المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

جُزْء مِنْهُ بل كل وَاحِد مِنْهَا يصدق عَلَيْهِ مَفْهُوم الضَّرْب - تيسير التحرير شرح كتاب التحرير في أصول الفقه - جـ ١

[أمير باد شاه]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌فِي انقسام الْمُفْرد بِاعْتِبَار ذَاته من حَيْثُ أَنه مُشْتَقّ أَولا

- ‌مَسْأَلَة

- ‌ مَسْأَلَة

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌التَّقْسِيم الثَّانِي

- ‌التَّقْسِيم الثَّالِث

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌مَسْأَلَة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌الْفَصْل الرَّابِع

- ‌التَّقْسِيم الثَّالِث

- ‌التَّقْسِيم الثَّانِي

- ‌الْبَحْث الثَّانِي

- ‌الْبَحْث الثَّالِث

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مَسْأَلَة

- ‌مَسْأَلَة

- ‌ مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مَسْأَلَة

- ‌مسئلة

- ‌‌‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌الْبَحْث الرَّابِع

- ‌الْبَحْث الْخَامِس

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مَسْأَلَة

- ‌مسئلة

- ‌مَسْأَلَة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌ مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مَبْحَث الْأَمر

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌(صِيغَة الْأَمر لَا تحْتَمل التَّعَدُّد الْمَحْض)

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

- ‌مَسْأَلَة

- ‌مسئلة

- ‌مسئلة

الفصل: جُزْء مِنْهُ بل كل وَاحِد مِنْهَا يصدق عَلَيْهِ مَفْهُوم الضَّرْب

جُزْء مِنْهُ بل كل وَاحِد مِنْهَا يصدق عَلَيْهِ مَفْهُوم الضَّرْب مَوْجُود فِيهِ تَمام حَقِيقَته (وَإِن انْقَضى كثير من الْأَمْثَال) أَي من أَفْرَاد الضَّرْب الْمُمَاثلَة للموجود حَال الْإِطْلَاق (لَا يُقَال فَالْوَجْه حِينَئِذٍ) أَي حِين أُجِيب عَن أَدِلَّة الْمجَاز والحقيقة، وَلم يبْق لأَحَدهمَا رُجْحَان على الآخر من حَيْثُ الدَّلِيل (الْحَقِيقَة) أَي اخْتِيَارهَا (تَقْدِيمًا للتواطئ) وَهُوَ كَون اللَّفْظ مَوْضُوعا لما يعم الْمَعْنى الَّذِي هُوَ حَقِيقَة فِيهِ بِلَا شُبْهَة، وَالْمعْنَى الَّذِي فِيهِ شُبْهَة المجازية (على الْمجَاز) أَي المجازية (لَا التَّوَقُّف) أَي لَيْسَ الْوَجْه التَّوَقُّف (كظاهر بعض الْمُتَأَخِّرين) أَي كمفهوم ظَاهر كَلَام بَعضهم، وَهُوَ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (لعدم لَازمه) أَي التواطئ تَعْلِيل لقَوْله: لَا يُقَال وَحَاصِله الِاسْتِدْلَال بِنَفْي اللَّازِم على نفي الْمَلْزُوم (وَهُوَ) أَي لَازمه (سبق الْأَحَد) أَي أحد الْأَمريْنِ: من الْمُثبت لَهُ الْمَعْنى قَائِما، والمثبت لَهُ منقضيا (الدائر) بَين الْأَمريْنِ الْمَذْكُورين، يَعْنِي لَو كَانَ الْوَصْف مَوْضُوعا لأحد الْأَمريْنِ لسبق إِلَى الْفَهم عِنْد إِطْلَاقه كَمَا هُوَ شَأْن الْمَوْضُوع لَهُ، لكنه لم يسْبق فَلَا وضع فَلَا تواطؤ (لسبقه) أَي الْمَعْنى إِلَى الْفَهم (بِاعْتِبَار الْحَال من نَحْو زيد قَائِم) وَسبق أحد الْأَمريْنِ بِعَيْنِه يسْتَلْزم عدم سبق أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، وَظَاهر هَذَا الْكَلَام أَن المُصَنّف رحمه الله: اخْتَار المجازية فِي مَحل النزاع، وَقد استبان بِمَا ذكر من التَّفْصِيل أَن مَحل النزاع الْوَصْف الَّذِي هُوَ مَظَنَّة لَا يكون إِلَّا حَقِيقَة بعد الِانْقِضَاء، بِخِلَاف مَا اعْتبر فِيهِ الاتصاف بِالْفِعْلِ اتِّفَاقًا، وَمَا اعْتبر فِيهِ عدم طريان المنافى وَالله أعلم.

‌الْفَصْل الثَّانِي

(فِي) تَقْسِيم الْمُفْرد بِاعْتِبَار (الدّلَالَة وظهورها وخفائها) فَهِيَ (تقسيمات) ثَلَاثَة

(التَّقْسِيم الأول) وَهُوَ تقسيمه بِاعْتِبَار الدّلَالَة نَفسهَا، التَّقْسِيم ضم قيود متباينة ذاتا أَو اعْتِبَارا إِلَى مَفْهُوم كلي بِحَيْثُ يحصل من انضمام كل قسيم، وَهُوَ قسيم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآخر (اللَّفْظ الْمُفْرد إِمَّا دَال بالمطابقة أَو التضمن أَو الِالْتِزَام) وَسَيَجِيءُ تَفْسِيرهَا (وَالْعَادَة) أَي عَادَة الْأُصُولِيِّينَ (التَّقْسِيم فِيهَا) أَي الدّلَالَة نَفسهَا، لَا الدَّال (ويستتبعه) أَي الدّلَالَة اللَّفْظ فِي الانقسام: أَي يَنْقَسِم اللَّفْظ تبعا للدلالة، وَإِنَّمَا عدل عَنْهَا لتَكون التقسيمات كلهَا للمفرد تسهيلا للضبط (وَالدّلَالَة كَون الشَّيْء) بِحَيْثُ (مَتى فهم فهم) مِنْهُ (غَيره فَإِن كَانَ التلازم) أَي لُزُوم فهم الْغَيْر لذَلِك فهم الشَّيْء، وملزومية ذَلِك الشَّيْء لفهم الْغَيْر الْمُسْتَفَاد من قَوْله مَتى فهم فهم الخ، وَالْمرَاد عدم الانفكاك لَا امْتِنَاعه (بعلة الْوَضع) بِسَبَب كَون ذَلِك الشَّيْء مَوْضُوعا لذَلِك الْغَيْر، أَو لما هُوَ جزؤه أَو لَازمه (فوضعية) أَي فالدلالة وضعية (أَو الْعقل) والتقابل بِاعْتِبَار اسْتِقْلَال الْعقل وَعَدَمه، وَإِلَّا

ص: 79

فالعقل لَهُ مدْخل فِي الوضعية أَيْضا (فعقلية، وَمِنْهَا الطبيعية) أَي من الْعَقْلِيَّة الدّلَالَة الطبيعية، وَهِي مَا كَانَت الطبيعة سَبَب وجود الدَّال (إِذْ دلَالَة أح على الْأَذَى) وَهُوَ وجع الصدرا لملجئ صَاحبه إِلَى إِيقَاعه (دلَالَة الْأَثر) وَهُوَ أح (على مبدئه) ومنشئه، وَهُوَ الوجع الْمَذْكُور (كالصوت) أَي كدلالة الصَّوْت المسموع من وَرَاء الْجِدَار على صَاحبه (وَالْكِتَابَة) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَاتِب (وَالدُّخَان) بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّار، فَإِنَّهَا عقليات كلهَا (والوضعية) تَارَة (غير لفظية كالعقود) جمع عقد، وَهُوَ مَا يعْقد بالأصابع على كَيْفيَّة خَاصَّة مَوْضُوع لعدد معِين (وَالنّصب) جمع نصبة، وَهُوَ الْعَلامَة المنصوبة لمعْرِفَة الطَّرِيق (ولفظية) وَهِي (كَون اللَّفْظ بِحَيْثُ إِذا أرسل) لم يقل أطلق لِأَن الْمُتَبَادر من الْإِطْلَاق مَا قرن بالإرادة، والإرسال أَعم وَاللَّفْظ يدل على مَعْنَاهُ إِذا تلفظ بِهِ، وَإِن لم يرد بِهِ الْمَعْنى (فهم) مِنْهُ (الْمَعْنى للْعلم بِوَضْعِهِ) أَي اللَّفْظ (لَهُ) أَي الْمَعْنى والمتبادر كَون اللَّام مُتَعَلقا بفهم، وَهُوَ يُوهم كَون اللَّازِم الْفَهم من حَيْثُ إِنَّه مُعَلل، وَيرد أَنه إِذا أرسل وَلم يكن السَّامع عَالما بِالْوَضْعِ لم يفهم، وَهُوَ يُنَافِي مَتى فهم فهم فَتعين كَونه مُتَعَلقا بِالْإِرْسَال، وَاللَّام بِمَعْنى عِنْد كَقَوْلِه تَعَالَى - {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} - (وَأورد) نقضا على عكس التَّعْرِيف من حَيْثُ تضمنه لُزُوم حُدُوث فهم الْمَعْنى عِنْد الْإِرْسَال (سَمَاعه) أَي اللَّفْظ (حَال كَون الْمَعْنى مشاهدا) للسامع لعدم حُدُوث الْفَهم حِينَئِذٍ لِامْتِنَاع حُصُول الْحَاصِل (وَأجِيب بِقِيَام الْحَيْثِيَّة) المفسرة بهَا الدّلَالَة اللفظية، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهِي) أَي الْحَيْثِيَّة الْمَذْكُورَة (الدّلَالَة) تَوْضِيحه سلمنَا انْتِفَاء حُدُوث فهم الْمَعْنى حَال الْمُشَاهدَة، لكنه لَا يخل فِيهَا، لِأَنَّهَا عبارَة عَن تِلْكَ الْحَيْثِيَّة، وَهِي مَوْجُودَة فِي الدَّال لكَونه بِحَيْثُ إِلَى آخِره، وَلقَائِل أَن يَقُول لَا نسلم قيام الْحَيْثِيَّة، لِأَن كلمة إِذا فِيهَا بِمَعْنى مَتى لما مر فِي تَعْرِيف مُطلق الدّلَالَة، فَيجب حُدُوث الْمَعْنى فِي كل إرْسَال، وَقد عرفت عَدمه عِنْد إرْسَاله حَال الْمُشَاهدَة، وَلعدم حقية هَذَا الْجَواب. قَالَ (وَالْحق) أَن يُقَال إِنَّه حصل (الِانْقِطَاع) أَي انْقِطَاع الْمُشَاهدَة (بِالسَّمَاعِ) أَي بِسَبَب اشْتِغَال البال باستماع اللَّفْظ (ثمَّ التجدد) أَي تجدّد فهم حَادث (عَنهُ) أَي عَن اللَّفْظ، وَيتَّجه أَنه لَا تَنْقَطِع الْمُشَاهدَة غَايَة الْأَمر أَن يَنْقَطِع الالتفاف إِلَى الْمُشَاهدَة بِالذَّاتِ، وَالْجَوَاب أَن المُرَاد بِانْقِطَاع الْمُشَاهدَة هُوَ هَذَا، وَالْمرَاد بالفهم اللَّازِم فِي الدّلَالَة مَا يعم الْفَهم الْحَادِث من حَيْثُ الذَّات، والحادث من حَيْثُ الِالْتِفَات (وللدلالة إضافات) أَي صِفَات إضافية حَاصِلَة لَهَا بِالْقِيَاسِ (إِلَى تَمام مَا وضع لَهُ اللَّفْظ، وجزئه، ولازمه) فَإِذا اعْتبرت الدّلَالَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمام مَا وضع لَهُ حصلت إِضَافَة، وَإِلَى جزئه أُخْرَى، وَإِلَى لَازمه أُخْرَى (إِن كَانَا) أَي إِن وجد الْجُزْء وَاللَّازِم فَكَانَ تَامَّة، وَيجوز كَونهَا نَاقِصَة، وَالْخَبَر مَحْذُوف،

