المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قبل هذه الواقعة يظهرون الإيمان من أنفسهم، وما ظهرت منهم - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: قبل هذه الواقعة يظهرون الإيمان من أنفسهم، وما ظهرت منهم

قبل هذه الواقعة يظهرون الإيمان من أنفسهم، وما ظهرت منهم أمارةٌ تدل على كفرهم، فلما رجعوا عن عسكر المسلمين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين، وأيضًا: قولهم ذلك يدل على كفرهم؛ لأنه إما على السخرية بالمسلمين، وإما على عدم الوثوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهما كفرٌ. وقيل (1): المعنى: أنهم لأهل الكفر يومئذٍ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان.

وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} جملةٌ مستأنفة مقررة لمضمون ما تقدمها؛ أي: يظهرون بألسنتهم الإيمان الذي ليس في قلوبهم، بل الذي في قلوبهم الكفر، والنفاق، هذه صفة المنافقين لا صفة المؤمنين؛ لأن صفة المؤمن المخلص مواطأة القلب اللسان على شيء واحد، وهو التوحيد. وقال ابن عطية: ذكر الأفواه للتأكيد مثل قوله: يطير بجناحيه.

والمعنى: أنهم أظهروا أمرين ليس في قلوبهم واحدٌ منهما:

أحدهما: عدم العلم بالقتال.

والآخر: الاتباع على تقدير العلم به، وقد كذبوا فيهما، فإنهم عالمون بالقتال غير ناوين للاتباع، بل كانوا مصرين على الانخذال عازمين على الارتداد.

ثم أكد كفرهم ونفاقهم، وبين اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد، فقال:{وَاللَّهُ} سبحانه تعالى {أَعْلَمُ} ؛ أي يعلم {بِمَا يَكْتُمُونَ} من تفاصيل الأحوال ما لا يعلمه غيره من الكفر، والكيد للمسلمين، وتربص الدوائر بهم، فهو في كل حين يبين مخبآت أسرارهم، ويكشف أستارهم ثم يعاقبهم على ذلك في الدنيا والآخرة.

والخلاصة: أنه لا ينفعهم النفاق، فالله أعلم بما تكنه سرائرهم، وقلوبهم.

‌168

- وبعد أن ذكر قولًا قالوه قبل القتال، وبين بطلانه، أردفه قولًا قالوه بعده، وبين فساده وقال:{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} ؛ أي: هم الذين قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في هذه الواقعة، يعني من قتل يوم أحد من أقاربهم المؤمنين، أو من

(1) الشوكاني.

ص: 245

أمثالهم المنافقين {وَقَعَدُوا} ؛ أي: والحال أن المنافقين القائلين قد قعدوا وجلسوا عن الخروج للقتال مع النبي صلى الله عليه وسلم {لَوْ أَطَاعُونَا} ؛ أي: لو أطاع المقتولون إيانا فيما أمرناهم به من القعود، ووافقونا في ذلك، ولم يخرجوا للقتال كما لم نخرج {مَا قُتِلُوا}؛ أي: لما قتلوا يومئذٍ كما أنا لم نقتل.

وقرأ الحسن وهشام: {قُتِّلُوا} بتشديد التاء، وفي هذا إيماءٌ إلى أنهم أمروهم بالانخذال، حين انخذلوا.

أخرج ابن جرير عن السدي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف رجلٍ وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبي في ثلاث مئة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فقالوا: لو نعلم قتالًا لاتبعناكم، ولئن أطعتنا لترجعن معنا فنعى الله عليهم ذلك بقوله:{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} الآية.

وقد دحض الله تعالى حجتهم، وأبان لهم كذبهم، ووبخهم على ما قالوا، فقال لنبيه ردًّا عليهم. {قُلْ} يا محمَّد لهؤلاء المنافقين القائلين ذلك {فَادْرَءُوا}؛ أي: فادفعوا {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أن القعود ينجي من الموت.

يعني أن (1) صدور هذا القول الجازم منكم يدل على أنكم قد أحطتم علمًا بأسباب الموت في هذه الواقعة، وإذا جاز فيها جاز في غيرها، وحينئذٍ يمكنكم درء الموت ودفعه عن أنفسكم، فادفعوا عنها إن كنتم صادقين.

والخلاصة: أنكم إن كنتم صادقين في أن الحذر يغني عن القدر، وأن سلامتكم كانت بسبب قعودكم عن القتال لا بغيره من أسباب النجاة، فادفعوا سائر صنوف الموت عن أنفسكم، فإنه أحرى بكم.

والمعنى (2): أن القعود غير مغنٍ عن الموت، فإن أسباب الموت كثيرةٌ، وكما أن القتال يكون سببًا للهلاك، والقعود يكون سببًا للنجاة قد يكون الأمر بالعكس، فلا تغتروا بما قلتم.

