الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوَاعِد الْأُصُول عَن مظان العوج، ولكمالها فِي الاتصاف بِهَذَا الْوَصْف، سمي باسم جنسه مُبَالغَة وادعاء لاتحاده بِهِ، وتنزيلا لما سواهُ منزلَة الْعَدَم (بعد ترتيبه على مُقَدّمَة) لتَكون التَّسْمِيَة بعد وجود الْمُسَمّى كَمَا هُوَ الأَصْل، و
المقدمة
مَأْخُوذَة من مُقَدّمَة الْجَيْش من قدم بِمَعْنى تقدم، يُقَال مُقَدّمَة الْعلم لما يتَوَقَّف عَلَيْهِ مسَائِله كمعرفة حَده، وغايته، وموضوعه، ومقدمة الْكتاب لطائفة من كَلَامه قدمت أَمَام الْمَقْصُود لارتباطه بهَا، وانتفاع بهَا فِيهِ (هِيَ الْمُقدمَات) أَي الْأُمُور الَّتِي جرت عَادَة الْأُصُولِيِّينَ بجعلها مُقَدّمَة لعلم الْأُصُول من بَيَان مَفْهُوم اسْمه وموضوعه، والمقدمات المنطقية، واستمداده كَمَا سَيَجِيءُ، فَاللَّام للْعهد (وَثَلَاث مقالات) أولاها (فِي المبادئ) اللُّغَوِيَّة (و) ثَانِيهَا فِي (أَحْوَال الْمَوْضُوع) أَي مَوْضُوع علم الْأُصُول (و) ثَالِثهَا فِي مَاهِيَّة (الِاجْتِهَاد) وَمَا يُقَابله من التَّقْلِيد وَمَا يتبعهَا من الْأَحْكَام (وَهُوَ) أَي الِاجْتِهَاد وَمَا يتبعهُ (متمم) لمسائل الْأُصُول، لَا مِنْهَا (مسَائِله) أَي الِاجْتِهَاد (فقهية) أَي بَعْضهَا كوجوب الِاجْتِهَاد فِي حق نَفسه وَفِي حق غَيره إِذا خَافَ فَوت الْحَادِثَة على غير الْوَجْه وحرمته فِي مُقَابلَة قَاطع (لمثل مَا سنذكر) فِي بَيَان الْمَوْضُوع من أَن الْبَحْث عَن حجية خبر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس لَيْسَ من مسَائِل الْأُصُول، لِأَن موضوعها فعل الْمُكَلف، ومحمولها الحكم الشَّرْعِيّ، وَهُوَ الْوُجُوب وَالْحُرْمَة، فَتكون فقهية (واعتقادية) كَمَسْأَلَة لَا حكم فِي الْمَسْأَلَة الاجتهادية، وَجَوَاز خلو الزَّمَان عَن مُجْتَهد.
(الْمُقدمَة)
(الْمُقدمَة أُمُور) هِيَ الْمَدْلُول عَلَيْهَا بقوله هِيَ الْمُقدمَات، نكرت هَهُنَا لِأَنَّهَا ذكرت تَوْطِئَة لتفصيلها، والتنكير بمقام الْإِجْمَال أليق، وَمَا قيل من أَن الْمعرفَة إِذا أُعِيدَت نكرَة، فَهِيَ غير الأولى، فَلَيْسَ على إِطْلَاقه، على أَن ذَلِك عِنْد إِعَادَة اللَّفْظ بِعَيْنِه (الأول) من الْأُمُور الْمَذْكُورَة (مَفْهُوم اسْمه) أَي الْعلم الْمَذْكُور، وَالِاسْم أصُول الْفِقْه، لم يقل تَعْرِيفه مَعَ أَنه أخصر إِشَارَة إِلَى أَن التَّعْرِيف اسْمِي لَا حَقِيقِيّ كَمَا سَيَجِيءُ، مَعَ أَنه جرت عَادَتهم بِاعْتِبَار حَال الِاسْم فِي مقَام تَعْرِيفه (وَالْمَعْرُوف) أَي الْمَشْهُور بَين الْأُصُولِيِّينَ (كَونه) أَي الِاسْم الْمَذْكُور (علما) هُوَ مَا وضع لشَيْء بِعَيْنِه غير متناول غَيره بِوَضْع وَاحِد، وَسَيَجِيءُ بَيَانه (وَقيل) هُوَ (اسْم جنس لإدخاله اللَّام) أضيف الإدخال إِلَى الِاسْم مجَازًا لِأَنَّهُ فعل الْمُتَكَلّم تَنْزِيلا للقابل منزلَة الْفَاعِل مُبَالغَة فِي قبُوله، فَكَأَنَّهُ أدخلها بِنَفسِهِ عَلَيْهِ، يَعْنِي لَو كَانَ علما لما دَخلته اللَّام، وَإِذا انْتَفَى العلمية تعْيين كَونه اسْم جنس، وَيرد عَلَيْهِ أَنَّهَا تدخل فِي كثير من الْأَعْلَام، إِمَّا لُزُوما كَمَا فِي الْأَعْلَام الْغَالِبَة، أَو بِغَيْرِهِ كَمَا فِي كثير من الْأَعْلَام المنقولة من الصّفة أَو الْمصدر، أَو مَا فِيهِ معنى الْمَدْح أَو الذَّم كالعباس
وَالْحسن وَالنضْر والأسد وَالْكَلب فِي الْمُسَمّى بهَا، وَإِن لم يكن مُحْتَاجا إِلَى التَّعْرِيف، وَذَلِكَ للمح الوصفية، ومدح الْمُسَمّى بهَا وذمه (وَلَيْسَ بِشَيْء فَإِن الْعلم) على مَا هُوَ الْمَعْرُوف إِنَّمَا هُوَ (الْمركب) الإضافي: أَي أصُول الْفِقْه (لَا الْأُصُول) الَّذِي هُوَ جُزْء مِنْهُ، فالعلم مَا دَخلته اللَّام، وَمَا دَخلته اللَّام فَلَيْسَ بِعلم بل جزؤه، وَلما عين مَدْخُول اللَّام أَرَادَ أَن يبين معنى اللَّام فِيهِ، فَقَالَ (بل الْأُصُول بعد كَونه عَاما فِي المباني) جمع مبْنى، وَهُوَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الشَّيْء (يُقَال) أَي يُطلق (خَاصّا فِي المباني الْمَعْهُودَة للفقه) وَهِي الْأَدِلَّة السمعية (فَاللَّام للْعهد) الْخَارِجِي، لِأَنَّهَا حِصَّة مُعينَة من المباني الْمُطلقَة، وَكلمَة بل اضراب عَمَّا يفهم من الْكَلَام السَّابِق من علمية لفظ الْأُصُول وَحَاصِله أَنه لَيْسَ بِعلم، بل معرف بلام الْعَهْد، وَقيل الأَصْل بعد مَا كَانَ عَاما فِي المباني نقل إِلَى الدَّلِيل، وَقَالَ صدر الشَّرِيعَة النَّقْل خلاف الأَصْل، وَلَا ضَرُورَة إِلَى الْعُدُول إِلَيْهِ، لِأَن الابتناء كَمَا يَشْمَل الْحسي كابتناء السّقف على الجدران كَذَلِك يَشْمَل الْعقلِيّ كابتناء الحكم على دَلِيله (وَالْوَجْه أَنه) أَي الْمركب علم (شخصي) حَقِيقَة الْعُلُوم إِمَّا الْمسَائِل، أَو التصديقات الْمُتَعَلّقَة بهَا، أَو الملكة الْحَاصِلَة من ممارستها، وَيُؤَيّد الْأَخيرينِ تَسْمِيَتهَا بِالْعلمِ، وَالْأول قَول الْقَائِل: علمت النَّحْو وَالصرْف، وَكَلَام المُصَنّف يُشِير إِلَى الأول إِذْ التصديقات أَو الملكة الْقَائِمَة بعالم غير الْقَائِمَة بآخر، فالاسم بِهَذَيْنِ الاعتبارين اسْم جنس كَمَا حَقَّقَهُ السَّيِّد السَّنَد، بِخِلَاف مُتَعَلق علومهم، وَهِي الْمسَائِل، فَإِنَّهُ وَاحِد، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ لَا يصدق على مَسْأَلَة) يَعْنِي مثلا، فَيشْمَل كل مَا سوى مَجْمُوع الْمسَائِل، وَلم يتَعَرَّض لما سوى الْجَزَاء، لِأَن عدم صدقه على مَا هُوَ خَارج عَنْهَا فِي غَايَة الظُّهُور فَإِن قلت مسَائِل الْعُلُوم تتزايد بتلاحق الأفكار، فالموجود فِي الزَّمَان السَّابِق مُغَاير بِالذَّاتِ للموجود فِي اللَّاحِق تغاير الْجُزْء وَالْكل، وَهَذَا يسْتَلْزم تعدد الْمُسَمّى، وَهُوَ يُنَافِي كَون الِاسْم علما شخصيا قلت الْمَوْجُود فِي كل زمَان شخص معِين، ويلتزم اشْتِرَاك الِاسْم وتعدد وَضعه بِحَسب تعدد الْأَزْمِنَة، وَلَا مَحْظُور وَهَهُنَا بحث، وَهُوَ أَن مَجْمُوع الْمسَائِل إِنَّمَا هُوَ مَوْجُود ذهني لاشتمالها على النّسَب الاعتبارية، وَمن ضَرُورَة تعدد الأذهان: تعدد وجوداته، وَمن ضَرُورَة تعدد الوجودات: تعدد تشخصاته، فَلَزِمَ كَون الِاسْم للْجِنْس بِهَذَا الِاعْتِبَار أَيْضا وَالْجَوَاب أَن حَقِيقَة مَجْمُوع الْمسَائِل من حَيْثُ هِيَ مَعَ قطع النّظر عَن وجودهَا وتشخصها فِي الذِّهْن جزئي حَقِيقِيّ لعدم إِمْكَان فرض اشتراكها بَين كثيرين، والتعدد إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار صورها الْحَاصِلَة فِي الأذهان، فمتعلق تِلْكَ الصُّور وَاحِد بِالذَّاتِ، وَإِن كَانَ كثيرا بِاعْتِبَار التعلقات وَالله أعلم (وَالْعَادَة تعريفة مُضَافا وعلما) أَي عَادَة الْأُصُولِيِّينَ تَعْرِيف الِاسْم الْمَذْكُور تَارَة من حَيْثُ أَنه مركب إضافي
نظرا إِلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ الَّذِي نقل عَنهُ إِلَى العلمي، وَتارَة من حَيْثُ أَنه مُفْرد علم نظرا إِلَى مَعْنَاهُ الشخصي الَّذِي نقل إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا عرفوه على الْوَجْهَيْنِ لمزيد الانكشاف (فعلى الأول) يحْتَاج إِلَى تَعْرِيف الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ (الْأُصُول الْأَدِلَّة) مُبْتَدأ وَخبر، والظرف مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِيره فتعريفه الْمَبْنِيّ على الأول هَكَذَا، وَالْمرَاد بِالدَّلِيلِ مَا يُمكن التَّوَصُّل بِالنّظرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوب خبري كَالصَّلَاةِ وَاجِبَة وَالْخمر حرَام، وَسَيَجِيءُ بَيَانه مفصلا (وَالْفِقْه التَّصْدِيق) قد يُرَاد بِهِ مَا يُقَابل التَّصَوُّر، وَهُوَ إِدْرَاك أَن النِّسْبَة وَاقعَة أَو لَيست بواقعة، وَقد يُرَاد بِهِ مَا هُوَ أخص مِنْهُ، وَهُوَ يُقَابل الظَّن، وَكِلَاهُمَا هَهُنَا جَائِز، تبع عَامَّة الْأُصُولِيِّينَ فِي تَفْسِير الْفِقْه بِمَا هُوَ من مقولة الْعلم، وَإِن كَانَ الْمُخْتَار عِنْده كَونه من مقولة الْمَعْلُوم كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِيمَا سبق (لأعمال الْمُكَلّفين) قيل اللَّام بِمَعْنى على كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وتله للجبين} - مُتَعَلق بالتصديق لتَضَمّنه معنى الحكم، وَفِي الْكَشَّاف فِي - {يخرون للأذقان} - فَإِن قلت: حرف الاستعلاء ظَاهر الْمَعْنى إِذا قلت خر على وَجهه، وعَلى ذقنه فَمَا معنى اللَّام؟ قلت مَعْنَاهُ جعل وَجهه وذقنه للخرور واختصه بِهِ، وَهَذَا يدل على أَن كَونهَا بِمَعْنى على لم يثبت عِنْده، فَالْأولى أَن يُقَال لتَضَمّنه الاثبات عدي بهَا ولتضمنه الحكم عدي بِالْبَاء فالمثبت لَهُ الموضوعات، وَهِي الْأَعْمَال، والمحكوم بِهِ المحمولات، وَهِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، والأعمال تعم أَفعَال الْقُلُوب أَيْضا كالنية وَغَيرهَا، وَخرج التَّصْدِيق لغير الْأَعْمَال، ولأعمال غير الْمُكَلف (الَّتِي لَا تقصد لاعتقاد) فصل ثَالِث يخرج التَّصْدِيق لأعمالهم الَّتِي تقصد لَهُ كالتصديق بِأَن الْخَيْر وَالشَّر بِقَضَاء الله وَقدرته وإرادته، والاعتقاد حكم لَا يحْتَمل النقيض عِنْد الْحَاكِم، وَلَو عرض عَلَيْهِ طرفاه يجوز أَن يحكم بَينهمَا بالنقيض لكَونه على خلاف الْوَاقِع، أَو لعدم استناده إِلَى مُوجب من حس أَو ضَرُورَة أَو عَادَة أَو دَلِيل، بل اتّفق لسَبَب تَقْلِيد أَو شُبْهَة، وَقد يُرَاد بالاعتقاد مَا يعم الْيَقِين والجزم وَالظَّن وَالْجهل الْمركب، وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وَالْمرَاد هَهُنَا، وَإِلَّا لم يخرج مَا قصد لاعتقاد لَا يصدق عَلَيْهِ الْمَعْنى الأول (بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة) الحكم إِسْنَاد أَمر إِلَى آخر إِيجَابا أَو سلبا، أَو خطاب الله الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف اقْتِضَاء أَو تخييرا، وَالْأول هَهُنَا أولى لِئَلَّا يَلْغُو التَّقْيِيد بالشرعية، وَقد يُقَال يجوز أَن يُرَاد بالشرعية مَا لَا يدْرك لَوْلَا خطاب الشَّارِع، وَمن الْأَحْكَام مَا يدْرك بِدُونِهِ كوجوب الْإِيمَان بِاللَّه وتصديق النَّبِي عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيه مَا فِيهِ، وعَلى الثَّانِي يُرَاد مَا يَتَرَتَّب على الْخطاب كالوجوب وَالْحُرْمَة، لأنفسه كالإيجاب وَالتَّحْرِيم لِأَنَّهُ الْمَحْكُوم بِهِ على الْأَعْمَال، وَقيل هما متحدان بِالذَّاتِ متغايران بِالِاعْتِبَارِ، وَفِيه بحث، وَبِهَذَا الْقَيْد احْتَرز عَن مثل قَوْلنَا أَفعَال الْمُكَلّفين أَعْرَاض قَائِمَة بذواتهم منقسمة إِلَى الْجَوَارِح والقلوب (القطعية) أَي الثَّابِتَة بِدَلِيل قَطْعِيّ لَا شُبْهَة فِيهِ: أَي الشُّبْهَة الناشئة عَن الدَّلِيل.
فَانْدفع مَا قيل: من أَنه إِن أُرِيد بِالْأَحْكَامِ جَمِيعهَا لم يُوجد الْفِقْه وَلَا الْفَقِيه، لِأَن الْحَوَادِث وَإِن كَانَت متناهية ضَرُورَة انْقِضَاء دَار التَّكْلِيف، لَكِنَّهَا لكثرتها وَعدم انقطاعها مَا دَامَت الدُّنْيَا غير دَاخِلَة تَحت ضبط الْمُجْتَهدين، وَإِن أُرِيد بَعْضهَا، فإمَّا بعض لَهُ نِسْبَة مُعينَة إِلَى الْكل كالنصف، فَيلْزم الْجَهَالَة بِجَهَالَة الْكل، وَإِمَّا مُطلق فَيلْزم كَون الْعَالم بِمَسْأَلَة فَقِيها، وَلَيْسَ كَذَلِك اصْطِلَاحا، وَجه الاندفاع أَن القطعية تدخل تَحت الضَّبْط فَيمكن الْإِحَاطَة بهَا (مَعَ ملكة الاستنباط) فَخرج التَّصْدِيق الَّذِي لَيْسَ مَعهَا، وَهِي كَيْفيَّة راسخة فِي النَّفس حَاصِلَة باستجماع المآخذ والأسباب والشروط الَّتِي يَكْفِي الْمُجْتَهد الرُّجُوع إِلَيْهَا فِي معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة يقتدر بهَا على اسْتِخْرَاج كل مَسْأَلَة ترد عَلَيْهِ بعد التَّأَمُّل، فَلَا يخل قَول مَالك: لَا أَدْرِي فِي سِتّ وَثَلَاثِينَ من أَرْبَعِينَ مَسْأَلَة سُئِلَ عَنْهَا فِي اجْتِهَاده، وَلَا توقف أبي حنيفَة رحمه الله فِي مسَائِل مَعْدُودَة، لجَوَاز أَن يكون لتعارض الْأَدِلَّة، أَو وجود الْمَانِع، اَوْ مُعَارضَة الْوَهم الْعقل، أَو مشاكلة الْحق الْبَاطِل، فَإِن الخلوص عَن هَذِه الْمَوَانِع خَارج عَن الطَّاقَة، فَلَا يشْتَرط (وَدخل نَحْو الْعلم بِوُجُود النِّيَّة) لما مر من عُمُوم الْأَعْمَال، فَإِن النِّيَّة من الْأَعْمَال القلية، وَالْمرَاد دُخُول الْجُزْء فِي الْكل إِن أَرَادَ الدُّخُول فِي الْمُعَرّف، أَو الجزئي فِي الْكُلِّي إِن أَرَادَ الدُّخُول فِي مَا يعم الْكل والجزء الْمَفْهُوم ضمنا أَي التَّصْدِيق لعمل الْمُكَلف بالحكم الشَّرْعِيّ، وَالْمرَاد بِنَحْوِهِ مَا كَانَ مَوْضُوعه فعل الْقلب ومحموله حكم شَرْعِي (وَقد يخص) الْفِقْه (بظنها) أَي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة للأعمال الْمَذْكُورَة، قيل الْمُخَصّص الإِمَام الرَّازِيّ، وَذَلِكَ لِأَن الْفِقْه مُسْتَفَاد من الْأَدِلَّة السمعية، وَهِي لَا تفِيد إِلَّا الظَّن
لتوقف إفادتها الْيَقِين على نفي الِاشْتِرَاك، وَالْمجَاز وَنَحْوه، ونفيها لَا يثبت إِلَّا بِأَن الأَصْل عدمهَا، وَهَذَا دَلِيل ظَنِّي، وَجَوَابه منع الْحصْر (وعَلى مَا قُلْنَا) من أَنه التَّصْدِيق للأعمال بِالْأَحْكَامِ القطعية (لَيْسَ هُوَ) أَي الظَّن (شَيْئا من الْفِقْه) أَي جُزْءا من أَجْزَائِهِ، فضلا عَن أَن يكون عينه، وَذَلِكَ لِأَن التَّصْدِيق الْمُتَعَلّق بِالْأَحْكَامِ القطعية لَا يكون إِلَّا قَطْعِيا (وَلَا الْأَحْكَام المظنونة) أَي وَلَا الْأَحْكَام المظنونة شَيْئا من أَحْكَامه ومحمولاته، عطف على ضمير لَيْسَ، وَلِهَذَا أكد بالمنفصل وَلَا، بِإِعَادَة النَّفْي (إِلَّا بإصطلاح) اسْتثِْنَاء مُنْقَطع: أَي لكنه مِنْهُ إِن وَقع الِاصْطِلَاح على وضع اسْم الْفِقْه لما يصدق على الظَّن فَقَط، أَو لما يعمه وَغَيره، وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح، لَكِن الْأَلْيَق بِالِاعْتِبَارِ مَا ذَكرْنَاهُ لما مر (ثمَّ على هَذَا التَّقْدِير) أَي على تَقْدِير تَخْصِيصه بِالظَّنِّ (يخرج) مِنْهُ (مَا علم من الْمسَائِل بِالضَّرُورَةِ الدِّينِيَّة) بطرِيق البداهة الْحَاصِلَة من الْخَبَر الْمُتَوَاتر الْمَشْهُور الَّذِي عرفت الْعَامَّة حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان فِي دين الْإِسْلَام كَونه مِنْهُ بِإِخْبَار الْمخبر الصَّادِق كوجوب الصَّلَوَات الْخمس وَصَوْم رَمَضَان، لِأَن التَّصْدِيق بهَا يقيني، وَكَذَا يخرج على تَفْسِيره
بِالْعلمِ بِالْأَحْكَامِ العملية عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، وَإِنَّمَا دعاهم إِلَى إِخْرَاجه كَون الْفِقْه لُغَة إِدْرَاك الْأَشْيَاء الْخفية، وَذَلِكَ فِي النظريات: يُقَال فقهت كلامك، وَلَا يُقَال فقهت السَّمَاء وَالْأَرْض وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ لَا يلْزم اعْتِبَار وَجه التَّسْمِيَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل جُزْء من الْمُسَمّى، على أَن مَا علم بالضررة كَانَ خفِيا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَائِل (وَأما قصره) أَي الْفِقْه (على الْيَقِين وَجعل الظَّن فِي طَرِيقه) أَي الْفِقْه أَو الْيَقِين دفعا لاعتراض القَاضِي أبي بكر على التَّعْرِيف بِأَنَّهُ من بَاب الظنون، فَلَا يجوز أَن يعْتَبر الْعلم جِنْسا فِي تَعْرِيفه تَلْخِيص الْجَواب الْتِزَام كَون الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة كلهَا يقينية، وَإِن كَانَ أَكثر أدلتها أَمَارَات ظنية، لانعقاد الْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بِالظَّنِّ على الْمُجْتَهد إِذا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، فَكل حكم كَذَا يجب الْعَمَل بِهِ قطعا تعلق بِهِ الْخطاب قطعا وَلَا نعني بالقطعي إِلَّا هَذَا فَثَبت أَنَّهَا قَطْعِيَّة، وَالظَّن فِي طريقها (فمغير لمفهومه) جَوَاب أما، بِمَعْنى قصره على الْيَقِين بالتأويل الْمَذْكُور يسْتَلْزم أَن يُرَاد بِهِ غير مُسَمَّاهُ، لِأَن مُسَمَّاهُ تصديقات، أَو مسَائِل موضوعاتها أَفعَال الْمُكَلّفين، ومحمولاتها الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة كالوجوب وَالْحُرْمَة، وَهِي قد تكون ظنية نَحْو الْوتر وَاجِب، وَمَا ذكر لَا يُخرجهَا من الظَّن إِلَى الْقطع بل يُفِيد الْقطع بِوُجُوب الْعَمَل بهَا قطعا، وَهُوَ لَا يسْتَلْزم كَونهَا مُتَعَلق حكم الله قطعا لظُهُور عدم الْقطع بِكَوْن الْوتر مثلا مَطْلُوبا غير جَائِز التّرْك، وَلِهَذَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي وُجُوبه: نعم هَهُنَا تصديقات أخر موضوعاتها الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة ومحمولها مَفْهُوم وَاحِد أَعنِي وجوب الْعَمَل بهَا قطعا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ويقصره على حكم) أَي يقصر الْقصر الْمَذْكُور الْفِقْه على حكم وَاحِد بِاعْتِبَار الْمَحْمُول لَا الْمَوْضُوع لما عرفت فَإِن قلت الْقطع بِوُجُوب الْعَمَل رَفعهَا عَن حضيض الظَّن لي ذرْوَة الْيَقِين فالوتر مثلا بَعْدَمَا كَانَ ظَنِّي الثُّبُوت نظرا إِلَى أمارته صَار قَطْعِيّ الثُّبُوت بِاعْتِبَار تعلق الطّلب بِالْعَمَلِ بِهِ قطعا قلت لله سبحانه وتعالى حكم خَاص فِي كل عمل، وَحكم عَام وَهُوَ وجوب الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد وَالْعلم بِالْأولِ تَارَة يكون قَطْعِيا، وَتارَة يكون ظنيا بِخِلَاف الثَّانِي، فَإِنَّهُ قَطْعِيّ دَائِما، والمجتهد مَأْمُور بمظنونه وَإِن كَانَ خلاف حكم الله بِالْمَعْنَى الأول نعم عِنْد المصوبة الْكل حكم الله، وَالتَّحْقِيق خِلَافه، وَالْمُعْتَبر فِي مَفْهُوم الْفِقْه الْقطع، وَالظَّن بِاعْتِبَار الأول لَا الثَّانِي، وَالْمُصَنّف رحمه الله يُشِير إِلَى مَا قلت بقوله (وَمَا قيل فِي إِثْبَات قَطْعِيَّة مظنونات الْمُجْتَهد مظنونه) بدل من ضمير الْمَوْصُول (مَقْطُوع بِوُجُوب الْعَمَل بِهِ) بِالْإِجْمَاع وَالْأَخْبَار المتواترة معنى (وكل مَا قطع إِلَى آخِره) أَي وجوب الْعلم بِهِ مَقْطُوع بِهِ (فَهُوَ) أَي مظنونه (مَقْطُوع بِهِ، مَمْنُوع الْكُبْرَى) يَعْنِي كل مَا قطع إِلَى آخِره لجَوَاز وجوب الْعَمَل بِهِ من غير أَن يكون مُتَعَلق الْخطاب الْخَاص على مَا عرفت (وَالْمرَاد بالملكة) الْمَذْكُورَة فِي التَّعْرِيف (أدنى مَا تتَحَقَّق بِهِ الْأَهْلِيَّة) للاستنباط، وَفِي إِضَافَة الملكة إِلَيْهِ إِشْعَار بالمراد، لِأَن مَعْنَاهَا ملكة يقتدر
بهَا على مَا يصدق عَلَيْهِ مُطلق الاستنباط، وَلَيْسَ المُرَاد اعْتِبَار الْأَدْنَى بِعَيْنِه وَنفي الزِّيَادَة، بل المُرَاد الْأَدْنَى سَوَاء تحقق مُنْفَردا، أَو فِي ضمن الْأَوْسَط، أَو الْأَعْلَى، وَلَا جَهَالَة فِيهِ حَتَّى يلْزم فَسَاد التَّعْرِيف، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي المُرَاد (مضبوط) انضباط الْمُطلق إِذا أُرِيد بِهِ الْإِطْلَاق من غير إِرَادَة خُصُوصِيَّة من خصوصياته، فَإِن الْإِيهَام عِنْد ذَلِك، ثمَّ المُرَاد من التَّصْدِيق مَا هُوَ الْمُتَبَادر بِقَرِينَة السِّيَاق، وَهُوَ الْحَاصِل بالاستنباط الْمُتَرَتب على الملكة فَلَا يرد علم النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَجِبْرِيل بِالْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَة بطرِيق الضَّرُورَة الحاصلين من الْأَدِلَّة بطرِيق الحدس، وَيتَّجه حِينَئِذٍ مَا علم بِالضَّرُورَةِ الدِّينِيَّة فَتَأمل (وعَلى الثَّانِي) أَي بِاعْتِبَار علمية الِاسْم الْمَذْكُور (فَقَالَ كثير) مِمَّن عرفه، وَالْفَاء للتفصيل كَمَا فِي الأول (أما تَعْرِيفه لقبا) حَال من الضَّمِير (ليشعروا) أَي الْكثير مُتَعَلق بقال، يَعْنِي يذكر الْكثير اللقب بدل الْعلم، فَإِن اللقب مِمَّا يدل على الْمَدْح أَو الذَّم، وَهُوَ غير مُحْتَمل هَهُنَا (برفعة مُسَمَّاهُ) أَي الِاسْم لكَونه مَبْنِيّ الْفِقْه الَّذِي هُوَ أهم الْعُلُوم وأنفعها، (و) قَالَ (بَعضهم علما) مَوضِع لقبا (لِأَن التَّعْرِيف) أَي التَّعْرِيف الأسمى (إِفَادَة مُجَرّد الْمُسَمّى) فالمنظور فِيهِ بَيَان مَا وضع لَهُ اللَّفْظ (لَا) إِفَادَة الْمُسَمّى (مَعَ اعْتِبَار ممدوحيته وَإِن كَانَت) الممدوحية (ثَابِتَة) فِي نفس الْأَمر (فَلَا يعْتَرض) على من قَالَ علما بدل لقبا (بثبوتها) أَي الممدوحية بِأَن يُقَال الممدوحية ثَابِتَة فِي نفس الْأَمر، وَلَفظ الْعلم لَا يدل عَلَيْهَا لكَونه أَعم من اللقب فَإِن قلت مُسَمّى الْعلم الشخصي لَا يحد لِأَن مَعْرفَته لَا تحصل إِلَّا بتعين مشخصاته بِالْإِشَارَةِ وَنَحْوهَا، والتعريف غَايَته الْحَد التَّام، وَهُوَ إِنَّمَا يشْتَمل على مقومات الْمَاهِيّة دون مشخصاتها قلت الْحق كَمَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَنه يحد بِمَا يُفِيد امتيازه عَن جَمِيع مَا عداهُ بِحَسب الْوُجُود لَا بِمَا يُفِيد تعينه وتشخصه، وَلما ذكر اخْتِلَاف الْقَوْم فِي التَّعْبِير عَن تَعْرِيفه على اعْتِبَار العلمية أَرَادَ أَن يصدر التَّعْرِيف بتوطئة مفيدة لمزيد الانكشاف لَهُ، فَقَالَ (وكل علم) من الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة (كثرتا ادراكات) تصورية وتصديقية (ومتعلقاتها) أَي تِلْكَ الادراكات، وَهِي الْمسَائِل وموضوعاتها ومحمولاتها وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَفِيه مُسَامَحَة لِأَن الْعلم عبارَة عَن أَحدهمَا لَا الْمَجْمُوع الْمركب مِنْهُمَا، وَالْمرَاد وجودهما فِي كل علم، وَالْكَثْرَة بِمَعْنى الْكَثِيرَة وَإِضَافَة الكثرتين إِلَى الادراكات كإضافة حُصُول صُورَة الشَّيْء، أَي الادراكات الْكَثِيرَة والمدركات الْكَثِيرَة (وَلها) أَي لتِلْك الْكَثْرَة المتحققة فِي ناحيتي الْإِدْرَاك والمدرك (وحدة غَايَة) أَي وحدة بِاعْتِبَار الْغَايَة، وَهِي الْعلَّة الغائية الباعثة لإقدام الطَّالِب على تَحْصِيله، وَهِي معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة المفضية إِلَى السَّعَادَة الدِّينِيَّة والدنيوية (تستتبع) تِلْكَ الْوحدَة (وحدة موضوعها) أَي تِلْكَ الْكَثْرَة يَعْنِي أَن وحدة الْغَايَة تستدعى، وحدة الْمَوْضُوع وَالثَّانيَِة تَابِعَة للأولى، وَذَلِكَ لِأَن الطَّالِب إِذا
كَانَ لَهُ مطلب وَاحِد علمي يعمد إِلَى أُمُور مُنَاسبَة لذَلِك الْمطلب فيبحث عَن أحوالها الَّتِي لَهَا مدْخل فِي الإيصال إِلَيْهِ فَيصدق على كل وَاحِد من تِلْكَ الْأُمُور الْكَثِيرَة مَا يبْحَث عَن حَاله للإيصال إِلَى غَايَة كَذَا، وَلَا يَعْنِي بوحدة الْمَوْضُوع الأمثل هَذَا (أول الملاحظة) ظرف للاستتباع يَعْنِي الاستتباع الْمَذْكُور بِاعْتِبَار مُلَاحظَة الْغَايَة أَولا، فَإِن مدون الْعلم يُلَاحظ الْغَايَة أَولا، لِأَنَّهَا الباعثة لإقدامه على التدوين فملاحظته إِيَّاهَا من حَيْثُ يستدعى تدوين علم مَوْضُوعه كَمَا عَرفته مُتَقَدّمَة، وَأما بِاعْتِبَار تحققهما فِي الْخَارِج، فَالْأَمْر بِالْعَكْسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَفِي التَّحْقِيق إِلَّا تصافى بِالْقَلْبِ 1) يَعْنِي إِذا نَظرنَا إِلَى تحقق الوحدتين من حَيْثُ أَنَّهُمَا وصفان ثابتان لموصوفيهما أَي الْغَايَة والموضوع وجدنَا وحدة الْمَوْضُوع سَابِقَة على وحدة الْغَايَة ضَرُورَة تَأَخّر وصف الْمُتَأَخر عَن وصف الْمُتَقَدّم وَتَأَخر الْعلَّة الغائية عَن معلولها بِاعْتِبَار الْوُجُود الْخَارِجِي (وَأَسْمَاء الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة مَوْضُوعَة لكل) من الكثرتين لِأَن الِاسْتِعْمَال فِي كل مِنْهُمَا على السوية، وَهُوَ دَلِيل الْوَضع عِنْد عدم الِاحْتِيَاج إِلَى الْقَرِينَة وَلم يذكر الملكة مَعَ أَنهم جَعَلُوهُ من جملَة مسمياتها، لِأَن أَكثر الاستعمالات يَأْبَى عَنْهَا وَيلْزم أَن لَا يكون إِطْلَاق اسْم الْعلم على الْأَلْفَاظ والنقوش من بَاب تَسْمِيَة الدَّال باسم الْمَدْلُول (وَكَذَا الْقَاعِدَة والقضية) مَوْضُوعَة لكل من الادراكات إِدْرَاك الْمَحْكُوم عَلَيْهِ، وَبِه وَالنِّسْبَة وَالْحكم ومتعلقاتها، والقضية أَعم من الْقَاعِدَة، فالقاعدة قَضِيَّة كُلية منطبقة على جزئياتها كَقَوْلِنَا: الْفَاعِل مَرْفُوع وجزئياتها كزيد مَرْفُوع فِي جَاءَ زيد، والقضية قَول يحْتَمل الصدْق وَالْكذب (فعلى) اعْتِبَار (الأول) وَهُوَ وَضعهَا للادراكات (هُوَ) أَي أصُول الْفِقْه (إِدْرَاك الْقَوَاعِد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْفِقْه) وَجه التَّوَصُّل أَن الْأَدِلَّة التفصيلية تدل على الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة بِوَاسِطَة كيفيات فِيهَا متنوعة، وكل قَاعِدَة من الْأُصُول تبين نوعا من تِلْكَ الكيفيات وَعند الاستنباط كَمَا تقع الْحَاجة إِلَى معرفَة تِلْكَ الكيفيات تقع إِلَى معرفَة الْقَوَاعِد المبينة لَهَا، لِأَن معرفَة تِلْكَ الكيفيات بِدُونِ الْقَوَاعِد لَا تخلص عَن الشُّبْهَة، وَلَا يرد عَلَيْهِ قَوَاعِد الْعَرَبيَّة والمنطقية لِأَن التَّوَصُّل بهَا بعيد والمتبادر مِنْهُ الْقَرِيب (وَقَوْلهمْ) أَي الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّعْرِيف (عَن الْأَدِلَّة التفصيلية) بعد قَوْلهم هُوَ الْعلم بالقواعد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (تَصْرِيح بِلَازِم) يفهم ضمنا، لِأَن المُرَاد استنباط الْأَحْكَام تَفْصِيلًا، وَهُوَ لَا يكون إِلَّا عَن أدلتها تَفْصِيلًا فَهُوَ لمزيد الْكَشْف لَا للِاحْتِرَاز فَلَا يضر تَركه (وَإِخْرَاج) علم (الْخلاف) عَن التَّعْرِيف (بِهِ) أَي القَوْل الْمَذْكُور (غلط) لِأَنَّهُ علم يتَوَصَّل بِهِ إِلَى حفظ الْأَحْكَام المستنبطة الْمُخْتَلف فِيهَا أَو هدمها، لَا إِلَى الاستنباط، وَكَذَلِكَ علم الجدل فَإِنَّهُ علم يتَوَصَّل بِهِ إِلَى حفظ رَأْي أَو هَدمه، أَعم من أَن يكون
فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة أَو غَيرهَا، وعَلى تَقْدِير تَسْلِيم كَونه يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الاستنباط لَا يخرج بالقيد الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ لَا يسْتَعْمل إِلَّا عِنْد استنباط الْأَحْكَام عَن أدلتها التفصيلية (وَعَلِيهِ) أَي على الأول (مَا تقدم من) تَعْرِيف (الْفِقْه) وَهُوَ قَوْله التَّصْدِيق الخ، فَإِنَّهُ إِدْرَاك فتعريف الْفِقْه مَبْنِيّ على الأول (وَجعل الْجِنْس) فِي تَعْرِيف الْأُصُول (الِاعْتِقَاد الْجَازِم المطابق) للْوَاقِع احْتِرَازًا عَن الظَّن وَالْجهل (مُشكل بقضية الْمُخطئ فِي الْكَلَام) يَعْنِي يلْزم اعْتِبَار الْجَزْم والمطابقة فِي جَمِيع مَا ينْدَرج تَحت الْجِنْس، وَمن جملَته علم الْأُصُول الْكَلَام فَيلْزم أَن يخرج مِنْهُ الْمُخطئ فِي الِاعْتِقَاد سَوَاء بدع كالمعتزلة أَو كفر كالمجسمة، وَقد صَرَّحُوا باندراج اعْتِقَاد الْمُخطئ تَحْتَهُ (ولأنا نمْنَع اشْتِرَاطه) أَي المجعول جِنْسا (فِي أصُول الْفِقْه) نقل سَنَد الْمَنْع عَن المُصَنّف، ومحصوله أَن الظَّن يَكْفِي فِي إِثْبَات محمولات مسَائِل الْأُصُول لموضوعاتها نَحْو الْأَمر للْوُجُوب وَالنَّهْي للْحُرْمَة، وَتَخْصِيص الْعَام يجوز والمشترك لَا يعم، وَخبر الْوَاحِد مقدم على الْقيَاس، فَإِنَّهَا غير قَطْعِيَّة لعدم قَطْعِيَّة أدلتها، وَرُبمَا لم يكن مطابقا للْوَاقِع، وَالْمرَاد من الْمَنْع النَّقْض الَّذِي يُورد فِي التعريفات (فَالْأَوْجه كَونه) أَي جنس التَّعْرِيف (أَعم) من أَن يكون جَازِمًا أم لَا، مطابقا أم لَا، أَشَارَ إِلَى أَن عدم التَّعْمِيم أَيْضا لَهُ وَجه لما مر من أَنه لَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح، لَكِن الأولى والأنسب هُوَ التَّعْمِيم (وعَلى) اعْتِبَار (الثَّانِي) وَهُوَ وَضعهَا للمتعلقات هُوَ (الْقَوَاعِد الَّتِي يتَوَصَّل بمعرفتها) إِلَى استنباط الْفِقْه (وَالْقَوَاعِد فِيهِ) أَي فِي هَذَا التَّعْرِيف (مَعْلُومَات) لَا عُلُوم وتصديقات فِيهِ أَن الْقَاعِدَة مُشْتَركَة بَين الْعلم والمعلوم، والاحتراز عَن إِيرَاد الْمُشْتَرك فِي التعريفات وَاجِب قلت لَا يضر فِي مثل هَذَا، لِأَن التَّعْرِيف صَحِيح على التَّقْدِيرَيْنِ على أَن قَوْله بمعرفتها يعين المُرَاد و (أَعنِي) بالمعلومات (المفاهيم التصديقية الْكُلية) الْفَهم هُوَ الْإِدْرَاك وَالْمَفْهُوم مُتَعَلقَة يَنْقَسِم إِلَى التصوري والتصديقي ضَرُورَة انقسام الْإِدْرَاك إِلَى التَّصَوُّر والتصديق، والكلية مَا حكم فِيهِ على كل فَرد من أَفْرَاد مَوْضُوعَة (من نَحْو الْأَمر للْوُجُوب) من بَيَانِيَّة للمفاهيم (وَلذَا) أَي لأجل أَن المُرَاد بهَا المعلومات (قُلْنَا بمعرفتها) لِأَنَّهَا تُضَاف إِلَى الْمَعْلُوم لَا الْعلم (وَمَعْنَاهَا) أَي الْقَاعِدَة (كالضابط والقانون وَالْأَصْل والحرف) فَهِيَ أَلْفَاظ مترادفة اصْطِلَاحا، وَإِن كَانَت فِي الأَصْل لمعان مُخْتَلفَة، أما الأَصْل فقد مر، وَأما الْقَاعِدَة فَهُوَ اسْم فَاعل من قعد، وقواعد الهودج خشبات أَربع تَحْتَهُ ركب فِيهِنَّ، وَالضَّابِط من ضبط، والقانون، قيل سرياني اسْم مسطر الْكِتَابَة أَو الْجَدْوَل، وَفِي الْقَامُوس مقياس كل شَيْء، وَأما الْحَرْف فَلهُ معَان مِنْهَا الطّرف، وَأحد حُرُوف التهجي، والمناسبة بَين اللُّغَة والاصطلاح تظهر بِأَدْنَى تَأمل (قَضِيَّة كُلية كبرى لسهلة الْحُصُول) أَي لقضية صغرى سهلة الْحُصُول بترتيبها مَعهَا تحصل النتيجة، وَأَشَارَ إِلَى وَجه سهولتها