ص: 80

أَعنِي موجودين، وَقَوله للدلالة إِلَى آخِره دَال على الْجَزَاء الْمَحْذُوف والمشروط إِنَّمَا هُوَ الإضافتان الأخيرتان بِالْحَقِيقَةِ، أَشَارَ إِلَى مَا هُوَ الْمَشْهُور من أَن الْمُطَابقَة لَا تَسْتَلْزِم التضمن والالتزام، لجَوَاز أَن يكون مَا وضع لَهُ بسيطا لَا لَازم أَو مركب كَذَا (وَلها) أَي للدلالة (مَعَ كل) إِضَافَة (اسْم، فَمَعَ الأول) اسْمهَا (دلَالَة الْمُطَابقَة، وَمَعَ الثَّانِي دلَالَة التضمن، وَكَذَا الِالْتِزَام) أَي وَمَعَ إضافتها إِلَى اللَّازِم اسْمهَا دلَالَة الِالْتِزَام، وَالتَّعْبِير عَن الْإِضَافَة بِالْأولِ وَالثَّانِي بِاعْتِبَار كَونهَا مصدرا، (ويستلزم اجتماعها) أَي الدلالات الثَّلَاث (انتقالين) من لفظ (وَاحِد) مِنْهُ (إِلَى الْمَعْنى المطابقي والتضمني) وَإِنَّمَا قُلْنَا بوحدة الِانْتِقَال فيهمَا (لِأَن فهمه) أَي الْجُزْء (فِي ضمنه) أَي تَمام مَا وضع (لَا كظن) أَي كمظنون (شَارِح الْمطَالع) الْفَاضِل الْمَشْهُور قطب الدّين الرَّازِيّ من أَنه ينْتَقل الذِّهْن من اللَّفْظ إِلَى جُزْء مَا وضع لَهُ، ثمَّ مِنْهُ إِلَى تَمَامه، وَأَن الْمُطَابقَة تَابِعَة للتضمن فِي الْفَهم لسبق الْجُزْء فِي الْمَوْجُودين، وَمَا ذكره المُصَنّف رحمه الله إِشَارَة إِلَى مَا ذكره الْمُحَقق شَارِح الْمُخْتَصر القَاضِي عضد الدّين فِي الدّلَالَة اللفظية من أَنه ينْتَقل الذِّهْن من اللَّفْظ إِلَى الْمَعْنى ابْتِدَاء، وَهِي وَاحِدَة لَكِن رُبمَا تضمن الْمَعْنى الْوَاحِد جزءين فيفهم مِنْهُ الجزءان، وَهُوَ بِعَيْنِه فهم الْكل، فالدلالة على الْكل لَا تغاير الدّلَالَة على الجزءين مَعًا مُغَايرَة بِالذَّاتِ بل بِالْإِضَافَة وَالِاعْتِبَار، وَقرر هَذَا التَّحْقِيق الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ، ثمَّ قَالَ ومبني هَذَا التَّحْقِيق على أَن التضمن فهم الْجُزْء فِي ضمن الْكل، والالتزام فهم اللَّازِم بعد فهم الْمَلْزُوم، حَتَّى إِذا اسْتعْمل اللَّفْظ فِي الْجُزْء أَو اللَّازِم مَعَ قرينَة مَانِعَة عَن إِرَادَة الْمُسَمّى لم يكن تضمنا أَو التزاما بل مُطَابقَة لكَونهَا دَالَّة على تَمام الْمَعْنى: أَي مَا عَنى بِاللَّفْظِ وَقصد انْتهى بَيَان ذَلِك أَن دلَالَة اللَّفْظ بِوَضْعِهِ للمعنى فالعالم بِهِ إِذا فهم اللَّفْظ يتَوَجَّه قصدا بِمُقْتَضى علمه نَحْو الْمَوْضُوع لَهُ لَا إِلَى جزئه وَإِن كَانَ يتعقل قبل تعقل الْكل ضَرُورَة، لِأَن الذِّهْن غير مُتَوَجّه إِلَيْهِ قصدا، وَكَونه وَاسِطَة فِي الِانْتِقَال فرع توجه الذِّهْن إِلَيْهِ قصدا لَا يُقَال لم لَا يجوز أَن يكون مَقْصُود شَارِح الْمطَالع من كَون الْجُزْء وَاسِطَة فِي الِانْتِقَال مُقَدّمَة فِي التعقل لِأَن ذَلِك بديهي لَا يحْتَاج إِلَى الْبَيَان وَلَا تنَازع فِيهِ مَعَ أَنه شبه وساطته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكل بوساطة الْمَوْضُوع لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنى الالتزامي (يَلِيهِ) أَي يَلِي ذَلِك الْوَاحِد انْتِقَال (آخر) من الْمَعْنى المطابقي (إِلَى) الْمَعْنى (الالتزامي لُزُوما) أَي لكَون الالتزامي لَازِما للمطابقي، وَإِنَّمَا صَار لُزُومه سَبَب الِانْتِقَال (لِأَنَّهُ) أَي اللُّزُوم هَهُنَا (بِالْمَعْنَى الْأَخَص) اللُّزُوم عِنْد المنطقيين يُطلق على مَعْنيين: أَحدهمَا أخص، وَهُوَ كَون اللَّازِم بِحَيْثُ يحصل فِي الذِّهْن كلما حصل الْمَلْزُوم فِيهِ، وَثَانِيهمَا الْأَعَمّ، وَهُوَ كَونه بِحَيْثُ إِذا تصور مَعَ الْمَلْزُوم يحكم الْعقل باللزوم بَينهمَا على الْفَوْر أَو بعد التَّأَمُّل، أما لعلاقة عقلية أَو لعرف خَاص أَو عَام وَمَا يجْرِي مجْرَاه والأخصية بِاعْتِبَار أَنه كلما

ص: 81

تحقق اللُّزُوم بَين الشَّيْئَيْنِ إِذا تعقلا يحكم الْعقل باللزوم بَينهمَا من غير عكس وَهُوَ ظَاهر (فَانْتفى لُزُوم الالتزامي مُطلقًا) كَمَا زعم الإِمَام الرَّازِيّ من أَن كل مُسَمّى لَهُ لَازم ذهني، وَذَلِكَ الزَّعْم (للُزُوم تعقل أَنه) أَي الْمُسَمّى (لَيْسَ غَيره) أَي غير نَفسه (لِأَن ذَلِك) أَي التعقل الْمَذْكُور لَازم (بالأعم) أَي بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ، وَقد عَرفته وَالْمُعْتَبر هَهُنَا اللَّازِم بِالْمَعْنَى الْأَخَص (هَذَا) كُله (على) اصْطِلَاح (المنطقيين فَلَا دلَالَة للمجازات على) الْمعَانِي (المجازية) لعدم كَونهَا بِحَيْثُ مَتى أرْسلت فهم مِنْهَا تِلْكَ الْمعَانِي، بل إِذا أرْسلت مَعَ الْقَرِينَة، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (بل ينْتَقل إِلَيْهَا) أَي الْمعَانِي المجازية (بِالْقَرِينَةِ فَهِيَ) أَي الْمعَانِي المجازية (مرادات) بالمجازات (لَا مدلولات لَهَا فَلَا تورد) المجازات نقضا (عَلَيْهِم) أَي على عكس تَعْرِيف المنطقيين بِأَنَّهَا خَارِجَة عَنهُ (إِذْ يلتزمونه) أَي خُرُوجهَا عَن التَّعْرِيف لعدم دُخُولهَا فِي الْمُعَرّف (وَلَا ضَرَر) فِي ذَلِك (إِذْ لم يسْتَلْزم) عدم دلالتها على الْمعَانِي المجازية (نفى فهم المُرَاد) مِنْهَا ليَكُون التزامهم بَاطِلا لكَونه خلاف الْوَاقِع (فَلَيْسَ للمجاز) الْمُسْتَعْمل (فِي الْجُزْء وَاللَّازِم دلَالَة مُطَابقَة فيهمَا) أَي بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله فِي الْجُزْء وَاللَّازِم (كَمَا قيل) قَائِله الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ، وَقد مر آنِفا (بل اسْتِعْمَال يُوجب الِانْتِقَال مَعَه إِلَى كل فَقَط الْقَرِينَة) اضراب عَن ثُبُوت الدّلَالَة المطابقية للمجاز على الْجُزْء اللَّازِم إِلَى ثُبُوت اسْتِعْمَال لَهُ توجب الْقَرِينَة المفيدة إِرَادَة أَحدهمَا حَال كَونهَا مَعَ ذَلِك الِاسْتِعْمَال الِانْتِقَال عَن الْمَوْضُوع لَهُ إِلَى كل من الْجُزْء وَاللَّازِم فَقَط: أَي بِدُونِ مُشَاركَة شَيْء آخر إِيَّاه فِي الْإِرَادَة (وَدلَالَة) مَعْطُوف على اسْتِعْمَال (تضمنية والتزامية فيهمَا) مُتَعَلق بِاسْتِعْمَال، وَإِنَّمَا تثبت الدلالتان (تبعا للمطابقية الَّتِي لم ترد) فَلَا يرد أَنه يلْزم تحقق الدّلَالَة التضمنية والالتزامية بِدُونِ المطابقية (وَهَذَا) أَي وجود المطابقية فِي الْمجَاز الْمَذْكُور مَعَ كَونهَا غير مُرَاد (لِأَن بعد) تحقق (الْوَضع لَا تسْقط الدّلَالَة) المطابقية (عَن) الدَّال (الوضعي) إِذا كَانَ الشَّارِح عَالما بِالْوَضْعِ (فَكَذَا لَا تسْقط) الدّلَالَة (عَن لَازمه) أَي لَازم الوضعي إِذا كَانَ لَهُ لَازم (فتتحقق) الدّلَالَة المطابقية فِي الْمجَاز الْمَذْكُور (لتحَقّق علتها) أَي الدّلَالَة (وَهُوَ) أَي علتها (الْعلم بِالْوَضْعِ) فَإِن قلت قَوْله بعد الْوَضع إِلَى آخِره يدل على أَن مُجَرّد الْوَضع كَاف فِي تحقق الْحَيْثِيَّة، وَهَذَا يدل على أَنه لَا بُد من الْعلم بِالْوَضْعِ أَيْضا قلت لَيْسَ المُرَاد من التحقق هُنَا اتصاف اللَّفْظ بالحيثية الْمَذْكُورَة بل ثَمَرَتهَا، وَهُوَ الِانْتِقَال إِلَى مَا وضع لَهُ، وَمُجَرَّد الْوَضع كَاف فِي اتصافه بالحيثية الْمَذْكُورَة غير كَاف فِي الِانْتِقَال بل لَا بُد فِيهِ من الْعلم بِالْوَضْعِ أَيْضا (وَالْمرَاد) من اللَّفْظ الْمجَازِي (غير متعلقها) أَي غير مُتَعَلق الدّلَالَة المطابقية، وَهُوَ الْمَدْلُول المطابقي، يَعْنِي المُرَاد المعني الْمجَازِي الَّذِي هُوَ غير متعلقها (وَأما الأصوليون فَمَا للوضع دخل

ص: 82

فِي الِانْتِقَال) أَي فعندهم الدّلَالَة الوضعية هِيَ الَّتِي للوضع دخل فِي الِانْتِقَال من دالها إِلَى مدلولها (فتتحقق) الدّلَالَة على اصطلاحهم (فِي الْمجَاز) لدخل الْوَضع فِي الِانْتِقَال الْمجَازِي، لِأَن العلاقة بَين الْمَعْنى الْمجَازِي والموضوع لَهُ سَببه، وَعدم اعتبارهم اللُّزُوم الْكُلِّي بَين فهم الْمَعْنى وَفهم اللَّفْظ اكْتِفَاء باللزوم فِي الْجُمْلَة (والالتزامية بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ) أَي وتتحقق الدّلَالَة الالتزامية باللزوم بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ وَلَا يشْتَرط اللُّزُوم بِالْمَعْنَى الْأَخَص، وَقد مر تفسيرهما (ثمَّ اخْتلف الِاصْطِلَاح) للأصوليين فِي أَصْنَاف الدّلَالَة الوضعية بِاعْتِبَار مفهوماتها وأسمائها (وَفِي ثُبُوت بَعْضهَا) بِإِثْبَات بَعضهم قسما لم يُثبتهُ الْبَعْض الآخر كالمفهوم الْمُخَالف أثْبته الشَّافِعِيَّة لَا الْحَنَفِيَّة (أَيْضا، فالحنفية) أَي فَقَالَت الْحَنَفِيَّة (الدّلَالَة) الوضعية قِسْمَانِ (لفظية وَغير لفظية، وَهِي) أَي غير اللفظية (الضرورية) أَي الَّتِي أوجبت الضَّرُورَة الناشئة من الدَّلِيل اعْتِبَارهَا من غير لفظ يدل (ويسمونها) أَي الْحَنَفِيَّة (بَيَان الضَّرُورَة) أَي الْحَاصِل بِسَبَبِهَا، فَهُوَ من إِضَافَة الشَّيْء إِلَى سَببه، وَأما تَسْمِيَة الدّلَالَة بَيَانا فباعتبار أَن موصوفها بَيَان لمدلوله (وَهِي) أَي الضرورية (أَرْبَعَة أَقسَام كلهَا دلَالَة سكُوت مُلْحق باللفظية) لِأَن السُّكُوت بمعاونة الْمقَام يَقْتَضِي اعْتِبَارهَا (الأول مَا يلْزم منطوقا) لِأَن السُّكُوت بِدُونِ اتصالها مَعَ الْمَنْطُوق وَلَا يُفِيد اعْتِبَارهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث} دلّ سُكُوته) عَن ذكر نصيب الْأَب (أَن للْأَب الْبَاقِي) لِأَنَّهُ لَا شكّ أَن تعْيين نصِيبه مَقْصُود كتعيين نصيب الْأُم، فَإِن لم يكن الْبَاقِي لَهُ لَا يتَعَيَّن فَيلْزم عدم صِحَة السُّكُوت لَا يُقَال الْمَنْطُوق يدل على انحصار الْوَارِث فيهمَا وَتَعْيِين نصيب الْأُم، وَيلْزمهُ كَون الْبَاقِي للْأَب، فَهُوَ مَدْلُوله التزاما لأَنا نقُول: لَو سلم دلَالَته على الانحصار لَا نسلم كَونه دَالا عَلَيْهِ التزاما، لجَوَاز أَن يكون لَهُ بعض الْبَاقِي وَالْبَعْض الآخر يقسم بَينهمَا بطرِيق الرَّد، أَو يُعْطي لبيت المَال فَإِن قلت الْأَب عصبَة فَلَا يحْتَمل مَا ذكرت قلت الْكَلَام فِي دلَالَة اللَّفْظ، وَلَيْسَ الْمُخَاطب منحصرا فِيمَن يعلم قَوَاعِد الْفَرَائِض فاحتيج إِلَى أَن يُقَال لَو كَانَ نصِيبه بعض الْبَاقِي لما صَحَّ السُّكُوت عَن بَيَانه قَوْله - {وَورثه} - إِلَى آخِره مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف: أَي مِنْهَا، وَقَوله دلّ إِلَى آخِره اسْتِئْنَاف، وَكَذَا قَوْله (ودفعته) أَي النَّقْد (مُضَارَبَة) وَهِي عقد شركَة فِي الرِّبْح الْحَاصِل بِعَمَل الْمضَارب (على أَن لَك نصف الرِّبْح يُفِيد) سُكُوته (أَن الْبَاقِي) وَهُوَ النّصْف الآخر (للْمَالِك) وَيتَّجه هَهُنَا نَظِير الْإِيرَاد الْمَذْكُور وَلَيْسَ فِيهِ نَظِير ذَلِك الْجَواب، لِأَن الْبَاقِي من حَيْثُ أَنه نَمَاء ملكه يتَعَيَّن أَن يكون لَهُ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال المُرَاد بِدلَالَة السُّكُوت مَا لم يكن الدَّال فِيهِ منطوقا، وملاحظة الْحَيْثِيَّة الْمَذْكُورَة كَذَلِك (وَكَذَا فِي قلبه اسْتِحْسَانًا) أَي وَمِنْهَا قَوْله دَفعته إِلَيْك مُضَارَبَة على أَن لي نصف الرِّبْح فَالْقِيَاس فَسَاده لعدم بَيَان نصيب الْمضَارب، وَالِاسْتِحْسَان صِحَّته، لِأَن الْمَنْطُوق دلّ على أَن نصيب الْمَالِك

ص: 83

النّصْف فَتعين النّصْف الآخر للْمُضَارب لعدم مُسْتَحقّ آخر وَالرِّبْح مُشْتَرك بَينهمَا.