(1) المراغي.

(2)

البيضاوي.

ص: 246

وروي (1) أنه أنزل الله بهم الموت، فمات منهم يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقًا، من غير قتال، ومن غير خروج، لإظهار كذبهم، والله أعلم.

الإعراب

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} .

{فَبِمَا} {الفاء} : فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت مما سبق لك أنهم يستحقون الملامة، والتعنيف، ولا يستحقون اللين، والسهولة، وأردت بيان سبب لينك لهم فأقول لك:{بما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم} . {الباء} حرف جر. {ما} زائدة. {رَحْمَةٍ} مجرور بـ {الباء} الجار والمجرور متعلق بـ {لِنْتَ} . {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لـ {رَحْمَةٍ} . {لِنْتَ} فعل وفاعل. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلِّق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.

{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} .

{وَلَوْ} {الواو} عاطفة. {لو} حرف شرط غير جازم. {كُنْتَ} فعل ناقص واسمه. {فَظًّا} خبرٌ أول لـ {كان} . {غَلِيظَ الْقَلْبِ} خبر ثان لها، ومضاف إليه، وجملة {كان} فعل شرط لـ {لَوْ} لا محلَّ لها من الإعراب. {لَانْفَضُّوا} {اللام} رابطةٌ لجواب {لو} . {انفضوا} فعل وفاعل. {مِنْ حَوْلِكَ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلِّق به، والجملة الفعلية جواب {لو} لا محل لها من الإعراب وجملة {لو} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب معطوفة على جملة {لِنْتَ} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.

{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} .

{فَاعْفُ} {الفاء} : فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم يستحقون الملامة والعتاب، وأردت بيان ما هو الأصلح لهم

(1) المراح بالنسفي.

ص: 247

فأقول لك: أعف عنهم. {أعف} : فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا يعود على محمَّد صلى الله عليه وسلم. {عَنْهُمْ} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} جملة فعلية معطوفة على جملة {فَاعْفُ} وكذلك جملة {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} معطوفة عليها على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.

{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} .

{فَإِذَا} {الفاء} : فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن المشاورة معهم عزيمةٌ عليك ليقتدي بك، وأردت بيان ما هو اللائق بك بعد المشاورة، والعزم على شيء فأقول لك {إِذَا عَزَمْتَ} . {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {عَزَمْتَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، والظرف متعلِّق بالجواب، وهو قوله:{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} {الفاء} : رابطةٌ لجواب {إِذَا} وجوبًا. {تَوَكَّلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد صلى الله عليه وسلم. {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا من فعل شرطها، وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ} {إِنَّ} حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ} اسمها. {يُحِبُّ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ} . {الْمُتَوَكِّلِينَ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة.

{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} .

{إِنْ} حرف شرط جازم. {يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية {فَلَا غَالِبَ} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية. {لا} نافية للجنس تعمل عمل {إِنَّ} {غَالِبَ} في محل النصب اسمها. {لَكُمْ} جار ومجرور خبر {لا} ، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة.

{وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} .

ص: 248

{وَإِنْ} {الواو} عاطفة. {إِنْ} حرف شرط جازم. {يَخْذُلْكُمْ} فعل ومفعول مجزوم بـ {إِنْ} وفاعله ضمير يعود على الله. {فَمَنْ ذَا الَّذِي} {الفاء} رابطةٌ لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبًا. {مَنْ ذَا} {مَنْ} اسم استفهام إنكاريٍّ في محل الرفع مبتدأ. {ذَا} اسم إشارة في محل الرفع خبر {مَنْ} {الَّذِي} نعت لـ {ذَا} أو بدل منه، أو عطف بيان. {يَنْصُرُكُمْ} فعل ومفعول مرفوع؛ وفاعله ضمير يعود على الموصول. {مِنْ بَعْدِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَنْصُرُ} ، والجملة الفعلية صلة الموصول. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون من وذا بمنزلة اسم واحد، كما كانت ماذا؛ لأنَّ ما أشدُّ إبهامًا من من إذا كانت مَنْ لمن يعقل. انتهى. والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية معطوفة على جملة قوله:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} على كونها مستأنفة.

{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .

{وَعَلَى} {الواو} استئنافية. {على الله} جار ومجرور متعلق بما بعده. {فَلْيَتَوَكَّلِ} {الفاء} زائدة و {اللام} : حرف طلب وجزم {يتوكل} فعل مضارع مجزوم {باللام} . {الْمُؤْمِنُونَ} : فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة.

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} .