بقوله (لانتظامها) أَي الصُّغْرَى (عَن) أَمر (محسوس) وَهِي (كَهَذا أَمر و) هَذَا (نهي) وكل أَمر للْوُجُوب فَهَذَا للْوُجُوب، وكل نهي للتَّحْرِيم فَهَذَا للتَّحْرِيم، فقولنا الْأَمر للْوُجُوب قَضِيَّة جعلت كبرى لصغرى وَهِي كَقَوْلِنَا أقِيمُوا الصَّلَاة أَمر وسهولة حُصُولهَا ظَاهِرَة، لِأَن الْعلم بِكَوْنِهَا أمرا للْعَالم باللغة والاصطلاح بديهي لَا يحْتَاج إِلَى تَأمل، والنتيجة، وَهِي أَن أقِيمُوا الصَّلَاة للْوُجُوب من جزئيات الْأَمر للْوُجُوب فَيرجع مآل هَذَا التَّعْرِيف إِلَى مَا مر من تَعْرِيفهَا، وَمعنى انتظام الصُّغْرَى تركب أَجْزَائِهَا من الْمَوْضُوع والمحمول وَالْحكم، وَإِنَّمَا ينشأ هَذَا الانتظام عَن محسوس، وَهُوَ موضوعها، وَإِنَّمَا حكم بِكَوْن موضوعها محسوسا على الْإِطْلَاق لاندراجها تَحت مَوْضُوع الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ من مسَائِل الْأُصُول، وموضوع مسَائِل الْأُصُول على الْإِطْلَاق مندرج تَحت مَوْضُوع الْأُصُول، وَهُوَ الدَّلِيل السمعي، وَهُوَ محسوس بحاسة السّمع، وَكَيْفِيَّة الانتظام أَنَّك إِذا نظرت فِي المحسوس الَّذِي هُوَ أقِيمُوا الصَّلَاة مثلا وجدت أَنه أَمر، فتحكم أَنه أَمر ثمَّ تضم هَذِه الْقَضِيَّة الَّتِي انتظمت إِلَى الْكُلية الَّتِي تكون النتيجة من جزئياتها (وَهَذَا) التَّعْرِيف (حد أسمى) الْحَد عِنْد الْأُصُولِيِّينَ مَا يُمَيّز الشَّيْء عَن غَيره، وينقسم إِلَى حَقِيقِيّ وأسمى ولفظي، فالحقيقي مَا أنبأ عَن ذاتياته الْكُلية المركبة، لِأَنَّهَا فُرَادَى لَا تفِيد الْحَقِيقَة لفقد الصُّورَة، والأسمى مَا أنبأ عَن الشَّيْء بلازمه مثل الْخمر مَائِع يقذف بالزبد، واللفظي مَا أنبأ عَن الشَّيْء بِلَفْظ أظهر مرادف، كَذَا ذكر الشَّيْخ ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصره، وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي حَاشِيَته عَلَيْهِ: الْحَد اللَّفْظِيّ عِنْد الْمُحَقِّقين هُوَ أَن يقْصد بَيَان مَا تعقله الْوَاضِع، فَوضع الِاسْم بإزائه سَوَاء كَانَ بِلَفْظ مرادف، أَو باللوازم، أَو بالذاتيات حَتَّى أَن مَا يُقَال فِي أول الهندسة أَن المثلث شكل يُحِيط بِهِ ثَلَاثَة أضلاع تَعْرِيف اسْمِي، ثمَّ بعد مَا يتَبَيَّن وجوده يصير هُوَ بِعَيْنِه حدا حَقِيقِيًّا انْتهى، وَالْمرَاد بِالْحَدِّ الأسمى هُنَا مَا ذكره الْمُحَقق يُشِير إِلَى قَوْله (وَلَا يُنَافِي الْحَقِيقِيّ) أَي لَا يُنَافِي كَونه الْحَد الأسمى كَونه الْحَد الْحَقِيقِيّ، وَقد عرفت لجَوَاز أَن يبين وجوده، وَتَكون الْمَذْكُورَات ذاتيات الْمُعَرّف (وَاخْتلف) بَين الْأُصُولِيِّينَ (فِيهِ) أَي الْحَد من حَيْثُ كَونه (مُقَدّمَة الشُّرُوع وَلَا خلاف) بَينهم (فِي خِلَافه) وَهُوَ الْحَد بِدُونِ الْقَيْد الْمَذْكُور: أَي لم يَخْتَلِفُوا فِي جَوَاز أَن أَن يكون للْعلم حد حَقِيقِيّ من غير أَن يَجْعَل مُقَدّمَة، فَالضَّمِير للمقيد (كَمَا قيل) من أَنه لَا خلاف فِيهِ بَينهم، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى كَمَا قيل من أَن بَينهم فِيهِ خلافًا، وَإِنَّمَا لم يَخْتَلِفُوا (لِإِمْكَان تصور) الْعقل (مَا يَتَّصِف بِهِ) الضَّمِير الْمَرْفُوع لِلْعَقْلِ المرموز إِلَيْهِ بِذكر التَّصَوُّر، وَالْمَجْرُور للموصول حَاصِل التَّعْلِيل رفع مَا يتَوَهَّم أَن يكون مَانِعا عَن التَّحْدِيد من أَنه لَا يجوز تَحْدِيد الْعلم، لِأَنَّهُ إِدْرَاك، وَالْحَد كَذَلِك فَلَا يتَعَلَّق بِهِ إِلَّا يلْزم إِدْرَاك الْإِدْرَاك، فَالْجَوَاب منع بطلَان الثَّانِي
لجَوَاز أَن يتَصَوَّر الْعقل مَا قَامَ بِهِ أَي وصف كَانَ (وَلَو) كَانَ ذَلِك الْوَصْف (تصورا) من تصوراته، لَا يُقَال لَا يجوز أَن يتَصَوَّر تصَوره، وَإِلَّا يلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل (إِذْ الْحُصُول) أَي حُصُول التَّصَوُّر الَّذِي اتّصف بِهِ الْعقل فِي نفس الْأَمر (لَا يستلزمه) أَي لَا يسْتَلْزم تصور التَّصَوُّر، بل علمه وتصوره كَسَائِر صِفَاته الْمَوْجُودَة فِيهِ، وَلَا شكّ أَنه لَا يلْزم من اتصافه بِتِلْكَ الصِّفَات شعوره بهَا فَإِن قلت تصور التَّصَوُّر عينه، لأَنهم صَرَّحُوا بِأَن علم النَّفس بذاتها وصفاتها حضوري لَا حصولي: يَعْنِي يحضر عِنْدهَا بِذَاتِهِ لَا بصورته ومثاله قلت لَكِن لَا بُد من توجه النَّفس إِلَى مَا يَتَّصِف بِهِ لينكشف عِنْده بِذَاتِهِ لَا بصورته، والحصول لَا يسْتَلْزم ذَلِك، على أَن التَّوَهُّم الْمَذْكُور مَبْنِيّ على كَون الْمَحْدُود إِدْرَاك الْقَوَاعِد لَا نَفسهَا، ثمَّ بَين الِاخْتِلَاف بقوله (فَقيل لَا) يجوز أَن يكون الْحَد الْحَقِيقِيّ مُقَدّمَة الشُّرُوع (لِأَن الْكَثْرَة) الْمَذْكُورَة فِي الادراكات ومتعلقاتها (بِتِلْكَ الْوحدَة) الاعتبارية الْحَاصِلَة للْعلم من جِهَة الْغَايَة والموضوع (لَا تصير نوعا حَقِيقِيًّا) وَلَا بُد أَن يكون الْمَحْدُود نوعا حَقِيقِيًّا لاتحاده مَعَ الْحَد الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ مركب من الْجِنْس والفصل الَّذِي لَا يتركب مِنْهُمَا إِلَّا الماهيات الْحَقِيقِيَّة الَّتِي وحدتها حَقِيقِيَّة، لَا بِمُجَرَّد اعْتِبَار الْعقل (وَمُقْتَضى هَذَا) الدَّلِيل (نَفْيه) أَي نفي الْحَد الْحَقِيقِيّ للْعلم (مُطلقًا) سَوَاء جعل مُقَدّمَة الشُّرُوع أم لَا (فَفِيهِ) أَي فِي حكم وجود الْحَد الْحَقِيقِيّ للْعلم (الْخلاف أَيْضا) كَمَا فِي كَونه مُقَدّمَة الْعلم: يَعْنِي الْخلاف الْمَذْكُور خلاف فيهمَا جَمِيعًا بِاعْتِبَار هَذَا الدَّلِيل فَصَاحب هَذَا الدَّلِيل يَنْفِيه، وخصمه يُثبتهُ (وَلِأَنَّهُ) أَي الْحَد الْحَقِيقِيّ إِنَّمَا يتَحَقَّق (بسرد الْعقل) كل الْمسَائِل) أَي بتعقلها متتابعة، لِأَن الْحَد عبارَة عَن تعقل كنه الْمَاهِيّة، وكنه مَاهِيَّة الْعلم عين مسَائِله (وَلَيْسَ) الْحَد الْحَقِيقِيّ (حِينَئِذٍ الْمُقدمَة) أَي مُقَدّمَة الشُّرُوع للْعلم، بل هُوَ نفس الْعلم وَتَمَامه مفصلا (وَقيل نعم) أَي يجوز أَن يكون الْحَد الْحَقِيقِيّ مُقَدّمَة الشُّرُوع (لِأَن الادراكات أَو متعلقاتها كالمادة) وَهِي مَا بِهِ الْمركب مَوْجُود بِالْقُوَّةِ كأجزاء السرير بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ قبل التَّرْكِيب وَبعده إِذا قطعت النّظر عَن هَيئته (ووحدتها الدَّاخِلَة) أَي وحدة الادراكات أَو متعلقاتها بِاعْتِبَار الْمَوْضُوع والغاية الدَّاخِلَة فِي حَقِيقَتهَا (كالصورة) وَهِي مَا بِهِ الْمركب مَوْجُود بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا لم يقل مَادَّة وَصُورَة، لِأَنَّهُمَا لَا يتحققان إِلَّا فِي المركبات الخارجية (فينتظم) الْمركب (الْمَأْخُوذ مِنْهُمَا) أَي شبهي الْمَادَّة وَالصُّورَة (جِنْسا وفصلا) أَي يَنْتَظِم الْمركب الْمَأْخُوذ من شبهي الْمَادَّة وَالصُّورَة بِأَن يُؤْخَذ الْجِنْس مَا هُوَ كالمادة والفصل مِمَّا هُوَ كالصورة فيركب حد مِنْهُمَا، وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادر من الْعبارَة، وَلَا يخفى فَسَاده لِأَن الْمَادَّة وَالصُّورَة متباينان
فَكيف يكون المأخوذان مِنْهُمَا المحمولان عَلَيْهِمَا جِنْسا وفصلا مَعَ أَن الْجِنْس مَحْمُول على الْفَصْل، وَيُمكن أَن يكون المُرَاد أَخذ كل وَاحِد من الْجِنْس والفصل من مَجْمُوع الْمَادَّة وَالصُّورَة، وَلَا يخفى مَا فِيهِ (من غير حَاجَة) للحاد (إِلَى سرد الْكل) كَمَا زعم النَّافِي، ثمَّ لما ذكر الْخلاف أَرَادَ بَيَان مَا عِنْده من تَحْقِيق الْمقَام، فَقَالَ (وَإِذا كَانَ الْعلم مُطلقًا) أَي مَفْهُوم الْعلم الَّذِي يصدق على كل وَاحِد من الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة من غير تَقْيِيد (ذاتيا لما) ينْدَرج (تَحْتَهُ) كالفقه وَالْأُصُول وَالْكَلَام وَغَيرهَا دَاخِلا فِي حَقِيقَتهَا (وَالْعلم الْمَحْدُود) كالأصول (لَيْسَ إِلَّا صنفا) مِنْهُ، وَلَعَلَّه قَالَ صنفا، وَلم يقل نوعا لكَون الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة كلهَا مندرجة تَحت نوع من أَنْوَاع الْعلم الْمُطلق، وَهُوَ الْعلم الْمُتَعَلّق بالمسائل المتحدة بِاعْتِبَار الْمَوْضُوع والغاية، والصنف كلي مندرج تَحت النَّوْع حَقِيقَته النَّوْع الْمُقَيد بِعَارِض غير شخص (لم يبعد) جَوَاب إِذا (كَونه) أَي الْخلاف (لفظيا) أَي فِي اللَّفْظ دون الْمَعْنى، لعدم وُرُود النَّفْي وَالْإِثْبَات على مَحل وَاحِد (مَبْنِيا على) اخْتِلَاف (الِاصْطِلَاح فِي مُسَمّى) الْحَد (الْحَقِيقِيّ أهوَ) اصْطِلَاحا (ذاتيات) الْمَاهِيّة (الْحَقِيقِيَّة) أَي الْمَوْجُودَة فِي الْخَارِج الثَّابِتَة فِي نفس الْأَمر مَعَ قطع النّظر عَن اعْتِبَار الْعقل كَمَا هُوَ اصْطِلَاح المنطقيين (أَو) هُوَ ذاتيات الْمَاهِيّة (مُطلقًا) حَقِيقِيَّة كَانَت أَو اعتبارية، فَمن ذهب إِلَى الأول نفي، وَمن ذهب إِلَى الثَّانِي أثبت، فمورد النَّفْي الْحَد بِالْمَعْنَى الأول، وَالْإِثْبَات بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَلَا مُنَافَاة بَين نفي الْأَخَص وَإِثْبَات الْأَعَمّ.
(الثَّانِي) من الْأُمُور الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الْكتاب مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف: أَي فِي بَيَان مَوْضُوعه أَو قَوْله (مَوْضُوعه الدَّلِيل السمعي الْكُلِّي) إِلَى آخر المبحث: مَوْضُوع الْعلم مَا يبْحَث فِيهِ عَن عوارضه الذاتية، والعارض الْخَارِج الْمَحْمُول والذاتي الَّذِي منشأ عروضه الذَّات كالمدرك للْإنْسَان، أَو مَا هُوَ مسَاوٍ للذات كالضاحك الْعَارِض لَهُ بِوَاسِطَة التَّعَجُّب، أَو جزئها الْأَعَمّ كالمتحرك بِوَاسِطَة الْحَيَوَان، والبحث عَنْهَا حملهَا على نفس الْمَوْضُوع بِدَلِيل، نَحْو الدَّلِيل السمعي يُفِيد الحكم قطعا أَو ظنا، أَو على نوع مِنْهُ نَحْو الْأَمر يُفِيد الْوُجُوب، أَو على عرضه الذاتي نَحْو الْعلم يُفِيد الْقطع، أَو على نَوعه نَحْو الْعَام الَّذِي يخص مِنْهُ الْبَعْض يُفِيد الظَّن، قيد بالكلى لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد مَا صدقاته، وَقيل مَوْضُوعه الْأَدِلَّة الْأَرْبَعَة وَالْأَحْكَام لِأَن الْأَحْوَال بَعْضهَا رَاجع إِلَى الْأَدِلَّة، وَبَعضهَا إِلَى الْأَحْكَام، وَقيل هُوَ الْأَدِلَّة وَمَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ من حَيْثُ الثُّبُوت رَاجع إِلَى الْأَدِلَّة من حَيْثُ الْإِثْبَات، وَقيل هُوَ الْأَحْكَام من حَيْثُ ثُبُوتهَا بالأدلة. وَاخْتَارَ المُصَنّف رحمه الله مفهوما وَاحِدًا، أَفْرَاده الْأَدِلَّة نظرا إِلَى كَونه أقرب إِلَى الضَّبْط (من حَيْثُ يُوصل الْعلم بأحواله إِلَى قدرَة إِثْبَات الْأَحْكَام لأفعال الْمُكَلّفين) الْحَيْثِيَّة الْمَذْكُورَة
قيد للموضوع عِنْد الْمُحَقِّقين: يَعْنِي موضوعيته لَهُ بِاعْتِبَار الإيصال الْمَذْكُور فَلَا يبْحَث فِيهِ إِلَّا عَن أَحْوَاله الَّتِي لَهَا مدْخل فِي الإيصال، وَقيل قد يكون جُزْءا مِنْهُ، وَذَلِكَ إِذا لم يبْحَث فِي الْعلم عَنْهَا كحيثية الْوُجُود فِي مَوْضُوع الْعلم الإلهي الباحث عَن أَحْوَال الموجودات الْمُجَرَّدَة، وَهُوَ الْمَوْجُود من حَيْثُ هُوَ مَوْجُود، إِذْ لَا يبْحَث فِيهِ عَن نفس الْوُجُود، لِأَنَّهُ لَا يبْحَث فِي الْعلم عَن نفس الْمَوْضُوع وَعَن أَجْزَائِهِ، وَقد تكون خَارِجَة عَنهُ وَلَيْسَت بِقَيْد لَهُ، بل تذكر لبَيَان الْأَعْرَاض المبحوث عَنْهَا كالصحة وَالْمَرَض فِي مَوضِع الطِّبّ وَهُوَ بدن الْإِنْسَان، وَيرد عَلَيْهِ أَنه يلْزم حِينَئِذٍ تشارك العلمين الباحثين عَن أَحْوَال شَيْء وَاحِد فِي مَوْضُوع وَاحِد بِالذَّاتِ وَالِاعْتِبَار، لعدم تَقْيِيد الْمَوْضُوع بِقَيْد، وَقد تقرر أَن تمايز الْعُلُوم بِحَسب تمايز الموضوعات، فالتحقيق أَنَّهَا قيد لَهُ، وَإِنَّمَا اعْتبر الْقُدْرَة لَا الْإِثْبَات بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَحَقَّق عِنْد معرفَة تفاصيل الْأَدِلَّة، وَالْمَذْكُور فِي الْأُصُول إجمالها، فَالْمُرَاد إِثْبَات الْأَحْكَام تَفْصِيلًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أخذا من شخصياته) حَال من الْأَحْكَام لكَونهَا مفعول الْإِثْبَات معنى: أَي إِثْبَاتهَا حَال كَونهَا مَأْخُوذَة من شخصيات الدَّلِيل السمعي الْكُلِّي: يَعْنِي أَفْرَاد الشخصية، وَذَلِكَ لِأَن الْأَدِلَّة التفصيلية تدل على الْأَحْكَام التفصيلية بِوَاسِطَة كيفيات متنوعة كل نوع مِنْهَا يبين مَسْأَلَة من مسَائِل الْأُصُول، فَمن عرف الْأُصُول عرف تِلْكَ الْأَنْوَاع فَحصل لَهُ قدرَة إِثْبَات الْأَحْكَام لحُصُول الاستعداد لَهُ بمعرفتها، فَكل حكم أَرَادَ إثْبَاته بدليله وجد عِنْده مَا يبين كَيْفيَّة إثْبَاته، وَهَذَا هُوَ المُرَاد بِالْقُدْرَةِ (وبالفعل فِي الْمسَائِل أَنْوَاعه وأعراضه وأنواعها) عطف على مَحْذُوف هُوَ مُتَعَلق الْمُبْتَدَأ، وَالتَّقْدِير مَوْضُوعَة بِالْقُوَّةِ الدَّلِيل السمعي إِلَى آخِره، وبالفعل فِي الْمسَائِل أَنْوَاع الدَّلِيل السمعي، وأنواع تِلْكَ الْأَعْرَاض، أما كَون هَذِه الْأَشْيَاء مَوْضُوعَات فَظَاهر لِأَنَّك إِذا نظرت فِي مسَائِل الْأُصُول وجدت موضوعاتها هَذِه الْأَشْيَاء، وَهِي الَّتِي يبْحَث عَن عوارضها الذاتية فِي هَذَا الْعلم، وَأما الدَّلِيل السمعي الْمُطلق فَلَا يكَاد يُوجد الْبَحْث عَن عَارضه الذاتي من حَيْثُ هُوَ مَوْضُوع بِالْفِعْلِ فِي مَسْأَلَة غير أَنه لما كَانَت من مَوْضُوعَات الْمسَائِل كلهَا جزئيات إضافية لَهُ أمكن أَن يُؤْخَذ من كل طَائِفَة مستوعبة جَمِيع أَفْرَاد الْمُطلق من محمولات الْمسَائِل مَفْهُوم مردد بَين آحَاد تِلْكَ الطَّائِفَة فَيثبت للمطلق، وكما أَن كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد عرض ذاتي للجزئي الإضافي للمطلق كَذَلِك المردد الْمَأْخُوذ مِنْهَا عرض ذاتي للمطلق، فَثَبت كَونه مَوْضُوعا بِالْقُوَّةِ، وَسَيَجِيءُ فِي كَلَام المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى مَا يُشِير إِلَى هَذَا (فَالْمُرَاد بالأحوال) الَّتِي يتَوَصَّل الْعلم بهَا إِلَى الْقُدْرَة الْمَذْكُورَة (مَا يرجع إِلَى الْإِثْبَات) يَعْنِي أحوالا حَاصِل الْبَحْث عَنْهَا ومآله يرجع إِلَى كَون الدَّلِيل مثبتا للْحكم، وَلِهَذَا يُفِيد الْعلم بهَا قدرَة الاثبات
وَبِهَذَا ظهر وَجه التَّفْرِيع، وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بعض الْمُحَقِّقين من أَن فَائِدَة قيد الْحَيْثِيَّة أَن جَمِيع الْعَوَارِض المبحوث عَنْهَا فِي الْعلم لَا بُد أَن يكون لَهَا مدْخل فِي الْمَعْنى الَّذِي صَار قيدا للموضوع (وَهُوَ) أَي الْإِثْبَات الَّذِي هُوَ مرجع الْأَحْوَال عرض (ذاتي للدليل) السمعي الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْعلم، فمرجع الْأَحْوَال عرض ذاتي لَهُ مبحوث عَنهُ بِالْقُوَّةِ، وَهَذَا مَا وعدناك آنِفا (وَإِن لم يحمل الْإِثْبَات بِعَيْنِه) على الدَّلِيل: أَن وصلية، وَالْمعْنَى هُوَ ذاتي لَهُ مبحوث عَنهُ بإثباته لَهُ فِي ضمن إِثْبَات مَا يرجع إِلَيْهِ بجزئياته: وَإِن لم يكن هُوَ بِعَيْنِه مَحْمُولا عَلَيْهِ، وَوضع الظَّاهِر مَوضِع الضَّمِير للتنصيص على أَن الْمَنْفِيّ عَنهُ الْحمل إِنَّمَا هُوَ نفس الْإِثْبَات لَا مَا يرجع إِلَيْهِ، وَقد عرفت (وَنَظِيره) أَي الْإِثْبَات فِي كَونه عرضا ذاتيا للموضوع غير مَحْمُول عَلَيْهِ مَا يرجع إِلَيْهِ (فِي الْمنطق) الإيصال، لِأَنَّهُ (لَا مَسْأَلَة) فِيهِ (محمولها الإيصال) كَمَا لَا مَسْأَلَة فِي الْأُصُول محمولها الْإِثْبَات وموضوع الْمنطق الْمَعْلُوم التصوري أَو التصديقي من حَيْثُ الإيصال إِلَى التَّصَوُّر، أَو التَّصْدِيق بِمَعْنى أَن جَمِيع الْأَحْوَال المبحوث عَنْهَا فِيهِ يرجع إِلَى الإيصال (وَمُقْتَضى الدَّلِيل خُرُوج عنوان الْمَوْضُوع) أَي خُرُوج الْبَحْث عَن عنوان الْمَوْضُوع عَن مبَاحث الْعلم الَّذِي هُوَ مَوْضُوعه: والبحث عَنهُ إثْبَاته لنَفس الْمَوْضُوع، وَالْمرَاد بعنوانه مَا جعل آلَة ملاحظته عِنْد تَعْيِينه فِي قَوْلهم: مَوْضُوع الْعلم كَذَا من حَيْثُ كَذَا، مَأْخُوذ من عنوان الْكتاب الدَّال على مضمونه إِجْمَالا، فالعنوان هَهُنَا الدَّلِيل السمعي من حَيْثُ يُوصل الخ، وَذَلِكَ لِأَن وَظِيفَة الْعلم بَيَان أَحْوَال الْمَوْضُوع، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بعد الْعلم بِذَاتِهِ وعنوانه الَّذِي بِهِ يعرف وَلِأَن الْمَوْضُوع إِنَّمَا وضع لِأَن يحمل عَلَيْهِ، لَا لِأَن يحمل على شَيْء، فَإِنَّهُ قلب الْمَوْضُوع (فالبحث عَن حجية الْإِجْمَاع) بِأَن يُقَال الْإِجْمَاع حجَّة (وَخبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس) بِأَن يُقَال هما حجتان (لَيْسَ مِنْهُ) أَي علم الْأُصُول لِأَن معنى " حجَّة " دَلِيل. وَهُوَ عنوان الْمَوْضُوع (بل من) مسَائِل (الْفِقْه لِأَن موضوعاتها أَفعَال الْمُكَلّفين ومحمولاتها الحكم الشَّرْعِيّ إِذْ معنى حجَّة يجب الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ وَهُوَ) أَي مَا ذكرنَا (فِي الْقيَاس على تَقْدِير كَونه فعل الْمُجْتَهد) بِأَن يُفَسر ببذل الْجهد فِي اسْتِخْرَاج الْحق أَو حمل الشَّيْء على غَيره بإجراء حكمه عَلَيْهِ وَنَحْوه (أما على) تَقْدِير (أَنه الْمُسَاوَاة الكائنة عَن تَسْوِيَة الله تَعَالَى بَين الأَصْل وَالْفرع فِي الْعلَّة) المشيرة للْحكم (فَلَيْسَتْ) حجيته (مَسْأَلَة) أصلا (لِأَنَّهَا) أَي حجية الْمُسَاوَاة الْمَذْكُورَة (ضَرُورِيَّة دينية) أَي بديهية فِي الدّين وضروريات الدّين لَا تكون مسَائِل، لِأَن المسأله مَا يبرهن عَلَيْهِ فِي الْفَنّ، والبديهي لَا يبرهن عَلَيْهِ، أما البداهة فَلِأَن من عرف معنى الْقيَاس على الْوَجْه الْمَذْكُور وَعرف معنى الحجية لَا يتَوَقَّف فِي الحكم بِأَنَّهُ حجَّة، وَلَا يضر فِي بداهة الحكم نظرية طَرفَيْهِ (بِخِلَاف) الْبَحْث عَن
(عُمُوم النكرَة) الْوَاقِعَة (فِي) سِيَاق (النَّفْي) فَإِنَّهُ غير خَارج عَن مبَاحث الْأُصُول بِمُقْتَضى الدَّلِيل لعدم اندراجه تَحت عنوان الْمَوْضُوع (فَإِنَّهُ) أَي الْعُمُوم (حَال للدليل) أَي عرض ذاتي للدليل الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْأُصُول، لَا من عنوانه، وَلَيْسَ ببديهي أَيْضا، وَكَأَنَّهُ تَركه لظُهُوره (فَعَن هلية الْمَوْضُوع البسيطة أولى) يَعْنِي إِذا كَانَ الْبَحْث عَن حجية الْمَذْكُورَات خَارِجا عَن الْأُصُول، بِمُقْتَضى الدَّلِيل لاندراجها تَحت العنوان بالتأويل الْمَذْكُور، فالبحث عَن وجود الْمَوْضُوع أولى بِالْخرُوجِ عَنهُ، لِأَن الْعلم بِوُجُود الشَّيْء يقدم على الْعلم بعنوانه لِأَن عنوانه وصف ثَابت لَهُ وَثُبُوت الشَّيْء للشَّيْء فرع ثُبُوت الْمُثبت لَهُ، وَفِيه مَا فِيهِ، وَلِأَن الْأَحْوَال المبحوث عَنْهَا لَا بُد أَن يكون لَهَا مدْخل فِي الإيصال، والوجود لَا مدْخل لَهُ فِيهِ ثمَّ اعْلَم أَن " هَل " لطلب التَّصْدِيق، وَهِي قِسْمَانِ بسيطة، وَهِي الَّتِي يطْلب بهَا وجود الشَّيْء أَولا وجوده كَقَوْلِه: هَل الْحَرَكَة مَوْجُودَة أَو لَا مَوْجُودَة، ومركبة، وَهِي الَّتِي يطْلب بهَا وجود شَيْء لشَيْء كَقَوْلِنَا: هَل الْحَرَكَة دائمة أَو لَا دائمة؟، وَقد أَخذ فِي هَذِه شيآن غير الْوُجُود، فَإِن الْمَطْلُوب فِيهِ وجود الدَّوَام لَهَا أَو لَا وجوده، والوجود فِي البسيطة مَحْمُول، وَفِي المركبة رابطة، وَتَسْمِيَة وجود الشَّيْء هليته لِأَنَّهُ مَنْسُوب إِلَى " هَل " لِأَنَّهُ يسْأَل عَنهُ بهَا وَإِنَّمَا قيد بالبسيطة لِأَن الْبَحْث عَن المركبة من الْعلم، بل الْمَطْلُوب فِي كل مَسْأَلَة وجود شَيْء للموضوع (وَقَوْلهمْ) أَي الْقَائِلين بِأَن الْبَحْث عَن الهلية من الْفَنّ فِي إِثْبَات مدعاهم (مَا لم يثبت وجوده) أَي الْمَوْضُوع (كَيفَ يثبت لَهُ الْأَحْكَام.) فَإِن ثُبُوت شَيْء لشَيْء فرع ثُبُوت الْمُثبت لَهُ (يَقْتَضِي التَّوَقُّف) أَي توقف الْبَحْث عَن أَحْوَال الْمَوْضُوع على ثُبُوت وجوده (لَا) يقتضى (كَونهَا) أَي هليته (من مسَائِل الْعلم) كَيفَ وَقد صَرَّحُوا بِأَن التَّصْدِيق بموضوعيته لَيْسَ من مسَائِل الْعلم، وَهُوَ بعد الْعلم بِوُجُودِهِ، كَذَا قيل، وَلَا يخفى عدم استلزام الأول للثَّانِي غير أَن الأول أقرب مِنْهُ فِي كَونه من الْمسَائِل (وعَلى) قَول (من أَدخل الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة فِي مَوْضُوع الْأُصُول (إِذْ يبْحَث) فِيهِ (عَنْهَا) أَي عَن أَحْوَال الْأَحْكَام (من حَيْثُ تثبت) أَي الْأَحْكَام (بالأدلة لَا يبعد إِدْخَال الْمُكَلف الْكُلِّي) أَيْضا فِيهِ لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمُقْتَضى (إِذْ يبْحَث عَنهُ) أَي الْمُكَلف الْكُلِّي أَيْضا فِيهِ (من حَيْثُ تتَعَلَّق بِهِ الْأَحْكَام وَقد وَضعه الْحَنَفِيَّة) أَي عدوا الْمُكَلف الْكُلِّي من الْمَوْضُوع (معنى) أَي يُسْتَفَاد من كتبهمْ من غير تَصْرِيح مِنْهُم (وأحواله) أَي وضعُوا أَحْوَال الْمُكَلف أَيْضا (فِي تَرْجَمَة الْعَوَارِض السماوية والمكتسبة) تَرْجَمَة الْبَاب عنوانه لِأَنَّهُ يترجم عَن مضمونه إِجْمَالا من الترجمان، وَهُوَ الْمُفَسّر للسان، وَالْمرَاد بالعوارض السماوية مَا لَيْسَ للْعَبد فِيهِ اخْتِيَار، والمكتسبة الَّتِي اكتسبها العَبْد (لبَيَان كَيفَ تتَعَلَّق بِهِ الْأَحْكَام) أَي وضع
الْحَنَفِيَّة الْمُكَلف وأحواله فِي الْبَحْث الْمَذْكُور لبَيَان كَيْفيَّة تعلق الْأَحْكَام بِهِ، وَقَوله لبَيَان كَيفَ الخ كَقَوْلِهِم فِي جَوَاب مَا هُوَ: أَي فِي جَوَاب السُّؤَال بِمَا هُوَ. أَي فِي جَوَاب هَذَا اللَّفْظ فَلَا يرد أَنه لَا يجوز إِضَافَة الْبَيَان إِلَى مَا يقتضى صدر الْكَلَام (وَإِذا كَانَت الْغَايَة الْمَطْلُوبَة) من الْعلم (لَا تترتب إِلَّا على) الْبَحْث عَن أَحْوَال (أَشْيَاء كَانَت) تِلْكَ الْأَشْيَاء (الْمَوْضُوع) أَي مَوْضُوع الْعلم المغيا بِتِلْكَ الْغَايَة (كَمَا لَو ترتبت غايات على جمل من أَحْوَال) شَيْء (وَاحِد) كَانَ ذَلِك الْوَاحِد من مَوْضُوع عُلُوم فَهُوَ تَشْبِيه مركب بمركب، وهما الهيئتان الحاصلتان من الشرطيتين، وَوجه الشّبَه استتباع الْغَايَة من حَيْثُ الترتب الْمَوْضُوع من حيثية التَّعَدُّد أَو الْوحدَة فَفِي الْمُشبه استتبع ترتبها، وَهِي وَاحِدَة على الْبَحْث عَن أَحْوَال المتعدد ووحدة الْمَوْضُوع، وَفِي الْمُشبه بِهِ استتبع ترتبها، وَهِي مُتعَدِّدَة على أَحْوَال شَيْء وَاحِد تعدده، وَكلمَة مَا زَائِدَة مسوغة دُخُول الْحَرْف على الشّرطِيَّة، فَالْعِبْرَة فِي وحدة الْمَوْضُوع وكثرته بِحَال الْغَايَة ووحدتها وتعددها وترتبها (حَيْثُ يكون) الْوَاحِد الَّذِي ترتبت الغايات على جمل من أَحْوَاله (مَوْضُوع عُلُوم يخْتَلف) ذَلِك الْوَاحِد الْمَوْضُوع (فِيهَا) فِي تِلْكَ الْعُلُوم (بالحيثية) بِأَن يَجْعَل مَوْضُوع هَذَا الْعلم من حَيْثُ يُوصل الْعلم بجملة من أَحْوَاله إِلَى غَايَة كَذَا، وموضوع ذَلِك الْعلم من حَيْثُ يُوصل إِلَى جملَة أُخْرَى إِلَى غَايَة أُخْرَى وَهَكَذَا (وَمن هُنَا) أَي من أجل مَا ذكر من أَن الْعبْرَة بِحَال الْغَايَة فِي تعْيين الْمَوْضُوع (استتبعته) أَي الْغَايَة الْمَوْضُوع، إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من قَوْله وَلها وحدة غَايَة تستتبع وحدة موضوعها (وَلُزُوم التناسب) بَين الْأَشْيَاء الَّتِي ترتبت عَلَيْهَا الْغَايَة وَجعلت مَوْضُوعا أَمر (اتفاقي) لَا يَقْتَضِيهِ دَلِيل عَقْلِي فَإِن قلت كَيفَ جمع بَين اللُّزُوم والاتفاق قلت لَا مُنَافَاة، لِأَنَّهُ لم يرد بِهِ اللُّزُوم الْعقلِيّ بل كَونه أمرا مطردا لَا يتَخَلَّف فِي مَادَّة أصلا، فاللزوم أُرِيد بِهِ لَازمه (وَلَو اتّفق ترتبها) أَي الْغَايَة على الْأَشْيَاء (مَعَ عَدمه) أَي التناسب كَمَا اتّفق مَعَه (أهْدر) أَي التناسب وَأسْقط عَن دَرَجَة الِاعْتِبَار لعدم الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ، وَاخْتَارَ كلمة لَو لِأَنَّهُ غير وَاقع (وبحسب اتِّفَاق الترتب) أَي ترَتّب الْغَايَة على مَا يُوصل الْبَحْث عَن أَحْوَاله إِلَيْهَا (كَانَت) طَائِفَة من الْعُلُوم (متباينة) غير متشاركة فِي الْمَوْضُوع لترتب غَايَة بَعْضهَا على شَيْء مباين لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ غَايَة الآخر (و) طَائِفَة أُخْرَى مِنْهَا (متداخلة) لترتب غاياتها على شَيْء وَاحِد (إِلَّا فِي لُزُوم عرُوض عَارض المباين للْآخر فِي الْبَحْث) اسْتثِْنَاء من عُمُوم اعْتِبَار التباين والتداخل بِحَسب اتِّفَاق الترتب، يَعْنِي تباينها وتداخلها إِنَّمَا يعْتَبر بِحَسبِهِ فِي جَمِيع الصُّور إِلَّا فِي صُورَة لُزُوم الْعرُوض، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يعْتَبر التَّدَاخُل بِاعْتِبَار ذَلِك اللُّزُوم بِأَن يكون علمَان غَايَة كل مِنْهُمَا يَتَرَتَّب على مَا يباين مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ غَايَة الآخر لكنهما متشاركان فِي لُزُوم عرُوض
عَارض لموضوعيهما (فتتداخل) الْعُلُوم المتشاركة فِي لُزُوم عرُوض الْعَارِض على الْوَجْه الْمَذْكُور (مَعَ التباين) بِحَسب الْمَوْضُوع (للْعُمُوم الاعتباري) فَإِن موضوعاتها، وَإِن كَانَت متباينة بِحَسب الْحَقِيقَة لَكِنَّهَا بِسَبَب اشتراكها فِي لُزُوم الْعَارِض الْمَذْكُور صَارَت كَأَنَّهَا مَفْهُوم وَاحِد عَام يَشْمَل تِلْكَ الْعُلُوم، فالعموم الاعتباري بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاك فِي الْمَحْمُول (كالمويسيقي) بِضَم الْمِيم وَكسر الْمُهْملَة وَالْقَاف يوناني مَعْنَاهُ تأليف الألحان، واللحن من الْأَصْوَات المصنوعة (مَوْضُوعه النغم) محركة ويسكن، الْكَلَام الْخَفي، الْوَاحِدَة بهاء، وَفِي الِاصْطِلَاح النغمة صَوت يتصاعد أَو يتنزل بِدَرَجَة من الدَّرَجَات الشَّرِيفَة ظَاهرا أومخيلا كَمَا إِذا سمع شخص صَوتا مُخْتَلفا فِي الحدة والثقل، وَاسْتقر فِي سامعته، ثمَّ بَدَأَ بِصَوْت لَا اخْتِلَاف فِيهِ فيتخيل التصاعد أَو التنزل فِيهِ بِاعْتِبَار مَا اسْتَقر فِي سامعته، والدرجات الشَّرِيفَة تعرف بِأَن يبْدَأ بِصَوْت معِين بعلامة خَاصَّة فيتصاعد دَرَجَة دَرَجَة بِأَن يكون التَّفَاضُل فِي كل دَرَجَة يسع مِقْدَار حَده المبدأ إِلَى أَن يبلغ إِلَى سبع وَعشْرين دَرَجَة، وَهَذَا نِهَايَة التصاعد بِحَسب الاستقراء فيتضاعف الأَصْل أَربع مَرَّات، وَهَذِه الدَّرَجَات تسمى بالدرجات الشَّرِيفَة (ويندرج) المويسيقى (تَحت علم الْحساب، وموضوعه الْعدَد) وَهُوَ نصف مَجْمُوع الحاشيتين، وَقيل مَا يبين بِهِ كمية الشَّيْء (مَعَ تبَاين موضوعيهما كَمَا قيل إِذْ كَانَ الْبَحْث فِي النغم عَن النّسَب العددية) تَعْلِيل لاندراجه تَحت علم الْحساب، يُرِيد أَن النّسَب العددية عوارض ذاتية للعدد الَّذِي هُوَ مَوْضُوع علم الْحساب المباين لموضوع علم المويسيقى، وَقد بحث عَنْهَا فِي المويسيقى، كَمَا سبق إِلَيْهِ إِشَارَة على سَبِيل اللُّزُوم بِحَيْثُ لَا يَخْلُو عَنْهَا مَبْحَث مِنْهُ، فَصَارَ عرُوض هَذَا الْعَارِض للنغم لَازِما للبحث عَن النغم، وَهَذَا معنى لُزُوم عرُوض عَارض المباين: أَي الْعدَد الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْحساب فِي الْبَحْث عَن النغم الَّذِي هُوَ مَوْضُوع المويسيقى وَاعْلَم أَن الْمُعْتَبر فِي عَامَّة مسَائِل المويسيقى تأليف الألحان المتناسبة والتناسب بَينهَا إِنَّمَا يظْهر بِاعْتِبَار عدم الْأَجْزَاء وكيفياتها مثل الْبعد الصُّغْرَى إِنَّمَا يحصل بترتيب ثَلَاث دَرَجَات من الشَّرِيفَة، والكبرى من الْأَرْبَع، والكامل من الْخمس، وعَلى هَذَا الْقيَاس فالتناسب بَين الأبعاد لَا يظْهر إِلَّا بِالنّسَبِ العددية (وَاعْلَم أَن إيرادهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ وَغَيرهم (كلا من الْحَد والموضوع والغاية لتَحْصِيل البصيرة) للشارع فِي الْعلم (لَا يَخْلُو عَن اسْتِدْرَاك) لِأَنَّهُ فِي الْحَد يعرف الْمَوْضُوع والغاية، لِأَنَّهُ إِذا قيل: علم باحث عَن أَحْوَال كَذَا من حَيْثُ إِنَّه يُفِيد فَائِدَة كَذَا علم الْمَوْضُوع والغاية، فَإِن مَا يبْحَث عَن أَحْوَاله هُوَ الْمَوْضُوع، وَتلك الْفَائِدَة هِيَ الْغَايَة (إِلَّا من حَيْثُ التَّسْمِيَة باسم خَاص) اسْتثِْنَاء مِمَّا يدل عَلَيْهِ الِاسْتِدْرَاك، وَهُوَ نفي الْفَائِدَة، والمستثنى معرفَة اسْم خَاص للموضوع والغاية، وَفِي قَوْله لَا يَخْلُو إِشَارَة إِلَى أَنه لَيْسَ
بمستدرك من كل وَجه (وَلم يوردوه) أَي كلا مِنْهَا (لذَلِك) أَي لبَيَان ذَلِك الِاسْم الْخَاص بل لأجل البصيرة.
