المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته، وبقاؤه يدل - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته، وبقاؤه يدل

صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته، وبقاؤه يدل على قدرته، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها".

‌191

- قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ} نعت {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ويجوز قطعه إلى الرفع، أو إلى النصب، بتقدير أمدح مثلًا؛ أي: أولو الألباب هم الذين يكررون ذكر الله من التهليل، والتسبيح، والتحميد، مثلًا بألسنتهم، ويستحضرون عظمة الله في قلوبهم، ويتذاكرون حكمته وفضله وجليلَ نعمه في جميع أحوالهم في حال كونهم {قِيَامًا}؛ أي: قائمين {و} في حال كونهم {قعودًا} ؛ أي: قاعدين، {و} في حال كونهم مضطجعين {على جنوبهم} جمع جنب ومستلقين على ظهورهم.

والخلاصة: أنهم هم الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره، واستغراق سرائرهم بمراقبته. وفي الحديث "من أحب أن يرتعَ في رياض الجنة، فليكثر ذكرَ الله".

وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل في كل أحيانه".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله ترةً، وما مشى أحد ممشىً لا يذكر الله فيه، إلا كانت عليه من الله ترة". أخرجه أبو داود. والترة: النقص، وقيل: هي هنا: التبعة.

وقال (1) علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم، وقتادة: هذا في الصلاة؛ يعني هم الذين يصلون قيامًا، فإن عجزوا فقعودًا، فإن عجزوا .. فعلى جنوبهم، والمعنى: أنهم لا يتركون الصلاةَ في حال من الأحوال، بل يصلون في كل حال، ويدومون عليها.

وأخرج البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي

(1) الخازن.

ص: 337

بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال:"صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب". وأخرجه الترمذي، وقال فيه: سألته عن صلاة المريض، وذكر نحوه.

وذكر الله وحده لا يكفي في الاهتداء، بل لا بد معه من التفكر في بديع صنعه، وأسرار خليقته، ومن ثمَ قال:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} معطوف على قوله: {يَذْكُرُونَ} . وأصل الفكر: إعمالُ الخاطر في الشيء، وتردد القلب في ذلك الشيء، وهو قوة متطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكُّر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، ولا يمكن التفكر إلا فيما له صورة في القلب، ولهذا قيل: تفكروا في ألاء الله، ولا تفكروا في ذات الله تعالى، إذ الله منزه أن يوصف بصورة؛ أي: ويتفكرون إستدلالًا، واعتبارًا في بديع صنعهما، وإتقانهما، مع عِظَمِ أجرامهما، وما أبدع الله فيهما من عجائب مصنوعاته، وغرائب مبتدعاته، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى، ويعلموا أن لهما خالقًا، قادرًا، مدبرًا، حكيمًا؛ لأن عظم آثاره، وأفعاله، تدل على عظم خالقه سبحانه وتعالى.

وَفِيْ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ

تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ

وإنما ذَكَر (1) التفكرَ في خلق الله؛ لورود النهي عن التفكر في الخالق؛ لعدم الوصول إلى حقيقة ذاته، وصفاته، فقد أخرج الأصبهاني، عن عبد الله بن سلام، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وهم يتفكرون، فقال:"تفكروا في الخلق، ولا تفكروا في الخالق".

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفكروا في آلاءِ الله، ولا تفكروا في الله تعالى". وقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} هو على تقدير القول؛ أي: يقولُ الذاكرون المتفكرون: ربنا ما خلقت هذا الذي نشاهده من العوالم العلوية، والأرضية باطلًا، ولا أبدعته عبثًا سبحانك رَبَّنا، تنزهت عن

(1) المراغي.

ص: 338

الباطل والعبث، بل كل خلقك حق مشتمل على حكَم جليلةٍ، ومصالحَ عظيمة، والإنسان بعض خلقك، لم يخلق عبثًا، فإن لحقه الفناءُ، وتفرقت منه الأجزاء بعد مفارقة الأرواح للأبدان. فإنما يهلك منه كونه الفاسدَ؛ أي: الجسم، ثم يعود بقدرتك في نشأة أخرى، كما بدأته في النشأة الأولى، فريق أطاعَكَ، واهتدى، وفريقٌ حقت عليه الضلالة، فالأول يدخل الجنة؛ بصالح أعماله، والآخر يكب في النار، بما اجترح من السيئات، وما عمل من الموبقات جزاءً وفاقًا.