{وَمَا} {الواو} استئنافية. {ما} نافية. {كَانَ} فعل ماض ناقص. {لِنَبِيٍّ} جار ومجرور خبر مقدم لـ {كَانَ} على اسمها. {أَنْ يَغُلَّ} {أَنْ} حرف نصب ومصدر. {يَغُلَّ} فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ} ، وفاعله ضمير يعود على {نَبِيٍّ} وجملة {يَغُلَّ} صلة {أَنْ} . {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} مؤخرًا تقديره؛ وما كان الغلول لائقًا لنبي، وجملة {كَانَ} مستأنفة.

{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

{وَمَنْ} {الواو} عاطفة. {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما كما مَرَّ مرارًا. {يَغْلُلْ} فعل مضارع

ص: 249

مجزوم بمن على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} . {يَأتِ} فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} بحذف حرف العلة على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} وجملة من الشرطية معطوفة على جملة قوله:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ} . {بِمَا غَلَّ} {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {يَأتِ} . {غَلَّ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} . {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {يَأتِ} وجملة {غَلَّ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما غلَّه.

{ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .

{ثُمَّ} حرف عطف. {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الشرط. {مَا كَسَبَتْ} {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان. {كَسَبَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على كل نفس، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كسبته. {وَهُمْ} {الواو} حالية. {هُمْ} مبتدأ. وجملة {لَا يُظْلَمُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من {كُلُّ نَفْسٍ} ؛ لأنها بمعنى الخلائق.

{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)} .

{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري داخلةٌ على محذوف على مذهب الزمخشري، تقديره: هل عرفت الفرق بين الضالّ، والمهتدي؟ والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {فَمَنِ} {اتَّبَعَ} {الفاء} عاطفة. {مَنِ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. {اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة الفعلية صلة الموصول. {كَمَنْ} جار ومجرور خبر {مَنِ} الموصول، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة المحذوفة. وعلى مذهب الجمهور الفاء استئنافية، والجملة مستأنفة. {بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} {بَاءَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} ، الجملة صلة الموصول. {بِسَخَطٍ} جار ومجرور متعلق بـ {بَاءَ} أو حال

ص: 250

من ضمير الفاعل تقديره: حالة كونه ملتبسًا بسخط من الله. {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لسخط. {وَمَأوَاهُ} {الواو} عاطفة. {مَأوَاهُ} مبتدأ، ومضاف إليه. {جَهَنَّمُ} خبر له، والجملة معطوفة على جملة الصلة، عطفًا للجملة الإسمية على الجملة الفعلية؛ أي: وكمن مأواه جهنم فيكون قد وصل الموصول بجملتين: فعلية، واسمية، ويحتمل كونها مستأنفة، وعلى كلا الاحتمالين لا محل لها من الإعراب. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} {الواو} استئنافية. {بِئْسَ} فعل ماض من أفعال الذم. {الْمَصِيرُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر للمخصوص بالذم المحذوف، تقديره: هي، يعود على جهنم، والجملة الإسمية مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .

{هُمْ دَرَجَاتٌ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {عِنْدَ اللَّهِ} ظرف، ومضاف إليه صفة لـ {دَرَجَاتٌ} تقديره: هم أصحاب درجات كائنات عند الله. وقال أبو (1) البقاء عند الله ظرف لمعنى درجات، كأنه قال: هم متفاضلون عند الله، ويجوز أن يكون صفة لـ {دَرَجَاتٌ} انتهى. {وَاللَّهُ} {الواو} استئنافية. {اللَّهُ} مبتدأ. {بَصِيرٌ} خبر له، والجملة مستأنفة. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {بَصِيرٌ} . {يَعْمَلُونَ} جملة فعلية صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما يعملونه. {اللام} موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {مَنَّ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة جوابٌ لقسم محذوف، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {مَنَّ} .

{إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .

{إِذْ} ظرف لما مضى متعلّقٌ بـ {مَنَّ} . {بَعَثَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} ، والجملة في محل الجر مضاف إليه. {فِيهِمْ}: جار ومجرور

(1) العكبري.