(الثَّالِث) من الْأُمُور الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الْكتاب (الْمُقدمَات المنطقية) سميت بهَا لكَونهَا من مسَائِل الْمنطق (مبَاحث النّظر) عطف بَيَان للمقدمات (وَتَسْمِيَة جمع) من الْأُصُولِيِّينَ كالآمدي وَمن تبعه (لَهَا) أَي للمقدمات المنطقية، أَو مبَاحث النّظر (مبادي كلامية بعيد) لِأَنَّهَا لَيست من الْكَلَام وَلَا كَونهَا مبادي يقْتَصر عَلَيْهِ (بل الْكَلَام فِيهَا كَغَيْرِهِ) من الْعُلُوم (لِاسْتِوَاء نسبتها إِلَى كل الْعُلُوم وَهُوَ) أَي وَجه الاسْتوَاء (أَنه) أَي الشَّأْن (لما كَانَ الْبَحْث ذاتيا للعلوم) أَي دَاخِلا فِي حَقِيقَتهَا (وَهُوَ) أَي الْبَحْث (الْحمل) أَي إِثْبَات شَيْء لشَيْء (بِالدَّلِيلِ) لِأَن حَقِيقَتهَا التصديقات المدللة وَالْإِثْبَات جُزْء مِنْهَا (وَصِحَّته) أَي الدَّلِيل (بِصِحَّة النّظر وفساده بِهِ) أَي بِفساد النّظر، والجمل مُعْتَرضَة بَين لما وجوابها: أَعنِي قَوْله (وَجب التَّمْيِيز) بَين صَحِيحه وفاسده بِبَيَان شَرَائِط صِحَّته من حَيْثُ الْمَادَّة وَالصُّورَة بالقوانين الْمَوْضُوعَة لذَلِك كَمَا سَيَجِيءُ (ليعلم) بالتمييز بَينهمَا (خطأ المطالب) الْمَقْصُودَة من الْأَدِلَّة الْقَائِمَة على الأبحاث الْمَذْكُورَة فِي الْعُلُوم (وصوابها) الْخَطَأ وَالصَّوَاب إِنَّمَا يستعملان فِي الْأَحْكَام العملية كَمَا أَن الْحق وَالْبَاطِل يستعملان فِي العقائد، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُمَا هَهُنَا مَا هُوَ أَعم (وَلَيْسَ فِي الْأُصُول من) مسَائِل (الْكَلَام إِلَّا مَسْأَلَة الْحَاكِم) وَهِي أَن الْحَاكِم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة كلهَا هُوَ الله سُبْحَانَهُ بِلَا خلاف، لَكِن هَل يتَعَلَّق لَهُ تَعَالَى حكم قبل الْبعْثَة وبلوغ الدعْوَة أم لَا، الأشعرية لَا، فَلَا يحرم كفر، وَلَا يجب إِيمَان قبلهَا، والمعتزلة نعم فِيمَا أدْرك الْعقل فِيهَا حسنا أَو قبحا (وَمَا يتَعَلَّق بهَا) بِمَسْأَلَة الْحَاكِم (من) مَسْأَلَة (الْحسن والقبح) هَل هما عقليان أم لَا (وَنَحْوه) أَي الْمَذْكُور، قيل كَمَسْأَلَة الْمُجْتَهد يُخطئ ويصيب، وَمَسْأَلَة خلو الزَّمَان عَن مُجْتَهد (وَهَذِه) أَي الْمَذْكُورَات (من الْمُقدمَات) لهَذَا الْعلم لَا من مسَائِله (يتَوَقَّف عَلَيْهَا زِيَادَة بَصِيرَة) فِي معرفَة بعض مقاصده وَلَيْسَت بمقدمة الشُّرُوع لعدم مدخليتها فِي أَكثر الْمَقَاصِد، وَلِهَذَا لم يوردوها قبل الشُّرُوع (وَتَصِح) أَن تكون (مبادي على) اصْطِلَاح (الْأُصُولِيِّينَ) قَالَ الْآمِدِيّ فِي الْأَحْكَام: اعْلَم أَن مبادي كل علم هِيَ التصورات والتصديقات الْمسلمَة فِي ذَلِك الْعلم، وَهِي غير مبرهنة فِيهِ لبِنَاء مسَائِل ذَلِك الْعلم عَلَيْهَا سَوَاء كَانَت مسلمة فِي نَفسهَا كمبادي الْعلم الْأَعْلَى، أَو غير مسلمة فِي نَفسهَا، بل مَقْبُولَة على سَبِيل المصادرة أَو الْوَضع على أَن تبرهن فِي علم أَعلَى من ذَلِك الْعلم انْتهى، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمسَائِل الْمَذْكُورَة مبرهنة فِي الْأُصُول فَلَا تكون من المبادي على مَا ذكره الْآمِدِيّ، نعم ذكر غَيره أَنَّهَا قد تطلق على مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الشُّرُوع والبحث عَن مسَائِله بوسط أَو بِغَيْرِهِ وَلم يشْتَرط فِيهَا أَلا تكون
مبرهنة فِي الْعلم الَّذِي يتَوَقَّف الْبَحْث عَن مسَائِله عَلَيْهَا، وَقد يُقَال كَونهَا مبرهنة فِي كتب الْأُصُول لَا يستدعى كَونهَا جُزْءا من الْعلم لجَوَاز كَونهَا استطرادية (وَلما انقسم) النّظر (إِلَى مَا يُفِيد علما)(و) إِلَى مَا يُفِيد (ظنا ميزا) أَي الْعلم وَالظَّن بِأَن عرف كل مِنْهُمَا (لِأَن تمييزهما) يسْتَلْزم التَّمْيِيز بَين مفيديهما (وَتَمَامه) أَي تَمام تمييزهما (بالمقابلات) أَي تَمْيِيز مقابلاتهما من الْوَهم وَالشَّكّ وَالْجهل والتقليد، وَهَذَا مَا قيل من أَن الْأَشْيَاء تتبين بأضدادها، قَالَ حجَّة الْإِسْلَام: رُبمَا يعسر تَحْدِيد الْعلم بِالْجِنْسِ والفصل، لِأَن ذَلِك متعسر فِي أَكثر المدركات كرائحة الْمسك، فَكيف فِي الادراكات؟ لَكِن يقدر على شرح مَعْنَاهُ بتقسيم وَمِثَال، أما التَّقْسِيم فَهُوَ أَن تميزه عَمَّا يلتبس بِهِ من الظَّن وَالشَّكّ بِالْجَزْمِ، وَعَن الْجَهْل بالمطابقة وَعَن اعْتِقَاد الْمُقَلّد بِأَنَّهُ يبْقى مَعَ تغير المعتقد وَيصير جهلا، وَأما الْمِثَال فَهُوَ أَن إِدْرَاك البصيرة شَبيه إِدْرَاك الباصرة كانطباع الصُّورَة فِي الْمرْآة، كَذَلِك الْعلم عبارَة عَن انطباع صُورَة المعقولات فِي الْعقل، وَالنَّفس بِمَنْزِلَة حَدِيدَة الْمرْآة وغريزتها الَّتِي بهَا تتهيأ لقبُول الصُّور: أَعنِي الْعقل بِمَنْزِلَة صقالة الْمرْآة واستنارتها وَحُصُول الصُّور فِي مرْآة الْعقل هُوَ الْعلم، فالتقسيم يقطعهُ عَن مظان الِاشْتِبَاه، وَهَذَا الْمِثَال يفهمك حَقِيقَته، وَالْمُصَنّف رحمه الله اقْتصر على الأول فَقَالَ (فالعلم) عِنْد الْأُصُولِيِّينَ (حكم) أَي إِدْرَاك وُقُوع النِّسْبَة أَو لَا وُقُوعهَا (لَا يحْتَمل طرفاه) أَي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَبِه (نقيضه) أَي الحكم، فَإِن كَانَ إِدْرَاك الْوُقُوع فنقيضه إِدْرَاك اللاوقوع، وَإِلَّا فبالعكس (عِنْد من قَامَ) الحكم (بِهِ) وَهُوَ الْحَاكِم (لموجب) مُتَعَلق لَا يحْتَمل. وَسَيَجِيءُ بَيَان الْمُوجب، وَالْمرَاد باحتمالهما النقيض عِنْد الْحَاكِم كَونهمَا بِحَيْثُ لَو فرض بَينهمَا نقيض لَا يعده الْحَاكِم محالا، بل يجوزه تجويزا مَا، فالعلم حكم لَا يكون طرفاه مَوْصُوفا بِهَذَا الْكَوْن وَنقض التَّعْرِيف بِالْعلمِ بالأمور العادية كَالْحكمِ بِكَوْن الْجَبَل الْغَائِب عَن النّظر حجرا لاتصاف طَرفَيْهِ بالكون الْمَذْكُور لجَوَاز انقلابه ذَهَبا لتجانس الْجَوَاهِر واستوائها فِي قبُول الصِّفَات مَعَ ثُبُوت الْقَادِر الْمُخْتَار وَأجِيب بِأَنَّهُ إِذا علم كَونه حجرا فِي وَقت اسْتَحَالَ كَونه ذَهَبا فِي ذَلِك الْوَقْت، فَإِذا علم كَونه حجرا دَائِما اسْتَحَالَ كَونه ذَهَبا فِي وَقت من الْأَوْقَات، وَلَا يخفى ضعفه وَالْجَوَاب مَا ذكره المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى بقوله (فَدخل العادي لِأَن إِمْكَان كَون الْجَبَل ذَهَبا لَا يمْنَع الْجَزْم بنقيضه عَن مُوجبه) وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ إِن أُرِيد بِالْجَزْمِ مَا لَا يُنَافِي تَجْوِيز النقيض فَهُوَ خَارج عَن المبحث، وَإِلَّا فالإمكان يمنعهُ، وَلذَا قَالَ (وَالْحق أَن إِمْكَان خرق الْعَادة الْآن) أَي آن الحكم بِكَوْنِهِ حجرا (وَهُوَ) أَي الْإِمْكَان (ثَابت) فِي نفس الْأَمر (يسْتَلْزم تَجْوِيز النقيض الْآن) أَي آن الحكم الْمَذْكُور (إِذا لوحظ النقيض) لِأَن عدم احْتِمَاله لخلو الذِّهْن عَنهُ خَارج عَن دَائِرَة الِاعْتِبَار، لِأَن الْعبْرَة بالتجويز وَعَدَمه عِنْد
الِالْتِفَات إِلَى النقيض، كَيفَ وَإِلَّا فطرفا الظَّن أَيْضا لَا يحْتَملهُ من حَيْثُ خلو ذهن الظَّان عَنهُ (فَالْحق أَن الْعلم كَذَلِك) أَي الْعلم الْمَوْصُوف بِكَوْن طَرفَيْهِ غير مُحْتَمل إِيَّاه (هُوَ مَا) أَي حكم (لَا يحْتَمل مُوجبَة التبدل) أَي الَّذِي أَفَادَهُ يكون بِحَيْثُ يَسْتَحِيل عِنْد الْعقل تخلف مفاده لما فِيهِ مِمَّا يَقْتَضِي ذَلِك (كالعقلي) أَي كالبرهان الْعقلِيّ الَّذِي مقدماته يقينية، وإنتاجه كَذَلِك (وَالْخَبَر الصَّادِق) الَّذِي يَسْتَحِيل عِنْد الْعقل كذبه وَحَاصِل هَذَا الْكَلَام إِن جَعَلْنَاهُ جَوَابا عَن الأشكال الْتِزَام خُرُوجه عَن التَّعْرِيف، وَمنع دُخُوله فِي الْمُعَرّف (وَالظَّن حكم يحْتَملهُ) أَي يحْتَمل طرفاه نقيضه عَن الظَّان إِن عرض عَلَيْهِ (مرجوحا) حَال مُؤَكدَة عَن الْمَفْعُول لكَون المرجوحية لَازِمَة لنقيضه، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على المصدرية كَمَا لَا يخفى (وَهُوَ) الْمُحْتَمل الْمَرْجُوح (الْوَهم وَلَا حكم فِيهِ) أَي الْوَهم (لاستحالته) أَي الحكم (بالنقيصين) وَذَلِكَ لِأَن النقيض الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الظَّن قد حكم بِهِ، فَإِن كَانَ فِي نقيضه أَعنِي مُتَعَلق الْوَهم حكم أَيْضا لزم الحكم بهما جَمِيعًا (وَالشَّكّ عدم الحكم بِشَيْء) من وُقُوع النِّسْبَة وَلَا وُقُوعهَا (بعد الشُّعُور) بهما، لِأَنَّهُ على تَقْدِير عدم الشُّعُور بِشَيْء مِنْهُمَا عدم الحكم ثَابت فِي مثل الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ (للتساوي) أَي تَسَاوِي الْوُقُوع، واللاوقوع فِي نظر الْعقل، فَإِن حكم بِشَيْء مِنْهُمَا لزم التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح، وَإِن حكم بهما جَمِيعًا لزم الحكم بالنقيضين، وَقد عرفت، وَلَا يخفى مَا فِي قَوْله: الشَّك عدم الحكم من الْمُسَامحَة، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة نوع من الْإِدْرَاك يلْزمه عدم الحكم، فَهُوَ تَفْسِير باللازم (فَيخرج أحد قسمي الْجَهْل الْبَسِيط) الْجَهْل وَهُوَ عدم الحكم المطابق عَمَّا من شَأْنه الْعلم قِسْمَانِ: أَحدهمَا مَا لم يقارن الحكم بنقيض مُتَعَلّقه، إِمَّا مَعَ عدم الشُّعُور بالمتعلق، وَقد خرج عَن تَعْرِيف الشَّك، وَإِمَّا مَعَه وَلم يخرج عَنهُ، وَثَانِيهمَا مَا يقارنه، فَالْأول أقل أَجزَاء، وَلذَا سمي بالبسيط، وَبِهَذَا ظهر وَجه تَسْمِيَة الْمركب، وَالْجهل الْمركب الحكم غير المطابق، فَلم يدْخل فِي التَّعْرِيف الْمَذْكُور (وَلم نشترط جرما) فِي الْجَهْل الْمركب بل يعمه بِحَيْثُ يَشْمَل الظَّن، وَلذَا قَالَ (لِأَن الظَّن غير المطابق لَيْسَ سواهُ) أَي لَيْسَ خَارِجا عَنهُ بل هُوَ دَاخل فِيهِ كَمَا أَن الْجَزْم الْغَيْر المطابق دَاخل فِيهِ فَإِن قلت هَذَا يُخَالف مَا فِي المواقف والمقاصد من أَنه عبارَة عَن اعْتِقَاد جازم غير مُطَابق قلت لَعَلَّه ظفر بِنَقْل مفصل لم يظفرا بِهِ، أَو هُوَ من تفَاوت اصطلاحي العلمين، وَفِي التَّلْوِيح مَا يُوَافق المُصَنّف رحمه الله (وَأما التَّقْلِيد) وَهُوَ الْعَمَل بقول الْغَيْر من غير حجَّة كأخذ الْعَاميّ والمجتهد بقول مثله، فالرجوع إِلَى الرَّسُول وَالْإِجْمَاع، وَرُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي وَالْقَاضِي إِلَى الشُّهُود لَيْسَ تقليدا لقِيَام الْحجَّة فِيهَا كَمَا بَين فِي مَحَله، وَإِن سمى بعض ذَلِك تقليدا فِي الْعرف فَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح، كَذَا أَفَادَهُ الْعَلامَة الْمُحَقق القَاضِي عضد الدّين (فَلَيْسَ
من حَقِيقَته ظن) أَي لَيْسَ من لَوَازِم حَقِيقَة التَّقْلِيد أَن يحصل للمقلد ظن بمضمون مَا قلد فِيهِ، وَذَلِكَ لما عرفت من أَنه عبارَة عَن الْعَمَل الْمَذْكُور بِغَيْر حجَّة، وَالَّذِي يعْمل بقول مثله من غير دَلِيل يجوز خلوه عَن التَّصْدِيق بمضمون ذَلِك القَوْل، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي اعْتِبَاره، وَالْأَصْل عدم الحكم وَإِن اتّفق ذَلِك، فَهُوَ أَمر لَا تَقْتَضِيه حَقِيقَته (فضلا عَن الْجَزْم كَمَا قيل) من أَن التَّقْلِيد لَا يَقْتَضِي التَّصْدِيق بمضمون مَا قلد فِيهِ فَإِن قلت الظَّن رُجْحَان أحد طرفِي النِّسْبَة مَعَ تَجْوِيز الآخر، فَيجوز أَلا يكون هَذَا الْقَيْد من حَقِيقَة التَّقْلِيد، بِاعْتِبَار الْقَيْد، وَهَذَا الْقَيْد مُنْتَفٍ فِي الْجَزْم، فَيجوز أَن يكون من حَقِيقَته قلت أَرَادَ بِالظَّنِّ الْمَنْفِيّ كَونه من حَقِيقَة التَّقْلِيد الرجحان الْمَذْكُور، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ من حَقِيقَته رُجْحَان مَا قلد فِيهِ على نقيضه فضلا عَن الْجَزْم الَّذِي فِيهِ ذَلِك الرجحان مَعَ زِيَادَة عدم احْتِمَال عدم النقيض فَإِن قلت المُصَنّف رحمه الله قد صرح فِي مَبْحَث التَّقْلِيد أَن إِيمَان الْمُقَلّد صَحِيح، لكنه آثم بترك النّظر، وَكَيف يَصح وتقليده لَا يسْتَلْزم التَّصْدِيق، وَهُوَ جُزْء من الْإِيمَان قلت معنى الْكَلَام أَن التَّصْدِيق لَيْسَ من لَوَازِم التَّقْلِيد مُطلقًا، فَيجوز أَن يكون لَازِما إِذا قيد بِقَيْد يَقْتَضِيهِ ككون مَا قلد فِيهِ من مقولة التَّصْدِيق، فَإِن الْعَمَل بِهِ لَا يتَصَوَّر بِدُونِهِ، على أَنه يجوز أَن يكون مَبْنِيّ هَذَا الْكَلَام على مَا ذهب إِلَيْهِ القَاضِي على مَا مر، فَإِن إِيمَان الْمُقَلّد بعد وجود الْمُجْتَهدين رُجُوع إِلَيْهِم، فَهُوَ من بَاب رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي، وَهُوَ لَيْسَ بتقليد بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ عمل بقوله مَعَ حجَّة، وَهِي الْإِجْمَاع على وجوب اتِّبَاعه إِيَّاه، وَمَا ذكره فِي آخر الْكتاب على تَحْقِيقه من أَن التَّقْلِيد هُوَ الْعَمَل بقول من لَيْسَ قَوْله إِحْدَى الْحجَج بِلَا حجَّة مِنْهَا، فَمِنْهُ رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي (بل قد يقدر عَلَيْهِ) أَي على ظن مَا قلد فِيهِ (إِذا كَانَ الْمُقَلّد) فَاعل يقدر وَكَانَ، على سَبِيل التَّنَازُع (قَرِيبا) من الِاجْتِهَاد بِأَن يكون عَالما بِطرف صَالح من عُلُوم الِاجْتِهَاد بدليله لَا يُقَال عِنْد حُصُول الظَّن عَن الدَّلِيل يخرج عَن التَّقْلِيد لِأَن من لم يبلغ دَرَجَة الِاجْتِهَاد لَا عِبْرَة بظنه، وَلذَا لَا يجب عَلَيْهِ اتِّبَاع ظَنّه (وَقد لَا) يقدر عَلَيْهِ إِمَّا لبعده عَنهُ، أَو لمَانع آخر كتعارض الأمارات من غير قُوَّة التَّرْجِيح (وغايته) أَي الْمُقَلّد (إِذن) أَي إِذا لم يقدر على ظن مَا قلد فِيهِ (حسن ظَنّه بمقلده) فَيحصل لَهُ بذلك ظن بِمَا قلد فِيهِ لَكِن لَا عَن دَلِيله، بل بِأَنَّهُ حكم أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد عَالم عَظِيم الشَّأْن، فَالظَّاهِر أَن يكون صَوَابا (وَقد يكون) أَي يُوجد التَّقْلِيد (وَلَا ظن) للمقلد بِأحد الْوَجْهَيْنِ (مَعَ علمه) أَي الْمُقَلّد (أَنه) أَي الْمُقَلّد بِفَتْح اللَّام (مفضول) فِيمَا قلد فِيهِ أَو مُطلقًا، لِأَن الْجُمْهُور على جَوَاز تَقْلِيد الْمَفْضُول مَعَ وجود الْفَاضِل كَمَا سَيَأْتِي (وَخرج التَّصَوُّر عَن الْعلم وَالظَّن على) قَول (الْأَكْثَر) أَي أَكثر الْأُصُولِيِّينَ (اصْطِلَاحا) على وضع لفظ الْعلم بِإِزَاءِ مَا لَا يصدق على التَّصَوُّر
(لَا لاعْتِبَار الْمُوجب) أَي لَا لأجل أَنهم اعتبروا فِي حد الْعلم أَن يكون عدم احْتِمَال النقيض فِيهِ لموجب وَلَا مُوجب لعدم احْتِمَاله فِي التَّصَوُّر، كَيفَ وَهُوَ غير مندرج فِي جنس التَّعْرِيف؟.
(وَقد يُقَال) فِي تَعْرِيف الْعلم (صفة) أَي أَمر قَائِم بِغَيْرِهِ (توجب تمييزا) أَي توجب كَون محلهَا، وَهُوَ النَّفس مُمَيزَة لما تعلّقت بِهِ الصّفة، فَإِن الْعلم صفة ذَات تعلق، والمميز هُوَ الْعَالم لَا الْعلم، فَخرج مَا عدا الادراكات من الصِّفَات النفسية كالشجاعة وَغَيرهَا كالسواد، فَإِنَّهَا وَإِن أوجبت لمحالها تمييزا ضَرُورَة تَمْيِيز الشجاع بشجاعته عَن الجبان، وَالْأسود بسواده عَن الْأَبْيَض لَكِنَّهَا لَا توجب لَهَا تمييزا، بِأَن تميز بِسَبَب اتصافها بهَا شَيْئا عَن شَيْء، كَمَا إِذا حصلت فِي النَّفس صُورَة زيد واتصفت بهَا ميزت بذلك الاتصاف زيدا عَن غَيره (لَا يحْتَمل) نقيض مُتَعَلّقه، أَي مَعَ حُصُول ذَلِك التَّمْيِيز لَا يجوز الْعقل تحقق النقيض فِي نفس الْأَمر، فَإِن كَانَ التَّمْيِيز الْمَذْكُور إِدْرَاك وُقُوع النِّسْبَة على سَبِيل الْجَزْم لم يجوز عدم وُقُوعهَا فِيهِ، وَإِن كَانَ إِدْرَاك اللاوقوع فبالعكس، وَإِن كَانَ تصورا ساذجا لَا يجوز كَون مُتَعَلّقه خلاف مَا تميز وانكشف بِهِ وَلذَا قَالَ (فَيدْخل) أَي التَّصَوُّر فِي هَذَا التَّعْرِيف لصدقه عَلَيْهِ بِخِلَاف التَّعْرِيف الأول، وَخرج بقوله لَا يحْتَمل الظَّن لاحْتِمَال النقيض، وَكَذَا الْجَهْل الْمركب لاحْتِمَال أَن يطلع صَاحبه على مَا فِي الْوَاقِع فيزول عَنهُ مَا حكم بِهِ من الْإِيجَاب وَالسَّلب إِلَى نقيضه، وَكَذَا التَّقْلِيد لاحْتِمَال زَوَاله بالتشكيك (وَعدم الْمُطَابقَة فِي تصور الْإِنْسَان صها لَا للْحكم الْمُقَارن، أما الصُّورَة فَلَا تحْتَمل غَيرهَا) جَوَاب سُؤال، وَهُوَ أَن التَّصَوُّر لَو لم يحْتَمل نقيض مُتَعَلّقه، لَكَانَ كل تصور مطابقا لمتعلقه لَا محَالة، كَمَا أَن كل تَصْدِيق لَا يحْتَملهُ كَذَلِك، وَاللَّازِم بَاطِل، فَإِن تصور الْإِنْسَان بِصُورَة الصاهلية مثلا تصور غير مُطَابق لمتعلقه، وَهِي الْحَقِيقَة الإنسانية، وَالْجَوَاب أَنه لَيْسَ مُتَعَلق ذَلِك التَّصَوُّر حَقِيقَة الْإِنْسَان بل حَقِيقَة الْفرس، غَايَة الْأَمر أَن المتصور أَخطَأ فِي الحكم بِأَن مُتَعَلّقه الْإِنْسَان فَعدم الْمُطَابقَة إِنَّمَا هُوَ فِي هَذَا الحكم، وَأما الصُّورَة الْمَذْكُورَة فَلَا تحْتَمل غير متعلقها الَّذِي هُوَ الْفرس فِي نفس الْأَمر، وَذَلِكَ لِأَن مُتَعَلق كل صُورَة مَا هِيَ ظلّ لَهُ وانعكست عَنهُ وَصَارَت هِيَ سبّ انكشافه، وَلَا شكّ أَن صور الصهال سَبَب انكشاف حَقِيقَة الْعَكْس عَنْهَا تِلْكَ الصُّورَة، وَهِي حَقِيقَة الْفرس، وتسميتها إنْسَانا خطأ نَشأ من التَّوَهُّم، فَهِيَ لَا تحْتَمل غَيرهَا.