(الثَّانِي دلَالَة حَال السَّاكِت) الَّذِي وظيفته الْبَيَان مُطلقًا، أَو فِي تِلْكَ الْحَادِثَة (كسكوته صلى الله عليه وسلم عِنْد أَمر يُشَاهِدهُ) من قَول أَو فعل لَيْسَ مُعْتَقد كَافِر مَعَ قدرته على الْإِنْكَار وَعدم سبق بَيَان حكمه مِنْهُ، فَإِنَّهُ يدل حِينَئِذٍ على الْجَوَاز من فَاعله وَغَيره، لِأَنَّهُ لَو لم يكن جَائِزا لزم ارتكابه لمحرم، وَهُوَ تَقْرِيره على الْمحرم، هَذَا إِذا لم يُنكر وَلم يستبشر، وَأما إِذا استبشر فدلالته على الْجَوَاز أوضح (وَسَيَأْتِي فِي السّنة) بَيَانه مستقصى إِن شَاءَ الله تَعَالَى (وسكوت الصَّحَابَة عَن تَقْوِيم مَنَافِع ولد الْمَغْرُور) هُوَ ولد الرجل من امْرَأَة ملكهَا فِي ظَنّه ملك يَمِين أَو نِكَاح، ثمَّ اسْتحقَّهَا شخص بِإِثْبَات كَونهَا أمة لَهُ، فَردَّتْ عَلَيْهِ مَعَ الْعقر، وَيثبت نسب الْوَلَد مِنْهُ، وَهُوَ حر بِالْقيمَةِ. قَالَ الشَّيْخ أَبُو بكر الرَّازِيّ: لَا خلاف بَين الصَّدْر الأول وفقهاء الْأَمْصَار فِي أَنه حر الأَصْل، وَفِي أَنه مَضْمُون على الْأَب، إِلَّا أَن السّلف اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة ضَمَانه، فَذهب أَصْحَابنَا أَن عَلَيْهِ الْقيمَة بَالِغَة مَا بلغت، وَفِي الْهِدَايَة وَغَيرهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك، وَقد وَقعت الْحَادِثَة فِي زمن الصَّحَابَة رضي الله عنهم فبينوا مَا تعلق بهَا من الْأَحْكَام، وسكتوا عَن تَقْوِيم مَنَافِع الْوَلَد ليَأْخُذ الْمُسْتَحق قيمتهَا كَمَا يَأْخُذ قيمَة الْوَلَد، وَقد جَاءَ طَالبا لحكم الْحَادِثَة غير عَالم بِجَمِيعِ مَاله وهم عالمون بِهِ، فسكوتهم هَذَا (يُفِيد عدم تَقْوِيم الْمَنَافِع) لِأَنَّهَا لَو كَانَت مُتَقَومَة فِي الشَّرْع مُسْتَحقَّة للْمولى للَزِمَ عَلَيْهِم ارْتِكَاب محرم، وَهُوَ كتمان حكم الله عِنْد وجوب بَيَانه. قَالَ الله تَعَالَى - {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} (وَمِنْه) أَي من الثَّانِي (سكُوت الْبكر) عِنْد اسْتِئْذَان الْوَلِيّ، أَو رَسُوله إِلَيْهَا فِي تَزْوِيجهَا من معِين مَعَ ذكر الْمهْر أَولا على اخْتِلَاف الْمَشَايِخ، أَو عِنْد بُلُوغهَا ذَلِك عَن الْوَلِيّ على الْأَصَح فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُفِيد الرِّضَا بِهِ بِدلَالَة حَالهَا من الرَّغْبَة فِي الزواج كَمَا هُوَ شَأْن النِّسَاء، وَعدم الْمَانِع عَن الرَّد، لِأَن الْحيَاء يمْنَعهَا عَن الْإِجَازَة لما فِيهَا من إِظْهَار الرَّغْبَة فِي الرِّجَال، لَا عَن الرَّد، بل الْحيَاء يَقْتَضِي الرَّد، لِأَن السُّكُوت لَا يَخْلُو عَن تَجْوِيز قلت سِيمَا إِذا علمت أَن سكُوت الْبكر رضَا، فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رضي الله عنها " قلت يَا رَسُول الله تستأمر النِّسَاء؟ قَالَ: نعم، قلت: إِن الْبكر تَسْتَحي فتسكت؟ فَقَالَ سكُوتهَا إِذْنهَا ". (وَفِي ادِّعَاء أكبر ولد من ثَلَاثَة بطُون أمته نفي لغيره) أَي وَمِنْهَا سُكُوته عَن دَعْوَة وَلدين من ثَلَاثَة بطُون أمته بعد دَعْوَة الْأَكْبَر، فَإِنَّهُ فِي ادِّعَاء الْأَكْبَر خَاصَّة نفي لَهما.

اعْلَم أَن الْفراش ثَلَاثَة: قوي، وَضَعِيف، ومتوسط، وَهِي فرَاش الْمَنْكُوحَة، وَالْأمة أم الْوَلَد، وَفِي الأول يثبت النّسَب بِغَيْر الدعْوَة، وَلَا يَنْفِي بنفيه إِلَّا بالملاعنة، وَفِي الثَّانِي لَا يثبت

ص: 84

بدون الدعوى، وفي الثالث يثبت بدونها، لكن ينفى بنفيه، فيرد حينئذ أن الأمة فيما نحن فيه قد صارت أم ولد بادعاء الأكبر، فأشار الجواب بقوله (ولا يلزم ثبوته) أي نسب غير الأكبر منه لما ذكرنا (لمقارنة النفي) أي نفي نسب غيره المفهوم من السكوت مع اقتضاء المقام عند السكوت لوجوب البيان عليه، خصوصا بعد بيان نسب الأكبر (الاعتراف بالأمومة) أي اعتراف المولى بكون الأمة أم ولد، وإنما قيد بثلاثة بطون، لأنها لو ولدتهم في بطن واحد بأن كان ما بين كل اثنين منهم ما دون ستة أشهر لكان اعترافه بأحدهم اعترافا بالباقي ضرورة.

(الثالث) من الأقسام الأربعة (اعتباره) أي اعتبار بيان الضرورة (لدفع التغرير) أي لضرورة دفع وقوع الناس في الغرور (كدلالة سكوته) أي المولى (عند رؤية عبده يبيع) له أو لغيره بإذنه بيعا صحيحا أو فاسدا، ويشتري ما لم تتعلق به الحاجة المعتادة كالخبز واللحم (عن النهي) متعلق بسكوته: أي نهي العبد ذلك (على الإذن) في التجارة متعلق بالدلالة، لعلمه بأن الناس إذا رأوا عبده يبيع وسكت عنه يستدلون بذلك على الإذن، فلا يمتنعون عن معاملته، ويفضي ذلك إلى ضررهم عند لحوق الدين بتأخر أدائه إلى وقت العتق، فالسكوت مع علمه بذلك دليل الإذن والتزام ما يترتب على ذلك التصرف، فإن المؤمن لا يرضى بضرر الناس من جهته، قال صلى الله عليه وسلم "من غشنا فليس منا"، ثم هذا مذهب علمائنا الثلاثة، وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا يكون حجة لاحتمال أن يكون سكوته لفرط الغيظ وقلة المبالاة بناء على أنه محجور شرعا، والمحتمل لا يكون حجة. قلنا ترجح جانب الرضا، لأن المعروف نهيه إذا لم يرض (وسكوت الشفيع) أي وكدلالة سكوت الشفيع عن طلب الشفعة بعد علمه بالبيع على إسقاطها لضرورة دفع الغرور عن المشتري بتصرفه في الدار بهدم وبناء وزيادة ونقص بظن أنه لا غرض للشفيع فيها، والطلب فيها ثلاثة: طلب مواثبة بأن يطلبها كما علم بالبيع سواء كان عنده أحد أو لا من غير توقف عند أكثر المشايخ، وإلى آخر مجلس علمه عند غيرهم، وطلب تقرير بالإشهاد على البائع إن كانت في يده، أو على المشتري، أو عند العقار، وإظهار أنه طلبها قبل ذلك ويطلبها الآن، وقوله اشهدوا على ذلك، ومدته مقدرة بتمكنه منه، وطلب خصومة، وتملك بالمرافعة إلى القاضي وطلب القضاء، واتفقوا على أنه لا يبطل بمجرد السكوت، وقيل يبطل بالتأخير شهرا بلا عذر، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يبطل أبدا وعليه الفتوى، فالمراد ههنا سكوته عن الأولين.

(الرابع) بيان الضرورة التي هي دلالة السكوت (الثابت ضرورة الطول) مفعول له للثبوت، لأن علة تحقق السكوت عن ذكر ما يدل عليه إنما هو ضروريته للاحتراز عن طول

ص: 85

الكلام، فالفعل المعلل هو الثبوت وفاعله السكوت، والضرورة فعل قائم به فوجد شرط نصب المفعول له، وهو كونه فعلا لفاعل الفعل المعلل (فيما تعورف) ظرف للثبوت يعني لا يثبت في كل مقام سكت فيه عن ذكر شيء مخافة الطول، بل فيما تعورف في عرف اللغة السكوت عند ضرورة الطول كالسكوت عن مميز عدد عطف عليه عدد مفسر كمائة وثلاثة أثواب، أو عطف عليه ما يدل على جنس يصلح تفسيرا للمعطوف عليه (كمائة ودرهم أو ودينار أو وقفيز) من بر مثلا: أي مائة درهم ودرهم، ومائة دينار ودينار، ومائة قفيز من بر وقفيز منه، فالسكوت عن مميز هذه عرفا يدل على أنه من جنس ما عطف عليها (بخلاف) مائة (وعبد) أو مائة (وثوب) فإنه تعورف السكوت عن مميز عدد عطف عليه الدرهم والدينار، وما كان مقدارا كالمكيل والموزون، وما تعورف في الأخيرين، وعلله التفتازاني بعد مشابهة العبد والثوب العدد الذي تعورف فيه خصوصا بعد قوله: له علي، فإن موجبه الثبوت في الذمة، ومثلهما لا يثبت في الذمة إلا في السلم للضرورة، ثم إن الشافعي رحمه الله يوافقنا في أن البيان قد يكون بالسكوت لضرورة الطول، ويخالفنا في بناء هذه المسائل عليه، لأن العطف مبناه على التغاير، ومبنى التفسير على الاتحاد، على أنه لو كان بيانا في مائة ودرهم لكان بيانا في مائة وعبد، وهو منتف بالاتفاق، وقد عرفت الفرق آنفا.

(واللفظية) أي الدلالة اللفظية أيضا أربعة أقسام (عبارة وإشارة ودلالة واقتضاء) وجه الضبط إما ثابتة بنفس اللفظ أو لا، والأولى إما مقصودة وهي العبارة أو لا، وهي الإشارة، والثانية إن فهم مدلولها لغة فهي الدلالة، وإلا فإن توقف عليه صدق اللفظ أو صحته فهو الاقتضاء، وإلا فهي من التمسكات الباطلة (وباعتباره) أي هذا التقسيم (ينقسم اللفظ إلى دال بالعبارة إلى آخره) أي ودال بالإشارة، ودال بالدلالة، ودال بالاقتضاء (فعبارة النص: أي اللفظ) فسر لئلا يتوهم أن المراد ما يقابل الظاهر كما سيشير إليه، ومعنى اللفظ المفهوم به المعنى حقيقة أو مجازا، والعبارة لغة تفسير الرؤيا، مأخوذ من العبر، جانب النهر، يقال عبرت النهر: أي قطعته إلى الجانب الآخر، كأن عابر الرؤيا بالحركة الفكرية يعبر من جانب إلى جانب، وسمي هذا النوع به لأنه يعبر ما في الضمير الذي هو مستور (دلالته) أي اللفظ (على المعنى) حال كونه (مقصودا أصليا) من ذكره (ولو) كان ذلك المعنى (لازما) لما وضع له، ولو بالمعنى الأعم (وهو) أي كون المعنى مقصودا أصليا من ذكر لفظه هو (المعتبر عندهم) أي الحنفية (في النص) المقابل للظاهر (أو) دلالته على المعنى حال كونه مقصودا (غير أصلي) من ذكره (وهو) كون المعنى مقصودا غير أصلي هو (المعتبر) عندهم (في الظاهر كما سيذكر)