ص: 251

متعلقان بالفعل {بَعَثَ} . {رَسُولًا} مفعول به. {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} جار ومجرور صفة أولى لـ {رَسُولًا} . {يَتْلُو} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على رسولًا. {عَلَيْهِمْ} جار ومجرور متعلق بـ {يَتْلُو} ، وجملة {يَتْلُو} في محل لنصب صفة ثانية لـ {رَسُولًا} تقديرها: رسولًا كائنًا، منهم تاليًا عليهم. {آيَاتِهِ} مفعول به، ومضاف إليه. {وَيُزَكِّيهِمْ} {الواو} عاطفة. {يُزَكِّيهِمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {رَسُولًا} ، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يَتْلُو} على كونها صفة لـ {رَسُولًا} ، وكذلك جملة قوله:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} معطوفة على جملة {يَتْلُو} على كونها صفة ثانية وثالثة لـ {رَسُولًا} . {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} الواو حالية. {إِنْ} مخففة، من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: وإنهم. {كَانُوا} فعل ناقص واسمه. {مِنْ قَبْلُ} جار ومجرور متعلق بـ {كَانُوا} . {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {اللام} لام الابتداء فارقة بين إن المخففة، وإن النافية. {فِي ضَلَالٍ} جار ومجرور خبر {كان} . {مُبِينٍ} صفة لـ {ضَلَالٍ} وجملة {كان} الناقصة في محل الرفع، خبر إن المخففة تقديره: وإنهم لكائنون في ضلال مبين، وجملة {إن} المخففة في محل النصب حال من ضمير المفعول في {يعلمهم} .

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} .

{أَوَ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، داخلة في التقدير على قوله:{قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} . و {الواو} استئنافية على مذهب الجمهور. وقال الزمخشري: {الهمزة} داخلة على محذوف تقديره: أنسيتم فضل الله عليكم يوم بدر، ونصره لكم فيه. و {الواو} عاطفة لجملة {قُلْتُمْ} على ذلك المحذوف. {لَمَّا} ظرف بمعنى حين في محل النصب على الظرفية مبنية على السكون، والظرف متعلق بـ {قُلْتُمْ} . {أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه. {قَدْ أَصَبْتُمْ} قد حرف تحقيق. {أَصَبْتُمْ} فعل وفاعل. {مِثْلَيْهَا} مفعول به ومضاف إليه والجملة في محل الرفع صفة لـ {مُصِيبَةٌ} . {قُلْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة على مذهب الجمهور، ومعطوفة على محذوف على مذهب الزمخشري كما مرَّ آنفًا. {أَنَّى هَذَا} {أَنَّى} اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم. {هَذَا} اسم إشارة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل

ص: 252

النصب مقول لـ {قُلْتُمْ} والمعنى على مذهب الزمخشري: أنسيتم فضل الله عليكم يوم بدر، وقلتم حين أصابتكم يوم أحد مصيبةٌ قد أصبتم مثليها يوم بدر، كيف أصابتنا هذه المصيبة، ومن أين لنا هذا الخذلان، والجملة المحذوفة على مذهبه مستأنفة، كما أن المذكورة مستأنفة على مذهبهم.

{قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

{قُلْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد صلى الله عليه وسلم، والجملة مستأنفة. {هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} مقول محكي لـ {قُلْ} ، وإن شئت قلت:{هُوَ} مبتدأ. {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} جار ومجرور، ومضافان إليه خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقولٌ لـ {قُلْ} . {إِنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ} . {قَدِيرٌ} خبر {إِنَّ} ، وجملة {إِنَّ} مستأنفة.

{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)} .

{وَمَا} {الواو} استئنافية. {مَا} موصولة في محل الرفع مبتدأ. {أَصَابَكُمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {مَا} ، الجملة صلة الموصول. {يَوْمَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {أَصَابَكُمْ} . {الْتَقَى الْجَمْعَانِ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} {الفاء} رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا لشبه المبتدأ بالشرط في الإبهام نحو قولهم: الذي يأتيني فله درهم. {بِإِذْنِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، ولكنه على إضمار تقديره: فهو بإذن الله، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} {الواو} عاطفة. {اللام} حرف جر وتعليل. {يعلم} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام {كي} ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} . {الْمُؤْمِنِينَ} مفعول به؛ لأن علم هنا بمعنى أظهر يتعدى إلى مفعول واحد، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولعلمه المؤمنين الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} على كونه خبر المبتدأ، تقديره: وما أصابكم يوم التقى الجمعان، فكائنٌ بإذن الله، وكائنٌ

ص: 253

لإظهاره صبر المؤمنين.

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} .

{وَلِيَعْلَمَ} {الواو} عاطفة. {اللام} حرف جر وتعليل. {يَعْلَمَ} منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على الله. {الَّذِينَ} مفعول به ليعلم. {نَافَقُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، وجملة يعلم في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره، ولعلمه الذين نافقوا، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ} .

{وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} .