وقيل معناه (1): ويتفكرون في خلق السموات والأرض قائلينَ {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {مَا خَلَقْتَ} ، وأوجدت {هَذَا} الخلق، وأخرجته إلى الوجود من العدم {بَاطِلًا} وعبثًا ضائعًا بلا حكمة بل خلقتَهُ دليلًا على وحدانيتك، وكمال قدرتك {سُبْحَانَكَ}؛ أي: تنزيهًا لك عن أن تخلق شيئًا عبثًا لغير حكمة، وهو اعتراض، وقوله:{فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الفاء (2) دخلت فيه لمعنى الجزاء، تقديره: إذا نزهناك. فقنا عذاب النار؛ لأنه جزاء من عصى، ولم يُطع، والمعنى: فوفقنا بعنايتك لصالح العمل بما فهمنا من الدلائل، حتى يكون ذلك وقايةً لنا من عذاب النار. والمقصود من قوله:{سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} تعليم عباده كيفيةَ الدعاء، فمن أراد أن يدعو .. فليقدم الثناء على الله أولًا، ويدل عليه قوله:{سُبْحَانَكَ} ، وبعد ذلك الثناء يأتي بالدعاء، ويدل عليه قوله:{فَقِنَا} {عَذَابَ النَّارِ} .

واعلم (3): أنه تعالى لما حَكَى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله

وأبدانَهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله؛ ذكَر أنهم مع هذه الطاعة يطلبون من الله أن يقيهَم عذاب النار؛ لأنه يجوز على الله تعذيبهم؛ لأنه لا يقبحُ من الله شيء أصلًا.

واعلم (4): أن دلائلَ التوحيد في خلق هذا العالم محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائلُ الأنفس، ولا شك أن دَلائل الآفاق أعظمُ وأعجب، فلو أن الإنسان نظَر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة. رأى في تلك الورقة عرقًا

(1) الخازن.

(2)

النسفي.

(3)

مراح.

(4)

مراح.

ص: 339

واحدًا ممتدًا في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق، عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخرى حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصرُ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكمًا بالغة، وأسرارًا عجيبة، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة .. لعجز، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقةَ الصغيرة، فإذا قاس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمسِ، والقمر، والنجوم، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار، والجبال، والمعادن، والنبات والحيوان .. عَرفَ أن تلك الورقةَ بالنسبة إلى هذه الأشياءِ كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير .. عرف أنه لا سبيل له إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض، وإذا عرف بهذا البرهان قصور عقله .. لم يبقَ معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل من أن يحيط به، وصف الواصفين، ومعارف العارفين، بل يسلم أن في كل ما خلقه الله تعالى حكمًا بالغةً، وأسرارًا عظيمةً، ولا سبيل له إلى معرفتها، فعند هذا يقول {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا} الخلق العجيب {بَاطِلًا}؛ أي: بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة، وهي أن تجعلها مساكنَ للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك، وتحرزوا عن معصيتك، ومدارًا لمعايش العباد، ومنارًا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد {سُبْحَانَكَ} وهذا إقرار بعجز العقول عن الإحاطة، بآثار حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض؛ أي: إن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة. لم يعرفوا منها إلا هذا القدر، وهو أن خالِقَها ما خلقَها باطلًا، بل خلقها لحكم عجيبةٍ، وأسرار عظيمةٍ، وإن كانت العقول قاصرةً عن معرفتها {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} للإخلال (1) بالنظر فيه، والقيام بما يقتضيه، وفائدة هذه الفاء: هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقتَ السموات والأرض، حملهم على الاستعاذة.

ثم إنهم بعد أن يدعو ربهم أن يقيهم دخولَ النار يتوجهون إليه قائلين:

(1) البيضاوي.

ص: 340