(وَالْوَجْه) فِي تَعْرِيف الْعلم على وَجه يعم التَّصَوُّر أَن يُقَال (أَنه تَمْيِيز، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يقل كَذَا، بل يُقَال صفة كَمَا ذكر لم يكن التَّعْرِيف مَانِعا (فَإِنَّمَا يصدق على القوه الْعَاقِلَة) وَهِي كَيْفيَّة للنَّفس بهَا تدْرك الْأَشْيَاء، لِأَنَّهَا صفة توجب التَّمْيِيز، لِأَن المُرَاد بإيجابها استعقابها بِخلق الله التَّمْيِيز عَادَة فَإِن قلت إِيجَابهَا التَّمْيِيز بِوَاسِطَة الْعلم، وَإِيجَاب الْعلم إِيَّاه بِغَيْر وَاسِطَة، والمتبادر
هُوَ الْإِيجَاب بِغَيْر وَاسِطَة، فَيحمل عَلَيْهِ فَلَا نقض حِينَئِذٍ قلت مُرَاده الْوَجْه الْأَحْسَن أَنه تَمْيِيز لِأَنَّهُ غير مُحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل وَاعْلَم أَن ابْن الْحَاجِب عرف الْعلم بِمَا يعم التَّصَوُّر وَذكر مباحثه وَالْمُصَنّف رحمه الله اقْتصر على مَا هُوَ الأهم فِي الْأُصُول وَتركهَا لقلَّة الِاحْتِيَاج إِلَيْهَا لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ بَيَان طرق الِاسْتِدْلَال بالأدلة الشَّرْعِيَّة على الْأَحْكَام، لَا طرق التَّعْرِيف بالمعرفات وَلما وَقع التَّعَرُّض للتصور، وَمِنْه الْحَد، وَقد ذكرُوا أَنه لَا يكْتَسب بالبرهان وَلَا يُعَارض وَلَا يمْنَع أَشَارَ إِلَى مَا يُفِيد هَذِه الْأَحْكَام، فَقَالَ (وَلَا دَلِيل) يُقَام (إِلَّا على نِسْبَة) إيجابية أَو سلبية، وَلَا نِسْبَة فِي تعقل حَقِيقَة الْحَد، فَلَا يُقَام عَلَيْهِ وَلَا يكْتَسب بِهِ (وَكَذَا الْمُعَارضَة) لِأَنَّهَا إِقَامَة الدَّلِيل على خلاف مَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْخصم، وَكَذَا الْمَنْع، لِأَنَّهُ طلب الدَّلِيل على مُقَدّمَة الدَّلِيل (وَذَلِكَ) أَي إِقَامَة الدَّلِيل والمعارضة إِنَّمَا تكون (عِنْد ادعائها) أَي الصُّور التصورية (صُورَة كَذَا) ثَانِي مفعولي الادعاء (كصور الْحُدُود) أَي كادعاء صور الْحُدُود صور محدوداتها كَمَا إِذا ادعيت أَن الصُّورَة الْحَاصِلَة فِي الْعقل من الْحَيَوَان النَّاطِق صُورَة الْإِنْسَان (وَحِينَئِذٍ) أَي حِين يدعى ذَلِك فِي الْحُدُود (تقبل) صور الْحُدُود بِسَبَب انضمام الحكم الْمَذْكُور إِلَيْهَا (الْمَنْع) إِمَّا حَقِيقَة إِن أقيم عَلَيْهِ دَلِيل، وَإِمَّا مجَازًا إِن لم يقم (وَيدْفَع) الْمَنْع (فِي) الْحَد (الأسمى) وَهُوَ على مَا مر بَيَانه مَا وضع الِاسْم بإزائه، وَمنعه مَعْنَاهُ لَا نسلم كَون هَذَا مَا وضع بإزائه الِاسْم (بِالنَّقْلِ) مُتَعَلق بيدفع، فَإِن كَانَ لغويا ينْقل عَن أهل اللُّغَة، وَإِن كَانَ شَرْعِيًّا عَن أهل الشَّرْع، وعَلى هَذَا الْقيَاس (وَفِي) منع الْحَد (الْحَقِيقِيّ) بِأَن يُقَال لَا نسلم أَن هَذَا مَجْمُوع ذاتيات هَذَا الْمَحْدُود (الْعَجز) أَي عجز الحاد عَن دفع هَذَا الْمَنْع (لَازم) لِأَن معرفَة ذاتيات الماهيات الْحَقِيقِيَّة متعذرة، وَالْمرَاد تعذره بِالْقُوَّةِ الْعَاقِلَة، فَلَا يُنَافِي حُصُوله بالكشف الإلهي (لَا لما قيل) من أَنه (لَا يكْتَسب الْحَد بالبرهان للاستغناء عَنهُ) من جملَة الْمَقُول، وَكَذَا قَوْله (إِذْ ثُبُوت أَجزَاء الشَّيْء لَهُ لَا يتَوَقَّف إِلَّا على تصَوره) بَيَانه أَن الْحَد مَجْمُوع أَجزَاء الْمَحْدُود، وَلَا فرق بَينهمَا إِلَّا بالإجمال وَالتَّفْصِيل فتغايرهما اعتباري، وكما أَن ثُبُوت الشَّيْء لنَفسِهِ من غير اعْتِبَار تغاير بَينهمَا ضَرُورِيّ مستغن عَن الْبَيَان كَذَلِك مَعَ التغاير الاعتباري غَايَة الْأَمر فِيهِ تَفْصِيل الْأَجْزَاء بِثُبُوت أَجزَاء الشَّيْء لَهُ لَا يتَوَقَّف إِلَّا على تصور ذَلِك الشَّيْء تَفْصِيلًا، وَهُوَ حَاصِل فِي نفس الْحَد، ثمَّ علل النَّفْي بقوله (لِأَن الْفَرْض) أَي الْمَفْرُوض (جَهَالَة كَونهَا) أَي أَجزَاء الشَّيْء الَّتِي هِيَ الْحَد (أَجزَاء الصُّورَة الإجمالية) الَّتِي هِيَ الْمَحْدُود (ونسبتها) أَي تِلْكَ الْأَجْزَاء (إِلَيْهَا) أَي الصُّورَة الإجمالية (بالجزئية مُجَرّد دَعْوَى فَلَا يُوجِبهُ) أَي ثُبُوت كَونهَا أَجزَاء للصورة الإجمالية (إِلَّا دَلِيل) والمفروض عَدمه (أَو للدور) عطف على قَوْله للاستغناء أَي لَا يكْتَسب الْحَد بالبرهان للُزُوم
الدّور على تَقْدِير اكتسابه، لِأَن الِاسْتِدْلَال على ثُبُوت شَيْء لشَيْء يتَوَقَّف على تعقلهما فَلَزِمَ توقف الِاسْتِدْلَال على ثُبُوت الْحَد للمحدود على تعقل الْمَحْدُود، فَكَانَ تعقله مقدما بِالذَّاتِ على الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور، فَلَو اكْتسب الْحَد الْمُقدم بِالذَّاتِ على تعقل الْمَحْدُود بالبرهان لزم تقدم الْبُرْهَان على مَا هُوَ مقدم عَلَيْهِ: أَعنِي تعقل الْمَحْدُود، وَهَذَا هُوَ الدّور، ثمَّ علل نفي الْعَجز بِسَبَب الدّور بقوله (لِأَن توقف الدَّلِيل) إِنَّمَا هُوَ (على تعقل الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِوَجْه) مَا، وَمُوجب هَذَا تقدم تعقل الْمَحْدُود على الْبُرْهَان بِاعْتِبَار وَجه من وجوهه لَا على التَّعْيِين (وَهُوَ) أَي تعقل الْمَحْكُوم عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْمَحْدُود إِنَّمَا يتَوَقَّف (عَلَيْهِ) أَي الدَّلِيل (بِوَاسِطَة توقفه) أَي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ (على الْحَد بحقيقته) وَمُوجب هَذَا تقدم الدَّلِيل على تعقل الْمَحْدُود بحقيقته وكنهه وَلَا مَحْذُور فِي أَن يكون تعقله لَا من حَيْثُ حَقِيقَته مقدما على الدَّلِيل، وَمن حَيْثُ حَقِيقَته مُؤَخرا عَنهُ (أَو لِأَنَّهُ) أَي الْبُرْهَان (إِنَّمَا يُوجب أمرا) وَهُوَ الْمَحْكُوم بِهِ (فِي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ) لِأَن حَقِيقَته وسط يسْتَلْزم ذَلِك، وَقَوله أَو عطف على قَوْله للاستغناء أَو للدور (وبتقديره) أَي على تَقْدِير اكْتِسَاب الْحَد بالبرهان (يسْتَلْزم) الْبُرْهَان (عينه) أَي عين الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَحْدُود وَلَا يُوجب أمرا آخر فِيهِ، وَهَذَا خلاف مُوجب الْبُرْهَان، ثمَّ بَين نفي كَون الْعَجز مُعَللا بِهَذَا بقوله (لِأَنَّهُ) أَي استلزام الْبُرْهَان عينه: أَي عين الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَحْدُود (غير ضائر) لِأَن إِثْبَات عين الشَّيْء لَهُ من غير اعْتِبَار مُغَايرَة أصلا محَال أَو تَحْصِيل للحاصل.، وَأما إِذا تغايرا بِوَجْه مَا كالإجمال وَالتَّفْصِيل فَلَا يضر الِاتِّحَاد الذاتي لجَوَاز عدم الْعلم بالاتحاد والاحتياج فِيهِ إِلَى دَلِيل (فَإِن قَالَ) الْمُعَلل بِهَذَا الْإِثْبَات بطلَان اللَّازِم كَيفَ لَا يضر استلزام الْبُرْهَان عين الْمَحْدُود بِسَبَب اكْتِسَاب الْحَد بِهِ فَإِنَّهُمَا متحدان مَعَ أَنه يسْتَلْزم تعقل الْمَحْدُود قبل الْحَد ضَرُورَة تعقل الْمَطْلُوب قبل الدَّلِيل (وتعقلها) أَي عين الْمَحْدُود (إِنَّمَا يحصل بِالْحَدِّ) أَي بتعقله لكَونه أجزاءه فَيلْزم تقدم الشَّيْء على مَا هُوَ مقدم عَلَيْهِ (فكالأول) أَي فَالْجَوَاب عَن هَذَا التَّعْلِيل كالجواب عَن التَّعْلِيل الأول، وَهُوَ الِاسْتِغْنَاء عَن الْبُرْهَان إِذْ ثُبُوت أَجزَاء الشَّيْء إِلَى آخِره وَتَقْرِيره أَن قَوْلكُم وتعقل عين الْمَحْدُود يحصل بِالْحَدِّ غير مُسلم، لِأَن الْحَاصِل بِهِ المكتسب بالبرهان إِنَّمَا هُوَ تعقلها من حَيْثُ كَون الْحَد أَجزَاء لصورته الإجمالية وتعقلها الْمُتَقَدّم تصورها بِوَجْه مَا، وَلَا يخفى أَنه بِهَذَا التَّقْرِير أشبه بِالْجَوَابِ عَن التَّعْلِيل الثَّانِي، فَالْوَجْه أَن الْمَعْنى إِذا كَانَ الْبُرْهَان يسْتَلْزم عين الْمَحْدُود كَانَ نتيجة تعقلها، وَهُوَ حَاصِل بتعقل أَجزَاء الْحَد، فَلَا حَاجَة إِلَى الْبُرْهَان فَصَارَ مثل الأول بل عينه وَجَوَابه جَوَابه (بل لعدمه) أَي بل الْعَجز لَازم لعدم مَا يدْفع الْمَنْع الْوَارِد فِي الْحَد الْحَقِيقِيّ من برهَان يدل على كَون الْحَد ذاتيات الْمَحْدُود لتعذر معرفَة ذاتيات الماهيات الْحَقِيقِيَّة كَمَا مر غير
مرّة (فَإِن قيل) كَيفَ يحكم بِعَدَمِ الْبُرْهَان الْمَذْكُور و (المتعجب) مثلا وسط (يفِيدهُ) أَي إِثْبَات الْحَد للمحدود: أَي الْحَيَوَان النَّاطِق للْإنْسَان (كناطق) أَي كَأَن يُقَال الْإِنْسَان حَيَوَان نَاطِق (لِأَنَّهُ) أَي الْإِنْسَان (متعجب وكل متعجب) حَيَوَان نَاطِق، فالإنسان حَيَوَان نَاطِق (قُلْنَا) هَذَا الدَّلِيل (يُفِيد مُجَرّد ثُبُوته) أَي الْحَد الْمَذْكُور للمحدود للمساواة بَين النَّاطِق والمتعجب (وَالْمَطْلُوب) من الْبُرْهَان الْمَذْكُور مَا هُوَ (أخص مِنْهُ) أَي من مُجَرّد ثُبُوت الْحَد للمحدود وَهُوَ (كَونه) أَي كَون ثُبُوته (على وَجه الْجُزْئِيَّة) فَقَوله كَونه بدل من قَوْله أخص (فَالْحق حكم الإشراقيين) وهم قوم من الفلاسفة يؤثرون طَريقَة أفلاطون من الْكَشْف والعيان على طَريقَة أرسطو من الْبَحْث والبرهان (لَا يكْسب الْحَقِيقَة إِلَّا الْكَشْف) وَهُوَ علم ضَرُورِيّ تدْرك بِهِ حقائق الْأَشْيَاء يحصل بالرياضة غير مَقْدُور للمخلوق تَحْصِيله، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي كَونهَا مكسوب الْكَشْف (معنى الضَّرُورَة) فِي قَول من قَالَ: لَا يكْتَسب بالبرهان، لكَونه ضَرُورِيًّا (وَكَذَا منع التَّمام) أَي وَكَذَا الْعَجز لَازم إِذا منع كَون الْحَد جَمِيع ذاتيات الْمَحْدُود لِأَن إِثْبَات الْمُقدمَة الممنوعة مَوْقُوف على معرفَة الْحَقِيقَة، وَقد عرفت منع تعذرها (فَلَو قَالَ) الحاد فِي دفع الْمَنْع الْمَذْكُور (لَو كَانَ) هَذَا الْحَد غير تَامّ (لم نعقلها) أَي حَقِيقَة الْمَحْدُود بالكنه لتعذره بِدُونِ تعقل جَمِيع الذاتيات لَكنا عقلناها بالكنه (منع نفي التَّالِي) بِأَن يَقُول لَا نسلم أَنَّك عقلتها بالكنه (فالاعتراض) على الْحَد (بِبُطْلَان الطَّرْد) وَهُوَ كَونه مَانِعا بِأَن يُقَال هَذَا الْحَد غير مَانع لصدقه على غير الْمَحْدُود، وَهُوَ كَذَا (وَالْعَكْس) وَهُوَ كَونه جَامعا بِأَن يُقَال غير جَامع لعدم صدقه على كَذَا لفرد من أَفْرَاد الْمَحْدُود (بِنَاء على الِاعْتِبَار فِي الْمَفْهُوم وَعَدَمه) أَي بِنَاء على اعْتِبَار الْمُعْتَرض فِي مَفْهُوم الْمَحْدُود مَا لم يعتبره الحاد فَصدق الْحَد بِسَبَب ذَلِك على غير الْمَحْدُود، أَو على عدم اعْتِبَاره فِيهِ مَا اعْتَبرهُ الحاد، فَخرج بِسَبَب ذَلِك فَرد من الْمَحْدُود (فَإِنَّمَا يُورد) الِاعْتِرَاض بِكُل مِنْهُمَا (عَلَيْهِ) أَي الْحَد (من حَيْثُ هُوَ) أَي الْحَد (اسمى) وَهُوَ كَمَا مر مَا وضع الِاسْم بإزائه لَا من حَيْثُ هُوَ حَقِيقِيّ (وَالنَّظَر حَرَكَة النَّفس من المطالب) التصورية أَو التصديقية (أَي فِي الكيف) لما فسر النّظر بالحركة، وَلَا بُد لَهَا من متحرك، ومبدأ ومنتهى، وَمَا تقع فِيهِ من الأين، أَو الْوَضع، أَو الْكمّ، أَو الكيف عين الأول بِأَنَّهُ النَّفس الناطقة، وَالثَّانِي بِأَنَّهُ المطالب، وَالثَّالِث بِأَنَّهُ الكيف، وَالرَّابِع بِأَنَّهُ المبادي بقوله (طالبة للمبادي) وَهِي المعلومات التصورية أَو التصديقية الْمُنَاسبَة للمطالب الْمَذْكُورَة المفضية إِلَى الْعلم بهَا، ثمَّ بَين كَيْفيَّة حركتها بَين المطالب والمبادي فِي الكيف بقوله (باستعراض الصُّور: أَي
تكيفها بِصُورَة صُورَة) تَصْرِيح بِأَن الْعلم من الكيفيات النفسانية، وكما أَن الْجِسْم يَتَحَرَّك فِي الكيفيات المحسوسة كالعنب يصفر، ثمَّ يحمر، ثمَّ يسود كَذَلِك النَّفس تتكيف بِصُورَة بعد صُورَة من حِين تتَوَجَّه من الْمَطْلُوب نَحْو المبادي إِلَى أَن تحصل الْمُنَاسب وترتبه، وَعبر عَن التكيف الْمَذْكُور باستعراض الصُّور، لِأَن النَّفس عِنْد ذَلِك كَأَنَّهَا طالبة لعروض تِلْكَ الصُّور لَهَا (لتجد الْمُنَاسب) كَمَا أَن الإبصار يتَوَقَّف على مُوَاجهَة المبصر وتقليب الحدقة نَحوه وَإِزَالَة الغشاوة كَذَلِك إِدْرَاك البصيرة يتَوَقَّف على التَّوَجُّه نَحْو الْمَطْلُوب وتحديقها نَحْو طلبا لإدراكه وَتَجْرِيد الْعقل عَن الْغَفْلَة، وَلَا شُبْهَة فِي أَن كل مَجْهُول لَا يُمكن اكتسابه من أَي مَعْلُوم اتّفق، بل لَا بُد لَهُ من مَعْلُومَات مُنَاسبَة، وَمن تَرْتِيب معِين بَينهَا، وَمن حيثية مَخْصُوصَة (وَهُوَ) أَي الْمُنَاسب فِي النّظر الْوَاقِع للمطلوب التصديقي (الْوسط) سمي بِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاسِطَة للْحكم فِي ثُبُوت الْمَحْكُوم بِهِ للمحكوم عَلَيْهِ (فترتبه مَعَ طرفِي الْمَطْلُوب) يَعْنِي مَوْضُوعه ومحموله بِأَن يحمل عَلَيْهِمَا، أَو يحملا عَلَيْهِ، أَو يحمل على مَوْضُوعه، وَيحمل محموله عَلَيْهِ، أَو الْعَكْس (على وَجه مُسْتَلْزم) للمطلوب بِأَن يكون مستجمعا شَرَائِط الإنتاج على مَا سَيَجِيءُ، وَهُوَ شَامِل للنَّظَر الصَّحِيح وَالْفَاسِد، لِأَن التَّرْتِيب على وَجه مُسْتَلْزم لَا يسْتَلْزم صِحَة النّظر، لِأَن الْفساد قد يكون من حَيْثُ الْمَادَّة على أَنه لَو أُرِيد بِالْوَجْهِ المستلزم مَا هُوَ بِحَسب ظن النَّاظر يجوز أَن يكون الْفساد من حَيْثُ الصُّورَة أَيْضا، فَالْمُرَاد بالمناسب مَا هُوَ مُنَاسِب بِحَسب اعْتِقَاده، وَالْأَظْهَر أَن الْمُعَرّف هَهُنَا النّظر التصديقي كَمَا لَا يخفى على النَّاظر فِي التَّعْرِيف، فَإِن قلت التَّخْصِيص مَا ذكرت لَهُ وجهة نظر إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُود فِي الْأُصُول فَمَا وَجه التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ الاقتراني؟ قلت الاستثنائي يرجع إِلَيْهِ مَآلًا يرشدك إِلَيْهِ مَا فِي الشَّرْح العضدي، من أَنه لَا بُد فِي الدَّلِيل من مُسْتَلْزم للمطلوب حَاصِل للمحكوم عَلَيْهِ ليلزم من ثُبُوته لَهُ ثُبُوت لَازمه لَهُ، فَيكون الْحَاصِل جزئيا، وَلذَا وَجَبت فِيهِ المقدمتان لتنبئ إِحْدَاهمَا عَن اللُّزُوم، وَهِي الْكُبْرَى وَالْأُخْرَى عَن ثُبُوت اللُّزُوم، وَهِي الصُّغْرَى فَإِن قلت هَذَا مُخْتَصّ بِبَعْض الدَّلَائِل، وَإِلَّا فَمَا تَقْرِيره فِي نَحْو لَا شَيْء من الْملح بمقتات وكل رِبَوِيّ مقتات، وَفِي نَحْو لَو كَانَ الْملح ربويا لَكَانَ مقتاتا وَلَيْسَ فَلَيْسَ، قُلْنَا مهما جعلنَا الْمَطْلُوب وَالْوسط هما النَّفْي أَو الْإِثْبَات يَزُول هَذَا الْوَهم، وَتَقْرِيره فِي المثالين أَن نفي الاقتيات حَاصِل لَهُ، ويستلزم نفي الربوية، وَفِي الثَّانِي كَذَلِك انْتهى، فَيصير الْقيَاس هَكَذَا الْملح مُنْتَفٍ عَنهُ الاقتيات، وكل مَا انْتَفَى عَنهُ الاقتيات مُنْتَفٍ عَنهُ الربوية ينْتج أَن الْملح مُنْتَفٍ عَنهُ الربوية، قَوْله مهما جعلنَا إِلَى آخِره، يَعْنِي أَن منشأ الْوَهم توهم أَن المُرَاد بالمطلوب هُوَ النتيجة، وبالوسط الْحَد الْأَوْسَط، وبحصوله للمحكوم
عَلَيْهِ أَن يحمل عَلَيْهِ بِالْإِيجَابِ وَلَيْسَ كَذَلِك، بل المُرَاد بالمطلوب النَّفْي، أَو الْإِثْبَات بَين الْأَكْبَر والأصغر، وبالمستلزم الْإِثْبَات أَو النَّفْي بَين الْأَوْسَط والأصغر، وَلَا يخفى أَن الحدس وَمَا يتوارد على النَّفس من الْمعَانِي بِلَا قصد خَارج عَن الْحَد (وَالدَّلِيل) ذكر القَاضِي عضد الدّين أَنه فِي اللُّغَة يَأْتِي لثَلَاثَة معَان: أَحدهَا المرشد، وَعبر عَنهُ الْآمِدِيّ: بالناصب للدليل وَالْمُصَنّف بقوله (الْموصل بِنَفسِهِ) وَالثَّانِي: الذاكر لَهُ، وَعبر عَنهُ بقوله (والذاكر لما فِيهِ إرشاد، و) الثَّالِث (مَا بِهِ الْإِرْشَاد) كالأحجار المنصوبة فِي الطّرق، فَيُقَال الدَّلِيل على الصَّانِع: هُوَ الصَّانِع، أَو الْعَالم أَو الْعَالم، لِأَن الصَّانِع نصب الْعَالم دَلِيلا عَلَيْهِ، والعالم بِكَسْر اللَّام يذكر للمستدلين كَون الْعَالم دَلِيلا على الصَّانِع، والعالم بِالْفَتْح: هُوَ الَّذِي بِهِ الْإِرْشَاد، وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ رحمه الله: هُوَ فعيل بِمَعْنى فَاعل من الدّلَالَة: وَهِي أَعم من الْإِرْشَاد وَالْهِدَايَة انْتهى. وَإِنَّمَا اخْتَار المُصَنّف رحمه الله الْموصل بِنَفسِهِ على المرشد والناصب، لِأَن الأول يُطلق على مَا بِهِ الْإِرْشَاد وَلَو مجَازًا، وَالثَّانِي يُطلق على من ينصب عَلامَة فِي الطَّرِيق وَغَيره من النَّاس، وَلَا يُطلق الدَّلِيل على شَيْء مِنْهُمَا بِاعْتِبَار الْمَعْنى الأول، وَإِنَّمَا يُطلق بِاعْتِبَارِهِ على ناصب الْعَالم دَلِيلا: وَهُوَ الصَّانِع جلّ ذكره وَلَا يصدق الْموصل بِنَفسِهِ إِلَى الْمَقْصُود على غَيره، لِأَن كل من هُوَ غَيره يُوصل بِوَاسِطَة (وَفِي الِاصْطِلَاح) للأصوليين (مَا يُمكن التَّوَصُّل بذلك النّظر) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر تَعْرِيفه (فِيهِ) الضَّمِير عَائِد على الْمَوْصُول (إِلَى مَطْلُوب خبري) الْجَار مُتَعَلق بالتوصل، وَكلمَة مَا بِمَعْنى الشَّيْء جنس وَمَا عداهُ فصل، وَفِي اعْتِبَار الْإِمْكَان إِشَارَة إِلَى أَن وُقُوع النّظر والتوصل بِالْفِعْلِ غير لَازم، بل يَكْفِي إِمْكَانه، وَقيد ابْن الْحَاجِب النّظر فِي هَذَا التَّعْرِيف بِالصَّحِيحِ، وَعلله الشَّارِح بِأَن الْفَاسِد لَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْمَطْلُوب وَإِن كَانَ قد يفضى إِلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه على هَذَا يُغني قيد التَّوَصُّل عَن ذَلِك التَّقْيِيد، وَلذَا اكْتفى بِهِ المُصَنّف رحمه الله، وَصِحَّة النّظر أَن يكون فِيهِ وَجه الدّلَالَة أَعنِي مَا بِهِ ينْتَقل الذِّهْن كالحدوث للْعَالم، وفساده بِخِلَافِهِ كَمَا فِي قَوْلنَا الْعَالم بسيط وكل بسيط لَهُ صانع، إِذْ لَيست البساطة مِمَّا ينْتَقل مِنْهُ إِلَى ثُبُوت الصَّانِع، وَإِن أفْضى إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَة، وَهَذَا فَسَاد من حَيْثُ الْمَادَّة، وَأما من حَيْثُ الصُّورَة فكانتفاء شَرط من شُرُوط الإنتاج فِي الأشكال وَقَالَ السَّيِّد السَّنَد: أَن الحكم بِكَوْن الْإِفْضَاء فِي الْفَاسِد اتفاقيا إِنَّمَا يَصح إِذا لم يكن بَين الكواذب ارتباط عَقْلِي يصير بِهِ بَعْضهَا وَسِيلَة إِلَى الْبَعْض، أَو يخص بِفساد الصُّورَة؟ أَو بِوَضْع مَا لَيْسَ بِدَلِيل مَكَانَهُ انْتهى، قَالَ بعض الشَّارِحين رحمهم الله، وَأُرِيد بِالنّظرِ فِيهِ مَا يتَنَاوَل النّظر فِيهِ نَفسه وَفِي صِفَاته وأحواله، فَيشْمَل الْمُقدمَات الَّتِي هِيَ بِحَيْثُ إِذا رتبت أدَّت إِلَى الْمَطْلُوب
الخبري، والمفرد الَّذِي من شَأْنه أَنه إِذا نظر فِي أَحْوَاله أوصل إِلَيْهِ كالعالم، وَأما إِذا أخذت الْمُقدمَات مَعَ التَّرْتِيب فَلَا معنى للنَّظَر، وحركة النَّفس فِي الْأُمُور الْحَاضِرَة الْمرتبَة، وَقَوله خبري احْتِرَازًا عَمَّا يُمكن التَّوَصُّل بِهِ إِلَى مَطْلُوب تصوري ويشمل مَا كَانَ بطرِيق الْعلم وَالظَّن (فَهُوَ) أَي الدَّلِيل (مُفْرد) يَعْنِي مَا يُقَابل الْجُمْلَة، ومبني هَذَا التَّفْرِيع على أَن المُرَاد بِمَا يُمكن هُوَ الْمَوْجُود الْعَيْنِيّ الَّذِي بِهِ التَّوَصُّل كالعالم، لَا القضايا والتصديقات، وَمَا سبق من التَّعْمِيم: إِنَّمَا هُوَ مُقْتَضى ظَاهر التَّعْرِيف (قد يكون) ذَلِك الْمُفْرد (الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فِي الْمَطْلُوب) الخبري (كالعالم) فِي قَوْلنَا: الْعَالم حَادث، فَإِنَّهُ يتَوَصَّل بِالنّظرِ فِي حَاله: وَهُوَ الْمُتَغَيّر بِأَن نحمله عَلَيْهِ مثلا، ثمَّ نجعله مَوْضُوعا للحادث فينتج (أَو الْوسط) عطف على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ كالمتغير فِي الْمِثَال الْمَذْكُور فَإِنَّهُ يتَوَصَّل بِالنّظرِ فِيهِ بجعله مَحْمُولا فِي الصُّغْرَى وموضوعا فِي الْكُبْرَى إِلَى الْمَطْلُوب الْمَذْكُور 0 (وَلَو كَانَ) كَونه مَحْكُومًا عَلَيْهِ أَو حدا أَوسط (معنى) أَي من جِهَة الْمَعْنى والمآل، لَا بِحَسب ظَاهر الْحَال (فِي السمعيات) ظرف لكَونه معنى، وَالْمرَاد بهَا الْأَدِلَّة السمعية، فَإِنَّهَا بِحَيْثُ إِذا فصلت وأبرزت فِي صُورَة الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة يظْهر عِنْد ذَلِك أَن مَا هُوَ منَاط الِاسْتِدْلَال مَحْكُوم عَلَيْهِ أَو حد أَوسط (وَمِنْه) أَي من الدَّلِيل الْمُفْرد (نَحْو أقِيمُوا الصَّلَاة) وَإِن كَانَ جملَة صُورَة، لِأَن الْجُمْلَة إِذا أُرِيد بهَا لَفظهَا كَانَت مُفردا، فَهُوَ دَلِيل مُفْرد يتَوَصَّل بِالنّظرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوب خبري نَفسه مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِيهِ، وَصفته حد أَوسط فِيهِ، تَقْرِيره أقِيمُوا الصَّلَاة أَمر بإقامتها. وَالْأَمر بإقامتها يُفِيد الْوُجُوب، فأقيموا الصَّلَاة يفِيدهُ (ذكر كل) من هذَيْن يَعْنِي الْعَالم، وَأقِيمُوا الصَّلَاة إِنَّه دَلِيل اصْطِلَاحا (إِلَّا أَن من أفرد) أَي قَالَ بِأَن الدَّلِيل مُفْرد (وَأدْخل الِاسْتِدْلَال فِي مُسَمّى الدَّلِيل) كالآمدي وَابْن الْحَاجِب فَإِنَّهُمَا ذكرا أَن من أَقسَام الدَّلِيل السمعي الِاسْتِدْلَال زِيَادَة على الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس (فَهُوَ ذاهل) عَن اعْتِبَاره الْإِفْرَاد فِي مُسَمَّاهُ، وَإِلَّا لما أَدخل فِيهِ مَا لَيْسَ بمفرد، فَإِن الِاسْتِدْلَال ثَلَاثَة: التلازم، وَشَرَائِع من قبلنَا، والاستصحاب، وَقيل: وَالِاسْتِحْسَان، وَقيل بل الْمصَالح الْمُرْسلَة، وَسَيَجِيءُ بَيَانه، والتركيب لَازم فِي التلازم (وَعند المنطقيين) الدَّلِيل (مَجْمُوع الْمَادَّة) وَهِي المعلومات التصديقية الَّتِي ترتبت (وَالنَّظَر: فَهُوَ الْأَقْوَال) وَالْقَوْل الْمركب التَّام الْمُحْتَمل للصدق وَالْكذب، وَالْمرَاد بِالْجمعِ مَا فَوق الْوَاحِد (المستلزمة) قولا آخر، حذفه لشهرته (وَلَا تخرج) عَن التَّعْرِيف (الأمارة) كَقَوْلِك إِن كَانَت بغلة القَاضِي على بَابه فَهُوَ فِي الْمنزل لَكِنَّهَا على بَابه (وَلَو يُزَاد لنَفسهَا) بعد المستلزمة لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِم لذاتها استلزاما ظنيا كَون القَاضِي فِي الْمنزل (بل) يُرَاد (ليخرج قِيَاس الْمُسَاوَاة) وَهُوَ مَا ركب من قضيتين مُتَعَلق مَحْمُول أولاهما مَوْضُوع الْأُخْرَى كأمساو لب وب مسَاوٍ لج، ينْتج أمساولج، لَكِن لَا لذاته، بل بِوَاسِطَة مُقَدّمَة أَجْنَبِيَّة كَمَا أَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله (لِأَنَّهُ)(أَي الاستلزام للأجنبية) وَهِي أَن كل مسَاوٍ لمساوي الشَّيْء مسَاوٍ لذَلِك الشَّيْء، وَلذَا لَا ينْتج أمباين لب وب مباين لج لعدم صدق الْأَجْنَبِيَّة هُنَا (وَلَا حَاجَة) إِلَى هَذِه الزِّيَادَة لإخراجه (لأعميته) أَي الدَّلِيل مَا هُوَ مُسْتَلْزم بِنَفسِهِ وَمَا هُوَ بِوَاسِطَة (فَيدْخل) قِيَاس الْمُسَاوَاة فِي الدَّلِيل وَلَا مَحْظُور، غَايَة الْأَمر يسْتَلْزم كَون الدَّلِيل أَعم من الْقيَاس، ثمَّ إِنَّه وَقع فِي عبارَة كَثِيرَة: مَتى سلمت لزم عَنْهَا فَقَالَ (وَلَا) حَاجَة (لقيد التَّسْلِيم) اللَّام بِمَعْنى إِلَى (لِأَنَّهُ) أَي قيد التَّسْلِيم (لدفع الْمَنْع) الَّذِي يتَوَهَّم وُرُوده على أَفْرَاد الْقيَاس (لَا) لِأَنَّهُ شَرط (للاستلزام) أَي استلزام الْأَقْوَال (لِأَنَّهُ) لَازم (للصورة) أَي لصورتها الْحَاصِلَة من ترتيبها، وَإِذا كَانَ لَازِما لَهَا (فتستلزم) الْأَقْوَال مَا تستلزمه الصُّورَة، لَكِن الصُّورَة لَازِمَة لتِلْك الْأَقْوَال (دَائِما على نَحْوهَا) أَي الْأَقْوَال، فَإِن كَانَت قَطْعِيَّة استلزمت قَطْعِيا، وَإِن كَانَت ظنية استلزمت ظنيا، وَإِن كَانَت صَادِقَة أنتجت صَادِقا وَإِلَّا كَاذِبًا، وَلَك إرجاع ضمير فتستلزم إِلَى الصُّورَة وَالْمعْنَى ظَاهر، فَعلم أَن معنى قَوْلهم: مَتى سلمت حَاصِل وَإِن لم يذكر (وَلزِمَ) من الْعلم بِحَقِيقَة النّظر (سبق الشُّعُور بالمطلوب) على النّظر وَالدَّلِيل، لِأَن حَرَكَة النَّفس مِنْهُ نَحْو مباديه، ثمَّ مِنْهَا إِلَيْهِ فرع تصَوره كَمَا هُوَ شَأْن الْعلَّة الغائية، فَإِن طلب الْمَجْهُول محَال (كطرفي الْقَضِيَّة وكيفيتي الحكم): أَي كلزوم سبق الشُّعُور بالمحكوم عَلَيْهِ وَبِه الشُّعُور بكيفيتي النِّسْبَة الْوُقُوع واللاوقوع: يَعْنِي تصورهما بِلَا إذعان على الْقَضِيَّة لِأَنَّهَا عبارَة عَن المعلومات الْأَرْبَعَة وتحققها فِي الذِّهْن بِدُونِ الشُّعُور بهَا محَال، وَاكْتفى بِذكر كيفيتي النِّسْبَة عَنْهَا لِأَنَّهُمَا لَا يتصوران بِدُونِهَا، وكما أَن سبق الشُّعُور بِمَا ذكر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَضِيَّة لَازم كَذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يتركب مِنْهَا: وَهُوَ الدَّلِيل (والتردد) أَي وَلُزُوم تردد النَّاظر والمستدل قبل التَّوَصُّل بِهِ إِلَى الْمَطْلُوب (فِي) أَن (ثُبُوت أَحدهمَا) وَهُوَ الْمَحْكُوم بِهِ للْآخر وَهُوَ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ (على أَي كيفيتيه) من الْوُقُوع أَو اللاوقوع ضَرُورَة الْعلم بتحقق أَحدهمَا، لَا على التَّعْيِين، وَإِلَّا يلْزم ارْتِفَاع النقيضين، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِلُزُوم التَّرَدُّد لِئَلَّا يلْزم الِاسْتِغْنَاء عَن الدَّلِيل، فَلم يلْزم طلب مَا لَا شُعُور بِهِ وَلَا طلب مَا هُوَ حَاصِل وَلَا عدم معرفَة أَنه الْمَطْلُوب إِذا حصل، وَلما ذكر الرَّازِيّ امْتنَاع اكْتِسَاب الْمَطْلُوب التصوري، لِأَنَّهُ إِمَّا مشعور بِهِ فَيلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل، وَأما لَيْسَ بمشعور بِهِ فَيلْزم طلب الْمَجْهُول الْمُطلق، أَرَادَ أَن يدْفع ذَلِك فَقَالَ (والمحدود مَعْلُوم) للحاد (من حَيْثُ هُوَ مُسَمّى) للفظ معِين عِنْده مَجْهُول من حَيْثُ الْحَقِيقَة (فيطلب أَنه) أَي الْمَحْدُود (أَي مَادَّة مركبة) من الْموَاد المركبة: يَعْنِي أَن الحاد بعد علمه بالمحدود من حَيْثُ أَنه مُسَمّى بِهَذَا اللَّفْظ يطْلب حَقِيقَته المركبة من ذاتياته فَيتَوَجَّه نَحْو الْموَاد المركبة من ذاتيات الماهيات ليتعين عِنْده مِنْهَا مَا هُوَ حَقِيقَة فِي نفس الْأَمر بأمارات تدل على ذَلِك، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن الْبَسِيط لَا يكْتَسب
بِالْحَدِّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وتجويز الِانْتِقَال) عَن الْمَطْلُوب الْمَعْلُوم بِوَجْه عِنْد حَرَكَة النَّفس نَحْو المبادي (إِلَى) مبدأ (بسيط) مُنَاسِب للمطلوب (يلْزمه الْمَطْلُوب لَيْسَ) شَيْئا يعْتد (بِهِ وَلَو كَانَ) الِانْتِقَال الْمَذْكُور مَسْبُوقا (بِالْقَصْدِ) فَلَا يتَوَهَّم أَن المُرَاد بالانتقال الْمَذْكُور مَا لم يكن مَسْبُوقا بِقصد تَحْصِيل الْمَطْلُوب: وَهُوَ الْمُوجب لعدم الِاعْتِدَاد بِهِ لفَوَات شَرط النّظر (إِذْ لَيْسَ النّظر الْحَرَكَة الأولى) أَي حَرَكَة النَّفس من الْمَطْلُوب إِلَى المبادي، بل هِيَ وَالْحَرَكَة الثَّانِيَة وَهِي حركتها من المبادي إِلَى الْمَطْلُوب، أَشَارَ إِلَى أَن الِانْتِقَال الْمَذْكُور لَيْسَ شَيْئا غير الْحَرَكَة الأولى، وَالنَّظَر لَا يتَحَقَّق بمجرها، وَذَلِكَ أَن الِانْتِقَال من الْمَطْلُوب إِلَى بسيط يلْزمه الْمَطْلُوب حَرَكَة وَاحِدَة، لِأَن الْمَلْزُوم وَاللَّازِم متحدان بِالزَّمَانِ فَلَا يُمكن اعْتِبَار حَرَكَة ثَانِيَة من ذَلِك الْبَسِيط إِلَى الْمَطْلُوب، وَلما كَانَ الْمَفْهُوم من بعض عِبَارَات الْقَوْم أَن الْحَرَكَة الأولى تَسْتَلْزِم الثَّانِيَة، وَكَانَ يتَّجه على ذَلِك أَن يُقَال سلمنَا أَن النّظر مَجْمُوع الحركتين، لَكِن الأولى تَسْتَلْزِم الثَّانِيَة، وَعند تحقق الْمَلْزُوم يتَحَقَّق اللَّازِم لَا محَالة، وَحِينَئِذٍ يتَحَقَّق النّظر، أَشَارَ إِلَى دفع ذَلِك بقوله (إِذْ لَا تَسْتَلْزِم) الْحَرَكَة الأولى الْحَرَكَة (الثَّانِيَة بِخِلَاف الثَّانِيَة) فَإِنَّهَا تَسْتَلْزِم الأولى (وَلذَا) أَي وَلكَون الثَّانِيَة تَسْتَلْزِم الأولى (وَقع التَّعْرِيف) أَي تَعْرِيف النّظر (بهَا) أَي بالحركة الثَّانِيَة من غير ذكر الأولى مَعهَا كترتيب أُمُور الخ: أَي مَعْلُومَة للتأدي إِلَى مَجْهُول، أَو على وَجه يُؤَدِّي إِلَى استلزام مَا لَيْسَ بِمَعْلُوم، بَيَان ذَلِك أَن النَّفس إِذا تَوَجَّهت من الْمَطْلُوب نَحْو المبادي وتحركت فِي الكيف بِأَن تكيفت بِوَاحِد بعد وَاحِد من الْمعَانِي المخزونة عِنْدهَا إِلَى أَن ظَفرت بمباديه الْمُنَاسبَة انْتهى عِنْد ذَلِك حركتها الأولى، وَعند ذَلِك تبدأ بحركتها الثَّانِيَة فترتب تِلْكَ المبادي بحملها الْأَوْسَط على الْأَصْغَر والأكبر على الْأَوْسَط، وَغير ذَلِك حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى الْمَطْلُوب، وَهَذِه حركتها الثَّانِيَة، وَقد اعْتبر فِيهَا أَن يكون مبدؤها من حَيْثُ تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْحَرَكَة الأولى، فَلذَلِك استلزمتها، وَالْأولَى بِمَنْزِلَة الْمَادَّة للفكر، وَالثَّانيَِة بِمَنْزِلَة الصُّورَة لَهُ. وَقد علم بذلك أَنه لَا بُد فِي النّظر من مَجْمُوع الحركتين وَمن التَّرْتِيب الْمَذْكُور، ثمَّ الْكَلَام فِي أَن هَذَا التَّرْتِيب هَل هُوَ عين الْحَرَكَة الثَّانِيَة المستلزمة للأولى، أَو هما متلازمان وَأَن النّظر هَل هُوَ عين الحركتين أَو التَّرْتِيب، فَإِنَّمَا هُوَ نزاع فِي إِطْلَاق اللَّفْظ على مَا حَقَّقَهُ السَّيِّد السَّنَد، وَقد فسر بِكُل مِنْهُمَا وَبِكُل من الحركتين أَيْضا بطرِيق الِاكْتِفَاء بِذكر أحد جزئي الشَّيْء عَنهُ وَالله أعلم (وَقد ظهر) من تَعْرِيف النّظر وَالدَّلِيل (أَن فَسَاد النّظر) بأمرين (بِعَدَمِ الْمُنَاسبَة) بَين المبادي وَالْمَطْلُوب بِحَيْثُ لَا يُفْضِي الْعلم بهَا إِلَى الْعلم بِهِ (وَهُوَ) أَي عدم الْمُنَاسبَة (فَسَاد الْمَادَّة) كَمَا إِذا جعلت مَادَّة حُدُوث الْعَالم بساطته (وَعدم ذَلِك الْوَجْه) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر فِي تَعْرِيف النّظر من قَوْله على وَجه يسْتَلْزم
فَإِنَّهُ عبارَة عَن الصُّور كَمَا أَفَادَ بقوله (وَهُوَ) أَي ذَلِك الْوَجْه (جعل الْمَادَّة) مرتبَة (على حد معِين) من وُجُوه التَّرْتِيب (فِي انتساب بَعْضهَا) أَي الْمَادَّة (إِلَى بعض) كَمَا صورناه فِي تركيب الْحَد الْأَوْسَط مَعَ طرفِي الْمَطْلُوب إِجْمَالا، وتفصيله مَا أَفَادَهُ بقوله (وَذَلِكَ) الْحَد الْمعِين (طرق) أَرْبَعَة (الأول مُلَازمَة بَين مفهومين، ثمَّ نفي اللَّازِم لينتفي الْمَلْزُوم، أَو إِثْبَات الْمَلْزُوم ليثبت اللَّازِم) أَي الأول، خلاصته مُلَازمَة بَين مفهومين هما مَضْمُونا قضيتين الْمُقدم والتالي، ثمَّ نفي اللَّازِم الَّذِي هُوَ التَّالِي لينتج نفي الْمَلْزُوم، أَو إِثْبَات الْمَلْزُوم الَّذِي هُوَ الْمُقدم لينتج ثُبُوت اللَّازِم، فَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ مقدمتان شَرْطِيَّة مُتَّصِلَة مُوجبَة لزومية واستثنائية حملية هِيَ عين مقدم الشّرطِيَّة الْمَذْكُورَة، أَو نقيض تَالِيهَا، وَيُقَال لَهُ الْقيَاس الاستثنائي لما فِيهِ من اسْتثِْنَاء عين الْمُقدم أَو نقيض التَّالِي كَمَا عَلَيْهِ الْمُقدم والتالي ونقيضهما فِي صدر الْكَلَام من كَونهَا مَشْكُوك الْوُجُود والعدم وَكَون الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِيهِ مصدرة بأداة الِاسْتِثْنَاء: أَعنِي كلمة لَكِن (أَو نفي الْمَلْزُوم لنفي اللَّازِم فِي الْمُسَاوَاة) يَعْنِي فِيمَا إِذا كَانَ الْمُقدم والتالي متساويين فِي التحقق بِأَن يكون كل مِنْهُمَا لَازِما للْآخر ينْتج نفي الْمُقدم نفي التَّالِي، لِأَن نفي اللَّازِم يسْتَلْزم نفي الْمَلْزُوم، وَكَذَا ينْتج ثُبُوت التَّالِي ثُبُوت الْمُقدم، لِأَن ثُبُوت الْمَلْزُوم يسْتَلْزم ثُبُوت اللَّازِم، وَإِلَيْهِ أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أَو ثُبُوت اللَّازِم لثُبُوت الْمَلْزُوم فِيهِ) أَي التَّسَاوِي (أَيْضا) غير أَن شَارِح الْمُخْتَصر قَالَ: وَلَا يلْزم من اسْتثِْنَاء نقيض الْمُقدم نقيض التَّالِي وَلَا من اسْتثِْنَاء عين التَّالِي عين الْمُقدم لجَوَاز أَن يكون اللَّازِم أَعم، نعم لَو قدر التَّسَاوِي لزم ذَلِك، وَلَكِن لخُصُوص الْمَادَّة لَا لنَفس صُورَة الدَّلِيل، وَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ لملاحظة لُزُوم الْمُقدم للتالي وَهُوَ مُتَّصِل آخر، وَالْمُصَنّف رحمه الله نظر إِلَى أصل الإنتاج وَقطع النّظر عَن نفس صورته كَمَا هُوَ اللَّائِق باعتبارات الْأُصُولِيِّينَ، أَلا ترى أَنه أَدخل قِيَاس الْمُسَاوَاة فِي الدَّلِيل، والمنطقيون أَخْرجُوهُ مِنْهُ (كَانَ) كَانَ هَذَا الْفِعْل وَاجِبا (أَو كلما) كَانَ هَذَا الْفِعْل وَاجِبا (أَو لَو كَانَ) هَذَا الْفِعْل (وَاجِبا فتاركه يسْتَحق الْعقَاب) فَهَذِهِ شَرْطِيَّة كَمَا ذكر (لَكِن لَا يسْتَحق) تَارِك هَذَا الْفِعْل الْعقَاب، فَهَذِهِ الحملية الْمَذْكُورَة مضمونها نفي التَّالِي ينْتج نفي الْمُقدم، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَلَيْسَ) هَذَا الْفِعْل وَاجِبا (أَو وَاجِب) عطف على قَوْله لَا يسْتَحق: أَي لَكِن هَذَا الْفِعْل وَاجِب ينْتج إِثْبَات اللَّازِم أَعنِي (فَيسْتَحق) تَاركه الْعقَاب، وَلما كَانَ الْمِثَال الْمَذْكُور من صور الْمُسَاوَاة، لِأَن كل وَاجِب يستحن تَاركه الْعقَاب، وكل مَا يسْتَحق تَاركه الْعقَاب وَاجِب صور الْوُجُوه الْأَرْبَعَة فِيهِ فَقَالَ (أَو لَيْسَ وَاجِبا) مِثَال لنفي الْمَلْزُوم ينْتج نفي اللَّازِم أَعنِي (فَلَا يسْتَحق تَاركه) غَايَة الْأَمر أَنه لم يُصَرح بِذكر الرَّابِع اعْتِمَادًا على فهم الْمُخَاطب واكتفاء بِالْإِشَارَةِ، وَهُوَ: أَي يسْتَحق فَهُوَ وَاجِب (الطَّرِيق الثَّانِي) الْقيَاس الاستثنائي الْمُنْفَصِل، وَهُوَ أَيْضا
مقدمتان أولاهما شَرْطِيَّة مُنْفَصِلَة حَقِيقِيَّة مُوجبَة حاصلها (عناد بَينهمَا) أَي بَين مفهومين على مَا تقدم (فِي الْوُجُود والعدم) مَعًا فهما قضيتان لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان، وإحداهما حملية هِيَ عين الْمُقدم أَو التَّالِي فينتج نقيض الآخر أَو نقيض أَحدهمَا فينتج عين الآخر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَفِي وجود أَحدهمَا عدم الآخر وَفِي عَدمه) أَي أَحدهمَا (وجوده) أَي الآخر، لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان (أَو) شَرْطِيَّة مُنْفَصِلَة مَانِعَة الْجمع مُوجبَة حاصلها عناد بَينهمَا (فِي الْوُجُود فَقَط) عطف على قَوْله فِي الْوُجُود والعدم، فهما قضيتان لَا يَجْتَمِعَانِ، ولكنهما قد يرتفعان (فَمَعَ وجود كل) مِنْهُمَا من الجزءين (عدم الآخر) ضَرُورَة عدم اجْتِمَاعهمَا (وَعَدَمه) أَي عدم كل مِنْهُمَا (عقيم) أَي غير منتج لوُجُود الآخر لجَوَاز ارتفاعهما مَعًا، مِثَال العناد فِي الْوُجُود فَقَط (الْوتر إِمَّا وَاجِب أَو مَنْدُوب، لكنه وَاجِب لِلْأَمْرِ الْمُجَرّد) عَن الْقَرَائِن الصارفة عَن الْوُجُوب (بِهِ) أَي بالوتر (فَلَيْسَ مَنْدُوبًا) وَلَو قيل لكنه مَنْدُوب أنتج فَلَيْسَ وَاجِبا، لكنه لَو قيل: لكنه لَيْسَ بِوَاجِب، أَو لَيْسَ بمندوب لم ينْتج لجَوَاز أَن لَا يكون وَاجِبا وَلَا مَنْدُوبًا (أَو) مُنْفَصِلَة حاصلها عناد بَينهمَا (فِي الْعَدَم) فَقَط فالمنفصلة حِينَئِذٍ مَانِعَة الْخُلُو (فَقلب الْمِثَال وَحكمه) أَي فمثاله قلب الْمِثَال الْمَذْكُور وقلب حكمه: يَعْنِي الْوتر إِمَّا لَا وَاجِب وَإِمَّا لَا مَنْدُوب، لِأَنَّهُ لَا يُمكن ارتفاعهما، إِذْ ارْتِفَاع لَا مَنْدُوب يَقْتَضِي وجود مَنْدُوب، فَلَو ارْتَفع مَعَ ذَلِك لَا وَاجِب لزم تحقق وَاجِب فَيلْزم أَن يكون ذَلِك الشَّيْء وَاجِبا ومندوبا، وَهَذَا خلف، وَإِذا ثَبت أَنَّهُمَا لَا يرتفعان مَعًا فمهما فرض ارْتِفَاع أَحدهمَا لزم وجود الآخر، وَإِلَّا يلْزم ارتفاعهما مَعًا (الطَّرِيق الثَّالِث) الْقيَاس الاقتراني وَهُوَ (انتساب الْمُنَاسب) للمطلوب (وَهُوَ) أَي الْمُنَاسب (الْوسط) أَي الْحَد الْأَوْسَط (لكل) اللَّام صلَة للانتساب: أَي لكل وَاحِد (من طرفِي الْمَطْلُوب) الْمَوْضُوع والمحمول (بِالْوَضْعِ والحل) بَيَان للانتساب أَي بِأَن يكون مَوْضُوعا لكل مِنْهُمَا، أَو مَحْمُولا لكل مِنْهُمَا أَو مَوْضُوعا لأَحَدهمَا مَحْمُولا للْآخر على مَا سنبين، وَذَلِكَ لِأَن النِّسْبَة بَين طَرفَيْهِ لما كَانَت مَجْهُولَة نظرية احْتِيجَ إِلَى أَمر ثَالِث مَعْلُوم النِّسْبَة إِلَى كل مِنْهُمَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْعلم بهَا (فَيلْزم) فِي تحقق انتسابه لَهما (جملتان خبريتان) تشْتَمل إِحْدَاهمَا على مَوْضُوع الْمَطْلُوب وَالْوسط، وَالْأُخْرَى على محموله مَعَه، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وهما) أَي الجملتان (المقدمتان) اللَّتَان هما جزآ الْقيَاس المركبان فِي الْحَقِيقَة (من) حُدُود (ثَلَاثَة) طرفِي الْمَطْلُوب، وَالْحَد الْأَوْسَط ينْفَرد كل مِنْهُمَا بِأحد طَرفَيْهِ، ويشتركان فِي الْأَوْسَط، وَإِنَّمَا لم يعْتَبر الْأَوْسَط اثْنَيْنِ مَعَ أَنه فِي الصُّورَة كَذَلِك (لتكرر الْوسط) والمكرر شَيْء وَاحِد فِي الْمَعْنى (وَيُسمى الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فِي الْمَطْلُوب) حدا (أَصْغَر) لِأَنَّهُ فِي الْأَغْلَب أخص من الْمَحْمُول، والأخص أقل أفرادا، فَيكون
أَصْغَر (وَبِه فِيهِ) أَي وَيُسمى الْمَحْكُوم بِهِ فِي الْمَطْلُوب حدا (أكبر) لِأَنَّهُ فِي الْأَغْلَب أَعم (والمشترك) المكرر بَين الْأَصْغَر والأكبر حدا (أَوسط) لتوسطه بَينهمَا (وباعتبارهما) أَي الْأَصْغَر والأكبر يُسمى (المقدمتان) صغرى وكبرى لاشتمالهما عَلَيْهِمَا (وَيتَصَوَّر) على صِيغَة الْمَجْهُول الانتساب الْمَذْكُور (بِأَرْبَع صور لِأَن المتكرر) أما (مَحْمُول فِي الصُّغْرَى مَوْضُوع فِي الْكُبْرَى، أَو عَكسه، أَو مَوْضُوع فيهمَا) أَي الصُّغْرَى والكبرى (أَو مَحْمُول) فيهمَا (وكل صُورَة) من الصُّور الْأَرْبَع (تسمى شكلا) فَالْأولى تسمى الشكل الأول، وَالثَّانيَِة الشكل الرَّابِع، وَالثَّالِثَة الشكل الثَّالِث، وَالرَّابِعَة الشكل الثَّانِي، كَمَا سنبين (وقطعية اللَّازِم) أَي لَازم الأشكال يَعْنِي: النتيجة (بقطعيتهما) أَي الصُّغْرَى والكبرى، لِأَن لَازم الْقطعِي قَطْعِيّ إِذا كَانَ الاستلزام قَطْعِيا، كَمَا فِي الأشكال الْأَرْبَعَة (وَهُوَ) أَي الْقيَاس الْقطعِي اللَّازِم لقطعيتهما (الْبُرْهَان) وَإِنَّمَا سمي بِهِ لوضوح دلَالَته، أخذا من برهَان الشَّمْس، وَهُوَ الشعاع الَّذِي يَلِي وَجههَا (وظنيته) أَي اللَّازِم (بظنية إِحْدَاهمَا) أَي الصُّغْرَى والكبرى (وَهُوَ) أَي الْقيَاس الظني اللَّازِم (الأمارة) غير أَن الإنتاج قَطْعِيّ سَوَاء كَانَ اللَّازِم والملزوم قطعيين أَو ظنيين (الشكل الأول) يتَحَقَّق (بِحمْلِهِ) أَي الْوسط (فِي الصُّغْرَى وَوَضعه فِي الْكُبْرَى شَرط استلزامه) أَي هَذَا الشكل للمطلوب من حَيْثُ الكيف (إِيجَاب صغراه) ليندرج الْأَصْغَر تَحت الْأَوْسَط ليثبت لَهُ الْأَكْبَر أَو يَنْفِي عَنهُ فِي الْكُبْرَى عِنْد إثْبَاته للأوسط أَو نَفْيه عَنهُ، وَهَذَا الشَّرْط مُعْتَبر فِي جَمِيع صوره (إِلَّا فِي) صُورَة (مُسَاوَاة طرفِي الْكُبْرَى) موضوعها، وَهُوَ الْأَوْسَط ومحمولها وَهُوَ الْأَكْبَر فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ ينْتج، وَإِن كَانَت صغراه سالبة، لَكِن بِشَرْط أَن تكون الْكُبْرَى مُوجبَة، وَذَلِكَ لِأَن أحد المتساويين إِذا سلب عَن شَيْء سلبا كليا أَو جزئيا لزم سلب الآخر كَذَلِك، وَإِلَّا لزم تحقق أَحدهمَا بِدُونِ الآخر، وَلم يذكر الشَّرْط اكْتِفَاء بِمَا سَيَأْتِي من قَوْله وَقَلبه فِي التَّسَاوِي، وَظُهُور عدم إنتاج السالبتين نَحْو لَا شَيْء من الْإِنْسَان بفرس وَلَا شَيْء من الْفرس بناطق (و) شَرطه من حَيْثُ الْكمّ (كُلية الْكُبْرَى) ليعلم اندراج الْأَصْغَر تَحت حكمهَا تَحْقِيقا، فَإِن قَوْلنَا الْإِنْسَان حَيَوَان، وَبَعض الْحَيَوَان فرس غير منتج (فَيحصل) بِاشْتِرَاط الْأَمريْنِ (ضروب) أَرْبَعَة فِي غير صُورَة الْمُسَاوَاة، وَبهَا سِتَّة، الأول (كليتان موجبتان) فينتج مُوجبَة كُلية نَحْو (كل جص مَكِيل، وكل مَكِيل رِبَوِيّ، فَكل جص رِبَوِيّ و) الثَّانِي مَا كَانَ (بكيفيته) أَي الضَّرْب الأول، وهما إِيجَاب الصُّغْرَى والكبرى (وَالصُّغْرَى جزئية) نَحْو (بعض الْوضُوء منوي، وكل منوي عبَادَة، فبعض الْوضُوء عبَادَة، و) الثَّالِث (كليتان الأولى مُوجبَة) وَالثَّانيَِة سالبة والنتيجة سالبة كُلية نَحْو (كل وضوء
مَقْصُود لغيره) وَهُوَ فعل مَا لَا يَصح بِدُونِهِ (وَلَا مَقْصُود لغيره يشْتَرط فِيهِ نِيَّة فَلَا وضوء يشْتَرط فِيهِ نِيَّة و) الْخَامِس وَالسَّادِس (قلبه) أَي الثَّالِث من حَيْثُ الكيف بِأَن تكون الصُّغْرَى سالبة كُلية أَو جزئية كَمَا عرفت، والكبرى مُوجبَة (فِي التَّسَاوِي فَقَط) نَحْو (لَا شَيْء من الْإِنْسَان بصهال، وكل صهال فرس) فَلَا شَيْء من الْإِنْسَان بفرس (وَلَو قلت بدل فرس (حَيَوَان لم يَصح) لعدم الإنتاج لجَوَاز أَن يكون الأخض مسلوبا عَن شَيْء مَعَ ثُبُوت الْأَعَمّ لَهُ (و) الرَّابِع مَا كَانَ (بكيفيتي مَا قبله) أَي قبل الْقلب، وهما إِيجَاب الصُّغْرَى وسلب الْكُبْرَى (وَالْأولَى جزئية) فتركيبه من مُوجبَة جزئية وسالبة كُلية، والنتيجة سالبة جزئية نَحْو بعض الْأَبْيَض حَيَوَان، وَلَا شَيْء من الْحَيَوَان بِحجر فبعض الْأَبْيَض لَيْسَ بِحجر (وإنتاج) الضروب المنتجة فِي (هَذَا) الشكل (ضَرُورِيّ) بَين بِنَفسِهِ لَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل (وباقيها) أَي وإنتاج بَاقِي الْإِشْكَال الْأَرْبَعَة (نَظَرِي) يحْتَاج إِلَيْهِ (فَيرد) أَي الْبَاقِي عِنْد بَيَان إنتاجه (إِلَى الضَّرُورِيّ) أَي إِلَى الشكل الأول الضَّرُورِيّ إنتاجه، وَاللَّام للْعهد، وَسَيَأْتِي كَيْفيَّة الرَّد، وَفِيه إِشَارَة إِلَى انحصار الضَّرُورِيّ فِيهِ (الشكل الثَّانِي) يحصل (بِحمْلِهِ) أَي الْوسط (فيهمَا) أَي الصُّغْرَى والكبرى على الْأَصْغَر والأكبر (شَرطه) أَي شَرط استلزامه الْمَطْلُوب بِحَسب الكيف (اخْتِلَافهمَا) أَي الصُّغْرَى والكبرى (كيفا) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الِاخْتِلَاف إِلَيْهِمَا كَأَن تكون إِحْدَاهمَا مُوجبَة وَالْأُخْرَى سالبة (و) بِحَسب الْكمّ (كُلية كبراه فَلَا ينْتج) هَذَا الشكل (إِلَّا سلبا والنتيجة تَتَضَمَّن أبدا) أَي دَائِما (مَا فيهمَا) أَي المقدمتين (من خسة) بَيَان للموصول (سلب وجزئية) بدل من الخسة، وَذَلِكَ لِأَن الْأَشْرَف الْإِيجَاب الْكُلِّي (ضروبه) المنتجة بِحَسب الشَّرْطَيْنِ أَرْبَعَة، الأول (كليتان الأولى مُوجبَة) وَالثَّانيَِة سالبة فينتج سالبة كُلية نَحْو (السّلم) أَي بيع السّلم (رخصَة للمفاليس وَلَا حَال) أَي بيع الْحَال الَّذِي يجب تَسْلِيمه فِي الْحَال (بِرُخْصَة للمفاليس فَلَا سلم حَال، رده) أَي رد هَذَا الضَّرْب إِلَى الشكل الأول (بعكس الثَّانِيَة) أَي الْكُبْرَى عكسا مستويا بِأَن يُقَال وَلَا رخصَة لَهُم بِحَال (والسالبة تنعكس) إِلَى سالبة كميتها (ككميتها) فالسالبة الْكُلية إِلَى السالبة الْكُلية والجزئية إِلَى الْجُزْئِيَّة (بالاستقامة) أَي بالاستواء أَو من غير تخلف، فَإِن الضَّابِط إِذا تخلف خرج عَن الاسْتقَامَة (والموجبة الْكُلية) تنعكس مستويا مُوجبَة (جزئية إِلَّا فِي) صُورَة (مُسَاوَاة طرفيها) فَإِنَّهَا تنعكس حِينَئِذٍ كُلية فَكل إِنْسَان حَيَوَان ينعكس إِلَى بعض الْحَيَوَان إِنْسَان، وكل إِنْسَان نَاطِق ينعكس إِلَى كل نَاطِق إِنْسَان وَالِاسْتِثْنَاء هَهُنَا، وَفِيمَا تقدم من زَوَائِد المُصَنّف على المنطقيين (و) الضَّرْب الثَّانِي (قلبه) أَي الضَّرْب الأول كليتان سالبة صغرى وموجبة كبرى
فينتج سالبة كُلية نَحْو لَا شَيْء من الْحَال بِرُخْصَة، وكل سلم رخصَة فَلَا شَيْء من الْحَال بسلم (ورده) إِلَى الشكل الأول (بعكس الصُّغْرَى) وَهُوَ لَا شَيْء من الرُّخْصَة بِحَال (وَجعلهَا) أَي الصُّغْرَى (كبرى) والكبرى صغرى، فَيصير كل سلم رخصَة، وَلَا شَيْء من الرُّخْصَة بِحَال فينتج لَا شَيْء من السّلم بِحَال (ثمَّ عكس النتيجة) وَهُوَ عين الْمَطْلُوب (و) الضَّرْب الثَّالِث (كَالْأولِ إِلَّا أَن الأولى جزئية) نَحْو (بعض الْوضُوء غير منوي، وَلَا عبَادَة غير منوي فبعض الْوضُوء لَيْسَ عبَادَة)، و (رده) إِلَى الشكل الأول (كَالْأولِ) أَي كرد الضَّرْب الأول من هَذَا الشكل فَهُوَ بعكس الْكُبْرَى، فَتَقول بعض الْوضُوء غير منوي وَلَا غير منوي بِعبَادة فينتج الْمَذْكُور (و) الضَّرْب الرَّابِع (كالثاني) أَي كالضرب الثَّانِي من هَذَا الشكل (إِلَّا أَن أولاه) أَي أولى هَذَا (جزئية) وَأولى الثَّانِي كُلية، فَهُوَ صغرى سالبة جزئية وكبرى مُوجبَة كُلية ينْتج سالبة جزئية نَحْو (بعض الْغَائِب لَيْسَ بِمَعْلُوم وكل مَا يَصح بَيْعه مَعْلُوم، فبعض الْغَائِب لَا يَصح بَيْعه، رده بعكس الثَّانِيَة بعكس النقيض) وَهُوَ عِنْد قدماء المنطقيين جعل نقيض الْجُزْء الثَّانِي أَولا، ونقيض الأول ثَانِيًا مَعَ بَقَاء الكيف والصدق بحالهما، وَعند متأخريهم، وَعين الْجُزْء الأول ثَانِيًا مَعَ الْمُخَالفَة فِي الكيف، فعلى الأول تَقول كل مَا لَيْسَ بِمَعْلُوم مَا لَا يَصح بَيْعه، وعَلى الثَّانِي لَا شَيْء مِمَّا لَيْسَ بِمَعْلُوم يَصح بَيْعه (وبالخلف) أَي بِالْقِيَاسِ الْخلف عطف على قَوْله بعكس الثَّانِيَة (فِي كل ضروبه جعل نقيض الْمَطْلُوب) تَفْسِير للخلف وَبدل مِنْهُ (وَهُوَ) أَي نقيض الْمَطْلُوب (الْمُوجبَة الْكُلية هُنَا) أَي فِي هَذَا الضَّرْب الرَّابِع من الشكل الثَّانِي، لِأَن الْمَطْلُوب فِيهِ سالبة جزئية (صغرى) الشكل (الأول وتضم الْكُبْرَى) من ضروبه مَعَ الصُّغْرَى (إِلَيْهَا يسْتَلْزم) هَذَا الصَّنِيع (بِالآخِرَة كذب نقيض الْمَطْلُوب، فالمطلوب حق) تَصْوِيره فِي الْمِثَال الْمَذْكُور كل غَائِب يَصح بَيْعه، وكل مَا يَصح بَيْعه مَعْلُوم، ينْتج كل غَائِب مَعْلُوم، وَهَذَا يُنَاقض مَا هُوَ صَادِق: أَعنِي صغرى الضَّرْب الْمَذْكُور، وَهُوَ بعض الْغَائِب لَيْسَ بِمَعْلُوم، ونقيض الصَّادِق لَا يكون صَادِقا، فقد علمت أَن الصَّنِيع الْمَذْكُور يسْتَلْزم نقيض الصُّغْرَى الصادقة، وعندك مُقَدّمَة مقررة، وَهِي أَن مَا يسْتَلْزم نقيض الصادقة كَاذِب فيتهيأ لَك بِضَم هَذِه مَعَ تِلْكَ برهَان على كذب نقيض الْمَطْلُوب، وَلِهَذَا قَالَ يسْتَلْزم بِالآخِرَة وَقس عَلَيْهِ الضروب الْمَاضِيَة، وَإِنَّمَا سمي خلفا لاستلزامه بَاطِلا كَمَا عرفت، وَقيل لِأَنَّهُ يَأْتِي الْمَطْلُوب لَا على سَبِيل الاسْتقَامَة بل من خَلفه (الشكل الثَّالِث) يحصل (بِوَضْعِهِ) أَي بِوَضْع الْوسط (فيهمَا) أَي فِي صغراه وكبراه (شَرطه) بِحَسب الكيف (إِيجَاب صغراه و) بِحَسب الْكمّ (كُلية إِحْدَاهمَا) الصُّغْرَى أَو الْكُبْرَى (ضروبه) المنتجة سِتَّة: الأول (كليتان موجبتان) والنتيجة
مُوجبَة جزئية نَحْو (كل بر مَكِيل وكل بر رِبَوِيّ فبعض الْمكيل رِبَوِيّ) وَإِنَّمَا ينْتج بَريَّة (لِأَن رده بعكس الأولى) عكسا مستويا، والموجبة الْكُلية تنعكس إِلَى الْجُزْئِيَّة والنتيجة تتبع أخس المقدمتين (فَلَو كَانَت) الأولى من هَذَا الضَّرْب (مُتَسَاوِيَة الجزءين أنتج كليا) لِأَن عكس الْمُوجبَة الْكُلية مُوجبَة كُلية كَمَا مر (و) الضَّرْب الثَّانِي مِنْهُ (مثله) أَي مثل الضَّرْب الأول مِنْهُ فِي الكيف والكم (إِلَّا أَن الأولى جزئية) فَهُوَ مُوجبَة جزئية صغرى وموجبة كُلية كبرى (ينْتج مثله) أَي مثل الضَّرْب الأول مُوجبَة جزئية نَحْو بعض الْمكيل بر وكل مَكِيل رِبَوِيّ، فبعض الْبر رِبَوِيّ (وَيرد) إِلَى الشكل الأول (بعكس الصُّغْرَى) وَهُوَ ظَاهر (و) الضَّرْب الثَّالِث مِنْهُ (عكس) الضَّرْب (الثَّانِي) مِنْهُ، فَهُوَ مُوجبَة كُلية صغرى وموجبة جزئية كبرى (ينْتج كَالْأولِ) أَي كالضرب الأول مِنْهُ مُوجبَة جزئية (ورده) إِلَى الشكل الأول (بِجعْل عكس الْكُبْرَى صغرى) لعدم صلاحيتها لِأَن تكون كبرى الشكل الأول لجزئيتها وَتجْعَل عين الصُّغْرَى كبرى تَقول فِيمَا إِذا كَانَ الْمُدَّعِي بعض الْمكيل رِبَوِيّ بعض الرِّبَوِيّ بر وكل بر مَكِيل، فبعض الرِّبَوِيّ مَكِيل (وَعكس النتيجة) اللَّازِمَة ليصير بعض الْمكيل رِبَوِيّ (فَلَو) كَانَت (الصُّغْرَى مُتَسَاوِيَة) أَي مُتَسَاوِيَة الجزءين (عكست) فَإِن الْمُوجبَة الْكُلية تنعكس حِينَئِذٍ كنفسها كَمَا مر غير مرّة (وَعكس النتيجة) ذكر بعض من قَرَأَ الْكتاب على المُصَنّف رحمه الله فِي شَرحه عَلَيْهِ أَن المُصَنّف رحمه الله زَاد قَوْله فَلَو الصُّغْرَى إِلَى آخِره بِالآخِرَة، وَفَسرهُ بِمَا حَاصله أَن عدم عكس الصُّغْرَى هَهُنَا لِأَنَّهَا تنعكس جزئية وَلَا يصلح الشكل الأول من الجزئيتين وَالصُّغْرَى المتساوية الجزءين تنعكس كُلية، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَة إِلَى عكس النتيجة انْتهى، ثمَّ ذكر أَن هَذِه الزِّيَادَة غير مُسْتَقِيمَة عِنْده وَحملهَا على الذهول والغفلة إِذْ لَا يحصل الشكل الأول بعكس الصُّغْرَى هُنَا أصلا، لِأَنَّهَا إِن جعلت صغرى كَأَصْلِهَا فَاتَ كُلية الْكُبْرَى. وَإِن جعلت كبرى فإمَّا أَن يَجْعَل عين الْكُبْرَى صغرى أَو عكسها، فعلى الأول كَانَ الْأَوْسَط مَوْضُوعا فِي الصُّغْرَى مَحْمُولا فِي الْكُبْرَى، وعَلى الثَّانِي مَحْمُولا فيهمَا، هَذَا ملخص كَلَامه وَاعْلَم هداك الله لفهم الإشارات الْخفية فِي الْعبارَات الْعلية أَن مُسَاوَاة طرفِي صغرى الشكل الأول تسْقط اشْتِرَاط الْكُلية فِي كبراه كَمَا أَن مُسَاوَاة طرفِي كبراه تسْقط اشْتِرَاط الْإِيجَاب فِي صغراه، فَكَمَا أَن نفي أحد المتساويين وَهُوَ الْأَوْسَط عَن الْأَصْغَر يسْتَلْزم نفي الآخر، وَهُوَ الْأَكْبَر عَنهُ، وَإِلَّا لم يبْق بَينهمَا مُسَاوَاة، فَكَذَلِك إِثْبَات أحد المتساويين وَهُوَ الْأَوْسَط لشَيْء، وَهُوَ الْأَصْغَر هُنَا يسْتَلْزم إِثْبَات الآخر وَهُوَ الْأَكْبَر لَهُ، وَإِلَّا لزم وجود أحد المتساويين بِدُونِ الآخر، وكما أَن الإنتاج فِي صُورَة الْمُسَاوَاة مَعَ عدم كُلية الْكُبْرَى
لَيْسَ لصورة الشكل، بل لخصوصية الْمَادَّة وَوُجُود الْمُسَاوَاة كَذَلِك فِيهَا مَعَ عدم إِيجَاب الصُّغْرَى غير أَن المُصَنّف رحمه الله صرح فِي صُورَة مُسَاوَاة طرفِي الْكُبْرَى بِعَدَمِ اشْتِرَاط إِيجَاب الصُّغْرَى وَاكْتفى هُنَا بِالْإِشَارَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ شَأْن هَذَا الْكتاب ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله وَعكس النتيجة هَهُنَا غير مَحْمُول على مَا حمل عَلَيْهِ أَولا، بل المُرَاد بِهِ أَن النتيجة الْحَاصِلَة حِينَئِذٍ على عكس النتيجة الْحَاصِلَة على تَقْدِير جعل عكس الْكُبْرَى صغرى وَعين الصُّغْرَى كبرى، فَلَا حَاجَة إِلَى أَن تعكس، وَفَائِدَة عكس الصُّغْرَى كُلية صيرورة الْوسط مَحْمُولا فِيهَا وَظُهُور الْمُسَاوَاة بَين طرفيها بملاحظة الأَصْل وَالْعَكْس (و) الضَّرْب الرَّابِع مِنْهُ (كليتان الثَّانِيَة سالبة) وَالْأولَى مُوجبَة نَحْو (كل بر مَكِيل وكل بر لَا يجوز بَيْعه بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا فبعض الْمكيل لَا يجوز بَيْعه بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا، ينْتج) هَذَا الضَّرْب (كَالْأولِ) أَي كالضرب الأول مِنْهُ (فِي) صُورَة (الْمُسَاوَاة) أَي مُسَاوَاة جزئي الصُّغْرَى، فالنتيجة هَهُنَا سالبة كُلية، نَحْو كل فرس صهال، وَلَا شَيْء من الْفرس بانسان فَلَا شَيْء من الصهال بانسان (و) فِي صُورَة (الأعمية) أَي فِيمَا إِذا كَانَ مَحْمُول الصُّغْرَى أَعم من موضوعها، فالنتيجة حِينَئِذٍ سالبة جزئية (وَيرد) إِلَى الشكل الأول (بعكس الصُّغْرَى) كَمَا فِي الضَّرْب الأول (و) الضَّرْب الْخَامِس مِنْهُ (كالرابع إِلَّا أَن أولاه جزئية) فَهُوَ جزئية مُوجبَة صغرى وكلية سالبة كبرى (ينْتج سلبا جزئيا) نَحْو بعض الْمَوْزُون رِبَوِيّ وَلَا شَيْء من الْمَوْزُون يُبَاع بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا، فبعض الرِّبَوِيّ لَا يُبَاع بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا (وَيرد) إِلَى الشكل الأول بعكس الصُّغْرَى (مثله) أَي الرَّابِع فِي صُورَة الأعمية، فَيُقَال فِي الْمِثَال الْمَذْكُور بعض الرِّبَوِيّ مَوْزُون الخ (و) الضَّرْب السَّادِس (قلبه) أَي الضَّرْب الْخَامِس (كمية) لَا كَيْفيَّة فَهُوَ مُوجبَة كُلية صغرى وسالبة جزئية كبرى (ينْتج مثله) أَي الْخَامِس سلبا جزئيا نَحْو (كل بر مَكِيل وَبَعض الْبر لَا يُبَاع بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا، فبعض الْمكيل لَا يُبَاع إِلَى آخِره) أَي بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا (ورده بِاعْتِبَار الْكُبْرَى مُوجبَة سالبة الْمَحْمُول) أَي رده إِلَى الشكل الأول بِأَن يعْتَبر كبراه السالبة الْجُزْئِيَّة مُوجبَة سالبة الْمَحْمُول بِجعْل السَّلب الْوَارِد على النِّسْبَة الإيجابية جُزْءا للمحمول، ثمَّ إِثْبَات ذَلِك السَّلب للموضوع (وَهِي) أَي الْمُوجبَة الْمَذْكُورَة (لَازِمَة للسالبة) البسيطة كَمَا أَن السالبة البسيطة لَازِمَة لَهَا، وَمن ثمَّ لَا تَقْتَضِي وجود الْمَوْضُوع، بِخِلَاف المعدولة، فَإِنَّهَا تَقْتَضِيه كَمَا بَين فِي مَوْضِعه، ولصيرورتها مُوجبَة تنعكس مَعَ كَونهَا جزئية (وبجعل عكسها صغرى) للشكل الأول، فَهُوَ إِذن مُوجبَة سالبة الْمَوْضُوع صغرى، وموجبة كُلية كبرى كَانَت فِي الأَصْل صغرى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لكل بر مَكِيل فينتج مَا ينعكس إِلَى الْمَطْلُوب) وَهُوَ مَا لَا يُبَاع بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا مَكِيل ينعكس إِلَى بعض الْمكيل لَا يُبَاع إِلَى آخِره (وَيبين هَذَا) الضَّرْب
