المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عشرة خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرًا من - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٥

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: عشرة خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرًا من

عشرة خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرًا من الهجرة، كما في المواهب. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} بإجابة الرسول إلى الخروج للغزو ثانيًا على ما هم عليه من جراح، وآلام أصابتهم يوم أحد {وَاتَّقَوْا} مخالفة الرسول، وعاقبة تقصيرهم، وأتوا بالعمل على أكمل وجوهه {أَجْرٌ عَظِيمٌ} ، وثواب جزيل، وهو الجنة على ما أتوا به من جليل الأعمال، وصالح الأفعال.

وفي قوله: {مِنْهُمْ} إشارة إلى أن من دعوا لبوا، واستجابوا له ظاهرًا، وباطنًا، ولكن عرض لبعضهم موانع في أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا، وخرج الباقون.

روي أن أبا سفيان وأصحابه لمَّا رجعوا من أحد، فبلغوا الروحاء موضع بين مكة والمدينة، ندموا، وهموا بالرجوع حتى يستأصلوا، من بقي من المؤمنين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم، ويريهم من نفسه وأصحابه قوةً، فندب أصحابه للخروج في إثر أبي سفيان، وقال:"لا يَخْرَجُنَّ معنا يومنا إلا من حضر بالأمس"، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة من أصحابه يوم الأحد اليوم التالي، يوم أُحد حتى بلغوا حمراء الأسد - موضعٌ على ثمانية أميال من المدينة، على يسار الطريق لمن أراد ذا الحليفة - وكان بأصحابه الجراح والآلام، فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فذهبوا إلى مكة مسرعين، وأقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة يوم الجمعة، وقد غاب عنها خمسًا، فنزلت هذه الآية وتسمي هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد، وهي متصلة بغزوة أحد.

‌173

- وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} منصوب بفعل محذوف تقدير: أمدح المؤمنين الذين قال لهم الناس: أي؛ قال لهؤلاء المؤمنين نعيم ابن مسعود الأشجعي، ومن وافقه، وهم أربعة؛ أي: قالوا للمؤمنين تثبيطًا لهم {إِنَّ النَّاسَ} ؛ أي: إن أبا سفيان، وكفار قريش {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}؛ أي: لقتالكم واستئصالكم، أيها المؤمنون في مجنة، وهي سوق بقرب مكة جموعًا كثيرةً، وأعوانًا عديدةً {فَاخْشَوْهُمْ} ، أي: فخافوا أيها المؤمنون هؤلاء المجموع، واحذروهم ولا تخرجوا

ص: 271

إليهم، فإنه لا طاقة لكم بهم، وقلنا لكم ذلك نصيحةً لكم أيها المؤمنون، فإنا رأينا تلك الجنود المجندة لكم.

روي عن (1) ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة أن الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان، قال: حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمَّد موعدنا موسم بدر القابل، إن شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ذلك بيننا وبينك إن شاء الله تعالى". فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مِجنَّة من ناحية مر الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع، فلقي نعيم ابن مسعود، وقد قدم معتمرًا، فقال له أبو سفيان: إني واعدت محمدًا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، وأكره أن يخرج محمَّد، ولا أخرج فيزيدهم ذلك جرأةً، فالحق بالمدينة، فثبطهم ولك عندي عشرةٌ من الإبل، أضعها في يدي سهيل بن عمرو. فأتى نعيم المدينة، فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: ما هذا الرأي؟ أتوكم في دياركم، وقراركم، ولم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا إليهم، وقد جمعوا لكم المجموع عند الموسم، فوالله لا يفلت منكم أحد، فكان لكلامه وقع شديد في نفوس قوم منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لأخرجن، ولو وحدي فخرج، ومعه سبعون راكبًا يقولون: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} حتى وافى بدرًا الصغرى - بدر الموعد - فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان، فلم يلق أحدًا؛ لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة، وكان معه ألفا رجلٍ، فسماه أهل مكة جيش السويق، وقالوا لهم: إنما خرجتم لتشربوا السويق". ووافى المسلمون سوق بدرٍ، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ، فباعوا، واشتروا أدمًا، وزبيبًا، فربحوا، وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى.

{فَزَادَهُمْ} ؛ أي: فزاد المؤمنين ذلك القول والتثبيط {إِيمَانًا} وتصديقًا

(1) المراغي.

ص: 272

بوعده، وثقةً به، وقوةً في دينهم، وثبوتًا على نصر نبيهم صلى الله عليه وسلم ولم يلتفتوا إلى تخويفهم، بل حدث في قلوبهم عزمٌ وتصميمٌ على محاربة هؤلاء الكافرين، وطاعة للرسول في كل ما يأمر به، وينهى عنه، وإن أضناهم ذلك، وثقل عليهم لما بهم من جراحات عظيمة، وقد كانوا في حاجة إلى قسط من الراحة، وشيء من التداوي، لكن وثوقهم بنصر الله وتغلبهم على عدوهم، أنساهم كل هذه المصاعب، فلبوا الدعوة سراعًا.

والخلاصة: أن هذا القول الذي سمعوه زاد شعورهم بعزة الله، وعظمته وسلطانه، ويقينهم بوعد الله، ووعيده، وتبع ذلك زيادةٌ في العمل، ودأبٌ على إنفاذ ما طلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك ما أقدموا على الاستجابة إلى ما كاد يكون وراء حدود الإمكان.

ونحو هذه الآية قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} .

{وقالوا} ؛ أي: قال المؤمنون معبرين عن صادق إيمانهم، {حَسْبُنَا اللَّهُ}؛ أي: كافينا ومحسبنا الله، فهو الذي يكفينا ما يهمنا، من أمر هؤلاء الذين جمعوا لنا المجموع العديدة، فهو سبحانه وتعالى لا يعجزه أن ينصرنا على قلتنا، وكثرتهم، أو يلقي في قلوبهم الرعب، فيكفينا شر بغيهم، وكيدهم، وقد كان الأمر كما ظنوا، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، وجيشه، على كثرة عهددهم، وتوافر عُددهم، فولوا مدبرين، وكان النصر في ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين.

{وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ؛ أي: ونعم وحسن الموكول إليه أمورنا، كلها دينًا، ودنيا، ونصرًا على أعدائنا، والمخصوص بالمدح الله سبحانه وتعالى.

وأخرج البخاري عن ابن عباس {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمَّد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم جموعًا.

ص: 273