ص: 86

كل مِنْهُمَا فِي التَّقْسِيم الثَّانِي (ففهم إِبَاحَة النِّكَاح وَالْقصر على الْعدَد) أَي الْأَرْبَع عِنْد اجتماعهن فِي حق الْحر (من آيَة - {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} - (من الْعبارَة) لِأَنَّهُمَا مقصودان من اللَّفْظ، وَإِن كَانَ الأول غير أُصَلِّي كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَإِن كَانَت) أَي الْآيَة (ظَاهرا فِي الأول) أَي إِبَاحَة النِّكَاح، لِأَن الْمَقْصُود بالإفادة بالْكلَام أَصَالَة إِنَّمَا هُوَ بَيَان الْعدَد، والسياق لَهُ لَا لنَفس الْحل، لِأَنَّهُ عرف من غَيرهَا قبل نُزُولهَا، وَفِي الْعبارَة مُسَامَحَة، لِأَن الْفَهم الْمَذْكُور من مَدْلُول الْعبارَة، لَا مِنْهَا، وَيجوز أَن يكون من للابتداء لَا للتَّبْعِيض (وَكَذَا حُرْمَة الرِّبَا وَحل البيع والتفرقة) بَين البيع والربا بِالْحلِّ وَالْحُرْمَة من آيَة، {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} من عبارَة النَّص، وَإِن كَانَت ظَاهرا فِي الْأَوَّلين نصا فِي التَّفْرِقَة، لِأَن سياقها لإنكار تَسْوِيَة الْكفَّار بَينهمَا وَبَيَان الْفرق وَإِبْطَال قياسهم الْمَفْهُوم من قَوْلهم: إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا (والتفرقة لَازم مُتَأَخّر) لمسمى اللَّفْظ فَيصح جعله من الْعبارَة، وَبِخِلَاف الْمُتَقَدّم فَإِنَّهُ من الِاقْتِضَاء، وَذَلِكَ لِأَن الْمُتَأَخر كالمعلول، والمتقدم كالعلة، وَدلَالَة الْعلَّة على الْمَعْلُول مطردَة بِخِلَاف الْعَكْس كَمَا بَين فِي مَوْضِعه (وَلذَا) أَي وَلِأَن الْمَعْنى العباري يكون لَازم مَا وضع لَهُ (لم يُقيد بالوضعي) أَرَادَ بالوضعي هَهُنَا بِقَرِينَة الْمقَام مَا هُوَ عين الْمَوْضُوع لَهُ أَو جزؤه كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ، وَإِن كَانَ مَا سبق فِي تَعْرِيف الوضعية يعم اللَّازِم أَيْضا (و) قد (يُقَال) فِي تَعْرِيفهَا كَمَا قَالَ فَخر الْإِسْلَام وَمن تبعه (مَا سيق لَهُ الْكَلَام) قَالَ صَاحب الْكَشَّاف وَغَيره (وَالْمرَاد) مَا سيق لَهُ (سوقا أَصْلِيًّا أَو غير أُصَلِّي وَهُوَ) أَي غير الْأَصْلِيّ (مُجَرّد قصد الْمُتَكَلّم بِهِ) أَي بِاللَّفْظِ (لإِفَادَة مَعْنَاهُ) ليتوسل بِهِ إِلَى أَدَاء مَا هُوَ الْمَقْصُود بِالذَّاتِ من السِّيَاق (وَلذَا) أَي لكَون المُرَاد السُّوق الْأَعَمّ (عممنا الدّلَالَة للعبارة فِي الْآيَتَيْنِ) فِيهِ تَعْرِيض لصدر الشَّرِيعَة حَيْثُ جعل الدّلَالَة على التَّفْرِقَة بَين البيع والربا عبارَة لكَونهَا مَقْصُودَة بِالسوقِ، وعَلى الْحل وَالْحُرْمَة إِشَارَة لعدم كَونهمَا مقصودين، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن تَسْمِيَة مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ صَرِيحًا بِالْإِشَارَةِ لَا يَخْلُو عَن بعد (ودلالته) أَي اللَّفْظ (على مَا لم يقْصد بِهِ أصلا) لَا أَصَالَة وَلَا تبعا (إِشَارَة) كانتقال الْملك وَوُجُوب التَّسْلِيم فِي البيع وَحُرْمَة الِانْتِفَاع وَوُجُوب رد الزَّائِد فِي الرِّبَا (وَقد يتَأَمَّل) أَي الْمَعْنى الإشاري أَصله يتَأَمَّل فِيهِ حذف الْجَار، وأوصل الضَّمِير إِلَى الْفِعْل مستترا وَالْمعْنَى قد يَقع التَّأَمُّل فِي اسْتِخْرَاج الْمَعْنى الإشاري من اللَّفْظ، قَالَ صَاحب الْكَشَّاف: فَكَمَا أَن إِدْرَاك مَا لَيْسَ بمقصود بِالنَّصِّ مَعَ الْمَقْصُود بِهِ من قُوَّة الْأَبْصَار فهم مَا لَيْسَ بمقصود من الْكَلَام فِي ضمن الْمَقْصُود بِهِ من قُوَّة الذكاء، وَلِهَذَا يخْتَص بفهم الْإِشَارَة الْخَواص (كالاختصاص) أَي اخْتِصَاص الْوَلَد (بالوالد نسبا) أَي من حَيْثُ

ص: 87

نسبه، فَإِنَّهُ مَفْهُوم إِشَارَة (من آيَة:{وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ} (دون الْأُم) لِأَن اللَّام للاختصاص، فَيجب كَون الْوَالِد أخص بِالْوَلَدِ من سواهُ فِي الْولادَة الَّذِي هُوَ الانتساب، وَهُوَ غير مَقْصُود مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود من سوقها إِيجَاب النَّفَقَة وَالْكِسْوَة على الْوَلَد فَإِن قلت قد سبق أَن السُّوق الْأَصْلِيّ وَغَيره، والاختصاص لكَونه معنى اللَّام مسوق لَهُ تبعا قلت معنى اللَّام الِاخْتِصَاص مُطلقًا، لَا من حَيْثُ النّسَب فَتَأمل، وَهَذَا مِثَال لما يتَأَمَّل فِيهِ لغموضه، وَلذَا خَفِي على كثير من الأذكياء (فَيثبت أَحْكَام) متفرعة على الِاخْتِصَاص الْمَذْكُور (من انْفِرَاده) أَي الْأَب (بِنَفَقَتِهِ) أَي الْوَلَد كَالْعَبْدِ لما كَانَ مُخْتَصًّا بالمولى لَا يُشَارِكهُ أحد فِي نَفَقَته، لِأَن غرمه على من لَهُ غنمه، فَأصل النَّفَقَة وُجُوبه بِعِبَارَة النَّص، والانفراد بإشارته (والإمامة والكفاءة وعدمهما) أَي الْإِمَامَة والكفاءة، يَعْنِي من تِلْكَ الْأَحْكَام أَهْلِيَّة الْوَلَد للْإِمَامَة الْكُبْرَى وكفاءته للقرشية مثلا، إِذا كَانَ الْأَب أَهلا وكفؤا لَهما: أَي من حَيْثُ النّسَب فَلَا يرد الْوَلَد الَّذِي لَا يستجمع شرائطها لم يَتَعَدَّ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِذا لم يكن الْأَب أَهلا وكفؤا لم يكن الْوَلَد أَهلا وكفؤا (مَا لم يُخرجهُ الدَّلِيل) اسْتثِْنَاء معنى: أَي يثبت جَمِيع الْأَحْكَام الَّتِي يقتضيها الِاخْتِصَاص الْمَذْكُور إِلَّا مَا أخرجه الدَّلِيل عَن أَن يثبت، فَلَا يثبت حُرِّيَّته ورقه بتبعية الْأَب لكَونه تَابعا للْأُم فيهمَا، لما ورد فيهمَا من الْأَثر (وَزَوَال ملك المُهَاجر) من دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام مَعْطُوف على الِاخْتِصَاص، فَهُوَ مِثَال آخر لما يتَأَمَّل فِيهِ (عَن المخلف) مُتَعَلق بالزوال: أَي عَمَّا خَلفه فِي دَار الْحَرْب باستيلاء الْكفَّار واحرازهم إِيَّاه (من لفظ الْفُقَرَاء)، فِي قَوْله تَعَالَى - {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ} - وَالْجَار مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ صفة الزَّوَال: أَي الْمَفْهُوم إِشَارَة مِنْهُ، وَالْكَلَام إِنَّمَا سيق لبَيَان اسْتِحْقَاق الْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة سَهْما من الْغَنِيمَة، وَلم يقْصد بِهِ زَوَال ملكهم عَنهُ أصلا، لكنه يفهم بِإِشَارَة لفظ الْفُقَرَاء، فَإِن الْفَقِير لُغَة من لَهُ مَا يَكْفِي عِيَاله، أَو من يجد الْقُوت، والمسكين من لَا شَيْء لَهُ، وَقيل المعتر الْمُحْتَاج، والمسكين من أذله الْفقر وَغَيره، وَقيل هُوَ أخس حَالا من الْفَقِير، وَقيل هما سَوَاء، وَشرعا من لم يملك النّصاب، وكل وَاحِد من الْمعَانِي الْمَذْكُورَة يلْزمه زَوَال الْملك، لِأَنَّهُ لَو لم يزل لصدق عَلَيْهِم الْأَغْنِيَاء لَا الْفُقَرَاء، لِأَن الْغَنِيّ يتَحَقَّق بِملك المَال وَإِن بَعدت يَده عَنهُ، وَكَذَا ذكر ابْن السَّبِيل مُقَابلا للْفُقَرَاء فِي النُّصُوص، وَاتفقَ على عدم دُخُوله فيهم عَامَّة الْعلمَاء فَإِن قيل هُوَ اسْتِعَارَة شبهوا بالفقراء لاحتياجهم، وَانْقِطَاع أطماعهم عَن أَمْوَالهم بِقَرِينَة إِن الله لم يَجْعَل للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا، وَالْمرَاد السَّبِيل الشَّرْعِيّ لَا الْحسي، وبقرينة إِضَافَة الديار وَالْأَمْوَال إِلَيْهِم أُجِيب بِأَن الأَصْل الْحَقِيقَة، وَنفي السَّبِيل بِاعْتِبَار أَنهم لَا يملكُونَ أنفس الْمُؤمنِينَ

ص: 88

بالاستيلاء، وإضافة الديار والأموال إليهم مجازيا باعتبار ما كان، لأن في حملها على الحقيقة، وحمل الفقراء على المجاز مصيرا إلى الخلف، قبل تعذر الأصل، على أن المعتبر في الحقيقة حالة اعتبار الحكم من الثبوت، لا حالة التكلم والإثبات، فإضافة الديار والأموال إليهم حقيقة، لأنها كانت ملكا لهم حالة الإخراج (والوجه أنه) أي الزوال المذكور دلالة الآية عليه (اقتضاء) لا إشارة (لأن صحة إطلاق الفقر) أي الفقير على المهاجرين المخلفين أموالهم (بعد ثبوت ملك) تلك (الأموال) لهم (متوقفة على الزوال) أي زوال ملكهم عنها، والإشارة دلالة على ما لم يقصد باللفظ، ولم يتوقف عليه صحة المنطوق، وإنما اعتبر هذا القيد فيها لكونها مقابلة للاقتضاء المعتبر فيه ذلك (ودلالة لفظ الثمن في الحديث على انعقاد بيع الكلب)، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إن مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجام، وحلوان الكاهن من السحت" رواه ابن ماجه في صحيحه، وفي رواية لمسلم "خبيث" وحلوان الكاهن أجرته، كان مقتضى العطف على الاختصاص أن يقول وانعقاد بيع الكلب من لفظ الثمن في الحديث، لكنه لما كان الكلام في بيان الدلالات، وكان اللائق بذلك التمثيل بالدلالة، أراد أن يشير إلى أن لفظ الدلالة فيما سبق مقدرة: أي كدلالة الاختصاص، وزوال ملك المهاجرين الحاصلة من كذا وكذا من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول فيما سبق، وإلى الفاعل ههنا، ووجه الدلالة أن لفظ الثمن موضوع لغة وشرعا لما يلزمه البيع تعقلا وتحققا، وهو مال يقصد به بدله عند مبادلة المال بالمال، وهي معنى البيع. فإن قلت المنع عن أخذ ثمن الكلب لا يدل على صحة بيعه. قلت: المنع عن الشيء فرع إمكانه، ولا يمكن أن يكون له ثمن من غير انعقاد بيعه، وذلك لأن الممتنع لا يحتاج إلى المنع، لا يقال يجوز أن يكون إطلاقه مجازيا، لأن الأصل هو الحقيقة، ولا شك أن الانعقاد المذكور غير مقصود من اللفظ، بل هو مدلول التزامي، فيكون دلالته إشارة (و) دلالة (آية أحل لكم ليلة الصيام) الرفث إلى نسائكم (على) جواز (الإصباح جنبا) لأنها دلت على جواز الجماع إلى آخر جزء من الليل، وجواز الملزوم يستلزم جواز اللازم (وظهر) من المعاني المذكورة في الأمثلة المدلولة إشارة (أنها) أي الإشارة الدلالة (الالتزامية وإن خفي) اللزوم واحتيج إلى تأمل، وفي بعض النسخ أنها الالتزامية للعبارة، فإن صح فالمعنى للدال عبارة، والمراد بالعبارة المعنى المشهور (فإن لم يرد سواه) أي سوى اللازم المفهوم من الالتزامية باللفظ الدال عليه التزاما (فكان) اللفظ الذي أريد به (مجازا) لاستعماله في غير ما وضع له، والفاء للعطف على الشرطية، أو لمجرد السببية، والجزاء قوله (لزم) حينئذ كون دلالة اللفظ عليه (عبارة) ويجوز أن يكون المفعول لزم بتضمين معنى الصيرورة كقولهم يتم التسعة بهذا