(وَمَا قبله) من الضروب الْخَمْسَة (بالخلف) أَيْضا، وَقد مر بَيَانه فِي الشكل الثَّانِي (إِلَّا أَنَّك تجْعَل نقيض الْمَطْلُوب كبرى) لصغرى الشكل الأول هُنَا، وَقد جعلته صغرى لكبراه هُنَاكَ فَتَقول لَو لم يصدق بعض الْمكيل لَا يُبَاع إِلَى آخِره لصدق كل مَكِيل يُبَاع إِلَى آخِره فَيجْعَل كبرى للصغرى الْمَذْكُورَة، وَهِي كل بر مَكِيل، فَيصير كل بر مَكِيل وكل مَكِيل يُبَاع إِلَى آخِره فينتج كل بر يُبَاع إِلَى آخِره، وَهَذَا يُنَاقض كبرى الأَصْل الْمَفْرُوض صدقهَا: أَي بعض الْبر لَا يُبَاع إِلَى آخِره فَيتَعَيَّن كذب نقيض الْمَطْلُوب فَيثبت (الشكل الرَّابِع خَالف) الشكل (الأول فيهمَا) أَي الصُّغْرَى والكبرى، فالأسوط مَوْضُوع فِي الصُّغْرَى مَحْمُول فِي الْكُبْرَى (فَرده) إِلَى الأول (بعكسهما) أَي الصُّغْرَى والكبرى مستويا ويبقيان على حَالهمَا من التَّرْتِيب (أَو قلبهما) بِتَقْدِيم الْكُبْرَى على الصُّغْرَى (فَإِذا كَانَت صغراه) أَي الرَّابِع (مُوجبَة كُلية أنتج مَعَ السالبة الْكُلية) الَّتِي هِيَ كبراه سالبة جزئية، لِأَن صغراه تنعكس إِلَى مُوجبَة جزئية، والنتيجة تتبع الأخس من الْجُزْئِيَّة وَالسَّلب كَمَا عرفت (برده) إِلَى الشكل الأول (بعكس المقدمتين فَقَط) أَي لَا مَعَ الْقلب أَيْضا (لعدم السَّلب فِي صغرى) الشكل (الأول) وَهُوَ لَازم للقلب (و) أنتج صغراه الْمُوجبَة الْكُلية (مَعَ الموجبتين) الْكُلية والجزئية كبريين مُوجبَة جزئية برده (بقلبهما) أَي المقدمتين (ثمَّ عكس النتيجة لَا بعكسهما لبُطْلَان) تركيب الْقيَاس من (الجزئيتين فَسَقَطت السالبة الْجُزْئِيَّة) فِي هَذَا الشكل لعدم صلاحيتها أَن تكون صغرى أَو كبرى (لانْتِفَاء) الإنتاج بِأحد (الطَّرِيقَيْنِ) الْعَكْس وَالْقلب (مَعهَا) أَي السالبة الْجُزْئِيَّة فِي هَذَا الشكل إِن كَانَت إِحْدَى مقدمتيه فَإِنَّهَا إِن كَانَت صغرى لَا تنعكس وَلَا تصلح لِأَن تكون كبرى لجزئيتها فَامْتنعَ الْقلب أَيْضا، وَإِن كَانَت كبرى لَا يَصح إبقاؤها لما ذكر، وَلَا جعلهَا صغرى لكَونهَا سالبة (وَلَو تَسَاويا) أَي الطرفان (فِي الْكُبْرَى الْمُوجبَة الْكُلية صَحَّ) رد هَذَا الضَّرْب إِلَى الشكل الأول (بعكسهما) أَي الصُّغْرَى والكبرى لانْتِفَاء الْمَانِع، وَهُوَ جزئية الْكُبْرَى، فَإِن الْمُوجبَة الْكُلية عِنْد مُسَاوَاة طرفيها تنعكس كُلية، فالنتيجة حِينَئِذٍ كُلية إِن تَسَاويا فِي الصُّغْرَى أَيْضا وَإِلَّا فموجبة جزئيه (وَإِذا كَانَت الصُّغْرَى) فِي هَذَا الشكل (مُوجبَة جزئية فَيجب كَون الْأُخْرَى السالبة الْكُلية) لسُقُوط السالبة الْجُزْئِيَّة لما مر، وانعكاس الموجبتين جزئية فَلَا يصلحان لِأَن يَكُونَا كبريين بعد الْعَكْس، وَلَو جعلا صغريين بطرِيق الْقلب لزم حِينَئِذٍ أَن يَجْعَل الْمُوجبَة الْجُزْئِيَّة كبرى (وعَلى التَّسَاوِي) أَي تَسَاوِي طرفِي الْكُبْرَى (تجوزا الْمُوجبَة الْكُلية) أَن تكون كبرى لانْتِفَاء الْمَانِع بانعكاسها كُلية (أَو) كَانَت الصُّغْرَى فِي هَذَا الشكل (السالبة الْكُلية فَيجب) حِينَئِذٍ
أَن تكون (الْكُبْرَى كُلية مُوجبَة لِامْتِنَاع خلاف ذَلِك) أما الْمُوجبَة الْجُزْئِيَّة فَلِأَنَّهَا لَو عكست وعكست الأولى لزم كَون الْكُبْرَى جزئية فِي الشكل الأول وَلَو قلبت لم يكن بُد من قلب النتيجة، والسالبة الْجُزْئِيَّة لَا تنعكس، وَأما السالبة الْكُلية أَو الْجُزْئِيَّة فَلِأَنَّهُ يلْزم حِينَئِذٍ تركب الْقيَاس من سابتين وهما غير منتجان كَمَا مر، فَحِينَئِذٍ (ضروبه) المنتجة خَمْسَة الأول (كليتان موجبتان) تنْتج مُوجبَة جزئية نَحْو (كل مَا يلْزم عبَادَة مفتقر إِلَى النِّيَّة وكل تيَمّم يلْزم عبَادَة لَازمه كل تيَمّم مفتقر إِلَى النِّيَّة بقلب المقدمتين) فَتَقول كل تيَمّم يلْزم عبَادَة وكل مَا يلْزم عبَادَة مفتقر إِلَى النِّيَّة فينتج اللَّازِم الْمَذْكُور ثمَّ يعكس إِلَى الْمَطْلُوب) جزئيا (وَهُوَ بعض المفتقر) إِلَى النِّيَّة (تيَمّم فَإِن قلت مَا السَّبَب) فِي اعْتِبَار هَذِه الْجُزْئِيَّة مَطْلُوبا للضرب الْمَذْكُور دون الْكُلية الَّتِي ينعكس إِلَيْهَا (وكل) وَاحِد (من لُزُوم الْكُلية) الْمَذْكُورَة للضرب الْمَذْكُور لُزُوما بَينا (و) من (مَعْنَاهَا) أَي الْكُلية الْمَذْكُورَة من حَيْثُ كليتها (صَحِيح) وَالْأول يدل على صِحَة الْقيَاس من حَيْثُ الصُّورَة. وَالثَّانِي على صِحَّته من حَيْثُ الْمَادَّة (قيل) فِي الْجَواب إِنَّمَا اعْتبرت دون الْكُلية (لفرض كَون الصُّغْرَى مُطلقًا): أَي لِأَن الْمَفْرُوض فِي الْقيَاس الاقتراني كَون الصُّغْرَى مُطلقًا فِي أَي شكل كَانَت (مَا اشْتَمَل) أَي قَضِيَّة اشْتَمَلت (على مَوْضُوع الْمَطْلُوب والكبرى) مُطلقًا مَا اشْتَمَل على (محموله فَإِذا زعمت أَن الِاسْتِدْلَال) فِي الْمِثَال الْمَذْكُور مثلا على أَن بعض المفتقر إِلَى النِّيَّة تيَمّم (بالرابع) أَي بالشكل الرَّابِع (كَانَ المفتقر مَوْضُوعه) أَي الْمَطْلُوب (وَالتَّيَمُّم محموله) حَتَّى إِذا قلبنا أنتج بالشكل الأول مَا ينعكس إِلَى الْمَطْلُوب على مَا بَين فِي بَيَان رده إِلَى الأول، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالْحَاصِل) من الشكل الرَّابِع بعد الصَّنِيع الْمَذْكُور (عِنْد) قصد (الرَّد) إِلَى الشكل الأول (عَكسه) أَي الْمَطْلُوب (فينعكس) الْحَاصِل من الضَّرْب الْمَذْكُور (جزئيا) لِأَنَّهُ مُوجبَة كُلية، وَقد عرفت أَنَّهَا تنعكس مُوجبَة جزئية (وَلَو تَسَاويا) أَي الطرفان فِي الْحَاصِل الْمَذْكُور (كَانَ) عَكسه (كليا) كَمَا مر غير مرّة، الضَّرْب (الثَّانِي مثله) أَي الضَّرْب الأول (إِلَّا أَن) الْمُقدمَة (الثَّانِيَة جزئية) نَحْو (كل عبَادَة بنية وَبَعض الْوضُوء عبَادَة) فبعض مَا هُوَ بنية وضوء (وَالرَّدّ وَاللَّازِم كَالْأولِ) غير أَن الْحَاصِل هَهُنَا مُوجبَة جزئية، تَقول بعض الْوضُوء عبَادَة، وكل عبَادَة بنية، فبعض الْوضُوء بنية وينعكس إِلَى بعض مَا هُوَ بنية وضوء، الضَّرْب (الثَّالِث كليتان، الأولى سالبة) وَالثَّانيَِة مُوجبَة نَحْو (كل عبَادَة لَا تستغنى عَن النِّيَّة، وكل مَنْدُوب عبَادَة ينْتج سالبة كُلية لَا مُسْتَغْنى) عَن النِّيَّة بمندوب (بِالْقَلْبِ وَالْعَكْس) أَي بقلب المقدمتين ليرد إِلَى الشكل الأول، ثمَّ عكس النتيجة إِلَى الْمَطْلُوب، الضَّرْب (الرَّابِع كليتان الثَّانِيَة سالبة) وَالْأولَى مُوجبَة (ينْتج جزئية سالبة) نَحْو (كل مُبَاح مستغن) عَن
النِّيَّة (وكل وضوء لَيْسَ بمباح، فبعض المستغنى عَن النِّيَّة لَيْسَ بِوضُوء، يرد) إِلَى الشكل الأول (بعكس المقدمتين) الأولى إِلَى مُوجبَة جزئية وَهِي بعض المستغنى عَن النِّيَّة مُبَاح، وَالثَّانيَِة إِلَى سالبة كُلية هِيَ كل مُبَاح لَيْسَ بِوضُوء فينتج بعض المستغنى لَيْسَ بِوضُوء (وَلَو كَانَ فِي الْمُوجبَة تساو) بَين طرفيها (كَانَت) النتيجة سالبة (كُلية) لكلية كلتا المتقدمتين عينا وعكسا الضَّرْب (الْخَامِس جزئية مُوجبَة وسالبة كُلية كالرابع لَازِما وردا) أَي لَازِمَة الْمَطْلُوب كلازمة الضَّرْب الرَّابِع فَهُوَ سلب جزئي، وَيرد إِلَى الشكل الأول مثله أَيْضا بعكس المقدمتين (وَيبين الْكل) أَي الضروب الْخَمْسَة (بالخلف) بِضَم نقيض النتيجة إِلَى إِحْدَى المقدمتين ينْتج مَا ينعكس إِلَى نقيض الْأُخْرَى فَفِي الضربين الْأَوَّلين المضموم إِلَيْهَا هُوَ الصُّغْرَى وَمَا ينعكس إِلَى نقيضه النتيجة هُوَ الْكُبْرَى، وَفِي الْبَاقِي هُوَ الْكُبْرَى وَمَا ينعكس إِلَى نقيضه هُوَ الصُّغْرَى، تَقول لَو لم يصدق بعض المفتقر إِلَى النِّيَّة تيَمّم لصدق لَا شَيْء من المفتقر إِلَيْهَا بِتَيَمُّم، وَيضم إِلَيْهَا كل مَا يلْزم عبَادَة مفتقر إِلَى النِّيَّة، فالصغرى هَذِه الْمُوجبَة الْكُلية، والكبرى تِلْكَ السالبة الْكُلية والنتيجة لَا شَيْء مِمَّا يلْزم عبَادَة بِتَيَمُّم وتنعكس إِلَى لَا شَيْء من التَّيَمُّم يلْزم عبَادَة وَهَذَا يُنَاقض كبرى الْمَرْدُود وَتقول لَو لم يصدق لَا مُسْتَغْنى عَن النِّيَّة بمندوب لصدق بعض المستغنى عَنْهَا مَنْدُوب وكل مَنْدُوب عبَادَة ينْتج بعض المستغنى عَنْهَا عبَادَة وتنعكس إِلَى بعض الْعِبَادَة مستغن، وَهُوَ يُنَاقض كل عبَادَة لَا تستغنى (الطَّرِيق الرَّابِع الاستقراء تتبع الجزئيات) أَي استقصاء جزئية كلي كلهَا، أَو أَكْثَرهَا ليعرف ثُبُوت حكم لَهَا على سَبِيل الْعُمُوم أَو ضِدّه (فيستدل) بعد تتبعها (على الحكم الْكُلِّي) الشَّامِل لكل فَرد من أَفْرَاد الْمَحْكُوم عَلَيْهِ (بِثُبُوتِهِ): أَي ذَلِك الحكم (فِيهَا): أَي الجزئيات الْمَذْكُورَة، فَهُوَ اسْتِدْلَال بِحَال الجزئي على حَال الْكُلِّي (وَهُوَ) أَي الاستقراء قِسْمَانِ (تَامّ إِن استغرقت) الجزئيات بالتتبع (يُفِيد الْقطع) كالعدد إِمَّا زوج وَإِمَّا فَرد، وكل مِنْهُمَا بعده الْوَاحِد، فَكل عدد بعده الْوَاحِد، وَيُسمى قِيَاسا مقسمًا (وناقص خِلَافه) بِأَن لم تستغرق جزئياته بل أَكْثَرهَا، فَلَا يُفِيد الْقطع، بل الظَّن لجَوَاز أَن يكون مَا لم يستقرأ مِنْهَا على خلاف مَا استقرئ كتحرك الفك الْأَسْفَل عِنْد المضغ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكثر أَفْرَاد الْحَيَوَان بِخِلَاف التمساح، فَإِنَّهُ يُحَرك فكه الْأَعْلَى (فَأَما التَّمْثِيل وَهُوَ الْقيَاس الفقهي الْآتِي فَمن مَقَاصِد الْفَنّ) فَلَا يجوز عده من الْمُقدمَات بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ (الرَّابِع) من الْأُمُور الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الْكتاب (استمداده) أَي مَا يستمد الْأُصُول مِنْهُ من قبيل إِطْلَاق اسْم أحد المتلازمين على الآخر (أَحْكَام) كُلية لغوية (استنبطوها) أَي استخرجها أهل هَذَا الْعلم من اللُّغَة الْعَرَبيَّة (لأقسام من) الْأَلْفَاظ (الْعَرَبيَّة) كالعام وَالْخَاص والمشترك والمرادف والحقيقة وَالْمجَاز
وَالظَّاهِر وَالنَّص إِلَى غير ذَلِك، وَالْجَار فِي قَوْله لأقسام مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ صفة أَحْكَام: أَعنِي مثبتة (جعلوها) أَي تِلْكَ الْأَحْكَام (مَادَّة لَهُ) أَي لهَذَا الْعلم وأجزاء لَهُ (لَيست) تِلْكَ الْأَحْكَام (مدونة قبله) أَي قبل تدوين هَذَا الْعلم وَإِن ذكرت فِي أثْنَاء استدلالاتهم فِي الْفُرُوع وأكثرها (فَكَانَت) الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة بَعْضًا (مِنْهُ) أَي هَذَا الْعلم وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ أَن يُقَال بعض مَقَاصِد هَذَا الْعلم يتَوَقَّف على معرفَة بعض هَذِه الْأَحْكَام وَمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ مسَائِل الْعلم خَارج عَنهُ، أَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (وَتوقف إِثْبَات بعض مطالبه) أَي هَذَا الْعلم (عَلَيْهَا) أَي الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة (لَا يُنَافِي الاصالة لجَوَاز) كَون (مَسْأَلَة) من الْعلم (مبدأ لمسألة) أُخْرَى مِنْهُ، غَايَة الْأَمر كَونهَا خَارِجَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يتَوَقَّف عَلَيْهَا (وَهَذَا) أَي كَون هَذَا الْعلم يستمد من هَذِه الْأَحْكَام (لِأَن الْأَدِلَّة من الْكتاب وَالسّنة مِنْهَا) أَي من تِلْكَ الْأَقْسَام (وَحمل حكم الْعَام مثلا) وَحمل حكم الْمُطلق على الْعَام (وَالْمُطلق لَيْسَ بِقَيْد كَونه) أَي الْعَام أَو الْمُطلق الْمَحْمُول عَلَيْهِ (عَام الْأَدِلَّة) الْمَذْكُورَة أَو مُطلقهَا (بل) على مُطلق الْعَام وَالْمُطلق غَايَة الْأَمر أَن الحكم الْمَحْمُول (ينطبق عَلَيْهَا) أَي عَام الْكتاب وَالسّنة ومطلقه انطباق حكم الْكُلِّي على جزئياته الإضافية، فَانْدفع مَا قيل من أَن الْأَحْكَام الكائنة لأقسام من الْعَرَبيَّة إِنَّمَا هِيَ مثبتة فِي هَذَا الْعلم على موضوعاتها من حَيْثُ إِنَّهَا من الْكتاب وَالسّنة لَا مُطلقًا، فَلَا يكون الْعلم مستمدا من الْأَحْكَام على الْوَجْه الَّذِي ذكرْتُمْ (وَقد يجْرِي فِيهَا) أَي فِي الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة (خلاف) كَمَا سَيَأْتِي (وأجزاء مُسْتَقلَّة) مَعْطُوف على قَوْله أَحْكَام، وَتلك الْأَجْزَاء (تصورات الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة الْخَمْسَة الْوُجُوب وَالْحُرْمَة وَالنَّدْب وَالْكَرَاهَة وَالْإِبَاحَة، يُرِيد أَن وَجه استمداد الْأُصُول من الْأَحْكَام إِنَّمَا هُوَ من جِهَة مباديه التصورية إِذْ لَا بُد فِيهِ من تصورها ليمكن إِثْبَاتهَا أَو نَفيهَا كَمَا إِذا قُلْنَا الْأَمر للْوُجُوب لَا النّدب، وَإِنَّمَا صرح بِكَوْنِهَا أَجزَاء مُسْتَقلَّة دفعا لما ذكر فِي بعض الْحَوَاشِي من أَنَّهَا جعلت فِي الْفِقْه مبادئ اسْتِقْلَالا، وَفِي الْأُصُول استمدادا لكَونهَا محمولات لمسائل الْفِقْه وأعراضا ذاتية لموضوعه ومتعلقات لمحمولات مسَائِل الْأُصُول، وَبَين ذَلِك بقوله (كالفقه) أَي كَمَا أَن الْفِقْه يستمد من هَذِه الْأَجْزَاء (يجمعهما) أَي الْأُصُول وَالْفِقْه فِي الاستمداد مِنْهَا (الِاحْتِيَاج) الْكَائِن لكل مِنْهُمَا (إِلَى تصور محمولات الْمسَائِل) أَي مسائلهما، وَذَلِكَ لما عرفت من أَن مَوْضُوعَات مسَائِل الْأُصُول الْأَدِلَّة السمعية ومحمولاتها مَا يرجع إِلَى كَونهَا مثبتا للْحكم الشَّرْعِيّ، وموضوعات مسَائِل الْفِقْه أَفعَال الْمُكَلّفين ومحمولاتها الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (على أَن الظَّاهِر) أَن يكون (استمداد الْفِقْه إِيَّاهَا) أَي تصورات الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة (مِنْهُ) أَي من علم الْأُصُول (لسبقه) أَي الْأُصُول الْفِقْه لكَونه فرعا
عَلَيْهِ (وَإِن لم يدون) الْأُصُول قبل الْفِقْه، فَإِن أول من دون الْفِقْه ورتب كتبه وأبوابه الإِمَام أَبُو حنيفَة رحمه الله. قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي رَحْمَة الله عَلَيْهِ من أَرَادَ الْفِقْه فَهُوَ عِيَال على أبي حنيفَة نَقله الفيروزابادي الشَّافِعِي رحمه الله فِي طَبَقَات الْفُقَهَاء وَغَيره، وَقَالَ المطرزي فِي الْإِيضَاح ذكر الإِمَام السَّرخسِيّ فِي كِتَابه أَن ابْن سُرَيج وَكَانَ مقدما فِي أَصْحَاب الشَّافِعِي بلغه أَن رجلا يَقع فِي أبي حنيفَة رحمه الله، فَدَعَاهُ فَقَالَ: يَا هَذَا أتقع فِي رجل يسلم لَهُ النَّاس ثَلَاثَة أَربَاع الْعلم وَهُوَ لَا يسلم لَهُم الرّبع، فَقَالَ: وَكَيف ذَلِك؟ فَقَالَ الْفِقْه: سُؤال وَجَوَاب، وَهُوَ الَّذِي تفرد بِوَضْع السُّؤَال فَسلم لَهُ نصف، ثمَّ أجَاب عَن السُّؤَال، وخصومه لَا يَقُولُونَ أَنه أَخطَأ فِي الْكل، فَإِذا جعلت مَا وافقوه فِيهِ مُقَابلا لما خالفوه فِيهِ سلم ثَلَاثَة أَربَاع الْعلم لَهُ وَبَقِي بَينه وَبَين جَمِيع النَّاس ربع الْعلم فَتَابَ الرجل، وَيُقَال أَن أول من دون فِي أصُول الْفِقْه اسْتِقْلَالا الإِمَام الشَّافِعِي رَحْمَة الله عَلَيْهِ صنف فِيهِ كتاب الرسَالَة بالتماس ابْن الْمهْدي (وَيزِيد) الْأُصُول على الْفِقْه استمدادا (بهَا) أَي بتصورات الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة لكَونهَا (مَوْضُوعَات) لمسائله (فِي مثل الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ أَولا، وَالْوَاجِب إِمَّا مُقَيّد بِالْوَقْتِ أَولا) وَلَيْسَ مثله فِي الْفِقْه فَلِذَا كَانَ أَكثر احتياجا (وَعنهُ) أَي عَن كَونهَا مَوْضُوعَات (عدت) الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة (من الْمَوْضُوع) أَي من مَوْضُوع الْأُصُول، ثمَّ مُرَاد المُصَنّف رحمه الله بِمَا مِنْهُ الاستمداد مَا بِحَيْثُ يكون مَادَّة وجزءا لهَذَا الْعلم، وَلِهَذَا لم يَجْعَل الاستمداد من ثَلَاثَة هذَيْن، وَالْكَلَام كَمَا جعله الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب مِنْهَا، وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح والشأن فِي اخْتِيَار مَا هُوَ أولى بِالِاعْتِبَارِ (وَمَا قيل) من أَن علم الْأُصُول لَيْسَ علما بِرَأْسِهِ، بل هُوَ (كُله أَجزَاء عُلُوم) وأبعاضها جمعت من الْكَلَام وَالْفِقْه واللغة والْحَدِيث والجدل (بَاطِل) قَالَ شَارِح هَذَا الْكتاب أَن الْقَائِل هُوَ السُّبْكِيّ (وَمَا يخال) أَي يظنّ (من علم الحَدِيث) من الْأَحْوَال الراجعة إِلَى مَتنه أَو طَرِيقه كالعبرة بِعُمُوم اللَّفْظ لَا بِخُصُوص السَّبَب وبعمل الصَّحَابِيّ لَا بروايته أَو بِالْعَكْسِ، وعدالة الرَّاوِي وجرحه أَن الْأُصُول يستمد مِنْهُ (لَيْسَ) الْبَحْث عَنهُ (استمدادا) لِلْأُصُولِ (بل تدَاخل موضوعي علمين) يَتَرَتَّب غايتهما على الْبَحْث عَن أَحْوَال شَيْء وَاحِد فيشتركان فِي الْمَوْضُوع أَو ينْدَرج مَوْضُوع أَحدهمَا تَحت مَوْضُوع الآخر على مَا مر (يُوجب مثله) أَي الِاشْتِرَاك فِي بعض الْأَحْكَام (و) الدَّلِيل (السمعي) الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْأُصُول (من حَيْثُ يُوصل) الْعلم بأحواله إِلَى قدرَة إِثْبَات الْأَحْكَام لأفعال الْمُكَلّفين (ينْدَرج فِيهِ) أَي السمعي (السمعي النَّبَوِيّ) الَّذِي هُوَ مَوْضُوع علم الحَدِيث اندراج الجزئي الإضافي تَحت الْكُلِّي، وَالْمرَاد بِهِ أَدِلَّة السّنة كَمَا ينْدَرج فِيهِ أَدِلَّة الْكتاب (من حَيْثُ كَيْفيَّة الثُّبُوت) وَكَون الْأُصُول باحثا من حَيْثُ
الإيصال لَا يُنَافِي بحثها من حَيْثُ كَيْفيَّة الثُّبُوت، بل الْبَحْث عَن الإيصال السمعي بعد معرفَة كَيْفيَّة ثُبُوته من صِحَة وَحسن وَغَيرهمَا، وَمن ثمَّة تخْتَلف صِفَات إِثْبَات الْأَحْكَام باخْتلَاف كَيْفيَّة ثُبُوت أدلتها قُوَّة وضعفا فالبحث من الْحَيْثِيَّة الثَّانِيَة رَاجع إِلَى الأولى، فَظهر أَن مبَاحث السّنة من مبَاحث الْأُصُول أَصَالَة (ومباحث الْإِجْمَاع وَالْقِيَاس والنسخ ظَاهر) كَونهَا من مسَائِل الْأُصُول المختصة بِهِ، وَلَا يعلم علم من الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة كَفِيل بهَا سواهُ.
(الْمقَالة الأولى) من المقالات الثَّلَاث (فِي المبادئ اللُّغَوِيَّة) جمع مبدأ، هُوَ فِي الأَصْل مَكَان الْبدَاءَة فِي الشَّيْء أَو زَمَانه، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا على مَا سبق، تصورات وتصديقات يتَوَقَّف عَلَيْهَا الْبَحْث عَن مسَائِل الْفَنّ بوسط أَو بِغَيْرِهِ كبيان معنى اللُّغَة، وَسبب وَضعهَا، والواضع، وَلُزُوم الْمُنَاسبَة بَين اللَّفْظ وَمَعْنَاهُ، وَعدم لُزُومهَا، وَمَا وضع لَهُ اللَّفْظ ذهني أَو خارجي أَو أَعم مِنْهُمَا، وَطَرِيق معرفَة الْوَضع وَهل يجْرِي الْقيَاس إِلَى غير ذَلِك؟ وَوجه التَّسْمِيَة أَن الْمَوْقُوف عَلَيْهِ مبدأ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَوْقُوف، وَتَقْدِيم هَذِه الْمقَالة لاحتياج الْكل إِلَيْهَا (اللُّغَات الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة) للمعاني أَشَارَ بِلَفْظ الْجمع إِلَى عدم اخْتِصَاص التَّعْرِيف بلغَة الْعَرَب، والمتبادر من الْوَضع تعْيين اللَّفْظ للدلالة بِنَفسِهِ، فعلى هَذَا لَا يكون الْمجَاز لُغَة حَقِيقَة بل مجَازًا، وَيُمكن أَن يُرَاد بِهِ مَا يعم الْوَضع الْمجَازِي فَيكون لُغَة حَقِيقَة (ثمَّ تُضَاف كل لُغَة إِلَى أَهلهَا) وَهُوَ من تنْسب إِلَيْهِ لَا واضعها، يُقَال لُغَة الْعَرَب ولغة الْعَجم (وَمن لطفه) سبحانه وتعالى: أَي إفَاضَة إحسانه برفقه على عباده، والإضمار فِي مَحل الْإِظْهَار للإشعار بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَاضر فِي الأذهان بِحَيْثُ لَا يحْتَاج إِلَى سبق الذّكر (الظَّاهِر تَعَالَى) أَشَارَ بِهَذَا الْوَصْف إِلَى أَن لطفه على قسمَيْنِ الظَّاهِر والخفي (وَقدرته) وَهِي صفة أزلية مُؤثرَة فِي المقدورات عِنْد تعلقهَا بهَا (الباهرة) أَي الْغَالِبَة الْعَالِيَة عَن الْعَجز عَن إِيجَاد مَا تعلّقت إِرَادَته من المقدورات (الاقدار) وَهِي إعطا الْقُدْرَة (عَلَيْهَا) أَي على الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة بالنطق بهَا مَتى شَاءُوا إعلاما بِمَا فِي ضمائرهم (وَالْهِدَايَة) عطف على الْمُبْتَدَأ: أَعنِي الاقدار وَالْخَبَر هُوَ قَوْله من لطفه، وَهِي الدّلَالَة على مَا يُوصل إِلَى البغية، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَهُنَا نشرا على غير تَرْتِيب اللف، فَإِن الْهِدَايَة مُتَعَلقَة باللطف والاقدار بِالْقُدْرَةِ (للدلالة بهَا) اللَّام صلَة الْهِدَايَة فَإِنَّهَا تتعدى بِاللَّامِ وَإِلَى وبنفسه، وَالْهِدَايَة صفة الْحق سُبْحَانَهُ، وَالدّلَالَة وَهِي الْإِرْشَاد إِلَى مَا فِي الضَّمِير بِوَاسِطَة اللَّفْظ صفة الْمُتَكَلّم بهَا (فَخفت الْمُؤْنَة) بِهَذَا الطَّرِيق فِي الإفادة والاستفادة ليسره وسهولته (وعمت الْفَائِدَة) لتناول إفادتها الْمَوْجُود والمعدوم والمحسوس والمعقول. ووجودها مَعَ الْحَاجة وانقضائها مَعَ انْقِضَائِهَا بِخِلَاف الْكِتَابَة وَالْإِشَارَة والمثال وَهُوَ الجرم الْمَوْضُوع على شكل مَا فِي الضَّمِير (والواضع للأجناس) أَي الْمعَانِي الْكُلية الْمُسَمَّاة باسم
كالإنسان وَالْحَيَوَان وَالْأكل وَالشرب، فالمفعول مَحْذُوف أَو الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة بِإِزَاءِ الْمعَانِي الْكُلية، فَاللَّام لتقوية الْعَمَل والموضوع لَهُ مَحْذُوف (أَولا الله سُبْحَانَهُ) وَيجوز أَن يتوارد على بَعْضهَا وضعان لله أَولا، وللعباد ثَانِيًا (قَول الْأَشْعَرِيّ) أَي القَوْل بِأَن الْوَاضِع لَهَا أَولا الله سُبْحَانَهُ قَوْله (وَلَا شكّ فِي أوضاع أخر لِلْخلقِ علمية شخصية) على مَا يشْهد بِهِ الْوَاقِع، وَإِنَّمَا جعل مَحل الْخلاف الْأَجْنَاس، لِأَن الْأَشْخَاص بَعْضهَا بِوَضْع الله تَعَالَى بِغَيْر خلاف كأسماء الله تَعَالَى المتلقاة من السّمع وَأَسْمَاء الْمَلَائِكَة وَبَعض أَسمَاء الْأَنْبِيَاء، وَبَعضهَا بِوَضْع الْبشر بِلَا ريب، وَإِنَّمَا قيد بالشخصية لانْتِفَاء الْقطع فِي العلمية الجنسية كانتفائه فِي أَسمَاء الْأَجْنَاس (وَغَيرهَا) أَي غير أوضاع الْأَعْلَام الشخصية الَّتِي هِيَ لِلْخلقِ بِلَا شكّ مَا لَا يقطع بِكَوْنِهِ للحق دون الْخلق (جَائِز) وجوده، فَإِن كَانَ مَا وضع لَهُ فِيهِ عين مَا وضع وَمَا ضع لَهُ بِوَضْع الْحق فَهُوَ مُجَرّد توارد، وَإِلَّا فَيلْزم ترادف إِن كَانَت الْمُغَايرَة فِي الأول دون الثَّانِي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَيَقَع الترادف) أَو اشْتِرَاك إِن كَانَت فِي الثَّانِي فَقَط، أَو انْفِرَاد فِي الْوَضع كَمَا ذكر من وضع الْعلم الشخصي إِن كَانَت فيهمَا، وَكَأَنَّهُ ذكر الترادف مثلا وَترك غَيره بالمقايسة (لقَوْله تَعَالَى {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} تَعْلِيل للأشعري، وَالْمرَاد بالأسماء المسميات والعلامات، لَا مصطلح النُّحَاة فَيعم الْأَفْعَال والحروف أَيْضا على أَنه لَو أُرِيد لثبت الْمَطْلُوب أَيْضا لعدم الْقَائِل بِالْفَصْلِ، وَلِأَن التَّعْلِيم بِمُجَرَّد الْأَسْمَاء دونهمَا متعسر. وَالظَّاهِر أَن التَّعْلِيم بإلقائها عَلَيْهِ مُبينًا لَهُ مَعَانِيهَا إِمَّا بِخلق علم ضَرُورِيّ لَيْسَ بإعمال شَيْء من أَسبَاب الْعلم اخْتِيَارا أَو إِلْقَاء فِي روعه، وَهُوَ يجْتَمع مَعَ التَّوَجُّه وأعمال السَّبَب أَو غير ذَلِك وأياما كَانَ فَهُوَ غير مفتقر إِلَى سَابِقَة اصْطِلَاح ليتسلسل، بل إِلَى وضع، وَالْأَصْل يَنْفِي أَن يكون ذَلِك الْوَضع مِمَّن كَانَ قبل آدم وَمِمَّنْ مَعَه فِي الزَّمَان من الْمَخْلُوقَات، فَيكون من الله وَهُوَ الْمَطْلُوب (وَأَصْحَاب أبي هَاشم) المعتزلي الْمَشْهُور، وَيُقَال لَهُم الدهشمية قَالُوا الْوَاضِع (الْبشر آدم وَغَيره) وضع الْأَوَائِل، ثمَّ عرف الْبَاقُونَ بتكرار الْأَلْفَاظ مَعَ قرينَة الْإِشَارَة وَغَيرهَا (لقَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} أَي بلغتهم مجَاز من تَسْمِيَة الشَّيْء باسم سَببه (أَفَادَ) النَّص (نسبتها) أَي اللُّغَة (إِلَيْهِم) أَي الْقَوْم (وَهِي) أَي النِّسْبَة الْمَذْكُورَة إِنَّمَا تكون (بِالْوَضْعِ) أَي بوضعهم إِيَّاهَا بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا، لِأَن الأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحمل على الْكَامِل مِمَّا يحْتَملهُ اللَّفْظ (وَهُوَ) أَي هَذَا التَّقْرِير (تَامّ) فِي الِاسْتِدْلَال (على الْمَطْلُوب) يَعْنِي على تَقْدِير تَسْلِيم مقدماته يستلزمه فَلَا يُنَافِي وُرُود منع على بعض مقدماته (وَأما تَقْرِيره) أَي الِاسْتِدْلَال بِهَذَا النَّص (دورا) مفعول التَّقْرِير لتَضَمّنه معنى التصيير: أَي جعله مُفِيدا للدور (كَذَا) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر بعده
