الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العامة، أو الأغنياء بموافقة أهوائهم لاستفادة جاههم ومالهم، وهذا كله أيضًا مما ابتلي به علاء المسلمين الآن، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
{فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ؛ أي: قبح ذلك الثمن شيئًا يشترونه، والمخصوص بالذم ذلك الثمن فكل من لم يبين الذي علم للناس، وكتم شيئًا منه لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب قلوبهم، أو لجر نفعة، أو لحياء، أو لبخل للعلم، فهو داخل تحت هذا الوعيد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سئل علمًا يعلمه، فكتمه، ألجم بلجام من نار. أخرجه الترمذي، ولأبي داود "من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة. وقال قتادة: طوبى لعالم ناطق، ومستمع واع، هذا علم علمًا فبذله، وهذا سمع خيرًا فقبله ووعاه.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخَذَ على أهل العلم أن يُعلِّموا، وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم، وتلا هذه الآية. وعن الحسن أنه قال: لولا الميثاقُ الذي أخذَه الله تعالى على أهل العلم، ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.
وقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الفعلين أعني {ليبيننه} {ولا يكتمونه} إسنادًا لأهل الكتاب إذ قبله الذين أوتوا الكتاب وبعده، فنبذوه. وقرأ باقى السبعة بالتاء للخطاب حكايةً لمخاطبتهم. وقرأ عبد الله {ليبنونه} بغير نون التوكيد، وقرأ ابن عباس {ميثاق النبيين لتبيننه للناس} فيعود الضمير في {فنبذوه} على الناس، إذ يستحيل عوده على النبيين، أي: فنبذه الناس المبين لهم الميثاق.
188
- {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} ؛ أي: لا تظنن يا محمَّد أو أيها المخاطب اليهودَ الذين يسرون بما فعلوا من تحريف نصوص التوراة، وتفسيرها بتفسيرات باطلة {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا} ، ويُوصفوا {بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}؛ أي: بقول الناس لهم علماء، وليسوا بأهل علم؛ أي: يحبون أن يصفهم الناس ويمدحوا لهم بما ليس فيهم من الصدق، والعفاف، والفضل، والدين؛ أي: لا تحسبنهم
ناجينَ من العذاب الدنيوي، وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها، وساءت أعمالها، وألفت الفسادَ، والظلمَ وهو ضربان (1):
الأول: عذاب هو أثر طبيعي للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله في الاجتماع البشري بخذلان أهل الباطل، والإفساد وذهاب استقلالهم، ونصرة أهل الحق عليهم، وتمكينهم من رقابهم، وديارهم وأموالهم ليحل الإصلاح محل الإفساد، والعدل مكان الظلم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .
والضرب الثاني: عذاب يكون سخطًا سماويًّا، كالزلازل، والخسف، والطوفان وغير ذلك من الجوائح المدمرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بربهم، وكذبوهم، وآذوهم عند اشتداد عتوهم، وإيذائهم لرسلهم.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء في التوراة فكتموا الحق، وأخبروه بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوا، واستحمدوا إليه، وفرحوا بما فعلوا، فأطلع الله رسوله على ذلك، وسلاه بما أنزل من وعيدهم. وهذا المعنى على قراءة التاء، فالمفعول الأول عليها الموصول، والثاني قوله الآتي:{بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} . وقرىء بالياء فعلى هذه القراءة يكون الموصول فاعلًا، والمفعول الأول محذوف، وهو فَرحهم، والمفعول الثاني {بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}. والمعنى: عليها لا يحسبن الفارحون فرحَهم منجيًّا لهم من العذاب وقوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} تأكيد للفعل الأول على القراءتين. وقد عهد هذا في الأساليب العربية من إعادة الفعل، إذا طال الفصل بينه وبين معموله. قال الزجاج: العرب إذا أطالت القصة تعيد حسبت، وما أشبهها إعلامًا بأن الذي جرى متصل بالأول، فتقول: لا تظنن زيدًا إذا جاءك، وكلمك بكذا، وكذا، فلا تظننه صادقًا، فيفيد لا تظنن توكيدًا، وتوضيحًا والفاء زائدة كما في قوله:
فَإِذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي
(1) المراغي.
وقوله: {بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} مفعول ثان على القراءتين، أي: فلا تظنهم بمنجاة؛ أي: فائزين بالنجاة من العذاب الذي أعده الله لهم في الدنيا من القتل، والأسر، وضرب الجزية، والذلة، والصغار، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: وجيع في الآخرة. وناسبَ وصفه بـ {أليم} لأجل فرحهم، ومحبتهم المحمدة على ما لم يفعلوا.
وهذه الآية (1) وإن كانت قد نزلت في اليهود، أو المنافقين خاصةً فإن حكمَها عام في كل من أحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والصلاح، ويُنسَب إلى العلم، وليس كذلك، فيفرح به فَرح إعجاب، ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من سَدَاد السيرة، واستقامة الطريقة، والزهد والإقبال على طاعة الله.
وفي الحديث الصحيح: "المتشح بما ليس فيه، كلابس ثوبي زور". وقرأ حمزة، وعاصم (2)، والكسائي {تَحْسَبَنَّ} {وتحسبنهم} بالتاء الفوقية، وكلاهما إما بفتح الباء، والتقدير: لا تحسبن يا محمَّد، أو أيها المخاطب، وإما بضم الباء، والخطاب للمؤمنين، والمفعول الأول:{الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} ، والثاني:{بِمَفَازَةٍ} . وقوله {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} تأكيد، والفاء مقحمة، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر بالياء التحتية، وكلاهما إما بفتح الباء والفاعل للرسول، وإما بضمها، والفاعل من يتأتى منه الحسبان، أو بفتح الباء في الأول، وضمها في الثاني، وهي قراءة أبي عمرو. والفاعل: هو الموصول، والمفعول الأول محذوف، والتقدير ولا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب. ويجوز أن يحمل الفعل الأول على حذف المفعولين معًا اختصارًا لدَلَالة مفعولي الفعل الثاني عليهما، أي: لا يحسبن هؤلاء أنفسهم فائزين، أو على أن الفعل الأول مسند للرسول، أو لكل حاسب، ومفعوله الأول الموصول، والثاني محذوف لدلالة مفعول الفعل الثاني عليه، والفعل الثاني مسندٌ إلى ضمير الموصول، والفاء للعطف لظهور تفرع عدم حسبانهم على عدم حسبانه صلى الله عليه وسلم، ومفعولاه ما بعده. وقرأ النخعي، ومروان بن الحكم، والأعمش {بما آتوا} بالمد، أي: يفرحون بما
(1) الخازن.
(2)
المرح.