ص: 89

عشرة (لأنه) أي اللازم المذكور، وهو (المقصود بالسوق) حينئذ سواء كان سوقا أصليا أو غير أصلي (وكذا في الجزء) يعني إذا لم يرد باللفظ سوى جزء ما وضع له، فكان مجازا فيه لزم أن يكون دلالة اللفظ عليه عبارة، فالمعنى الإشاري قد يكون جزء الموضوع له، وقد يكون لازمه المتأخر كانعقاد البيع المذكور، وقيد المتأخر احتراز عن اللازم المتقدم، فإن الدلالة عليه اقتضاء كما سيجيء (وإن دل) اللفظ (على) ثبوت (حكم منطوق) بالإضافة: أي حكم ما نطق به باستعمال اللفظ فيه (لمسكوت) متعلق بالثبوت، وهو ما لم ينطق به، ويقصد باللفظ (لفهم مناطه) تعليل للدلالة، يعني إنما يدل على ثبوته للمسكوت، لأنه يفهم السامع منه علة ذلك الحكم، وهي موجودة في المسكوت، ثم أفاد ذلك الفهم (بمجرد فهم اللغة) أي الفهم الحاصل من العلم بوضع اللفظ لغة من غير حاجة إلى اجتهاد وقياس، فخرج ما دل على ثبوته لفهم مناطه بطريق القياس، ثم إن جمهور مشايخنا رحمهم الله على أن الدلالة ليست من القياس، ومنهم من قال إنها نوع منه، وهو نص الشافعي رحمة الله عليه في رسالته، واختيار إمام الحرمين، والرازي، وسموها قياسا جليا. قال المحقق التفتازاني ما حاصله إن الثابت بها فوق الثابت بالقياس، لأن المناط هنا يدركه كل من يعرف اللغة، فكأنه ثابت بنفس النظم ويستدل على مغايرتهما بأن الأصل في القياس لا يكون جزءا من الفرع إجماعا، وهنا قد يكون، فإن قوله لا تعطه ذرة يدل على منع ما فوقها، والذرة جزء منه، وبأنها ثابتة قبل شرع القياس، فإن كل أحد يفهم من لا تقل له أف ألا تضربه ولا تشتمه سواء علم شرعية القياس أو لا، وبأن النافين للقياس قائلون به، والنزاع لفظي يرجع إلى الخلاف في تعين مسمى القياس (فدلالة) جزاء الشرط: أي فدلالة للفظ على ما ذكر تسمى دلالة، وإنما غير الأسلوب، ولم يقل ودلالته على حكم إلى آخره دلالة، لأنه لا يخلو عن اللغو صورة (كان) أي سواء كان السكوت (أولى) بحكم المنطوق منه باعتبار تحقق المناط فيه على الوجه الأتم (أو لا) يكون أولى بأن يكونا متساووين (كدلالة) قوله تعالى ({لا تقل لهما أف} على تحريم الضرب) فحكم المنطوق التحريم المستفاد من النهي الثابت للمنطوق الذي هو التأفيف، وكل من يعرف اللغة يعرف أن النهي عنه لعلة الأذى، فيفهم منه حرمة الضرب والشتم والمسكوت ههنا، وهو الضرب والشتم أولى بالحرمة لوجود العلة فيه أتم، وأف: صوت يدل على تضجر المتكلم، أو اسم الفعل الذي هو أتضجر، وأتبرم (وأما) دلالة اللفظ (على مجرد لازم المعنى) من غير اعتبار ما ذكر من كونه حكم منطوق لمسكوت إلى آخره (كدلالة الضرب على الإيلام) كما ذكره فخر الإسلام ومن تبعه، فإن الضرب إذا ذكر في

ص: 90

مقَام التَّأْدِيب والتعذيب يدل على الإيلام، فَمن حلف لَا يضْرب كَانَ حَالفا أَن لَا يؤلم، فَيحنث بالخنق، أَو العض، وَمَا فِيهِ إيلام كالضرب (فَغير مَشْهُور) كَونهَا من دلَالَة النَّص (و) إِن دلّ اللَّفْظ (على مسكوت يتَوَقَّف صدقه) أَي الْمَنْطُوق (عَلَيْهِ) أَي على ذَلِك الْمَنْطُوق، واعتباره فِي الْكَلَام (كرفع الْخَطَأ) فِي الحَدِيث المتداول بَين الْفُقَهَاء " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان "، وَلَا يضر عدم العثور بروايته بِهَذَا اللَّفْظ، فَإِنَّهُ روى بِمَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا " رفع الله عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ ". وَقيل رِجَاله ثِقَات، وَيجوز أَن يقْرَأ بِلَفْظ الْمصدر الْمُضَاف مشارا بِهِ إِلَى الرِّوَايَة الصَّحِيحَة، هَذَا وَلَا شكّ أَن ذَات الْخَطَأ غير مَرْفُوع لِكَثْرَة وُقُوعه، فَلَو لم يرد حكم الْخَطَأ أَو إثمه لم يكن الْكَلَام صَادِقا لعدم رفع ذَاته (أَو صِحَّته) مَعْطُوف على صدقه: أَي يتَوَقَّف صِحَة الْمَنْطُوق على اعْتِبَار ذَلِك الْمَسْكُوت كَمَا فِي: أعتق عَبدك عني بِأَلف فَإِنَّهُ لَو لم يكن المعني بِعْ عَبدك مني بِأَلف، وَكن وَكيلِي فِي إِعْتَاقه لم يَصح هَذَا الْكَلَام وَلم يستقم (على مَا سنذكر) تَفْصِيله فِي مسئلة الْمُقْتَضى (اقْتِضَاء) أَي لدلَالَة على الْمَسْكُوت المتوقف عَلَيْهِ صدق الْمَنْطُوق، أَو صِحَّته اقْتِضَاء، وَوجه التَّسْمِيَة ظَاهر فَإِن قلت كل وَاحِد كَمَا دلّ عَلَيْهِ لفظ دلَالَة أَو اقْتِضَاء، إِمَّا مَقْصُود مِنْهُ أَولا، فعلى الأول ينْدَرج تَحت الْعبارَة، وعَلى الثَّانِي تَحت الْإِشَارَة، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ يلْزم كَون قسم الشَّيْء قسيما لَهُ قلت لَيْسَ شَيْء مِنْهُمَا مَقْصُودا مِنْهُ، وَلَا ينْدَرج تَحت الْإِشَارَة، لِأَن المُرَاد مِنْهَا مَا لم يكن بطرِيق الدّلَالَة والاقتضاء لقَرِينَة التقابل (والشافعة قسموها) أَي الدّلَالَة الوضعية اللفظية (إِلَى مَنْطُوق دلَالَة اللَّفْظ) عطف بَيَان لمنطوق إِن جر على مَا جوزه الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى - {مقَام إِبْرَاهِيم} - إِنَّه عطف بَيَان لآيَات، أَو بدل مِنْهُ، وَخبر مَحْذُوف إِن رفع، ومفعول أَعنِي إِن نصب (فِي مَحل النُّطْق) ظرف للدلالة بِاعْتِبَار الْمَدْلُول، فاللفظ إِذا دلّ على حَال مَنْطُوق يُقَال دلَالَته فِي مَحل النُّطْق، وَإِذا دلّ على حَال مسكوت يُقَال دلَالَته لَيست فِي مَحل النُّطْق، لِأَن بَيَان حَال الْمَنْطُوق حقيق بِأَن يَقع النُّطْق فِيهِ وَمحل لَهُ، وَبَيَان حَال غَيره حقيق بِأَن يسكت عَنهُ (على) ثُبُوت (حكم الْمَذْكُور وَإِن) كَانَ ذَلِك الحكم (غير مَذْكُور كفى السَّائِمَة) أَي كدلالة قَوْله فِي السَّائِمَة (مَعَ قرينَة الحكم) وَهِي وُقُوعه فِي جَوَاب من قَالَ فِي الْغنم المعلوفة الزَّكَاة أم فِي السَّائِمَة على حكم غير مَذْكُور، وَهِي وجوب الزَّكَاة فِي مَحل النُّطْق لكَونه بَيَان حَال الْمَنْطُوق، وَهُوَ السَّائِمَة، وَإِضَافَة الْقَرِينَة إِلَى الحكم من قبيل إِضَافَة الدَّال إِلَى الْمَدْلُول.

(وَمَفْهُوم) مَعْطُوف على مَنْطُوق (دلَالَته) وَالْكَلَام فِيهِ كَمَا مر (لَا فِيهِ) أَي لَا فِي مَحل النُّطْق (على) ثُبُوت (حكم مَذْكُور لمسكوت) لم يذكر فِي الْكَلَام (أَو نَفْيه) أَي الحكم الْمَذْكُور (عَنهُ) أَي عَن

ص: 91

الْمَسْكُوت سَوَاء كَانَ الحكم الْمَذْكُور إِيجَابا أَو سلبا (وَقد يظْهر) من كَلَام الْقَوْم (أَنَّهُمَا) أَي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم (قِسْمَانِ للمدلول): قَالَه الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: جَعلهمَا من أَقسَام الدّلَالَة محوج إِلَى تكلّف عَظِيم فِي تَصْحِيح عِبَارَات الْقَوْم، نقل عَن المُصَنّف أَن كلمة قد هَهُنَا للتكثير، وَهِي قد تسْتَعْمل لذَلِك كَمَا قَالَه سِيبَوَيْهٍ وَغَيره (فالدلالة حِينَئِذٍ دلَالَة الْمَنْطُوق، وَدلَالَة الْمَفْهُوم لأنفسهما) يَعْنِي حِين جعل الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم قسمي الْمَدْلُول، يُقَال فِي التَّقْسِيم إِلَيْهِمَا الدّلَالَة الوضعية: أما دلَالَة الْمَنْطُوق بِأَن كَانَ مدلولها، وَأما دلَالَة الْمَفْهُوم كَذَلِك (والمنطوق) قِسْمَانِ (صَرِيح) هُوَ (دلَالَته) أَي اللَّفْظ الناشئة (عَن) مُجَرّد (الْوَضع وَلَو) كَانَت تِلْكَ الدّلَالَة (تضمنا) فانحصر الصَّرِيح فِي الْمُطَابقَة والتضمن، وَخرجت الالتزامية، لِأَنَّهَا لَيست عَن مُجَرّد الْوَضع، بل لَا بُد فِيهَا من علاقَة اللُّزُوم أَيْضا (وَغَيره) أَي غير الصَّرِيح وَهُوَ دلَالَته (على مَا يلْزم) أَي مَا وضع لَهُ (وينقسم) غير الصَّرِيح (إِلَى) الدّلَالَة على لَازم (مَقْصُود من اللَّفْظ) يتَعَلَّق قصد الْمُتَكَلّم بِهِ وَإِرَادَة إِفَادَة اللَّفْظ (فتنحصر) الدّلَالَة على اللَّازِم الْمَقْصُود بالاستقراء (فِي الِاقْتِضَاء كَمَا ذكرنَا آنِفا) أَي من سَاعَة، وَفِي أول وَقت يقرب بِنَا، يَعْنِي قَوْله وعَلى مسكوت يتَوَقَّف صدقه عَلَيْهِ كرفع الْخَطَأ أَو صِحَّته (والإيماء) وَهُوَ دلَالَته على لَازم مَقْصُود بِسَبَب (قرانه) أَي اللَّفْظ (بِمَا) أَي بِشَيْء (لَو لم يكن هُوَ) أَي ذَلِك الشَّيْء (عِلّة لَهُ) أَي لمدلوله (كَانَ) ذَلِك الْقرَان (بَعيدا) عَمَّا هُوَ الْمُتَعَارف فِي المحاورات، لكَون الْمُتَعَارف فِي المحاورات إِرَادَة علية مَا قرن بِهِ لَهُ (وَيُسمى) هَذَا الْقسم الْمُسَمّى بِالْإِيمَاءِ (تَنْبِيها) أَيْضا لِأَنَّهُ كَمَا فِيهِ إِيمَاء إِلَى علية ذَلِك الشَّيْء بِسَبَب ذَلِك الْقرَان كَذَلِك فِيهِ تَنْبِيه عَلَيْهَا أَيْضا (كقران) قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم (أعتق) رَقَبَة (بواقعت) أَي بقول الْأَعرَابِي " واقعت فِي نَهَار رَمَضَان يَا رَسُول الله " كَذَا ذكر الحَدِيث فِي كتب الْأُصُول، وَالْمَذْكُور فِي الصِّحَاح السِّتَّة عَن أبي هُرَيْرَة " أَتَى رجل النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَلَكت، قَالَ مَا شَأْنك؟ قَالَ: وَقعت على امْرَأَتي فِي رَمَضَان، قَالَ: فَهَل تَجِد رَقَبَة تعتقها؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل تَسْتَطِيع أَن تطعم سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا، قَالَ اجْلِسْ، فَأتى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بعرق فِيهِ تمر، فَقَالَ: تصدق بِهِ، قَالَ: عَليّ أفقر مني يَا رَسُول الله؟ فوَاللَّه مَا بَين لابتيها يُرِيد الحرتين أهل بَيت أفقر من أهل بَيْتِي، فَضَحِك عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَت ثناياه، وَفِي لفظ أنيابه، وَفِي لفظ نَوَاجِذه، ثمَّ قَالَ خُذْهُ فأطعمه أهلك " ذكره المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة، فقران قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الْجَواب وَقعت إِلَى آخِره يُفِيد علية الوقاع للاعتاق، فَإِن غَرَض السَّائِل بَيَان مُوجب فعله (وَغير مَقْصُود) عطف على مَقْصُود، فَهُوَ الْقسم الثَّانِي

ص: 92

من غير الصريح (وهو الإشارة، ويقال له) أيضا (دلالة الإشارة، وكذا ما قبله) يعني يقال له دلالة اقتضاء، ودلالة الإيماء (كدلالة مجموع) قوله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)، وقوله تعالى (وفصاله في عامين) على (أن أقل) مدة (الحمل ستة أشهر) لأن المراد أن مدة الحمل والفصال الذي هو الرضاع التام المنتهي إلى الفطام من تسمية الشيء باسم غايته ثلاثون شهرا، وقد حط عنه الفصال حولان لقوله -وفصاله في عامين-، فلم يبق الحمل إلا ستة أشهر.