{وَقِيلَ} {الواو} عاطفة. {قِيلَ} فعل ماض مغير الصيغة. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق به. {تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} نائب فاعل محكي لقيل، وجملة {وَقِيلَ} معطوفة على جملة {نَافَقُوا} على كونها صلة الموصول، وإن شئت قلت {تَعَالَوْا} فعل أمر، وفاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لِـ {قِيلَ} . وكذلك جملة {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قَاتِلُوا} . {أَوِ ادْفَعُوا} {أَوِ} حرف عطف، وتفصيل. {ادْفَعُوا} فعل وفاعل معطوف على {قَاتِلُوا}. وقال أبو حيان (1): و {أَو} على بابها من أنها لأحد الشيئين. وقيل: يحتمل أن تكون بمعنى الواو، فطلب منهم الشيئين القتال في سبيل الله، والدفع عن الحريم والأهل، والمال، فكفار قريش لا تفرق بين المؤمن، والمنافق في القتل، والسبي، والنهب. والظاهر أن قوله:{وَقِيلَ لَهُمْ} كلامٌ مستأنف قسم الأمر عليهم فيه بين أن يقاتلوا للآخرة أو يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم، وأموالهم، حكى الله عنهم ما يدل على نفاقهم في هذا السؤال، والجواب، ويحتمل أن يكون قوله:{وَقِيلَ لَهُمْ} معطوفًا على {نَافَقُوا} فيكون من الصلة انتهى.

وفي "الفتوحات": قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا} هذه الجملة (2) تحتمل وجهين:

(1) البحر المحيط.

(2)

الجمل.

ص: 254

أحدهما: أن تكون استئنافية، أخبر الله أنهم مأمورون إما بالقتال، وإما بالدفع؛ أي: تكثير سواد المسلمين.

والثاني: أن تكون معطوفة على {نَافَقُوا} فتكون داخلة في حيز الموصول؛ أي: {وَلِيَعْلَمَ} الذين حصل منهم النفاق، والقول المذكور و {تَعَالَوْا} و {قَاتِلُوا} كلاهما قائم مقام الفاعل، لـ {قِيلَ}؛ لأنه هو المقول. قال أبو البقاء:(1) وإنما لم يأت بحرف العطف بين {تَعَالَوْا} و {قَاتِلُوا} لأنه أراد أن تكون كل من الجملتين مقصودةً بنفسها، ويجوز أن يقال: إن المقصود هو الأمر بالقتال، و {تَعَالَوْا} ذكر ما لو سكت عنه .. لكان في الكلام دليلٌ عليه، وقيل: الأمر الثاني حالٌ انتهى.

{قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} .

{قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} مقول محكي لـ {قَالُوا} وإن شئت قلت:{لَوْ} حرف شرط غير جازم. {نَعْلَمُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المنافقين. {قِتَالًا} مفعول به؛ لأن علم بمعنى عرف. {لَاتَّبَعْنَاكُمْ} {اللام} رابطة لجواب لو. {اتَّبَعْنَاكُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب وجملة لو من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول {قَالُوا} .

{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ}

{هُمْ} مبتدأ. {لِلْكُفْرِ} جار ومجرور متعلِّقٌ بأقرب الآتي. {يَوْمَئِذٍ} ظرف ومضاف إليه متعلِّقٌ بأقرب أيضًا كما ذكره أبو حيان. {أَقْرَبُ} خبر المبتدأ والجملة الإسمية مستأنفة. {مِنْهُمْ} جار ومجرور متعلق بأقرب. {لِلْإِيمَانِ} جار ومجرور متعلق بـ {أَقْرَبُ} أيضًا، و {أَقْرَبُ} تعلقت به هنا أربع ظروفات.

فإن قلت: من المعلوم أنه لا يتعلق حرفا جرٍّ متحدان لفظًا ومعنًى بعامل واحد، إلا أن يكون أحدهما معطوفًا على الآخر، أو بدلًا منه؛ فكيف تعلقا هنا بـ {أَقْرَبُ} ؟

(1) العكبري.

ص: 255

قلتُ: هذا من خواصِّ أفعل التفضيل، فإنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد، وليس أحدهما معطوفًا على الآخر، ولا بدلًا منه بخلاف سائر العوامل؛ فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد، إلا بالعطف أو على سبيل البدل.

وقال أبو البقاء: (1) وجاز أن يعمل أقرب فيهما لأنهما يشبهان الظرف، وكما عمل أطيب في قولهم: هذا بسرا أطيب منه رطبًا في الظرفين المقدرين؛ لأن أفعل يدل على معنيين: على أصل، وزيادته، فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الآخر، فتقديره يزيد قربهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان. واللام هنا على بابها، وقيل هي بمعنى إلى. انتهى.

{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} .

{يَقُولُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في {أَقْرَبُ} ، أي قربوا إلى الكفر قائلين قاله أبو البقاء. {بِأَفْوَاهِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يَقُولُونَ} . {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَقُولُونَ} . {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {مَا} . {فِي قُلُوبِهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه خبر {لَيْسَ} ، وجملة {لَيْسَ} صلةٌ لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المستتر في {لَيْسَ} . {وَاللَّهُ} {الواو} استئنافية. {اللَّهُ} مبتدأ. {أَعْلَمُ} خبر، والجملة مستأنفة. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ} . وجملة {يَكْتُمُونَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يكتمونه.

{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} .

{الَّذِينَ} في إعرابه أوجه: الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم الذين قالوا، والجملة مستأنفة أو على أنه بدل من الذين نافقوا، أو نعت له، أو على أنه مبتدأ خبره {قُلْ} الآتي، تقديره: الذين قالوا لإخوانهم، قل لهم: فادرؤوا الخ والنصب على الذم، والجر بدلًا من المجرور في {أَفْوَاهِهِمْ} أو

(1) العكبري.

ص: 256

{قُلُوبِهِمْ} . {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لِإِخْوَانِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قَالُوا} . {وَقَعَدُوا} فعل، وفاعل يجوز أن يكون معطوفًا على {قَالُوا} على كونه صلة الموصول معترضًا بين {قَالُوا} ومعموله، وهو قوله:{لَوْ أَطَاعُونَا} ، ويجوز أن يكون حالًا من {قَالُوا} وقد مقدرة، أي: وقد {قَعَدُوا} ومجيء الماضي حالًا مقترنًا بالواو وقد أو بدونهما ثابت في "لسان العرب". {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} مقولٌ. محكي لـ {قَالُوا} ، وإن شئت قلت {لو} حرف شرط. {أَطَاعُونَا} فعل وفاعل ومفعول. {مَا} نافية. {قُتِلُوا} فعل مغير ونائب فاعل، والجملة جواب {لَوْ} الشرطية لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا} .

{قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

{قُلْ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} مقول محكي لـ {قُلْ} وإن شئت .. قلت {فَادْرَءُوا} الفاء رابطة لجواب شرط محذوف معلوم من السياق تقديره: إن كنتم رجالًا دفاعين لأسباب الموت {فَادْرَءُوا} جميع أسبابه عن أنفسكم حتى لا تموتوا. {ادْرَءُوا} فعل وفاعل. {عَنْ أَنْفُسِكُمُ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {ادْرَءُوا} . {الْمَوْتَ} مفعول به وجملة {ادْرَءُوا} في محل الجزم على كونها جوابًا لشرط محذوف، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقولٌ لـ {قُلْ} . {إِنْ} حرف شرط. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه. {صَادِقِينَ} خبره، وجملة {كان} في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونها فعل شرط لها وجواب {إِنْ} معلوم مما قبله تقديره: إن كنتم صادقين في دعواكم أن التحيل والتحرز ينجي من الموت، {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} ، ولن تجدوا إلى ذلك سبلًا، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب، مؤكدةٌ للشرط المحذوف على كونها مقولًا لـ {قُلْ} والله أعلم.

التصريف ومفردات اللغة

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ} من لان يلين لينًا من باب باع، واللين في المعاملة الرفق والتلطف فيها.

ص: 257

{فَظًّا} يقال: فظَّ يَفَظُّ، وَيفِظُّ فظًّا وفظاظةً وفِظاظًا: إذا كان فظًّا، والفظ: الغليظ السيء الخلق، الخشن الكلام، يجمع على فظاظٍ، وفظوظ {غَلِيظَ الْقَلْبِ} يقال: غلظ وغلظ بالكسر، والضم، والغلظة ضد الرقة فالفظاظة الجفوة في المعاشرة قولًا وفعلًا، والغلظة التكبر ثم تجوز به عن عدم الشفقة وكثرة القسوة في القلب، فغلظ القلب عبارة عن كونه خلق صلبًا لا يلين، ولا يتأثر {لَانْفَضُّوا} الانفضاض التفرق من الأجزاء، وانتشارها يقال: نفض القوم إذا تفرقوا، وهو من باب انفعل الخماسيِّ من مزيد الثلاثي، وبناؤه للمطاوعة يقال: فضضتهم فانفضوا؛ أي: فرقتهم فتفرقوا، وأصل الفض الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك.

والمعنى (1): لو كنت فظًّا غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرقوا من حولك هيبةً لك واحتشامًا منك بسبب ما كان من توليهم، وإذا كان الأمر كما ذكر فاعف عنهم الخ {وَشَاوِرْهُمْ} قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذةً من قول العرب شرت الدابة، وشورتها إذا علمت خبرها، وقيل من قولهم: شرت العسل إذا اجتنيته، واستخرجته، وأخذته من موضعه، وثلاثيه أجوف واوي من باب قال.