من التَّقْرِير: وَهُوَ حَال عَن ضمير تَقْرِيره، وَلَيْسَ المُرَاد بِمثل هَذَا حَقِيقَة التَّشْبِيه، بل كَون مَا قصد بَيَانه بِحَيْثُ يعبر عَنهُ بِهَذِهِ الْعبارَة وَنَحْوهَا وَمَا بعده بدل عَنهُ وَهُوَ قَوْله (دلّ) أَي النَّص الْمَذْكُور (على سبق اللُّغَات الْإِرْسَال) لدلالته على مُلَابسَة الرُّسُل اللُّغَة المنسوبة إِلَى الْقَوْم قبل الْإِرْسَال، لِأَن تخاطبهم بِتِلْكَ اللُّغَة يسبب كَون الرَّسُول متلبسا بهَا حَال الْإِرْسَال ليبين لَهُم مَا أمروا بِهِ فيفهموا بِيَسِير (وَلَو كَانَ) حُصُول اللُّغَات لَهُم (بالتوقيف) من الله تَعَالَى (وَلَا يتَصَوَّر) التَّوْقِيف (إِلَّا بِالْإِرْسَال) لِأَنَّهُ الطَّرِيق الْمُعْتَاد فِي تَعْلِيم الله سُبْحَانَهُ للعباد (سبق الْإِرْسَال اللُّغَات فيدور) وَهُوَ دور تقدم بِمَعْنى مسبوقية الشَّيْء بِمَا هُوَ مَسْبُوق بذلك الشَّيْء، وَهُوَ محَال وَإِن كَانَ سبقا زمانيا لَا ذاتيا، فَإِن سبق الشَّيْء على نَفسه زَمَانا ظَاهر الاستحالة (فغلط) جَوَاب أما (لظُهُور أَن كَون التَّوْقِيف لَيْسَ إِلَّا بِالْإِرْسَال إِنَّمَا يُوجب سبق الْإِرْسَال على التَّوْقِيف لَا) سبق الْإِرْسَال على (اللُّغَات) حَتَّى يلْزم الدّور، وَلَك أَن تَقول سبق الْإِرْسَال على التَّوْقِيف لعدم حُصُوله بِلَا إرْسَال رَسُول، وَلَا شكّ أَنه لَا يحصل إِلَّا برَسُول عَالم باللغات ليعلم قومه إِيَّاهَا، وَالْحَاصِل أَن النَّص يدل على تقدم اللُّغَات من حَيْثُ أَنَّهَا مَعْلُومَة للْقَوْم على الْإِرْسَال والتوقيف يدل على أَنَّهَا من تِلْكَ الْحَيْثِيَّة مُتَأَخِّرَة عَن الْإِرْسَال فَسبق الْإِرْسَال على التَّوْقِيف يسْتَلْزم سبقه على اللُّغَات من حَيْثُ كَونهَا مَعْلُومَة لَهُم وَإِن لم يسْتَلْزم سبقه عَلَيْهَا من حَيْثُ ذواتها، وَذَلِكَ كَاف فِي إِثْبَات الدّور، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ يجوز أَن يتَعَلَّق باللغات نَوْعَانِ من الْعلم، أَحدهمَا بطرِيق التَّوْقِيف، وَالْآخر بطرِيق آخر: كالضرورة مثلا، وَتَكون اللُّغَات من حَيْثُ معلوميتها بالنوع الأول مُتَأَخِّرًا عَن الْإِرْسَال، وَمن حَيْثُ معلوميتها بِالثَّانِي مُتَقَدما عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ معنى قَوْله لَا على اللُّغَات لَا عَلَيْهَا من حَيْثُ معلوميتها بِغَيْر طَرِيق التَّوْقِيف أَولا عَلَيْهَا من جَمِيع الحيثيات، فالآية لَا تدل على أَن الْوَاضِع إِنَّمَا هُوَ الْبشر، وَإِن سلم دلالتها على سبق اللُّغَات على الْإِرْسَال، وَكَون التَّوْقِيف لَيْسَ إِلَّا بِالْإِرْسَال (بل يُفِيد سبقها) أَي كَون التَّوْقِيف كَمَا ذكر لَا يُوجب سبق الْإِرْسَال على اللُّغَات بل يُفِيد سبق اللُّغَات على الْإِرْسَال، لِأَن الْإِرْسَال لتعليمها إِنَّمَا يكون بعد وجودهَا مَعْلُومَة للرسول عَادَة ليترتب فَائِدَة الْإِرْسَال عَلَيْهِ بِلَا تَأَخّر (فَالْجَوَاب) من قبل التوقيفية عَن الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (بِأَن آدم علمهَا) بِلَفْظ الْمَبْنِيّ للْمَفْعُول بتعليم الله، وَالضَّمِير للأسماء (وَعلمهَا) بِلَفْظ الْمَبْنِيّ للْفَاعِل آدم غَيره (فَلَا دور) إِذْ تَعْلِيمه بِالْوَحْي يستدعى تقدم الْوَحْي على اللُّغَات، لَا تقدم الْإِرْسَال وَلَا يتَصَوَّر الْإِرْسَال عِنْد ذَلِك لعدم الْقَوْم وَبعد أَن وجدوا وتعلموا اللُّغَات مِنْهُ أرسل إِلَيْهِم وَحَاصِل الْجَواب منع كَون التَّوْقِيف لَيْسَ إِلَّا بِالْإِرْسَال فَقَوله (وبمنع حصر التَّوْقِيف على الْإِرْسَال) يغاير الْجَواب الأول بِاعْتِبَار السَّنَد، فَإِن سَنَد هَذَا تَجْوِيز، وَسَنَد
ذَلِك أَمر نقلي، وَالْأَوْجه أَن يُقَال الأول مُعَارضَة، وَالْمُدَّعِي أَن الْبشر لَيْسَ بواضع، لِأَن آدم علمه الله تَعَالَى: وَغَيره علمه آدم، فَلم يكن أحد وَاضِعا، غَايَة الْأَمر أَنه أُشير فِي ضمنه إِلَى بطلَان دليلهم بِأَنَّهُ لَو كَانَ التوفيف يسْتَلْزم الدّور لما وَقع لكنه وَقع (لجوازه) أَي التَّوْقِيف من الله (بالإلهام) أَي بإلقاء الله تَعَالَى فِي روع الْعَاقِل من غير كسب مِنْهُ أَن هَذِه الْأَلْفَاظ مَوْضُوعَة بِإِزَاءِ هَذِه الْمعَانِي (ثمَّ دَفعه) أَي هَذَا التجويز (بِخِلَاف الْمُعْتَاد) أَي بِأَن التَّوْقِيف بِغَيْر الْإِرْسَال من الإلهام وَنَحْوه خلاف مَا جرت بِهِ الْعَادة الألهية، فَإِن لم يقطع بِعَدَمِهِ فَلَا أقل من أَن يكون خلاف الظَّاهِر فَلَا يُصَار إِلَيْهِ بِمُجَرَّد التجويز (ضائع) خبر قَوْله فَالْجَوَاب إِلَى آخِره وَذَلِكَ لكَونه مَبْنِيا على الدّور، وَقد عرفت أَنه غلط مُسْتَغْنى عَنهُ (بل الْجَواب) الْمُعْتَمد الْمَبْنِيّ على تَقْرِير استدلالهم بِالْآيَةِ على الْوَجْه التَّام (أَنَّهَا) أَي الْإِضَافَة فِي قَوْله تَعَالَى بِلِسَان قومه (للاختصاص) أَي اخْتِصَاص اللِّسَان بهم من بَين النَّاس لتخاطبهم بهَا من سَائِر اللُّغَات (وَلَا يسْتَلْزم) الِاخْتِصَاص (وضعهم) إِيَّاهَا (بل يثبت) الِاخْتِصَاص (مَعَ تَعْلِيم آدم بنيه إِيَّاهَا) أَي اللُّغَات (وتوارث الأقوام) من السّلف وَالْخلف بالتعليم والتعلم (فاختص كل) أَي كل قوم (بلغَة) دلّت الْفَاء التعقيبية على أَن اخْتِصَاص كل قوم بلغَة إِنَّمَا حدث بعد التَّوَارُث، فعلى هَذَا لَا يلْزم أَن الْأَوَائِل لم يَكُونُوا كَذَلِك، بل كَانُوا يخاطبون بِكُل لُغَة (وَأما تَجْوِيز كَون علم) أَي كَون المُرَاد بِعلم آدم الْأَسْمَاء (ألهمه الْوَضع) بِأَن بعث داعيته وَألقى فِي روعه كيفيته حَتَّى فعل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وعلمناه صَنْعَة لبوس} - (أَو مَا سبق وَضعه مِمَّن تقدم) أَي أَو ألهمه الْأَسْمَاء السَّابِق وَضعهَا مِمَّن تقدم آدم، فقد ذكر غير وَاحِد من الْمُفَسّرين أَن الله تَعَالَى خلق جانا قبله وأسكنهم الأَرْض، ثمَّ أهلكهم بِذُنُوبِهِمْ (فخلاف الظَّاهِر) لِأَن الأَصْل عدم الْوَضع السَّابِق، والمتبادر من التَّعْلِيم أَن يكون بطرِيق الْخطاب لَا الإلهام (و) هَذِه (الْمَسْأَلَة ظنية) فَلَا يتَّجه أَن دليلها لَا يُفِيد الْقطع فَلَا يعْتَبر وَهِي (من الْمُقدمَات) لِلْأُصُولِ، وَمَا يذكر قبل الشُّرُوع فِيهِ لمزيد بَصِيرَة، لَا من مقاصده وَلَا من مباديه الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا مسَائِله (و) إِطْلَاق (المبادي فِيهَا) أَي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة (تَغْلِيب) فَلَا يتَّجه أَنه كَيفَ ذكرت فِي المبادي اللُّغَوِيَّة (كَالَّتِي تَلِيهَا) أَي كَمَا فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي تلِي هَذِه الْمَسْأَلَة من أَن الْمُنَاسبَة بَين اللَّفْظ، وَالْمعْنَى مُعْتَبرَة أم لَا، فَإِنَّهَا أَيْضا ظنية من الْمُقدمَات، ثمَّ أَشَارَ إِلَى دفع مَا دفع بِهِ احتجاج التوقيفية بِالْآيَةِ بقوله (وَكَون المُرَاد بالأسماء) الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة (المسميات) وَهِي الْحَقَائِق الْمَوْضُوعَة بإزائها الْأَسْمَاء (بعرضهم) أَي بِدلَالَة قَوْله تَعَالَى عرضهمْ فِي قَوْله - {ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ} - لِأَن الْعرض للسؤال عَن أَسمَاء المعروضات، فَلَا يكون المعروض الَّذِي هُوَ مرجع
الضَّمِير الْمَنْصُوب نفس الْأَلْفَاظ، وَلِأَن عرض الْأَلْفَاظ إِنَّمَا يكون بالتلفظ بهَا ويأباه الْأَمر التعجيزي وَلِأَن ضمير جمع الْمُذكر الْعَاقِل إِنَّمَا يَصح إِذا أُرِيد بِهِ الْحَقَائِق مَعَ تَغْلِيب الْعُقَلَاء (مندفع) خبر الْكَوْن (بالتعجيز بأنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ) يَعْنِي الْقَصْد من طلب الإنباء بالأسماء تعجيز الْمَلَائِكَة عَنهُ ليظْهر فضل آدم عَلَيْهِم بِسَبَب إنبائه بهَا وَكَونه عَالما بهَا دونهم وَتَعْلِيم آدم الْأَسْمَاء لهَذِهِ الْمصلحَة فَلَو كَانَ معنى قَوْله تَعَالَى - {علم آدم الْأَسْمَاء} - علم المسميات لزم ترك ذكر مَا لَا بُد مِنْهُ، وَذكر مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ مَعَ حُصُول مطلب التوقيفية أَن فرض تعليمها مَعَ تَعْلِيم أسمائها أَو عدم استقامة معنى الْكَلَام أَن فرض بِدُونِهِ لِأَنَّهُ يُخَالف حِينَئِذٍ قَوْله تَعَالَى - {فَلَمَّا أنبأهم} - وَالْوَجْه أَن يُقَال المُرَاد بالأسماء أَولا وَثَانِيا مَعْنَاهَا الْمُتَبَادر، وبالضمير الرَّاجِع إِلَيْهَا فِي عرضهمْ المسميات بطرِيق الِاسْتِخْدَام (وَبعد) كَون المُرَاد بِعلم الْأَسْمَاء (علم المسميات) عطف على التَّعْجِيز، وَذَلِكَ لِأَن إِرَادَة المسميات بِلَفْظ الْأَسْمَاء بعيد عَن الْفَهم، وَقيل لِأَن الْمَفْعُول الثَّانِي للتعليم من قبيل الصِّفَات والأعراض لَهُ الْأَشْخَاص والذوات، وَأَنت خَبِير بِأَن نفس الْأَلْفَاظ أَيْضا لَا تصلح إِلَّا بِاعْتِبَار وَضعهَا، وَمثل هَذَا الِاعْتِبَار يُمكن من جَانب المسميات أَيْضا بِأَن يُقَال علمهَا بِاعْتِبَار أَحْكَامهَا غير أَن التَّأْوِيل فِي الأول أظهر لشيوع تعلم اللُّغَة وَعلمهَا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْمَذْهَب الثَّالِث بقوله (وَتوقف القَاضِي) أبي بكر الباقلاني عَن تعْيين الْوَاضِع (لعدم) دَلِيل (الْقطع) بذلك (لَا يَنْفِي الظَّن) بذلك (والمتبادر من قَوْله) أَي القَاضِي (كل) من الْمذَاهب فِيهَا (مُمكن عَدمه) أَي الظَّن، لِأَن مثل هَذَا الْإِطْلَاق يُفِيد بِظَاهِرِهِ الْمُسَاوَاة فِي الِاحْتِمَال (وَهُوَ) أَي عدم الظَّن بأحدها (مَمْنُوع) لوُجُود مَا يفِيدهُ كَمَا مر من دَلِيل الْأَشْعَرِيّ (وَلَفظ كلهَا) فِي قَوْله تَعَالَى - {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} - (يَنْفِي اقْتِصَار الحكم على كَون مَا وَضعه سُبْحَانَهُ الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي تَعْرِيف الِاصْطِلَاح) كلمة على صلَة الِاقْتِصَار لَا الحكم، لِأَن الْكَوْن لَيْسَ بموضوع الْقَضِيَّة، بل هُوَ عبارَة عَن نِسْبَة الْمَحْمُول، وَهُوَ الْقدر إِلَى الْمَوْضُوع، وَالْحكم الَّذِي هُوَ إِيقَاع النِّسْبَة هَهُنَا مَقْصُور على نِسْبَة هَذَا الْمَحْمُول إِلَيْهِ دون غَيره، وَهُوَ الزَّائِد على الْقدر الْمَذْكُور، احْتج الْأُسْتَاذ بِأَنَّهُ إِن لم يكن الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي الِاصْطِلَاح: أَي فِي بَيَان أَن هَذِه الْأَلْفَاظ مَوْضُوعَة بِإِزَاءِ هَذِه الْمعَانِي ليستفيد غير الْوَاضِع الْعلم بِالْوَضْعِ من الْوَاضِع بالتوقيف من الله لزم الدّور لتوقف الِاصْطِلَاح على سبق معرفَة ذَلِك الْقدر، والمفروض أَنه يعرف بالاصطلاح (إِذْ يُوجب) لفظ كلهَا (الْعُمُوم) أَي عُمُوم التَّعْلِيم جَمِيع الْأَسْمَاء الْقدر الْمَذْكُور وَغَيره على أَن اللَّام ظَاهِرَة فِي الِاسْتِغْرَاق غَايَة الْأَمر أَنه تخصص مِنْهُ مَا تقدم لقِيَام الدَّلِيل عَلَيْهِ (فَانْتفى) بِهَذَا (توقف الْأُسْتَاذ فِي غَيره) أَي فِي غير مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي بَيَان الِاصْطِلَاح (كَمَا نقل عَنهُ) الْأُسْتَاذ
نقل عَنهُ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَنقل الرَّازِيّ والبيضاوي عَنهُ أَن الْبَاقِي اصطلاحي فِيهِ أَن معلم الْكل لَا يلْزم أَن يكون وَاضعه بل التَّعْلِيم إِنَّمَا يكون بعد الْوَضع: وَهُوَ يحْتَمل أَن يكون من الله أَو غَيره كالجن فَإِن قلت الأَصْل عدم الْوَضع من غَيره قلت المتمسك بالاستصحاب لَا يعْتَبر فِي مثل هَذَا الْمطلب، غَايَة الْأَمر أَن كَون الْقدر الْمَذْكُور بِوَضْع الله أَفَادَهُ الدَّلِيل فَقَالَ بِهِ وَتوقف فِي غَيره لعدم الدَّلِيل (وإلزام الدّور أَو التسلسل) على اخْتِلَاف الْقَوْم فِي تَقْرِير الْإِلْزَام: الْآمِدِيّ يسْتَلْزم التسلسل لتوقفه على اصْطِلَاح سَابق وَهُوَ على آخر وَهَكَذَا، وَاقْتصر ابْن الْحَاجِب على الدّور كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَذكر التَّفْتَازَانِيّ فِي وَجه اقْتِصَار الْآمِدِيّ على التسلسل أَن الدّور أَيْضا نوع من التسلسل بِنَاء على عدم تناهي التوقفات، وَفِيه مَا فِيهِ، وَفِي وَجه اقْتِصَار ابْن الْحَاجِب أَنه لَا بُد بِالآخِرَة من الْعود إِلَى الِاصْطِلَاح الأول ضَرُورَة تناهي الاصطلاحات (لَو لم يكن تَوْقِيف الْبَعْض) أَي الْقدر الْمَذْكُور (مُنْتَفٍ) خير الْمُبْتَدَأ يعين إِلْزَام أحد الْأَمريْنِ على تَقْدِير عدم تَوْقِيف الْبَعْض غير وَارِد، لِأَن طَرِيق معرفَة الْقدر الْمَذْكُور لَا ينْحَصر فِي الِاصْطِلَاح (بل الترديد) أَي اسْتِعْمَال اللُّغَات فِي مَعَانِيهَا مرّة بعد أُخْرَى (مَعَ الْقَرِينَة) الدَّالَّة على أَن المُرَاد من هَذَا اللَّفْظ هَذَا الْمَعْنى من الْإِشَارَة وَنَحْوهَا (كَاف فِي الْكل) أَي كل اللُّغَات فضلا عَن الْقدر الْمَذْكُور (وَتدْخل الْأَفْعَال والحروف) فِي عُمُوم الْأَسْمَاء (لِأَنَّهَا أَسمَاء لُغَة) لِأَن اسْم الشَّيْء هُوَ اللَّفْظ الدَّال عَلَيْهِ، والتخصيص بِمَا يُقَابل الْفِعْل والحرف اصْطِلَاح النُّحَاة، وَقيل فَائِدَة الِاخْتِلَاف أَن من قَالَ بالتوقيف جعل التَّكْلِيف مُقَارنًا لكَمَال الْعقل، وَمن قَالَ بالاصطلاح أَخّرهُ عَن مُدَّة يُمكن فِيهَا من معرفَة الِاصْطِلَاح (وَهَذَا) أَي معنى هَذَا أَو هَذَا كَمَا ذكر (وَأما اعْتِبَار الْمُنَاسبَة) بَين اللَّفْظ وَالْمعْنَى الداعية لتعيين خُصُوص هَذَا اللَّفْظ لهَذَا الْمَعْنى (فَيجب الحكم بِهِ) أَي باعتبارها بَينهمَا (فِي وَضعه تَعَالَى) فَإِن خَفِي ذَلِك علينا فلقصور منا أَو لحكمة اقتضته (للْقطع بِحِكْمَتِهِ) وَهِي على مَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي شرح الْكَشَّاف العملم بالأشياء كَمَا هُوَ وَالْعلم بالأمور على مَا يَنْبَغِي وَيُطلق على مَا يشملها، وَمن الْعُلُوم أَن كل معنى لَيْسَ نسبته إِلَى جَمِيع الْأَلْفَاظ على السوية بل بَينه وَبَين بَعْضهَا مُنَاسبَة لَيست بَينه وَبَين غَيرهَا، وَيَنْبَغِي أَن يُرَاعى ذَلِك فِي الْوَضع والقادر الْحَكِيم لَا يفوت ذَلِك (وَهُوَ) أَي اعْتِبَار الْمُنَاسبَة (ظَاهر فِي) وضع (غَيره) بِنَاء على أَن الظَّاهِر من حَاله عدم التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح، فَهُوَ مظنون فِي حَقه (وَالْوَاحد قد يُنَاسب بِالذَّاتِ الضدين) جَوَاب على استدلالنا فِي اعْتِبَار الْمُنَاسبَة، تَقْرِيره اللَّفْظ الْوَاحِد قد يكون للشَّيْء ونقيضه أَو ضِدّه، كالجون للأحمر والأبيض وَالْأسود. والقرء للْحيض وَالطُّهْر، ومناسبته لأَحَدهمَا تَسْتَلْزِم عدمهَا إِلَى الآخر وَحَاصِل الْجَواب منع الاستلزام بِهَذَا السَّنَد (فَلَا يسْتَدلّ على نفي
لُزُومهَا) أَي الْمُنَاسبَة (بِوَضْع) اللَّفْظ (الْوَاحِد لَهما) أَي الضدين، وَهَذَا بِنَاء على تَقْرِير الِاسْتِدْلَال على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَأما إِذا قررت بِأَنَّهُ لَو كَانَت دلَالَة الْأَلْفَاظ لمناسبة ذاتية لما وضع اللَّفْظ الْوَاحِد للنقيضين، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم الِاخْتِلَاف فِيمَا بِالذَّاتِ إِن دلّ عَلَيْهِمَا، فَلَا يُجَاب بِمَا ذكر، لَكِن القَوْل بِدلَالَة الْأَلْفَاظ الْمُنَاسبَة طبيعية، فَلَا يحْتَاج إِلَى الْوَضع كَمَا عزى إِلَى بعض الْمُعْتَزلَة مِنْهُم عباد بن سُلَيْمَان مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَن يصدر من الْعَاقِل، وَلذَا أولوه بِمَا ذكر فِي مَحَله، وأوله المُصَنّف رحمه الله بِمَا يَأْتِي، وَالْجُمْهُور على أَن نِسْبَة الْأَلْفَاظ إِلَى الْمعَانِي على السوية وَتَخْصِيص الْبَعْض بِالْبَعْضِ إِرَادَة الْوَاضِع الْمُخْتَار، غير أَن المُصَنّف رحمه الله مَال إِلَى اعْتِبَار الْمُنَاسبَة على مَا ذكر، وأيده بقوله (وَهُوَ) أَي اعْتِبَار الْمُنَاسبَة على الْوَجْه الْمَذْكُور (مُرَاد الْقَائِل بِلُزُوم الْمُنَاسبَة فِي الدّلَالَة) لَا الْمُنَاسبَة الذاتية الْمُقْتَضِيَة إِيَّاهَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مُرَاده مَا ذكر بل مَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ (فَهُوَ) أَي مُرَاده أَو قَوْله (ضَرُورِيّ الْبطلَان) فَلَا يحْتَاج إِبْطَاله إِلَى الْحجَّة والبرهان كَمَا فعله ابْن الْحَاجِب وَكثير من أهل الشَّأْن (والموضوع لَهُ) اللَّفْظ (قيل الذهْنِي دَائِما) أَي الصُّور الذهنية سَوَاء كَانَ مَوْجُودا فِي الذِّهْن وَالْخَارِج أَو فِي الذِّهْن فَقَط، وَهَذَا مُخْتَار الإِمَام الرَّازِيّ (وَقيل) الْمَوْضُوع لَهُ الْمَوْجُود (الْخَارِجِي) وعزى إِلَى أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ (وَقيل الْأَعَمّ) من الذهْنِي والخارجي، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي هُوَ الْحق (وَنحن) نقُول اللَّفْظ (فِي الْأَشْخَاص) أَي فِي الْأَعْلَام الشخصية مَوْضُوع (للخارجي) أَي للموجود الْخَارِجِي (وَوُجُوب استحضار الصُّورَة) أَي الصُّورَة الذهنية للموجود الْخَارِجِي (للوضع) أَي لِأَن يضع اللَّفْظ بِإِزَاءِ ذَلِك وَالْمَوْجُود الْخَارِجِي (لَا يَنْفِيه) أَي لَا يَنْفِي كَونه للخارجي جَوَاب لمن قَالَ للذهني، لِأَن الْوَاضِع إِنَّمَا يستحضر صُورَة فَيَضَع الِاسْم بإزائها، فالموضوع لَهُ تِلْكَ الصُّورَة وَحَاصِله أَن الصُّورَة آلَة لملاحظة الْخَارِجِي، لَا أَنه وضع لَهَا (ونفيناه) أَي وضع الْأَلْفَاظ (للماهيات الْكُلية) لما سنذكر فِي بحث الْمُطلق (سوى علم الْجِنْس على رَأْي) أَي على رَأْي من يفرق بَينه وَبَين اسْم الْجِنْس بِأَنَّهُ للْحَقِيقَة المتحدة، وَاسم الْجِنْس لفرد مِنْهَا غير معِين، وَهُوَ الْأَوْجه على مَا ذكره المُصَنّف رحمه الله، وَفِي اسْم الْجِنْس مذهبان: أَحدهمَا أَنه مَوْضُوع للماهية مَعَ وحدة لَا بِعَينهَا، وَيُسمى فَردا منتشرا وَذهب إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ وَابْن الْحَاجِب، وَاخْتَارَهُ التَّفْتَازَانِيّ وَقطع بِهِ المُصَنّف رحمهم الله، وَالْآخر أَنه مَوْضُوع للماهية من حَيْثُ هِيَ، وَاخْتَارَهُ السَّيِّد الشريف رحمه الله، فالموضوع لَهُ على الأول الْمَاهِيّة بِشَرْط شَيْء، وعَلى الثَّانِي لَا بِشَرْط شَيْء، وَسَيَجِيءُ بَيَانه فِي بحث الْمُطلق إِن شَاءَ الله تَعَالَى (بل) مَا سوى الْأَعْلَام الشخصية والجنسية مَوْضُوع (لفرد غير معِين) وَهُوَ
الْفَرد الْمُنْتَشِر (فِيمَا) وضع لمَفْهُوم كلي (أَفْرَاده خارجية أَو ذهنية) فَإِن كَانَت خارجية فالموضوع لَهُ فَرد مَا من تِلْكَ الْأَفْرَاد الخارجية، وَإِن كَانَت ذهنية من الذهنية، وَإِن كَانَت ذهنية وخارجية، فَالظَّاهِر أَن الْعبْرَة بالخارجية (وَطَرِيق مَعْرفَتهَا) أَي معرفَة الأوضاع (التَّوَاتُر كالسماء وَالْأَرْض وَالْحر وَالْبرد وَأكْثر) أوضاع (أَلْفَاظ الْقُرْآن مِنْهُ) أَي مِمَّا عرف بالتواتر، أَشَارَ إِلَى دفع مَا شكك بِهِ بعض المبتدعة من أَن أَكثر الْأَلْفَاظ دورانا على الألسن كالجلالة وَقع فِيهِ الْخلاف أسرياني أم عَرَبِيّ مُشْتَقّ، ومم؟ أَو مَوْضُوع ابْتِدَاء، وَلم؟ فَمَا ظَنك بِغَيْرِهِ، وَأَيْضًا الروَاة لَهُ معدودون كالخليل والأصمعي، وَلم يبلغُوا عدد التَّوَاتُر، فَلَا يحصل الْقطع بقَوْلهمْ، وَأَيْضًا الْغَلَط عَلَيْهِم فِي تتبع كَلَام البلغاء جَائِز، وَالْجَوَاب مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (والتشكيك فِيهِ) أَي فِيمَا عرف بالتواتر (سفسطة) أَي مُكَابَرَة (فِي مَقْطُوع) بِهِ بأخبار من يحِيل الْعقل تواطأهم على الْكَذِب (والآحاد) مَعْطُوف على التَّوَاتُر، وَهِي مَا لم يبلغ حد التَّوَاتُر من الْأَخْبَار (كالقر) بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء للبرد (واستنباط الْعقل من النَّقْل) طَرِيق ثَالِث لمعرفتها (كنقل أَن الْجمع الْمحلى) بِاللَّامِ (يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء) الْمُتَّصِل، وَهَذِه مُقَدّمَة نقلية (وَأَنه) أَي الِاسْتِثْنَاء (إِخْرَاج بعض مَا يَشْمَلهُ اللَّفْظ) أَي لفظ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَهِي أَيْضا نقلية (فَيحكم) الْعقل بعد التَّأَمُّل فِي هَاتين المقدمتين النقليتين (بِعُمُومِهِ) أَي الْجمع الْمَذْكُور وتناوله جَمِيع الْأَفْرَاد بضميمة عقلية، هِيَ أَن الْإِخْرَاج تَحْقِيقا لَا يتَحَقَّق إِلَّا بتناول صدر الْكَلَام للمخرج تَحْقِيقا، وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق بِدُونِ الْعُمُوم، ولمزيد حَاجَة هَذَا الْقسم إِلَى أَعمال الْعقل سمي بِالِاسْمِ الْمَذْكُور، وَإِن كَانَ الْعقل لَهُ مدْخل تَامّ فِي الْأَقْسَام كلهَا (أما) الْعقل (الصّرْف) أَي الْخَالِص من غير مدخلية النَّقْل (فبمعزل) بِفَتْح الْمِيم وَكسر الزَّاي بمَكَان بعيد عَن الِاسْتِقْلَال بِمَعْرِِفَة الْوَضع (وَلَيْسَ المُرَاد) من النَّقْل (نقل قَول الْوَاضِع كَذَا لكذا) أَي اللَّفْظ الْفُلَانِيّ مَوْضُوع للمعنى الْفُلَانِيّ (بل) المُرَاد (توارث فهم كَذَا من كَذَا) أَي الْخلف من السّلف أَنه يفهم الْمَعْنى الْفُلَانِيّ من اللَّفْظ الْفُلَانِيّ إِفَادَة واستفادة (فَإِن زَاد) طَرِيق النَّقْل على الْقدر الْمَذْكُور بِنَحْوِ هَذَا اللَّفْظ مَوْضُوع لهَذَا الْمَعْنى (فَذَاك) أقوى وأصرح (وَاخْتِلَاف فِي) جَوَاز إِثْبَات اللُّغَة بطرِيق (الْقيَاس) وَهُوَ إِلْحَاق معنى بِمَعْنى مُسَمّى باسم فِي التَّسْمِيَة بذلك الِاسْم، فجوزه القَاضِي وَابْن سُرَيج وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَالْإِمَام الرَّازِيّ، وَقيل عَلَيْهِ أَكثر عُلَمَاء الْعَرَبيَّة، وَالأَصَح مَنعه، وَهُوَ قَول عَامَّة الْحَنَفِيَّة وَأكْثر الشَّافِعِيَّة وَالْغَزالِيّ والآمدي (أَي إِذا سمي مُسَمّى باسم فِيهِ) أَي ذَلِك الِاسْم (معنى) بِاعْتِبَار أَصله من حَيْثُ الِاشْتِقَاق أَو غَيره (يخال) أَي يظنّ صفة معنى (اعْتِبَاره) أَي ذَلِك الْمَعْنى (فِي التَّسْمِيَة) بِأَن يكون سَبَب تَسْمِيَة ذَلِك الْمُسَمّى بذلك الِاسْم (للدوران) مُتَعَلق بيخال: أَي الظَّن
الْمَذْكُور لأجل دوران الِاسْم مَعَ ذَلِك الْمَعْنى وجودا وعدما (وَيُوجد) ذَلِك الْمَعْنى عطف على يخال (فِي غَيره) أَي غير ذَلِك الْمُسَمّى (فَهَل يتَعَدَّى الِاسْم إِلَيْهِ) أَي إِلَى غير ذَلِك الْغَيْر بِسَبَب وجود ذَلِك الْمَعْنى فِيهِ (فيطلق) ذَلِك الِاسْم (عَلَيْهِ) أَي على ذَلِك الْغَيْر (حَقِيقَة) وَأما مجَازًا فَلَا نزاع فِيهِ (كالمسمى نقلا) أَي كَمَا يُطلق اسْم كَانَ لِمَعْنى، ثمَّ نقل إِلَى معنى آخر، فَسمى بِهِ لمشاركتهما فِي معنى يتضمنه الِاسْم على الْمُسَمّى الْمَنْقُول إِلَيْهِ حَقِيقَة، وَقَوله نقلا نصب على الْمصدر: أَي تَسْمِيَة نقل: أَي بطرِيق النَّقْل (كَالْخمرِ) الَّتِي هِيَ اسْم للنئ من مَاء الْعِنَب إِذا غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد إِذا أطلق (على النَّبِيذ) إِلْحَاقًا لَهُ بالنئ الْمَذْكُور (للمخامرة) وَهِي التخمير والتغطية لِلْعَقْلِ، وَهُوَ معنى فِي الِاسْم يظنّ اعْتِبَاره فِي تَسْمِيَة النئ بِهِ لدوران التَّسْمِيَة مَعَه، فَمَا لم يُوجد فِي مَاء الْعِنَب لَا يُسمى خمرًا بل عصيرا، وَإِذا وجد فِيهِ سمي بِهِ، وَإِذا زَالَ عَنهُ لم يسم بِهِ بل خلا، وَقد وجد فِي النَّبِيذ (أَو يخص) اسْم الْخمر (بمخامر هُوَ مَاء الْعِنَب) الْمَذْكُور، فَلَا يُطلق حَقِيقَة على النَّبِيذ، وَقَوله يخص مَعْطُوف على يتَعَدَّى (وَالسَّارِق) أَي وكالسارق الَّذِي هُوَ اسْم للآخذ مَال الْحَيّ خُفْيَة من حرز لَا شُبْهَة لَهُ فِيهِ إِذا أطلق (على النباش) وَهُوَ من يَأْخُذ كفن الْمَيِّت خُفْيَة من الْقَبْر بعد دَفنه (للأخذ خُفْيَة) أَي لهَذَا الْمَعْنى الْمَوْصُوف بِمَا ذكر (وَالزَّانِي) الَّذِي هُوَ اسْم للمولج آلَته فِي قبل آدمية حَيَّة مُحرمَة عَلَيْهِ بِلَا شُبْهَة إِذا أطلق (على اللائط) وَهُوَ من يعْمل عمل قوم لوط (للإيلاج الْمحرم) الَّذِي هُوَ الْمَعْنى الْمَوْصُوف بِمَا ذكر (وَالْمُخْتَار نَفْيه) أَي الْقيَاس الْمَذْكُور (قَالُوا) أَي المثبتون (الدوران) يُفِيد أَن صِحَة إِطْلَاق الِاسْم مَبْنِيّ على وجود الْمَعْنى الْمَذْكُور مهما وجد، وَقد وجد فِيمَا قصد إِلْحَاقه (قُلْنَا إفادته) أَي الدوران ذَلِك (مَمْنُوعَة) أَي كَون الدوران طَرِيقا صَحِيحا لإِثْبَات الْمَطْلُوب غير مُسلم، كَمَا يَأْتِي فِي مسالك الْعلَّة (وَبعد التَّسْلِيم) لإِفَادَة الدوران، وَكَونه طَرِيقا صَحِيحا كَمَا هُوَ مَذْهَب جمَاعَة نقُول (إِن أردتم) بدوران الِاسْم مَعَ الْمَعْنى الْمَذْكُور دورانا (مُطلقًا) سَوَاء وجد فِي أَفْرَاد الْمُسَمّى أَو غَيرهَا بادعاء ثُبُوت الِاسْم فِي كل مَادَّة يُوجد فِيهَا ذَلِك الْمَعْنى، وانتفائه فِي كل مَا لم يُوجد فِيهِ بطرِيق النَّقْل (فَغير الْمَفْرُوض) أَي فَمَا أردتموه خلاف الْمَفْرُوض (لِأَن مَا يُوجد فِيهِ) ذَلِك الْمَعْنى (حِينَئِذٍ) أَي حِين إِذْ ثَبت كَون الِاسْم لما فِيهِ ذَلِك الْمَعْنى مُطلقًا (يكون) خبر إِن (من أَفْرَاد الْمُسَمّى) يَعْنِي مَا فِيهِ ذَلِك الْمَعْنى لَا يتَحَقَّق حِينَئِذٍ فرع يلْحق بِأَصْل الْقيَاس، وَهَذَا خلاف الْمَفْرُوض (أَو) أردتم بدوران الِاسْم أَن يَدُور مَعَه (فِي الأَصْل) الْمَقِيس عَلَيْهِ (فَقَط) بِوُجُود الِاسْم فِي كل مَادَّة يُوجد فِيهَا الْمُسَمّى وانتفائه فِي كل مَا لم يُوجد فِيهِ (منعنَا) حِينَئِذٍ
(كَونه) أَي الدوران (طَرِيقا) مثبتا تَسْمِيَة الشَّيْء باسم لمشاركته الْمُسَمّى فِي معنى دَار الِاسْم مَعَه وجودا وعدما فِي الْمُسَمّى (هُنَا) أَي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَإِن سلمنَا كَون الدوران طَرِيقا صَحِيحا لإِثْبَات المطالب فِي الْجُمْلَة (وَكَونه) أَي الدوران (كَذَلِك) أَي طَرِيقا صَحِيحا لإِثْبَات الحكم (فِي الشرعيات) العمليات (للْحكم الشَّرْعِيّ) أَي لتعديته من مَحل إِلَى مَحل أَو لإثباته بِهَذَا الطَّرِيق (لَا يستلزمه) أَي كَونه طَرِيقا صَحِيحا (فِي) إِثْبَات (الِاسْم) وتعديته من مُسَمّى إِلَى مَحل آخر حَاصِل استدلالهم أَنه ثَبت الْقيَاس بالدوران شرعا فَيثبت لُغَة، إِذْ الْمَعْنى الْمُوجب للثبوت فيهمَا وَاحِد، وَهُوَ الِاشْتِرَاك فِي معنى يظنّ مدَار الحكم (لِأَنَّهُ) أَي الْقيَاس فِي الشرعيات (سَمْعِي) ثَبت اعْتِبَاره بِالسَّمَاعِ من الشَّارِع (تعبد بِهِ) أَي تعبدنا الشَّارِع بِهِ لوُرُود الْقَاطِع مِنْهُ فِي حَقه، وَهُوَ الْإِجْمَاع إِذْ لَا عِبْرَة بِخِلَاف الظَّاهِرِيَّة فِيهِ (لَا) أَنه أَمر (عَقْلِي) ليَكُون للرأي مدْخل فِيهِ فَيرد نقضا على عدم اعتبارنا الْقيَاس فِي اللُّغَة، ثمَّ أيد سَنَد الْمَنْع الْمَذْكُور فِي ثَانِي شقي الترديد بقوله (ثمَّ تَجْوِيز كَون خُصُوصِيَّة الْمُسَمّى مُعْتَبرَة) فِي التَّسْمِيَة بِالِاسْمِ الْمَذْكُور (ثَابت) وَالْمرَاد بِثُبُوت التجويز أَنه لَيْسَ مُجَرّد احْتِمَال عَقْلِي بل هُوَ إِمْكَان وقوعي (بل) ثُبُوته (ظَاهر بِثُبُوت مَنعهم) أَي عُلَمَاء الْعَرَبيَّة، قَالَ أهل الْعَرَبيَّة فِي مَبْحَث الِاشْتِقَاق: الْمُشْتَقّ قد يطرد كاسم الْفَاعِل، وَالزَّمَان وَغَيرهمَا، وَقد لَا يطرد كالقارورة والدبران، وتحقيقه أَن وجود معنى الأَصْل فِي مَحل التَّسْمِيَة قد يعْتَبر بِحَيْثُ أَنه دَاخل فِي التَّسْمِيَة، وَالْمرَاد ذَات مَا بِاعْتِبَار نسبته لَهُ إِلَيْهَا، فَهَذَا يطرد فِي كل ذَات كَذَلِك، وَقد يعْتَبر بِحَيْثُ أَنه مصحح للتسمية مُرَجّح لَهَا من بَين الْأَسْمَاء من غير دُخُوله فِي التَّسْمِيَة، وَالْمرَاد ذَات مَخْصُوصَة فِيهَا الْمَعْنى: لَا من حَيْثُ هُوَ فِيهَا بل بِاعْتِبَار خصوصها، فَهَذَا لَا يطرد وَالْجَار مُتَعَلق بِثَابِت أَو بِظَاهِر (طرد الأدهم) مفعول الْمَنْع أَي صِحَة إِطْلَاق الأدهم الَّذِي هُوَ اسْم الْفرس الْأسود على كل مَا فِيهِ سَواد (والأبلق) الَّذِي هُوَ اسْم للْفرس الَّذِي فِيهِ سَواد وَبَيَاض على كل مَا فِيهِ ذَلِك (والقارورة) الَّتِي هِيَ اسْم لمقر الْمَائِعَات من الزّجاج على كل مَا هُوَ مقرّ لَهَا من غَيره (والأجدال) الَّذِي هُوَ اسْم للصقر لقُوته، على كل مَا فِيهِ قُوَّة (والأخيل) الَّذِي هُوَ اسْم لطائر بِهِ خيلان على كل مَا بِهِ ذَلِك (وَمَا لَا يُحْصى) من نَظَائِر هَذِه الْمَذْكُورَات، كالسماك الَّذِي هُوَ اسْم لكل من كوكبين مخصوصين مرتفعين، على كل مُرْتَفع، وَقرر هَذَا الْكَلَام مُعَارضَة، بَيَانه أَن الْقيَاس فِي اللُّغَة إِثْبَات لَهَا الْمُحْتَمل وَهُوَ بَاطِل، أما الأولى فَلِأَنَّهُ يحْتَمل التَّصْرِيح بِمَنْعه كَمَا يحْتَمل التَّصْرِيح بِاعْتِبَارِهِ بِدَلِيل مَنعهم اطراد الْأَسْمَاء الْمَذْكُورَة، وَأما الثَّانِيَة فَلِأَنَّهُ بِمُجَرَّد احْتِمَال الْوَضع لَا يَصح الحكم بِهِ فَإِن ذَلِك يسْتَلْزم جَوَاز الحكم بِالْوَضْعِ بِغَيْر قِيَاس، إِذا قَامَ احْتِمَال، وَذَلِكَ بَاطِل اتِّفَاقًا (فَظهر)