والمقصود من الآية بيان ما تكابده الأم في تربية الولد مبالغة في التوصية بها، فما ذكر يفهم بطريق الإشارة. لا يقال لم لا يجوز أن يراد أن كل واحد من الحمل والفصال أكثر مدته ثلاثون. لأنه ينفيه قوله تعالى -والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة-، وعليه ما قيل في الآية دليل على أن مدة أكثر الرضاع سنتان كما هو قول الإمامين والأئمة الثلاثة. وقال الإمام: إن الثلاثين توقيت لكل على حدة إلا أنه وجد المنقص في مدة الحمل، وهو قول عائشة رضي الله عنها:"ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين قدر ما يتحول عمود المغزل"، وبقي مدة الفصال على ظاهرها، فلا يكون في الآية على هذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر لعدم التبعيض حينئذ، وفيه أنه يلزم حينئذ إبطال ما يدل عليه الكتاب بخبر الواحد فتدبر (و) دلالة (آية) أحل لكم (ليلة الصيام الرفث، على جواز الإصباح جنبا) وقد مر بيانه (وليس شيء منهما) أي حق كون أقل الحمل ستة، وجواز الإصباح جنبان (مقصودا باللفظ بل لزم) كل منهما (منه) أي من اللفظ كما بينا (وكدلالة) ما يعزى إليه صلى الله عليه وسلم في صفة النساء من أنه قال (تمكث) إحداهن (شطر عمرها لا تصلي) البيهقي أنه لم يجده وقال ابن الجوزي: لا يعرف، وعن النووي أنه باطل (على أن أكثر الحيض خمسة عشر) يوما كما هو مذهب الشافعي رحمه الله، وكذا أقل الطهر، لأن المراد بالشطر النصف (وثم) مناط الاستدلال، وهو كون المراد بالشطر النصف (لكن القطع بعدم إرادة حقيقة النصف به) أي بالشطر ههنا (لأن أيام الإياس والحبل والصغر من العمر) ولا حيض فيها (ومعتادة خمسة عشر لا تكاد توجد ولا يثبت حكم العموم) وهو الحكم بانتفاء الصلاة في نصف عمر كل امرأة (بوجوده) أي الحكم المذكور (في فرد نادر) إن سلم تحققه (واستعمال الشطر في طائفة من الشيء) أي بعض منه سواء كان نصفا أو لا (شائع) في الكلام كما في قوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام) في القاموس الشطر نصف الشيء وجزؤه، ومنه حديث الإسراء "فوضع شطرها" أي بعضها، والجهة انتهى، وتفسير ما في الآية بالبعض أنسب

ص: 93

بما ذهب إليه الشافعي في الاستقبال، وبالجهة أنسب بما ذهب إليه أصحابنا (ومكثت شطرا من الدهر فوجب كونه) أي المذكور، وهو طائفة من الشيء (المراد به) أي بالشطر (في المروي) لتعذر إرادة النصف مع شيوع إرادة البعض مطلقا، وقد استبان لك أن الصريح من المنطوق على اصطلاحهم يندرج في العبارة على اصطلاحنا، وغير الصريح منه إن كان مقصودا من اللفظ أحد قسميه، وهو الإيماء كذلك، والآخر هو الاقتضاء قسيم لها كما كان قسيما لها عندنا، وإذا لم يكن مقصودا منه فهو إشارة عندنا وعندهم (والمفهوم) ينقسم (إلى مفهوم موافقة) بالإضافة إلى المصدر لحصول فهم المدلول فيه بسبب موافقة المسكوت للمذكور في المناط، أو لموافقتهما في الحكم (وهو) أي مفهوم الموافقة (فحوى الخطاب) أي يسمى به، وفحوى الخطاب معناه، وذلك لأن مدلوله يفهم بمجرد الخطاب، مع أن اللفظ غير مستعمل فيه (ولحنه) أي ويسمى لحن الخطاب أيضا: أي معناه. قال الله تعالى -ولتعرفنهم في لحن القول-، واللحن قد يطلق على اللغة، وعلى الفطنة أيضا، والمناسبة في كل منهما ظاهرة (ما ذكرنا) من دلالة اللفظ على حكم منطوق لمسكوت يفهم مناطه بمجرد اللغة (من الدلالة) أي دلالة النص (إلا أن منهم) أي الشافعية (من شرط أولوية المسكوت بالحكم) من المذكور (ولا وجه له) أي لهذا الشرط (إذ بعد فرض فهم ثبوته) أي الحكم (للمسكوت كذلك) أي لفهم مناطه بمجرد اللغة (لا وجه لإهدار هذه الدلالة) غاية الأمر كون الاحتجاج بما فيه الشرط المذكور أقوى، عن الواسطي أن اشتراط الأولوية ظاهر المنقول عن الشافعي، وعليه يدل كلام أكثر أئمتنا، وطريقة الإمام الرازي وأتباعه أنه لا يشترط (وعبارتهم) أي الشارطين (تنبيه بالأدنى على الأعلى) مثل قوله تعالى -فلا تقل لهما أف- (وقلبه) أي بالأعلى على الأدنى (مثل) قوله تعالى -ومن أهل الكتاب من إن تأمنه (بقطنار) يؤده إليك- كعبد الله بن سلام: استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه، فإنه يدل على أنه إذا ائتمن على دينار يؤديه بالطريق الأولى (وقد يكتفى بالأول) وهو تنبيه بالأدنى على الأعلى كما فعله ابن الحاجب (على أن يراد بالأدنى مناسبة للحكم) اللام للتقوية، لا صلة المناسبة، يعني كونه أدنى باعتبار مناسبته للحكم في حد ذاته لا باعتبار دلالته على كمال المحكوم عليه في الحكم بعد ما أثبت (فالقنطار) في حد ذاته (أقل مناسبة بالتأدية من الدينار) لغلبة الشح على النفس في المال الكثير، والمانع عن التأدية دون القليل فإنه مبذول عادة (والدينار أقل مناسبة بعدمها) أي التأدية (منه) أي القنطار، فإذا ثبت الحكم مع وجود ما لا يناسبه، وهو القنطار المناسب لعدم التأدية لزم ثبوته مع وجود

ص: 94

مَا يُنَاسِبه، وَهُوَ الدِّينَار الْمُنَاسب بالتأدية (ولاعتبار الْحَنَفِيَّة) الْمَسْكُوت (الْمسَاوِي) للمنطوق فِي الحكم ومناطه (أثبتوا الْكَفَّارَة) على الْأكل فِي رَمَضَان من غير مُبِيح شَرْعِي، وَلَا شُبْهَة مُلْحقَة بِهِ (بعمد الْأكل كالجماع) أَي كَمَا أثبتها النَّص الْمَذْكُور فِي الْكتب السِّتَّة فِي الْجِمَاع الْعمد والمناط المستوي فِيهِ الْأكل، وَالْجَامِع تَفْوِيت ركن الصَّوْم اعتداء، وَإِنَّمَا حكمنَا بِكَوْنِهِ مناطا (لتبادر أَنَّهَا): أَي الْكَفَّارَة (فِيهِ) أَي الْجِمَاع (لتفويت الرُّكْن اعتداء).

وَمن أَسبَاب الْعلم بالمناط تبادره من النَّص، كَيفَ وَالْجِمَاع من حَيْثُ ذَاته لم يكن محرما؟ وَمَا ثمَّ إِلَّا كَونه مفوتا لركن الصَّوْم عمدا، وَلَا شكّ فِي مساواتهما فِي معنى التفويت، والركن فِي اللُّغَة الْجَانِب الْقوي، وَفِي الشَّرْع جُزْء الشَّيْء إِذا كَانَ لَهُ جزآن فَصَاعِدا وَإِلَّا فنفسه، وَالْمُصَنّف رحمه الله صرح فِي شرح الْهِدَايَة فِي الصَّوْم بِأَن رُكْنه وَاحِد، وَهُوَ الْكَفّ عَن كل مِنْهَا: أَي الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع. وَقَالَ فتساوت كلهَا فِي أَنَّهَا مُتَعَلق الرُّكْن لَا يفضل وَاحِد على أَخَوَيْهِ بِشَيْء فِي ذَلِك انْتهى، وَالْمرَاد بالاعتداء: الْعدوان وَالظُّلم بتعمد الْإِفْسَاد، وَقد يُقَال لَا، ثمَّ أَن الْمُتَبَادر مُجَرّد تَفْوِيت الرُّكْن، بل تفويته على نَفسه وعَلى غَيره مَعَ زِيَادَة خصوصيات جماعية مُوجبَة لكَمَال الْفَضِيلَة فَتدبر (وَلما انقسم) مَفْهُوم الْمُوَافقَة (إِلَى قَطْعِيّ) هُوَ مَا يكون فِيهِ التَّعْلِيل بِالْمَعْنَى، وَكَونه أَشد مُنَاسبَة للفرع قطعيين على مَا ذكره القَاضِي عضد الدّين وَالظَّاهِر أَنه مَبْنِيّ على رَأْي شارط الْأَوْلَوِيَّة وَإِلَّا يَكْفِي قَطْعِيَّة التَّعْلِيل بِالْمَعْنَى ووجوده بالمسكوت (كَمَا سبق) من الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة (وظني) وَهُوَ مَا فِيهِ أحد الْمَذْكُورين ظنيا (كَقَوْل الشَّافِعِي) رحمه الله (إِذا وَجَبت الْكَفَّارَة) وَهِي تَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة لمن قدر عَلَيْهِ، وَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين لمن لم يقدر (فِي) الفتل (الْخَطَأ). قَالَ النَّوَوِيّ رحمه الله الْعمد: قصد الْفِعْل والشخص بِمَا يقتل غَالِبا: جارح، أَو مثقل، فَإِن فقد قصد أَحدهمَا بِأَن وَقع عَلَيْهِ فَمَاتَ، أَو رمى شَجَرَة فَأَصَابَهُ فخطأ (وَغير الْغمُوس) أَي وَوَجَبَت الْكَفَّارَة، وَهِي إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا يطعم الشَّخْص أَهله، أَو كسوتهم، أَو تَحْرِير رَقَبَة فِي حق المستطيع، وَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام إِذا يسْتَطع فِي الْيَمين المنعقدة، وَهِي الْحلف على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل ليفعله أَو يتْركهُ بِالنَّصِّ على ذَلِك (ففيهما) أَي فوجوب الْكَفَّارَة فِي الْقَتْل الْعمد الْمَفْهُوم بِذكر مُقَابِله، والغموس وَهُوَ الْحلف على أَمر حَال، أَو مَاض يتَعَمَّد فِيهِ الْكَذِب (أولى) من وُجُوبهَا فِي الْأَوَّلين (لفهم الْمُتَعَلّق) تَعْلِيل لقَوْل الشَّافِعِي رحمه الله: أَي قَالَ ذَلِك، لِأَنَّهُ فهم من النصين الدالين على وجوب التَّعَلُّق فِي الْمَنْطُوق أَن الحكم فيهمَا مُتَعَلق (بالزجر) على ارتكابهما تعلق الْمَعْلُول بعلته، وَأَن الْعمد والغموس أَشد مُنَاسبَة بِهَذِهِ الْعلَّة، فَهُوَ أولى بالحكم، وَذَلِكَ لِأَن احتياجهما إِلَى الزّجر أَكثر،

ص: 95

وَهَذَا الْفَهم ظَنِّي لعدم مَا يُفِيد الْقطع بِهِ، وَمن ثمَّ لم يُوَافقهُ أَصْحَابنَا، بل ذَهَبُوا إِلَى أَن المناط فيهمَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لَا بتدارك مَا فرط) عطف على قَوْلهمَا بالزجر: أَي لَا التَّعَلُّق مثلا فِي مُسَافر قصر من التثبت فِي الرَّمْي، والتحفظ عَن هتك حُرْمَة اسْم الله تَعَالَى بترك الْيَمين، أَو بِعَدَمِ ارْتِكَاب مَا يُوجب الْحِنْث (بالثواب) الْحَاصِل بِالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي أَن معنى الْعِبَادَة فِيهَا أغلب، أَو الْعقُوبَة، فعلى الأول يتَرَجَّح تعلقهَا بالتدارك، وعَلى الثَّانِي بالزجر، والأغلب فِيهَا عندنَا الأول، وَعِنْده الثَّانِي، وَلَا يخفى أَن مَا يتدارك بِهِ الأخف لَا يصلح لِأَن يتدارك بِهِ الأغلظ، والعمد من أكبر الْكَبَائِر، والغموس كَبِيرَة مَحْضَة مَعْدُودَة فِي الْخَبَر الصَّحِيح من الْكَبَائِر. وَقَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة عِنْد قَوْله وَلَا كَفَّارَة فِيهَا: أَي فِي الْغمُوس إِلَّا التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء: مِنْهُم مَالك وَأحمد (جَازَ الِاخْتِلَاف فِيهَا) جَوَاب لما، يَعْنِي لما كَانَ قسم مِنْهَا ظنيا محلا للِاجْتِهَاد جَازَ الِاجْتِهَاد فِيهَا، وتفرع عَلَيْهِ جَوَاز الِاخْتِلَاف فِيهَا، وَلَو كَانَ كلهَا قَطْعِيا لما جَازَ ذَلِك (وَالْخَطَأ) عطف على الِاخْتِلَاف (كَمَا ذكرنَا) لِأَن جَوَاز الِاخْتِلَاف يسْتَلْزم جَوَاز الْخَطَأ لعدم إِمْكَان صوابية الْقَوْلَيْنِ الْمُخْتَلِفين، (وَلذَا) أَي لجَوَاز الِاخْتِلَاف فِي دلَالَة النَّص بِنَاء على الِاخْتِلَاف فِي فهم المناط (فرع أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وجوب الْحَد باللواطة على دلَالَة نَص وُجُوبه) أَي الْحَد (بِالزِّنَا بِنَاء) عِلّة للتفريع، أَو الدّلَالَة (على تعلقه) أَي تعلق وجوب حد الزِّنَا (بسفح المَاء) أَي إِرَاقَة الْمَنِيّ (فِي مَحل محرم مشتهي وَالْحُرْمَة قَوِيَّة) حَال من مفعول فرع: أَي فرع وجوب حد اللواطة عَلَيْهَا حَال كَون الْحُرْمَة الْمُقْتَضِيَة ذَلِك الْوُجُوب أقوى من الْحُرْمَة الْمُوجبَة حد الزِّنَا لكَونهَا مُؤَبّدَة لَا تنكشف بِحَال، بِخِلَاف الْأُخْرَى لانكشافها فِي بعض الْمحَال بِملك النِّكَاح أَو الْيَمين، وَبِه أَفَادَ أَوْلَوِيَّة الْمَسْكُوت بالحكم هَذَا، وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة ذَهَبُوا إِلَى مَا ذَهَبا (وَالْإِمَام) أَبُو حنيفَة رحمه الله يمْنَع وجوب الْحَد باللواطة، فَإِنَّهُ (يَقُول السفح) بِالزِّنَا (أَشد ضَرَرا) من السفح باللواطة (إِذْ هُوَ) أَي السفح بِالزِّنَا (إهلاك نفس معنى) يُؤَيّدهُ أَنه قرن بَينه وَبَين الْقَتْل فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون} -، قيل لِأَنَّهُ مفض إِلَى الْإِثْبَات ظَاهرا وَإِذا ثَبت وَلَيْسَ لَهُ مرب وَلَا قيم لعجزهن عَن الِاكْتِسَاب يهْلك الْوَلَد، وَالْأَوْجه أَن يُقَال الإهلاك الْمَعْنَوِيّ لهتك الْعرض بِعَدَمِ النّسَب، وَفِي الحَدِيث " عرض الْمُؤمن كدمه "، وَعدم الاتصاف بالكمالات العلمية والعملية، والاتصاف بالرذائل مِمَّا يُنَاسب مثبته السوء، فَإِن عجز النِّسَاء والهلاك لعدم من ينْفق لَا عِبْرَة بِهِ مَعَ قَوْله تَعَالَى - {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} - على أَن الزَّانِيَة لَا تعجز (وَهُوَ) أَي القَوْل الْمُعَلل مَبْنِيّ (على اعْتِبَاره) أَي الإهلاك الْمَذْكُور