{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} التوكل: إظهار العجز، والاعتماد على غيرك، والاكتفاء به في فعل ما تحتاج إليه.

{وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} في "المصباح" خذلته وخذلت عنه من باب قتل، والاسم: الخذلان إذا تركت نصرته وإعانته وتأخرت عنه.

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} يقال: غل الشي يغله غلًّا وغلولًا، من باب شد إذا أخذه خفيةً، ودسَّهُ في متاعه، فهو من المضاعف المعدى، فقياسه: ضم مضارعه. والغل: الأخذ خفية كالسرقة، ثم غلب استعماله في السرقة من المغنم قبل القسمة، ويسمى الغلول أيضًا.

{كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} السخط بفتحتين: مصدر قياسي لسخط من باب فرح، والسخط بضم فسكون، مصدر سماعيٌّ له، قال ابن مالك:

(1) الشوكاني.

ص: 258

وَفَعِلَ اللَّازِمُ بَابُهُ فَعَلْ

كَفَرَحٍ وَكَجَوَىً وَكَشَلَلْ

ثم قال:

وَمَا أَتَى مُخَالِفًا لِمَا مَضَى

فَبَابُهُ اَلنَّقْلُ كَسُخْطٍ وَرِضَا

والسخط على كلا الضبطين الغضب الشديد.

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يقال: من يمن بالضم منَّ، ومنيني عليه بكذا إذا أنعم عليه به من غير تعب، فهو من المضاعف، اللازم فقياسه: الكسر فالضم فيه شاذ، ولم يأت فيه إلَّا الضمّ.

{فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} يقال: درأه يدرؤُهُ بالفتح، من باب منع درءًا، ودرأةً إذا دفعه دفعًا شديدًا، ودرأ السيل عليه اندفع، ودرأ الرجل علينا إذا طرأ فجأة، تدارأ القوم إذا تدافعوا في الخصومة.

البلاغة

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} فيه مجازٌ بالزيادة؛ لأن {مَا} زائدةٌ للتأكيد. {إِنْ يَنْصُرْكُمُ} {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} فيهما من المحسنات البديعية: المقابلة والالتفات؛ إذ هو خروج من الغيبة إلى الخطاب، وتنويع الكلام؛ لأنه جاء في جواب {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} بصريح النفي العام حيث قال:{فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} وفي جواب {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} بالنفي المضمن في الاستفهام حيث قال: فمن ذا الذي ينصركم، وإفادة الحصر في قوله:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} بتقديم المعمول على العامل.

{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} فيه استعارةٌ بديعية، حيث جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به، وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئًا، فنكص عن اتباعه، ورجع بدونه.

{بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} التنكير فيه للتهويل؛ أي: بسخط عظيم لا يكاد يوصف {هُمْ دَرَجَاتٌ} فيه مجازٌ بالحذف؛ أي: ذَوُو درجات متفاوتةٍ متخالفةٍ.

{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} بين الكفر والإيمان الطباق.

ص: 259

{أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} فيه من المحسنات البديعية: جناس الاشتقاق.

وقال أبو حيان (1): وتضمنت هذه الآيات من صنوف البلاغة والفصاحة:

منها: الطباق في قوله: {يَنْصُرْكُمُ} و {يَخْذُلْكُمْ} وفي قوله: {رِضْوَانَ اللَّهِ} و {بِسَخَطٍ} .

ومنها: التكرار في قوله: {يَنْصُرْكُمْ} و {يَنْصُرُكُمْ} ؛ وفي الجلالة في مواضع.

ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {يَغُلَّ} ، وما {غَلَّ} .

ومنها: الاستفهام الذي معناه النفي في قوله: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ} الآية.

ومنها: الاختصاص في قوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، وفي قوله:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ} ، وفي {بِمَا يَعْمَلُونَ} خص العمل دون القول؛ لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء.

ومنها: الطباق في قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ} الآية، إذ التقدير من الله عليهم بالهداية، فيكون في هذا المقدر، وفي قوله:{لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وفي {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} والقول ظاهر و {يَكْتُمُونَ} ، وفي قوله:{قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} إذ التقدير حين خرجوا، وقعدوا هم.

ومنها: التكرار في قوله: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} لاختلاف متعلق العلم.

ومنها: الاستفهام الذي يراد به الإنكار في قوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ} .

ومنها: الاحتجاج النظري في قوله: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} .

ومنها: الحذف في عدة مواضع، لا يتم المعنى إلا بتقديرها.

والله سبحانه وتعالى أعلم

* * *

(1) البحر المحيط.

