصالح في جميع أعمالنا، وهَدَانا إلى الرشد في جميع شؤوننا فكثيرٌ ممَّا يكرهُه الإنسانُ يكون له فيه الخَيْرُ، ومتى جاء ذلك الخير .. ظهرَتْ فائدةُ ذلك الشيء المكروه، والتجارب أصدَقُ شاهد على ذلك، فالقتال لأجل حماية الحقِ والدِّفاع عنه، يكرهه الطبع لما فيه من المشقة، لكن فيه إظهار الحق، ونصرُه ورفعة أهله، وخذلان الباطل وحزبه، على أنَّ الصبرَ على احتمالِ المكروه يمرن النفسَ على احتمال الأذى، ويعودها تحملَ المشاق في جسيم الأمور، وبالجملة: فالإحسان إلى النساء من مكارم الأخلاق، وإن وقعَتْ منهن الإساءَةُ لما في الحديث "يغلبن كريمًا، ويغلبهن لئيم، فأحب أن أكون كريمًا مغلوبًا، ولا أحب أن أكون لئيمًا غالبًا".
والخلاصة: أن الإِسلام وصى أهلَه بحسن معاشرة النساء، والصبر عليهن، إذا كَرِهَهُنَّ الأزواجُ رجاءَ أن يكون فيهن خير كثير، ولا يبيحُ عضلَهن افتِدَاؤهن أنفسهن بالمال، إلا إذا أتين بفاحشة مبينة بحيث يكون إمساكهن سببًا في مهانة
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.