المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أربعة رجال منكم على زناهن، برؤية العورتَين يتداخلان كالعُود في - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: أربعة رجال منكم على زناهن، برؤية العورتَين يتداخلان كالعُود في

أربعة رجال منكم على زناهن، برؤية العورتَين يتداخلان كالعُود في المكحلة {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}؛ أي: فاحبسوهن في بيوتكم، وامنعوهن من الخروج منها، حتى لا يَعُدْنَ إلى ارتكابها مرة أخرى؛ لأن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز إلى الرجال، فإذا حُبست في البيت لم تقْدِرُ على الزنا {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ}؛ أي: إلى أن يقبض أرواحهن ملك الموت، ويمتن {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}؛ أي: أو إلى أن يبين الله، ويشرع لهن طريقًا، وحكمًا، وعقوبةً على ارتكابهن الفواحشَ، وهذا الحكم كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود، كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت، حتى تموت، ثم نسخ الحبسُ بالحدود، وجعل لهن سبيلًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا الثيب ترجم، والبكر تجلد، وتنفى".

وفي الآية (1) إشارة إلى أن منعَ النساء عن الخروج عند الحاجة إليه في غير هذه الحالة لمجرد الغيرة، أو لمجرد الهَوى والتحكم من الرجال لا يجَوزُ، وكذلك في الآية إيماء إلى أن هذه العقوبة مقرونة بما يدل على التوقيت، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه حكم كرب لذلك، وتربد وجهه فأنزل الله عليه ذاتَ يوم، فبقي كذلك فلما سُري عنه قال:"خُذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، الثيبُ بالثيب جلدُ مائة، ورَجْمُ بالحجارة، والبكر بالبكر جلدُ مائة، وتغريب عام". أخرجه مسلم. ومن هذا تعلَمُ أنَّ السبيل كان مجملًا أولًا، فبينه الحديث المذكورُ، وخصص الحديثُ أيضًا، عُمومَ آية الجلد الآتية في سورة النور، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فثبت الجلد على البكر بنص الكتاب، وثبت الرجم على الثيب المحصن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صح أن رسول الله رَجَم ماعزًا، وكان قد أُحْصِنُ وسواء في هذا الحكم المسلم، واليهودي؛ لأنه ثَبتَ في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رَجَم يهوديين زَنَيا، وكانا قد أحصنا.

‌16

- ثم بين عِقابَ كل من الزانيين البكريَنِ فقال: {وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ} ؛ أي: والبكران اللذان يفعلان الفاحشةَ

(1) المراغي.

ص: 465

من أحراركم، ويرتكبان جريمة الزنا، واللواط {فَآذُوهُمَا} بالسب باللسان، والضرب بالنعال بعد ثبوت ذلك بشهادة أربعة رجال منكم، وقيل: بالتهديد والتعيير، كأن يقال: بئس ما فعلتما، وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه، وأخرجتُما أنفسَكما عن اسم العدالة.

وهذا (1) العقاب والإيذاء كان أول الإِسلام من قبيل التعزير، وأمره مفوض إلى الأمة في كيفيته، ومقداره، فلما نزلت آية النور التي تقدم ذكرها، وجاء الحديث الشريف السابق، بينا مقدارَ هذا الإيذاءِ، وحدداه، وبهما استبان أن عقاب المرأة الثيب، والرجل المتزوج، الرجم بالحجارة حتى يموتا، وعقابَ المرأة البكر، والرجل الذي لم يتزوج جلد مائة، ونفيُهُ سنةً.

وقرأ الجمهور {واللذان} بتخفيف النون، وقرأ ابن كثير بالتشديد، وقراءة عبد الله {والذين يفعلونه منكم} وهي قراءة مخالفة لسواد مصحف الإِمام، ومتدافعة مع ما بعدها؛ إذ هذا جمع وضميرُ جمع، وما بعدهما ضميرُ تثنية، وقرىء {واللذأن} بالهمزة وتشديد النون، وتوجيهُ هذه القراءة: أنه لما شدَّدَ النون التقى ساكنان، ففرَّ القارئ من التقائهما إلى إبدال الألف همزةً تشبيهًا لها بألف فاعل المدغم عينه في لامه، كما قرئ:{ولا الضألين} {ولا جأن} .

ثم بين أنَّ هذا الإيذاءَ، والعقاب: إنما يكون إذا لم يتوبَا، فإن تابا وأصلحا. رفع عنهما ذلك فقال {فَإِنْ تَابَا}؛ أي: فإن تاب الزانيان، ورجعا عن فعل الفاحشةِ بعد زواجر الأذيَّةِ ونَدِمَا على ما فعلا {وَأَصْلَحَا} عملهما فيما بينهما، وبين الله، وغيّرا أحوالَهما كما هو شأن المؤمن، يطهر نفسه بالإقبال على الطاعة، ويزكيها من أدران المعاصي التي فَرطت منه، ويُقوي داعيةَ الخير حتى تغلب داعية الشر {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}؛ أي: فاتركوا إيذاءَهما، وكفوا الأذى عنهما بالقول والفعل، ثم علل الأمرَ بالإعراض عنهما بقوله:{إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ تَوَّابًا} ؛ أي: كثير القبول لتوبة من تاب {رَحِيمًا} ؛ أي: كثيرَ الرحمة

(1) المراغي.

ص: 466