ص: 260

قال الله سبحانه جلَّ وعلا:

{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)}

المناسبة

لمَّا ذكر (1) الله سبحانه وتعالى تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه، وأنه مفضٍ إلى القتل، كما حدث يوم أحد، والقتل بغيضٌ إلى النفوس مكروه لها، ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله وقدره، كما يحدث الموت، فمن كتب عليه أن يقتل، لا يمكنه أن يبتعد من القتل، ومن لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد .. ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله،

(1) المراغي.

ص: 261

فأبان أن المقتولين شهداء أحياءٌ عند ربهم، قد خصَّهم الله بالقرب منه والكرامة لديه، وأعطاهم أفضل أنواع الرزق، وأوصلهم إلى مراتب الفرح والسرور.

وأخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمَّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات.

قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ..} الآيات، لمَّا كان من فوز المشركين في أُحد ما كان، وأصاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين شيءٌ كثير من الأذى أظهر بعض المنافقين كفرهم، وصاروا يخوفون المؤمنين، ويؤيسونهم من النصر، والظفر بعدوهم، ويقولون لهم: إنَّ محمدًا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارةً عليه، ولو كان رسولًا من عند الله .. ما غلب إلى نحو هذه المقالة، مما ينفر المسلمين من الإِسلام، فكان الرسول يحزن لذلك، ويسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسليةً له كما سلاه عما يحزن من إعراض الكافرين عن الإيمان، أو طعنهم في القرآن، أو في شخصه صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى:{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} ، وقوله:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} .

قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ ..} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لمَّا ذكر الله سبحانه وتعالى فيما سبق ما يحرض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، وبذل أنفسهم فيه بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم في جنات النعيم، شرع هنا يحث على بذل المال في الجهاد، والمال شقيق الروح، فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل، وأرشد إلى أن المال ظل زائلٌ، وأن مدى الحياة قصيرٌ، وأن الوارثين والموروثين سيموتون، ويبقى الملك لله وحده.

ص: 262

أسباب النزول

قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)

} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه الإِمام أحمد. (ج1 ص 265) حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير المكي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتهوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم، ومأكلهم، وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات على رسوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ

}.

وأخرج الترمذي وحسَّنه (ج 4 ص 84) عن جابر رضي الله عنه قال: لقيني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال يا جابر "ما لي أراك منكسرًا" فقلت يا رسول الله: استشهد أبي وترك عيالًا، ودينًا، فقال:"ألا أبشرك بما لقي الله به أباك"، قال: بلى يا رسول الله، قال:"ما يكلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجابه، وأحيا أباك، فكلَّمه كفاحًا (1) فقال: تمن عليَّ أعطيك قال: يا رب تحييني، فأقتل فيك ثانيةً، قال الرب تعالى علوًّا كبيرًا: إنه قد سبق أنهم لا يرجعون"، قال: وأنزلت هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ

} قال الشوكاني في "تفسيره": وعلى كلِّ حال، فالآية باعتبار عمومها تعم كل شهيد.

قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)} إلى قوله: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} سبب نزولها: ما روي (2) عن ابن عباس قال: لما انصرف أبو سفيان، والمشركون من

(1) كفاحًا: أي مواجهةً بدون حجاب ولا رسول.

(2)

مجمع الزوائد ولباب النقول.

ص: 263

أحد، وبلغوا الروحاء، قال أبو سفيان: لا محمدًا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئس ما صنعتم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب الناس فانتدبوا حتى بلغوا حمراء (1) الأسد، أو بئر أبي عتبة، فأنزل الله عز وجل:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} وذلك أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: موعدك موسم بدر، حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان: فرجع، وأما الشجاع: فأخذ أهبة القتال والتجارة، فأتوه، فلم يجدوا به أحدًا، وتسوقوا، فأنزل الله عز وجل:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} رواه الطبراني.

وأخرج (2) ابن مردويه عن أبي رافع، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وجه عليًّا في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابيُّ من خزاعة، فقال: إن القوم قد جمعوا لكم، قالوا {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فنزلت فيهم هذه الآية.

وأخرج (3) ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: إن الله قذف الرعب في قلب أبي سفيان يوم أحد بعد الذي كان منه، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان، قد أصاب منكم طرفا، وقد رجع، وقذف الله في قلبه الرعب، وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى، وأنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك فندب النبيُّ صلى الله عليه وسلم لينطلقوا معه، فجاء الشيطان فخوف أولياءه، فقال: إن الناس قد جمعوا لكم، فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال:"إني ذاهب"، وإن لم يتبعني أحد فانتدب معه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح، في سبعين رجلًا، فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ

} الآية.

(1) حمراء الأسد: مكان على ثمانية أميال من المدينة المنورة.

(2)

لباب النقول.

(3)

لباب النقول.

ص: 264