ص: 96

(المناط) ثاني مفعولي الاعتبار: أي قوله المذكور مبني على أنه جعل مناط وجوب حد الزنا السفح المفضي إلى الإهلاك (لا مجرده) معطوف على ضمير اعتباره: أي لا اعتبار مجرد سفح الماء في محل محرم مشتهى، لتكون اللواطة مشاركة في هذا المعنى، ولا يخفى عليك أن قوله على اعتباره المناط ظاهره يدل على أنه المناط استقلالا، وقوله لا مجرده يدل على أنه جزء منه والتوجيه ظاهر (والشهوة) المأخوذة في المناط الموجودة في الزنا (أكمل) من الشهوة الكائنة في اللواطة، فإذا اعتبر في المناط تلك الشهوة لزم عدم تحققه فيها، والجملة حال عن المناط، يعني يجعل الإهلاك عن المناط حال كون الشهوة المعتبرة فيه المتحققة في الزنا أكمل (لأنها) أي الشهوة في الزنا (من الجانبين) لميلانهما إليه بالطبع بخلاف اللواطة لعدم ميل المفعول فيه بالطبع إليها، على ما هو الأصل في الجبلة السليمة، ونقصان الشهوة في المفعول فيه يستدعي نقصانها في الفاعل، لأن زيادة جاذبة المحبوب توجب زيادة محبة المحب، ولأنه يصدر عنه حينئذ أفعال تقتضي زيادة هيجان الشهوة. فإن قلت سلمنا التفاوت بين الشهوتين، لكن لا نسلم اعتبار تلك الزيادة في المناط. قلنا لا بد أن يعتبر، لأن زيادة التلذذ في المعصية يستدعي زيادة التشديد فيما يترتب عليها لما بين العمل والجزاء من المماثلة، فاللواطة لا تشارك الزنا في مناط الحكم فلا دلالة في نص وجوب حده على وجوب حدها (وهذا) القول (أوجه) من قولهما لما مر من اشتماله على اعتبار قيدين ينبغي اعتبارهما في المناط (والترجيح) الذي ذكرناه (بزيادة قوة الحرمة) في اللواطة على الحرمة في الزنا (ساقط) عن درجة الاعتبار عند انعدام تحقق المناط على ما بينا. قال الشارح في بيان السقوط: ألا ترى أن حرمة الدم والبول فوق حرمة الخمر من حيث إن حرمتهما لا تزول أبدا، وحرمتهما [وحرمتها] تزول بالتخليل، مع أنه لا يجب الحد بشربهما انتهى، ولا يخفى عليك أن الحرمة مأخوذة في المناط اتفاقا، فزيادة قوتها في اللواطة تصلح لأن تكون موجبة لأولويتها بالحكم لولا المانع، وهو عدم الإهلاك في اللواطة والأكملية، وليس في مناط حد الخمر ما يزداد قوته بما ذكر في البول فتدبر (وكذا قولهما بإيجاب القتل بالمثقل) أي كما أن قوله بعدم إيجاب الحد باللواطة بدلالة نص الزنا أوجه من قولهما كذلك قولهما بإيجاب القتل قصاصا بالقتل عمدا بالمثقل الذي لا يحتمله البنية بدلالة نص إيجاب القتل بالمثقل بما يفرق الأجزاء كالسيف أوجه من قوله (لظهور تعلقه) أي إيجاب القتل بما يفرق الأجزاء (بالقتل العمد العدوان) وعدم اعتبار خصوصية تفريق الأجزاء في الآلة، وإنما المعتبر كونها قاتلة عادة، لأن العمد، وهو القصد معتبر في قوله تعالى -كتب عليكم القصاص في القتلى-، لقوله عليه السلام في بيان موجب القتل العمد قود: أي موجبه، وحكمه الزجر به يتوفر، والعقوبة

ص: 97

المتناهية لا شرع لها دون ذلك، ولا يوقف عليه إلا بدليله، وهو استعمال الآلة القاتلة، فكل من يعرف اللغة يفهم وجوب القود بالمثقل المذكور بالنص المذكور، وإليه أشار بقوله (ويتحقق) القتل العمد العدوان (بما لا تحتمله البنية) من المثقل كما يتحقق بما يفرق الأجزاء، قيل بل ربما كان أبلغ لأنه يزهق الروح بنفسه، والجارح بواسطة السراية (فادّعاء قصوره) أي القتل بالمثقل (في العمدية) كما ذكره بعض المشايخ في وجه قول أبي حنيفة رحمه الله (مرجوح) والراجح عند العقل خلافه، وقيل المناط: الضرب بما لا يطيقه البدن، وفي التلويح هو مما لا يفهمه كل من يعرف اللغة، ولذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الجرح الناقص للبنية ظاهرا وباطنا: بأن يكون مزهقا للروح، مفسدا للطبائع الأربع، فإنه حينئذ تقع الجناية قصدا على النفس الحيوانية التي هي البخار المتكون من ألطف أجزاء الأغذية: السبب للحس، والحركة القوام للحياة، واحترز به عن النفس الإنسانية التي لا تفنى بخراب البدن، فتكون أكمل من لجناية بدون القصد كقتل الخطأ، أو بنقض، ظاهرا فقط كالجرح بدون السراية، أو باطنا فقط كالقتل بالمثقل، ولا يخفى تعلق القود بالقتل العمد العدوان كما ذكره المصنف رحمه الله، ولا شك في أنه أظهر مما ذهب إليه أبو حنيفة، فلا شك في كون قولهما أوجه. فإن قلت إثبات القصاص بالقتل بالمثقل بطريق القياس غير جائز، لأن الحدود تندرئ بالشبهات، والقياس لا يخلو عنها، فتعين أن يكون بدلالة النص، ويلزمها فهم المناط بمجرد فهم اللغة، وهو يستدعي توارد الأفهام عليه من غير خفاء واختلاف. قلت: لا نسلم استدعاءه ذلك، وإنما يستدعي بداهته، والبداهة لا تنافي الخفاء، وعند الخفاء قد يقع الخلاف (وإلى مفهوم مخالفة) معطوف على مفهوم موافقة (وهو) أي مفهوم المخالفة (دلالته) أي اللفظ (على) ثبوت (نقيض حكم المنطوق للمسكوت، ويسمى) أي مفهوم المخالفة (دليل الخطاب) ولما كان الدلالة في الأول على ثبوت حكم المنطوق للمفهوم، وفي الثاني على ثبوت نقيضه له ناسب أن يسمى فحوى الخطاب: أي معناه في الأول، وهو ظاهر، ودليل الخطاب في الثاني لحصولها بنوع من الاستدلال ببعض الاعتبارات الخطابية كالوصفية والشرطية (وهو أقسام، مفهوم الصفة) بدل من أقسام، أو مبتدأ خبره محذوف: أي منها (عند تعليق حكم) ظرف للدلالة المفهومة من القسمة: أي منها دلالته على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت الحاصلة من الصفة عند تعليق حكم (بموصوف بمخصص) صفة موصوف: أي بوصف مخصوص (لا كشف) أي لا بوصف كاشف عن معنى الوصف غير مخصص إياه كقوله تعالى -إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعها، وإذا مسه الخير منوعا-، ومن ثم

ص: 98

قَالَ ثَعْلَب لمُحَمد بن عبد الله بن طَاهِر لما سَأَلَهُ مَا الْهَلَع؟ قد فسره الله تَعَالَى، وَلَا يكون تَفْسِير أبين من تَفْسِيره (ومدح وذم) أَي وَلَا بِوَصْف مادح، وَلَا ذام يقْصد بِهِ مُجَرّد الْمَدْح والذم، وَلَا مترجم بِهِ على الْمَوْصُوف، نَحْو جَاءَ زيد الْعَالم، أَو الْجَاهِل، أَو الْفَقِير، وَلَا بِوَصْف مُؤَكد، وَهُوَ مَا موصوفه مُتَضَمّن لمعناه كأمس الدابر لَا يعود (ومخرج الْغَالِب) أَي وَلَا بِوَصْف خرج مخرج الْغَالِب الْمُعْتَاد بِأَن لَا يَنْفَكّ عَن الْمَوْصُوف فِي أَكثر تحققاته، فخروجه وبروزه مَعَ الْمَوْصُوف فِي الذّكر على حسب بروزه مَعَه فِي الْوُجُود، وَلَا يقْصد بِهِ التَّخْصِيص (كاللاتي فِي جحوركم) فِي قَوْله تَعَالَى - {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} - جمع ربيبة، بنت زَوْجَة الرجل من آخر، سميت بهَا، لِأَنَّهُ يُرَبِّيهَا غَالِبا كولده، وَإِنَّمَا لحقته الْهَاء، مَعَ أَنه فعيل بِمَعْنى مفعول لصيرورته اسْما، وكونهن فِي حجور أَزوَاج الْأُمَّهَات هُوَ الْغَالِب من حالهن، فوصفهن بِهِ لذَلِك لَا للتخصيص (فَلَا يدل) الْكَلَام الْمُشْتَمل على الْمَوْصُوف بِوَصْف من الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة، أَو قَوْله - {وربائبكم} - الخ (على نفي الحكم عِنْد عَدمه) أَي عدم ذَلِك الْوَصْف، أَو عدم كونهن فِي حجوركم، وَفَائِدَة ذكر الاحتضان تَقْوِيَة الشّبَه بَينهَا وَبَين الْأَوْلَاد المستدعية كَونهَا حَقِيقَة بِأَن تجْرِي مجراهم، وَذهب جُمْهُور الْعلمَاء إِلَى تَعْمِيم الحكم، وَقد روى عَن عَليّ رضي الله عنه جعله شرطا حَتَّى أَن الْبعيد عَن الزَّوْج لَا يحرم عَلَيْهِ، وَنقل عَن ابْن عبد السَّلَام أَن الْقَاعِدَة تَقْتَضِي الْعَكْس، وَهُوَ أَنه إِذا خرج مخرج الْغَالِب يكون لَهُ مَفْهُوم، لَا إِذا لم يكن غَالِبا، لِأَن الْغَالِب على الْحَقِيقَة تدل الْعَادة على ثُبُوتهَا لَهَا، فالمتكلم يَكْتَفِي بدلالتها عَن ذكره، فَإِنَّمَا ذكره ليدل على نفي الحكم عَمَّا عداهُ، وَإِذا لم يكن عَادَة فغرض الْمُتَكَلّم بِذكرِهِ إفهام السَّامع ثُبُوته للْحَقِيقَة، وَفِيه مَا فِيهِ (وَجَوَاب سُؤال عَن الْمَوْصُوف) أَي وَلَا بِوَصْف ذكر فِي جَوَاب سُؤال عَن مَوْصُوف بِهِ، كَأَن يُقَال هَل فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة؟ فَيَقُول الْمُجيب فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة، فَذكر الْوَصْف لتنصيص الْجَواب فِي مَحل السُّؤَال، فَلَا يدل على عدم الْوُجُوب فِي غَيرهَا (وَبَيَان الحكم لمن هوله) وَلَا بِوَصْف ذكر لبَيَان الحكم لمن لَهُ الْمَوْصُوف بِهَذَا الْوَصْف كَمَا إِذا كَانَ لزيد غنم سَائِمَة، وَأَنت تُرِيدُ بَيَان حكم غنم زيد لَا غَيره، فَتَقول فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة تنصيصا على أَن الْغَرَض بَيَان وجوب الزَّكَاة لأجل زيد (ولتقدير جهل الْمُخَاطب بِحكمِهِ) أَي وَلَا بِوَصْف ذكر لغَرَض جَهَالَة الْمُخَاطب بِحكم الْمَوْصُوف بِاعْتِبَار هَذَا الْوَصْف فَقَط لعلمه بِاعْتِبَار وصف آخر كَمَا إِذا لم يعلم فِي السَّائِمَة مَعَ علمه فِي العلوفة (أَو ظن الْمُتَكَلّم) أَي ولتقدير ظن الْمُتَكَلّم علم الْمُخَاطب بِحَال الْمَسْكُوت كظنه أَن الْمُخَاطب عَالم بِأَنَّهُ لَا زَكَاة فِي المعلوفة (أَو جَهله) أَي لتقدير جهل الْمُتَكَلّم بِحَال الْمَسْكُوت فِيمَا إِذا كَانَ غير الشَّارِع (وَخَوف يمْنَع ذكر حَاله)

ص: 99

وَلَا بِوَصْف ذكر لتقدير خوف يمْنَع الْمُتَكَلّم عَن ذكر السُّكُوت (أَو غير ذَلِك) كَمَا يقتضى تَخْصِيصه بِالذكر، فَإِن مَفْهُوم الصّفة إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ إِذا لم يكن لذكرها فَائِدَة أُخْرَى (كفى السَّائِمَة الزَّكَاة يُفِيد) الْوَصْف بالسوم (نَفْيه) أَي نفي الحكم، وَهُوَ وجوب الزَّكَاة (عَن العلوفة) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: أَي المعلوفة، وَالْقَائِل بِمَفْهُوم الصّفة الشَّافِعِي وَأحمد والأشعري وَكثير من الْعلمَاء: رضي الله عنهم، ونفاه أَبُو حنيفَة رضي الله عنه وَابْن سُرَيج وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْقَاضِي أَبُو بكر وَالْغَزالِيّ رضي الله عنه والمعتزلة.