بِمَا ذكر من اعْتِبَار خُصُوصِيَّة الْمُسَمّى (أَن المناط) أَي منَاط التَّسْمِيَة (فِي مثله) أَي مثل مَا ذكر مِمَّا فِيهِ معنى يُنَاسب أَن يعْتَبر فِي التَّسْمِيَة هُوَ (الْمَجْمُوع) من الذوات وَالْوَصْف الْمَخْصُوص (فإثباتها) أَي اللُّغَة (بِهِ) أَي بِالْقِيَاسِ إِثْبَات (بِالِاحْتِمَالِ) وَفِي بعض النّسخ بمحتمل وَهُوَ بَاطِل لما عرفت، ثمَّ قيل ثَمَرَة الْخلاف تظهر فِي الْحُدُود فِي الْجِنَايَات الْمَذْكُورَة، فالقائل بِالْقِيَاسِ يحد شَارِب النَّبِيذ والنباش واللائط، وَمن لم يقل لَا يحد (وَاللَّفْظ أَن وضع لغيره) أَي لغير نَفسه سَوَاء كَانَ لفظا آخر كالاسم وَالْفِعْل، أَو معنى كزيد وَضرب كَذَا قيل، وَيرد عَلَيْهِ أَن الِاسْم وَالْفِعْل وضعا لمفهومين كليين وَيُمكن الْجَواب بِأَن أفرادهما أَلْفَاظ فكون مَا وضعا لَهُ ألفاظا بِاعْتِبَار مَا صدقا عَلَيْهِ، والتمثيل بالضمائر الراجعة إِلَى الْأَلْفَاظ ونظائرها على رَأْي الْمُتَأَخِّرين من أَن الْوَضع فِيهَا عَام والموضوع لَهُ خَاص (فمستعمل وَإِن لم يسْتَعْمل) قطّ فِيمَا وضع لَهُ والمستعمل يسْتَعْمل فِي مَعْنيين أَحدهمَا هَذَا، وَالْآخر مَا أطلق وَأُرِيد بِهِ الْمَعْنى (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يوضع لغيره (فمهمل وَإِن اسْتعْمل) أَي أطلق وَأُرِيد بِهِ نَفسه (كديز ثَلَاثَة) فَإِنَّهُ لم يوضع دير لغيره من لفظ أَو معنى (وبالمهمل) أَي بِاسْتِعْمَال المهمل فِي نَفسه اسْتِعْمَالا صَحِيحا (ظهر وضع لَك لفظ لنَفسِهِ) لِأَن ذكر اللَّفْظ وَإِرَادَة نَفسه لَا يخْتَص بالمهمل بل يعم الْأَلْفَاظ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي دلَالَته عَلَيْهِ وَتلك الدّلَالَة لَيست عقلية فَهِيَ وضعية (كوضعها لغيره) أَي كظهور وضع بَعْضهَا لغير نَفسه بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْغَيْر فَشبه ظُهُور وضع الْكل للنَّفس بِظُهُور وضع الْبَعْض للْغَيْر بِجَامِع الِاسْتِعْمَال بِلَا قرينَة، غَايَة الْأَمر أَن منَاط الِاسْتِعْمَال والإهمال الْوَضع للْغَيْر (لِأَن الْمجَاز يسْتَلْزم وضعا) أَي وَضعه قبل أَن يسْتَعْمل فِي الْمَعْنى الْمجَازِي (للمغاير) أَي لمغاير الْمَعْنى الْمجَازِي: لِأَن الْمجَاز هُوَ اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ فَلَو فرض كَون الْمُسْتَعْمل فِي نَفسه مجَازًا لزم كَون نَفسه مغايرا لما وضع لَهُ فَالْحَاصِل أَن مجازيه المهمل الْمُسْتَعْمل فِي نَفسه تَسْتَلْزِم وَضعه للمغاير وَهُوَ خلاف الْمَفْرُوض، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي الْوَضع للمغاير (مُنْتَفٍ فِي المهمل) كَمَا علم من تَعْرِيفه الْحَاصِل من التَّقْسِيم، وَإِذا انْتَفَى الْمجَاز تعين الْحَقِيقَة، وَهِي مستلزمة للوضع، وعَلى هَذَا التَّقْرِير يثبت الْوَضع فِي المهمل الْمُسْتَعْمل فِي نَفسه، ثمَّ يحمل عَلَيْهِ الْمُسْتَعْمل لعدم الْقَائِل بِالْفرقِ بَين المهمل والمستعمل بِاعْتِبَار الِاسْتِعْمَال فِي نَفسهَا وَيُمكن أَن يُرَاد استلزام مجازية الْمُسْتَعْمل فِي نَفسه وَضعه لغير نَفسه، لِأَن مَا وضع لَهُ اللَّفْظ مُغَاير لمعناه الْمجَازِي (وَلعدم العلاقة) تَعْلِيل آخر لنفي مجازية الْمُسْتَعْمل فِي نَفسه وَحَاصِله أَن العلاقة لَازِمَة فِي الْمجَاز وَلَا يتَصَوَّر شَيْء من أَنْوَاع العلاقة الْمُعْتَبرَة بَين نفس اللَّفْظ وَمَا وضع لَهُ أما فِي المهمل فَظَاهر، وَأما فِي الْمُسْتَعْمل فَلِأَنَّهُ لَا علاقَة بَين اللَّفْظ وَمَعْنَاهُ، أَعنِي من العلاقات الْمُعْتَبرَة كَمَا لَا يخفى على الْعَارِف بهَا، وَمَا قيل من أَن العلاقة بَينهمَا الْمُجَاورَة لارتسامهما فِي الخيال مَعًا لَيْسَ
بِشَيْء، لِأَن العلاقة فِي الْمجَاز وَسِيلَة للانتقال من الدَّال إِلَى الْمَدْلُول وهما متحدان هَهُنَا والتغاير اعتباري، فَمن حَيْثُ أَنه سَبَب لإحضار نَفسه دَال، وَمن حَيْثُ أَنه مُرَاد بِذكرِهِ مَدْلُول وَلَا يحْتَاج مثل هَذِه الدّلَالَة إِلَى وَسِيلَة، نعم يحْتَاج إِلَى قرينَة تعين أَن المُرَاد بِهِ نَفسه، وَهُوَ غير العلاقة وَلما كَانَ هُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ أَن كَون اللَّفْظ مَوْضُوعا لنَفسِهِ يسْتَلْزم الْمُسَاوَاة بَين دلَالَته على نَفسه ودلالته على مَعْنَاهُ، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ لتبادر مَعْنَاهُ وَسَبقه إِلَى الْفَهم، أَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (وَيجب كَون الدّلَالَة) أَي دلَالَة اللَّفْظ الْمَوْضُوع لغيره (على مُغَاير) أَي على مَا وضع لَهُ المغاير لنَفسِهِ دون نَفسه (قبل) ذكر (الْمسند) ظرف للدلالة الْمَذْكُورَة وَإِنَّمَا قيدت بِهِ، لِأَنَّهُ بعد ذكره يتَعَيَّن كَون المُرَاد بِهِ نَفسه لِأَنَّهُ صَارف عَن المغاير لعدم صِحَة إِسْنَاده إِلَيْهِ (لعدم الشُّهْرَة) خبر الْكَوْن، يَعْنِي عدم شهرة وضع اللَّفْظ لنَفسِهِ أَو عدم شهرة اسْتِعْمَاله فِي نَفسه كشهرة اسْتِعْمَاله فِي الْغَيْر فَإِن كل وَاحِد من العدمين يُوجب عدم تبادر النَّفس خُصُوصا مَعَ شهرة وَضعه للْغَيْر، أَو شهرة اسْتِعْمَاله فِيهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وشهرة مَا يُقَابله) فكون الدّلَالَة قبل الْمسند على المغاير لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَة لَا يُنَافِي وَضعه لَهما (وَلما كَانَ) وَضعه لنَفسِهِ (غير قصدي) بِأَن قَالَ الْوَضع مثلا وضعت كل لفظ بِإِزَاءِ نَفسه (لِأَن الظَّاهِر أَنه) أَي وَضعه لنَفسِهِ (لَيْسَ إِلَّا تَجْوِيز اسْتِعْمَاله) فِي نَفسه (ليحكم عَلَيْهِ) أَي على اللَّفْظ (نَفسه) تَأْكِيد للمجرور، وَذَلِكَ لِأَن الْوَضع القصدي إِنَّمَا يحْتَاج إِلَيْهِ عِنْد المباينة والبعد بَين الدَّال والمدلول، وَلَا بعد بَين اللَّفْظ وَنَفسه، بل فهم نَفسه عِنْد ذكره ضَرُورِيّ، لَكِن لَا يُسمى ذَلِك دلَالَة إِلَّا إِذا صرفت قرينَة عنان الْقَصْد إِلَيْهِ بِالذَّاتِ ليحكم عَلَيْهِ، فَيكون حِينَئِذٍ مرَادا، وَلما وجدنَا هَذِه الْإِرَادَة فِي الاطلاقات الصَّحِيحَة فِي جَمِيع اللُّغَات عرفنَا التجويز فِي ذَلِك من الْوَاضِع، وَإِلَّا لما وَقعت كَذَلِك، وَلَا شكّ أَن هَذَا التجويز نوع من الْوَضع مِنْهُ (لم يوضع الألقاب الاصطلاحية بِاعْتِبَارِهِ) جَوَابا لما، وَالْمَقْصُود من هَذَا الْكَلَام دفع إِيرَاد يدل عَلَيْهِ قَوْله (فَلم يكن كل مَوْضُوع للمغاير مُشْتَركا) تَقْرِيره أَن القَوْل بِوَضْع الْأَلْفَاظ لأنفسها يسْتَلْزم انحصار اللَّفْظ الْمَوْضُوع فِي الْمُشْتَرك فَلَا يَصح تقسيمه إِلَى الْمُفْرد والمشترك وَكَذَلِكَ انحصاره فِي الْعلم إِلَى غير ذَلِك وَحَاصِل الْجَواب أَن الِاشْتِرَاك وَغَيره من الْأَسْمَاء الاصطلاحية لم تُوضَع لمعانيها بِاعْتِبَار هَذَا الْوَضع، بل بِاعْتِبَار وَضعهَا لغير أَنْفسهَا (وَلم يسم) اللَّفْظ الْمَوْضُوع (بِاعْتِبَارِهِ) أَي وَضعه لنَفسِهِ (عُلَمَاء وَلَا اسْم جنس وَلَا دَالا بالمطابقة) إِلَى غير ذَلِك وَإِنَّمَا سميت الْأَسْمَاء الْمَذْكُورَة ألقابا، لكَونهَا مشعرة بمعان اعْتبرت فِي تَسْمِيَة مسمياتها بهَا كَمَا أَن الألقاب مشعرة بمعان اعْتبر فِي تَسْمِيَتهَا فِي مدح أَو ذمّ (والاعتراض بِأَنَّهُ) أَي القَوْل بِوَضْع اللَّفْظ لنَفسِهِ (مُكَابَرَة لِلْعَقْلِ بل لَا وضع) للفظ لنَفسِهِ (لاستدعائه) أَي الْوَضع (التَّعَدُّد) أَي
تعدد مُتَعَلقَة ضَرُورَة استلزامه مَوْضُوعا وموضوعا لَهُ وَلَا تعدد على تَقْدِير وَضعه لنَفسِهِ (وَلِأَنَّهُ) أَي الْوَضع (للْحَاجة) أَي إِفَادَة الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ (وَهِي) أَي الْحَاجة الْمَذْكُورَة إِنَّمَا تحصل (فِي) إِفَادَة (المغاير) أَي إِفَادَة اللَّفْظ مَا يغايره (مَبْنِيّ) خبر الْمُبْتَدَأ، وَهُوَ قَوْله الِاعْتِرَاض على حمل كَلَام الْقَائِل بِالْوَضْعِ (على ظَاهر اللَّفْظ) أَي على معنى يدل عَلَيْهِ ظَاهر عِبَارَته من إِطْلَاق لفظ الْوَضع (وَمَا قُلْنَا) من أَن المُرَاد من وضع اللَّفْظ لنَفسِهِ تَجْوِيز اسْتِعْمَاله فِي نَفسه ليحكم عَلَيْهِ (مخلص مِنْهُ) أَي من الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور وَأجِيب أَيْضا بِأَن التغاير الاعتباري كَاف فِي كَون الشَّيْء دَالا ومدلولا، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن المخلص مغن عَن هَذَا التَّكَلُّف. قَالَ السَّيِّد السَّنَد فِي حَاشِيَة الْكَشَّاف ردا على الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ التَّحْقِيق أَنه إِذا أُرِيد إِجْرَاء الحكم على لفظ مَخْصُوص تلفظ بِهِ نَفسه وَلم يحْتَج هُنَاكَ إِلَى وضع وَلَا إِلَى دَال على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ للاستغناء بتلفظه وحضوره بذلك فِي ذهن السَّامع عَمَّا يدل عَلَيْهِ ويحضره فِيهِ، وَمَا ذكره المُصَنّف قريب مِنْهُ (والمستعمل مُفْرد ومركب، فالمفرد مَاله دلَالَة لاستقلاله بِوَضْع) الْجَار الأول مُتَعَلق بِالدّلَالَةِ، وَالثَّانِي بالاستقلال: أَي بِكَوْن دلَالَته على الْمَعْنى بِسَبَب وَضعه لَهُ مُسْتقِلّا لَا فِي ضمن لفظ آخر كتاء تضرب (وَلَا جُزْء مِنْهُ) أَي مِمَّا لَهُ الدّلَالَة الْمَذْكُورَة (لَهُ) أَي الْجُزْء الْمَذْكُور (مثلهَا) أَي مثل الدّلَالَة الْمَذْكُورَة بِأَن يدل على معنى لاستقلاله بِوَضْع، فَقَوله مِنْهُ صفة جُزْء وَله خبر مثلهَا، وَالْجُمْلَة خبر لَا (والمركب مَا لَهُ ذَلِك) أَي الدّلَالَة الْمَذْكُورَة (ولجزئه) مَعْطُوف على الضَّمِير الْمَجْرُور: أَي ولجزئه أَيْضا تِلْكَ الدّلَالَة (وَلم يشْتَرط كَونه) أَي كَون جزئه (دَالا على جُزْء الْمُسَمّى) أَي مُسَمّى الْكل كَمَا شَرط المنطقيون (فَدخل نَحْو عبد الله علما فِي الْمركب) لِأَن جزءه دَال لَكِن لَا على جُزْء الْمَعْنى فَإِن قلت صرح الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ بِعَدَمِ دلَالَة جُزْء مِنْهُ عِنْد الْقَرِينَة الدَّالَّة على إِرَادَة الْمَعْنى العلمي، وَشبه عبد فِي عبد الله بِأَن من إِنْسَان، وَلَا قَائِل فِيهِ بالتركيب وَدلَالَة أَن على الشَّرْط قُلْنَا الْقَرِينَة صارفة عَن الْإِرَادَة لَا الدّلَالَة وَلَيْسَ امتزاج مَاله دلَالَة بِمَا لَا دلَالَة لَهُ كامتزاجه بِمَا لَهُ دلَالَة بِحَيْثُ لَا يشابه الْمركب مِنْهُمَا بهيئة المركبات (وَخرج) عَن الْمركب (تضرب وأخواته) من المبدوء بِالْهَمْزَةِ وَالنُّون وَالْيَاء وفيهَا مَذَاهِب وَالْمُخْتَار أَن الْكل مُفْرد وَمُقَابِله أَن الْكل مركب، وَالثَّالِث التَّفْصِيل وَهُوَ قَول ابْن سينا أَن المبدوء بِالْيَاءِ مُفْرد وَغَيره مركب، وَجه الثَّانِي دلَالَة حرف المضارعة على مَوْضُوع معِين فِي غير ذِي الْيَاء وَغير معِين فِيهِ، وَلَا وَجه للتفصيل كَذَا نقل عَن المُصَنّف وَلَا يبعد أَن يُقَال فِي تَوْجِيهه أَن الْفِعْل من حَيْثُ أَنه عرض لَا بُد لَهُ من مَوْضُوع يدل على مَوْضُوع غير معِين فالياء كَأَنَّهَا لَا تفِيد أمرا زَائِدا بِخِلَاف مَا يدل على تعين الْمَوْضُوع (لِأَنَّهُ) أَي الْمُضَارع مَوْضُوع
(لمُجَرّد فعل الْحَال أَو الِاسْتِقْبَال) على سَبِيل منع الْخُلُو، فَيصح على الْأَقْوَال كَونه للْحَال فَقَط أَو الِاسْتِقْبَال فَقَط، أَو لَهما على الِاشْتِرَاك كَمَا هُوَ الْمُخْتَار (لموضوع خَاص) يَعْنِي مَا قَامَ بِهِ من الْمُتَكَلّم والمخاطب وَالْغَائِب الْمعِين، فمنعاه مركب من ثَلَاثَة حدث وزمان وَنسبَة إِلَى معِين وَالْجَار مُتَعَلق بِمَحْذُوف، وَهُوَ صفة فعل: أَي لمُجَرّد الْفِعْل الثَّابِت لموضوع، الْمُثبت لَهُ خَارج عَمَّا وضع لَهُ وَحَاصِل التَّعْلِيل أَن الْمُضَارع الَّذِي فِيهِ حرف المضارعة كلمة وَاحِدَة وضعت دفْعَة وَاحِدَة للمعنى الَّذِي فِيهِ النِّسْبَة إِلَى الْمُتَكَلّم أَو الْمُخَاطب أَو الْغَائِب إِلَّا أَنه وضع مَدْخُول حرف المضارعة للْحَدَث وَالزَّمَان وَالنِّسْبَة، وحرف المضارعة لوصف ذَلِك الْمَوْضُوع من التَّكَلُّم الخ (بِخِلَاف ضربت) بالحركات الثَّلَاث فِي التَّاء (لاستقلال تائه بِالْإِسْنَادِ) الَّذِي يقْضِي اسْتِقْلَال الْمسند إِلَيْهِ لفظا لكَونه محلا للإعراب، وَمعنى لكَونه مُسْندًا إِلَيْهِ (بِخِلَاف تَاء تضرب) سَوَاء كَانَت للمخاطب أَو للغائبة، وَهُوَ حَال من التَّاء، وَالْمعْنَى تَاء ضربت مُسْتَقلَّة حَال كَونهَا مُلَابسَة بِخِلَاف تَاء تضرب فِي الِاسْتِقْلَال (وَقيد المنطقيون) فِي تعريفي الْمُفْرد الْمركب (دلَالَة الْجُزْء بِجُزْء الْمَعْنى) أَي بِكَوْنِهَا على جُزْء الْمَعْنى (وقصدها) أَي وبكونها مَقْصُودَة، فالمفرد عِنْدهم مَا لَيْسَ لَهُ جُزْء دَال على جُزْء مَعْنَاهُ دلَالَة مَقْصُودَة إِمَّا بِأَن لَا يكون لَهُ جُزْء كالهمزة، أَو كَانَ بِلَا دلَالَة كزاي زيد، أَو مَعَ دلَالَة لَكِن لَا على جُزْء الْمَعْنى كَعبد الله، أَو مَعَ دلَالَة على جُزْء مَعْنَاهُ لَكِن دلَالَة غير مَقْصُودَة كالحيوان النَّاطِق الْمَوْضُوع لشخص، وَإِلَى الآخرين أَشَارَ بقوله (فعبد الله مُفْرد، و) كَذَا (الْحَيَوَان النَّاطِق لإِنْسَان) تَفْرِيع على اعْتِبَار القيدين نفيا وإثباتا (وإلزامهم) أَي المنطقيين (بتركيب نَحْو مخرج) وضارب وسكران لدلَالَة جَوْهَر الْكَلِمَة على مبدأ الِاشْتِقَاق، وَمَا ضم إِلَيْهِ من مَا زيد عَلَيْهِ (غير لَازم) عَلَيْهِم، وَلما كَانَ الْإِلْزَام الْمَذْكُور محررا على وَجْهَيْن تَارَة بِاعْتِبَار الْهَيْئَة، وَتارَة بِاعْتِبَار الْحُرُوف الزَّوَائِد فصل الْجَواب فَقَالَ (فعلى اعْتِبَار الْجُزْء الْهَيْئَة) مفعول ثَان للاعتبار لتَضَمّنه معنى التصيير وَالْمعْنَى فَعدم لُزُومه بِنَاء على اعْتِبَار الْجُزْء الْمُوجب تركيبها الْهَيْئَة مفَاد (لتصريحهم) أَي المنطقيين فِي تَفْسِير الْجُزْء الْمُعْتَبر فِي الْمُفْرد والمركب (بالمسموع بالاستقلال) فمرادهم جُزْء مسموع بِذَاتِهِ لَا فِي ضمن شَيْء والهيئة إِن سلم كَونهَا مسموعة فَهِيَ مسموعة فِي ضمن الْمَادَّة، وَقَرِيب من هَذَا مَا قيل من أَن المُرَاد الْجُزْء الميرتب فِي السّمع (وَلِأَن الْكَلَام فِي تركيب اللَّفْظ ظَاهر) أَي وَلِأَن كَلَام المنطقيين هَهُنَا فِي تركيب لفظ مَعَ لفظ ظَاهر متبادر والتعريفات تحمل على مَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهَا، وَالْحَاصِل أَنه دفع الِاعْتِرَاض عَنْهُم بِوَجْهَيْنِ: الأول أَنهم صَرَّحُوا بمرادهم، وَالثَّانِي أَن مُرَادهم ظَاهر من كَلَامهم من غير حَاجَة إِلَى تصريحهم (وعَلى اعْتِبَاره) أَي الْجُزْء (الْمِيم) فِي نَحْو
مخرج (وَنَحْوه) كالألف فِي ضَارب (فلمنع دلَالَته) أَي كل من الْمِيم وَنَحْوه (بل) الدَّال على مَجْمُوع الْمَعْنى المُرَاد فِي هَذِه الْأَلْفَاظ (الْمَجْمُوع) من الْحُرُوف الْأُصُول والزوائد لوضع الْمَجْمُوع دفْعَة للمجموع من غير وضع الْجُزْء للجزء، لَا يُقَال لَزِمَهُم القَوْل بتركيب نَحْو مخرج لقَولهم بتركيب الْمُضَارع، لِأَن اعْتِبَار التَّرْكِيب فِيهِ يسْتَلْزم كَون الْحَرْف الزَّائِد مَوْضُوعا بِإِزَاءِ مَا هُوَ الأَصْل فِي الْمَعْنى: أَعنِي الذَّات الَّتِي يقوم بهَا مبدأ الِاشْتِقَاق، بِخِلَاف حرف المضارعة، فَإِنَّهَا بِإِزَاءِ وصف الْفَاعِل من التَّكَلُّم وَالْخطاب والغيبة، نعم الْوَجْه عدم التَّرْكِيب فِي الْمُضَارع أَيْضا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَجعل تضرب) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق للمخاطب أَو الغائبة (مركبا إِن كَانَ) سَببه (الْإِسْنَاد فِي تائه فخلاف أهل اللُّغَة) أَي مخالفهم وَكَيف لَا والمسند إِلَيْهِ الِاسْم لَا غير وحروف المضارعة من حُرُوف المباني، مَجْمُوع الشَّرْط وَالْجَزَاء خبر الْمُبْتَدَأ (أَو للمستكن) مَعْطُوف على قَوْله إِلَى تائه، وَاللَّام بِمَعْنى إِلَى كَقَوْلِه تَعَالَى - {فسقناه لبلد} - (فَمَا ذكرنَا) أَي فَجَوَابه مَا ذكرنَا من أَن الْمُضَارع مَوْضُوع لمُجَرّد الْفِعْل الثَّابِت لموضوع خَاص وَلَا تركيب فِيهِ، وَالضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ كلمة أُخْرَى مَوْضُوعَة لذَلِك الْمَوْضُوع، وَلَا نزاع فِي تركيب مَجْمُوع الْمُضَارع وَالضَّمِير (وَلذَا) أَي وَلعدم اقْتِضَاء المستكن تركبه (لم يركب) أَي لم يصر مركبا (اضْرِب) على صِيغَة الْأَمر (وَيضْرب فِي زيد يضْرب) مَعَ وجود المستكن فيهمَا (وَجَوَاب مركبه) أَي من ذهب إِلَى تركيب الْمُضَارع مُطلقًا (مِنْهُم) أَي من المنطقيين (مَا ذكرنَا) من التَّفْصِيل، وَذهب الرضي إِلَى أَن الْمُضَارع، وَمثل مسلمان ومسلمون وَبصرى وقائمة والمؤنث بِالْألف والمعرف بِاللَّامِ مركبات عدت لشدَّة الامتزاج وَعدم اسْتِقْلَال الْحُرُوف الْمُتَّصِلَة فِيهَا كلمة وَاحِدَة وأعربت إِعْرَاب الْكَلِمَة الْوَاحِدَة، وَمَا اخْتَارَهُ المُصَنّف رحمه الله أنسب بقواعد الْإِعْرَاب، وَلما ذكر (وينقسم كل من الْمُفْرد والمركب، فالمركب) قدمه لقلَّة أقسامه وَكَون مَفْهُومه وجوديا (إِن أَفَادَ نِسْبَة تَامَّة) يَصح السُّكُوت عَلَيْهَا (بِمُجَرَّد ذَاته) من غير انضمامه إِلَى كلمة أُخْرَى، فَخرج قَائِم مَعَ ضَمِيره فِي زيد قَائِم، لِأَنَّهُ يدل عَلَيْهَا بانضمامه إِلَى زيد (فجملة) أَي فَهُوَ جملَة اسمية أَن بُدِئَ باسم كزيد قَائِم وفعلية إِن بُدِئَ بِفعل كقام زيد وَيَا عبد الله وَإِن أكرمتني أكرمتك، وَيُقَال لهَذِهِ شَرْطِيَّة، وأمامك أَو فِي الدَّار خَبرا عِنْد الْبَصرِيين بِتَقْدِير حصل أَو اسْتَقر، وَيُقَال لهَذِهِ ظرفية خلافًا للكوفيين فَإِنَّهُم جَعَلُوهُ مُفردا بِتَقْدِير نَحْو حَاصِل، وَمِنْهُم من جعله قسما بِرَأْسِهِ لَا من الْمُفْرد وَلَا من الْجُمْلَة (أَو نَاقِصَة) عطف على تَامَّة: أَي إِن أَفَادَ نِسْبَة نَاقِصَة لَا يَصح السُّكُوت عَلَيْهَا (فالتقييدي) أَي فَهُوَ الْمركب التقييدي لتقييد الْجُزْء الأول بِالْآخرِ كغلام زيد وَالْحَيَوَان النَّاطِق (ومفرد
أَيْضا) لِأَن الْمُفْرد مُشْتَرك بَين معَان مِنْهَا مَا يُقَابل الْجُمْلَة، وَمِنْهَا مَا أَفَادَ بقوله (وَكَذَا فِي مُقَابلَة الْمثنى وَالْمَجْمُوع) أَي كَمَا يُطلق فِي مُقَابلَة الْجُمْلَة كَذَلِك يُطلق فِي مقابلتهما، وَمِنْهَا مَا يُقَابل الْمُضَاف إِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والمضاف) عطف على الْمثنى وَالْمَجْمُوع (وَنَحْو قَائِم) من الصِّفَات (لَا يرد) على تَعْرِيف الْجُمْلَة بتوهم كَون مَا أَفَادَهُ من نِسْبَة الْمصدر إِلَى الذَّات تَاما (لِأَنَّهُ مُفْرد) لعدم دلَالَة جزئه على معنى (وَأَيْضًا) لَا يدل على النِّسْبَة وضعا (إِنَّمَا يدل على ذَات متصفة) بِمَا اشتق مِنْهُ بِوَضْعِهِ لَهَا (فَيلْزم) أَن يفهم (النِّسْبَة) بَين الذَّات وَالْوَصْف (عقلا) أَي لُزُوما عقليا ضَرُورَة أَن الْوَصْف لَا بُد أَن يقوم بموصوف (لَا أَنَّهَا مَدْلُول اللَّفْظ) فَإِن قلت الدّلَالَة على الذَّات المتصفة بِوَصْف يسْتَلْزم كَون النِّسْبَة الَّتِي هِيَ الاتصاف المتعقل بسين الذَّات وَالْوَصْف مدلولا قلت الْمَعْنى الْمركب الْمُشْتَمل على النِّسْبَة إِذا وضع بإزائه لفظ وَاحِد يكون الْوَضع لَهُ هُنَاكَ أمرا وحدانيا إِذا أَخذ بِالْعقلِ فِي تَفْصِيله ينْحل إِلَى مُتَعَدد مِنْهُ النِّسْبَة فَتَأمل (وَحَال وُقُوعه) أَي نَحْو قَائِم (خَبرا فِي نَحْو زيد قَائِم نسبته إِلَى الضَّمِير لَيست تَامَّة بِمُجَرَّد ذَاته) مُسْند إِلَى فَاعله (بل) النِّسْبَة (التَّامَّة) نسبته مَعَ فَاعله (إِلَى زيد وَلذَا) أَي وَلكَون نسبته إِلَى الضَّمِير غير تَامَّة (عد مَعَه) أَي مَعَ الضَّمِير (مُفردا) كَمَا يدل عَلَيْهِ اختلافه باخْتلَاف العوامل وَوَضعه على أَن يكون مُعْتَمدًا على من هُوَ لَهُ لإفادته معنى فِي ذَات تقدم ذكرهَا، (و) إِفْرَاد نَحْو قَائِم حَال وُقُوعه خَبرا (على) رَأْي (المنطقيين فِي اعْتِبَاره) أَي الضَّمِير (الرابطة) ثَانِي مفعول الِاعْتِبَار لما يرتبط بِهِ الْمَحْمُول بالموضوع (أظهر فإسناده لَيْسَ إِلَّا إِلَى زيد) لِأَن الرابطة دَالَّة على النِّسْبَة لَا أَنَّهَا ظرفها (وَهُوَ) أَي الضَّمِير (يُفِيد أَن مَعْنَاهُ) أَي قَائِم ثَابت (لَهُ) أَي لزيد (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يفد ذَلِك (لاستقل كل) من الْمَوْضُوع والمحمول (بمفهومه) عَن الآخر (فَلم يرتبط، وَغَايَة مَا يلْزم) المنطقيين فِي الِاعْتِبَار الْمَذْكُورَة (طرده) أَي اعْتِبَار الضَّمِير (فِي الجامد) من الْأَخْبَار كَمَا فِي الْمُشْتَقّ طردا للباب من اطرد الْأَمر: أَي تبع بعضه بَعْضًا (وَقد يلْتَزم) طرده فِي الجامد (كالكوفيين) أَي كالتزام الْكُوفِيّين ذَلِك فَإِنَّهُم يؤولون غير الْمُشْتَقّ بِهِ، فيؤولون زيد أَسد بِشُجَاعٍ، وأخوك بمواخيك، وكل جامد بِمَا يُنَاسِبه، عَن الْكسَائي أَن الجامد يتَحَمَّل الضَّمِير بِلَا تَأْوِيل (وَإِن كَانَ) الِالْتِزَام الْمَذْكُور (على غير مهيعم) أَي طريقهم الْبَين فَإِنَّهُم لَا يلتزمون تحمل الْمُشْتَقّ لَهُ فضلا عَن الجامد، بل إِن كَانَ ملفوظا يسمون الْقَضِيَّة ثلاثية، وَإِلَّا قَالُوا هُوَ مَحْذُوف للْعلم بِهِ، ويسمونها ثنائية، فعلى هَذَا يحْتَاج قَوْله، وعَلى المنطقيين إِلَى آخِره إِلَى تَأْوِيله، لِأَن ظَاهره يَقْتَضِي اعْتِبَار الضَّمِير وَجعله رابطة فَتدبر (وبخفائه) أَي الضَّمِير الْمُسْتَتر (وَالدَّال) أَمر
ظَاهر، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ خفِيا فِي ذَاته كَيفَ يكون سَببا لظُهُور الْمَدْلُول، وَلَا بُد من أَمر بعيد الرَّبْط بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر (قيل الرابط حَرَكَة الْإِعْرَاب) ضمة ظَاهِرَة فِي آخر المعرب، ويلحقها مَا يقوم مقَامهَا وَاو أَو ألف (وَلَا يُفِيد) الْأَعْرَاب الْمَذْكُور أَيْضا مَا قصدوه من الظُّهُور (إِذْ يخفى) الْأَعْرَاب أَيْضا (فِي المبنى والمعتل) مَقْصُورا كَانَ أَو منقوصا، وَكَذَا المعرب عِنْد الْوَقْف (وَالْأَظْهَر أَنه) أَي الرَّبْط (فعل النَّفس) وَهُوَ الْإِيقَاع والانتزاع (وَدَلِيله) أَي فعل النَّفس (الضَّم الْخَاص) أَي التَّرْكِيب الْخَاص الْمَوْضُوع نَوعه لإِفَادَة ذَلِك، وَأما الْحَرَكَة (فَعِنْدَ ظُهُورهَا) لفقد الْمَانِع (يتَأَكَّد الدَّال) وَهُوَ الضَّم الْمَذْكُور (وَإِلَّا انْفَرد) أَي وَإِن لم تظهر لمَانع انْفَرد الضَّم بِالدّلَالَةِ الْمَذْكُورَة (وَاعْلَم أَن الْمَقْصُود) الْأَصْلِيّ (من وضع الْمُفْردَات لَيْسَ إِلَّا إِفَادَة الْمعَانِي التركيبية) هَذِه تَوْطِئَة لما بعْدهَا من بَيَان أَقسَام حَاصِلَة فِي اعْتِبَار الْمَعْنى التركيبي (وَالْجُمْلَة خبر إِن دلّ) أَي الْجُمْلَة، والتذكير بِاعْتِبَار الْخَبَر (على مُطَابقَة) نسبتها المفادة مِنْهَا لأمر (خَارج) عَن مدلولها بِاعْتِبَار تِلْكَ الملاحظة المستفادة من دلالتها كَائِن بَين طرفِي الْإِمْكَان فِي الْوَاقِع من الْوُقُوع، أَو اللاوقوع، وَلَا يذهب عَلَيْك الْفرق بَين الدّلَالَة على الْمُطَابقَة وَبَين الْمُطَابقَة بِحَسب نفس الْأَمر، فَإِن الأولى لَازِمَة للنسبة الْجُزْئِيَّة لَا الثَّانِيَة، وَذَلِكَ لكَونهَا حاكية عَن نِسْبَة خارجية بَين الطَّرفَيْنِ، إِذْ لَا بُد من الْمُطَابقَة فِي التَّصَوُّر بَين الحاكي والمحكي عَنهُ، فَإِن كَانَ مَا هُوَ الْوَاقِع فِي نفس الْأَمر بِعَيْنِه هُوَ المحكي تحصل الثَّانِيَة، وَإِلَّا فَلَا (وَأما عدمهَا) أَي عدم مُطَابقَة نسبتها المفادة مِنْهَا (فَلَيْسَ مدلولا وَلَا مُحْتَمل اللَّفْظ) لِأَن مَا يفهم من الحاكي إِنَّمَا هُوَ مِثَال المحكي عَنهُ لَا غير، وَلَكِن (إِنَّمَا يجوز الْعقل أَن مَدْلُوله) أَي الْخَبَر (غير وَاقع) لِأَن الْحِكَايَة عَن الشَّيْء لَا تَسْتَلْزِم تحَققه فِي الْوَاقِع (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم تدل الْجُمْلَة على مُطَابقَة خَارج بِأَن لم تكن نسبتها المدلولة حاكية عَن نِسْبَة خارجية (فإنشاء) أَي فالجملة حِينَئِذٍ إنْشَاء (وَلَا حكم فِيهِ) وَفسّر الحكم بقوله (أَي إِدْرَاك أَنَّهَا) أَي النِّسْبَة (وَاقعَة أَولا) أَي لَيست بواقعة (فَلَيْسَ كل جملَة قَضِيَّة) إِذْ لَا بُد فِيهَا من الحكم وَكَونهَا حاكية عَن خارجية، وَلذَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب، فالجملة أَعم من الْقَضِيَّة (وَالْكَلَام يرادفها) أَي الْجُمْلَة (عِنْد قوم) من النُّحَاة، قيل مِنْهُم الزَّمَخْشَرِيّ عَفا الله عَنهُ (وأعم) مِنْهَا مُطلقًا (عِنْد الأصولين كاللغويين) أَي كَمَا أَنه أَعم عِنْدهم، وَنقل الأمدي عَن أَكثر الْأُصُولِيِّينَ، وَالْإِمَام الرَّازِيّ عَن جَمِيعهم أَن الْكَلِمَة المركبة من حرفين فَصَاعِدا كَلَام، وَشرط صدورها عَن مُخْتَار، فالصادر من الساهي أَو النَّائِم لَيْسَ بِكَلَام.