(وَالشّرط على شَرط) أَي وَمَفْهُوم الشَّرْط عِنْد تَعْلِيق حكم على شَرط، فَإِنَّهُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الشَّرْط، فَيثبت نقيضه، والعاطف إِمَّا لعطف الشَّرْط على الصّفة، والظرف وَمَا أضيف إِلَيْهِ مُقَدّر بِقَرِينَة السِّيَاق، أَو لعطف الشَّرْط وَمَا بعده على الصّفة وصلَة التَّعْلِيق، أَعنِي الْمَوْصُوف، والعطف على معمولي عاملين مُخْتَلفين جَائِز مُطلقًا عِنْد الْأَخْفَش إِلَّا إِذا وَقع فصل بَين العاطف والمعطوف الْمَجْرُور، وَكَذَا على مَا هُوَ الْمُخْتَار وَابْن الْحَاجِب إِذا كَانَ الْمَجْرُور مقدما مثل قَوْله تَعَالَى {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ فَلَا نَفَقَة لمبانة غَيرهَا} أَي غير الْحَامِل، علق إِيجَاب النَّفَقَة على كَون المبانة ذَات حمل، فَدلَّ على عدم وُجُوبهَا غير حَامِل، وَقيد الْمُطلقَة بالمبانة لوُجُوب نَفَقَة الْمُطلقَة الرَّجْعِيَّة إِجْمَاعًا حَامِلا كَانَت أَو لَا.

(والغاية) أَي وَمَفْهُوم الْغَايَة (عِنْد مده) أَي الحكم الثَّابِت للمنطوق (إِلَيْهَا) أَي إِلَى الْغَايَة، لِأَن ذكر الْغَايَة يدل على انتهائه عِنْدهَا، فَلم يثبت للمسكوت الَّذِي هُوَ بعد الْغَايَة، فَيثبت لَهُ نقيضه كَقَوْلِه تَعَالَى {فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح} زوجا غَيره، فَإِن حكم الْمَنْطُوق، وَهُوَ عدم الْحل انْتهى عِنْد نِكَاح الزَّوْج الآخر (فَتحل) للْأولِ (إِذا نكحت) غَيره وَانْقَضَت الْعدة، فالمسكوت عَنهُ نِكَاح الأول يعد نِكَاح الثَّانِي، ونقيض الحكم الْحل.

(وَالْعدَد) أَي وَمَفْهُوم الْعدَد، وَهُوَ دلَالَته على ثُبُوت نقيض حكم الْمَنْطُوق (عِنْد تَقْيِيده) أَي حكم الْمَنْطُوق (بِهِ) أَي بِالْعدَدِ الْمَسْكُوت فِيمَا عدا الْعدَد كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} فَإِنَّهُ يدل على نفي الْوُجُوب عَن الزَّائِد على الثَّمَانِينَ كَمَا يدل على وُجُوبهَا بِسَبَب تَقْيِيد الْوُجُوب بِالْعدَدِ الْمَذْكُور (فَرجع الْكل) أَي الشَّرْط والغاية وَالْعدَد (إِلَى الصّفة معنى) لِأَن الْمَقْصُود من الصّفة تَخْصِيص الْمَنْطُوق، وَهُوَ حَاصِل فِي الْكل، وَلَيْسَ الْمَقْصُود عدم التَّفَاوُت بَين الْمَذْكُورَات بِوَجْه حَتَّى يرد أَنه لَو كَانَ الْكل سَوَاء لما وَقع الِاخْتِلَاف بَين الْقَائِلين بهَا، فالشافعي وَأحمد والأشعري وَأَبُو عبيد من اللغويين، وَكثير من الْفُقَهَاء والمتكلمين قَالُوا بِمَفْهُوم الصّفة. وَقَالَ بِمَفْهُوم الشَّرْط كل من قَالَ بمفهومها، وَبَعض من لم يقل بِهِ

ص: 100

كابن سريج وأبي الحسن [؟ الحسين] البصري. وقال بمفهوم الغاية كل من قال بمفهوم الشرط، وبعض من لم يقل به كالقاضي عبد الجبار، فإن كل من يرد الكل إليها يريد بها ما هو أعم من النعت: أي ما يفيد معنى تخصيص المنطوق، والتفاوت إنما هو بين الصفة بمعنى النعت وباقي الأقسام، ثم قالوا أقواها مفهوم الغاية، ثم الشرط، ثم الصفة، وثمرته تظهر في الترجيح عند التعارض (والاتفاق) بين القائلين بالمفهوم على (أنه) أي المفهوم (ظني) وإلا لما كان للاجتهاد مجال (ومفهوم اللقب) لم يقل واللقب تنبيها على أنه ليس في عدد تلك الأقسام، ولذا لم يقل به إلا شذوذ كما سيشير إليه (وهو تعليق بجامد) أي ودلالة تعليق حكم بجامد على نفيه عن غيره، والمراد دلالة اللفظ على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت عند تعليقه بجامد (كفي الغنم زكاة) أي نفي مفهوم اللقب (سوى شذوذ على ما سنذكر، والحنفية ينفونه) أي مفهوم المخالفة (بأقسامه في كلام الشارع فقط) قال الكردري: تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه في خطابات الشرع، فأما في متفاهم الناس وعرفهم وفي المعاملات والعقليات فيدل انتهى. ثم لما وافق أصحابنا الشافعية في غالب أحكام الأمثلة السابقة، وكان ذلك موهما كونهم قائلين بمفهوم المخالفة أزال ذلك بقوله (ويضيفون حكم الأولين) مفهوم الصفة والشرط (إلى الأصل) وهو العدم الأصلي بحكم الاستصحاب وإبقاء ما كان على ما كان، وإنما أخرج المنطوق من ذلك الحكم الأصلي لمكان النطق المصرح بخلافه، فما سواه أبقي على حاله (إلا لدليل) يعني حكم الموصوف عند اتصافه بوصف آخر، والمشروط عند عدم الشرط إنما هو العدم الأصلي دائما إلا إذا بت له حكم حادث لدليل اقتضى ذلك (والأخيرين) أي ويضيفون حكم ما بعد الغاية وما وراء العدد (إلى الأصل الذي قرره السمع) أي الشرع من العمومات وغيرها كقوله تعالى -وأحل لكم ما وراء ذلكم-: في حل نكاح المطلقة ثلاثا بعد نكاح الزوج الثاني، وعموم المنع من الأذى الدال على حرمة الضرب بعد الثمانين في القذف، ولعل تخصيص الأصل في الأخيرين بتقرير السمع بحكم الاستقراء بأن وجدوا موادهما كلها داخلة تحت أصل قرره السمع، بخلاف الأولين (ويمنعون نفي النفقة) للمبانة التي ليست بحامل، جواب إشكال وهو أنكم قلتم يضاف حكم الأولين إلى الأصل، ولا يستقيم ذلك في المبانة المذكورة، لأن الأصل فيها وجوب النفقة ما دامت في العدة، لأن النفقة في مقابلة احتباسها له: نعم كان الأصل عدم الوجوب قبل النكاح لكنه انعكس الأمر بناء على علته، فأجيب بمنع نفيها، فإن نفقتها واجبة عندنا (وألحق بعض مشايخهم) أي الحنفية

ص: 101

(بالمفهوم) المخالف في النفي (دلالة الاستثناء) فقال ليس فيه دلالة على ثبوت نقيض حكم الصدر لما بعد إلا (والحصر) أي وألحق أيضا دلالة الحصر على نفي الحكم عما عدا المحصور فيه كما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات).

اختلف في إنما، فقيل لا تفيد الحصر فهو إن وما مؤكدة، فقوله تعالى -إنما أنت نذير- في قوة إنك نذير، وقيل: تفيده بالمنطوق، وقيل بالمفهوم فينفى الحكم عما يقابل المذكور في الكلام آخرا، فالمعنى صحة الأعمال أو ثوابها بالنيات لا بدونها (والعالم زيد) فقيل لا يفيد الحصر أصلا، وقيل يفيد بالمنطوق، وقيل بالمفهوم، دليل الأول أنه لو أفاد أفاد عكسه: أي زيد العالم، واللازم باطل، ودليل الثاني أن العالم لا يصلح للجنس، لأن الحقيقة الكلية ليست زيدا الجزئي، ولا لمعين لعدم القرينة، فكان لما صدق عليه الجنس مطلقا، فيفيد أن كل ما صدق عليه العالم زيد الجزئي، وهو معنى الحصر الادعائي، ودليل الثالث أن وضع اللغة لا يقتضي إلا إثبات زيد العالم، فالحصر إنما يفهم بعرف الاستعمال، والمختار عند المصنف رحمه الله ما أفاد بقوله (وهو) أي ما ذكر من دلالة الاستثناء والحصر (عندنا عبارة ومنطوق إلا في حصر اللام والتقديم) فإن دلالتهما ليست بعبارة ولا منطوق (فما) أي فدلالة الحصر (بالأداتين) حرف الاستثناء، وإنما (ظاهر) كونه عبارة ومنطوقا (وسيعرف) كل واحد في موضعه مفصلا (وقد نفوا) أي الحنفية (اليمين عن المدعى بحديث "البينة على المدعي) واليمين على المدعى عليه" المخرج في الصحيحين (بواسطة العموم) أي عموم اليمين المستفاد باللام الاستغراقية، فإنه في قوة كل يمين عليه، أو عموم البنية، فإنه إذا كان كل بينة على المدعى يلزم أن لا يكون عليه يمين أصلا، فإنه لو فرض لزوم يمين عليه لزم أن يكون على خصمه، وهو المدعى عليه البينة، فلم تكن كل بينة على المدعي (فلم تبق يمين) تستحق (عليه) أي على المدعى. وحاصل هذا الكلام تضعيف نسبة مانعي دلالة الحصر على النفي إلى الحقيقة، لأن كلامهم مشحون باعتبارها (وقيل العدد اتفاق) أي اعتبار مفهوم العدد متفق عليه بين القائلين بمفهوم المخالفة وبين أصحابنا (لقول الهداية) في دفع قول الشافعي رحمه الله: لا يجب الجزاء على المحرم بقتل ما لا يؤكل من الصيد كالسباع لأنها جبلت على الأذى، فدخلت في الفواسق المستثناة، ولنا أن السبع صيد لتوحشه، وكونه مقصودا بالأخذ لجلده، أو ليصاد به، أو لدفع أذاه، والقياس على الفواس ممتنع (لما فيه من إبطال العدد) المذكور في حديث الصحيحين "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: العقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب، والحدأة"، فإن تجويز قتل

ص: 102

غيرها إلحاقا بها ينفي فائدة ذكر العدد الخاص مع التصريح بأسامي المعدودات. فإن قلت لم لا يجوز أن تكون فائدته نفي حل قتل ما ليس في معنى واحد منها. قلت: إذن يكفي ذكر المعدودات من غير ذكر العدد (والحق أن نفي الزائد) أي نفي حل قتل ما سوى هذه الخمسة من الصيد البري إذا قلنا به إنما هو (بالأصل) الذي أفاده السمع، وهو قوله تعالى -وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما- لا بالمفهوم المخالف للعدد المذكور. قال الشارح فلا يرد قتل الذئب، لأنه ليس من الصيد في ظاهر الرواية، وهذا مخالف لما سبق (وقوله) أي صاحب الهداية (يكفي إلزاما) يعني في مقام المناظرة أن يكون بحثا إلزاميا، فإن الخصم قائل بمفهوم العدد (على ما ظن) من كونه إلزاما للشافعي رحمه الله، وهو ينفصل عنه لأنه يقدم القياس على المفهوم (لكنهم) أي الحنفية (قد زادوا على الخمس) استدراك عما يفهم من قوله من أن الحنفية ما زادوا على الخمس شيئا، فإنهم زادوا قتل الذئب ابتداء قول الكرخي رحمه الله وتبعه صاحب الهداية والمحيط، وظاهر الرواية أنه ليس بصيد، وفي البدائع الأسد والذئب والنمر والفهد يحل قتلها ولا شيء فيها، وإن لم تصل لأنها تبتدئ بالأذى، وبالجملة اختلفت أقوال المشايخ رحمهم الله في اعتبار مفهوم العدد والزيادة على الخمس، والمصنف جزم بالزيادة ولم يصح عنده بالاتفاق على اعتبار مفهوم العدد، بل يصح خلافه (قالوا) أي القائلون بمفهوم الصفة (صح عن أبي عبيد) بلفظ المصغر بلا هاء كما ذكره الأكثرون، وهو القاسم بن سلام الكوفي أو بها كما ذكر إمام الحرمين، وهو معمر بن المثنى (فهمه) أي مفهوم الصفة (من لي الواجد، ومطل الغني) أي من الحديث الحسن الذي أخرجه أحمد وإسحاق والطبراني "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" وليه بفتح اللام مطله، وهو مدافعته والتعلل في أداء الحق الذي عليه، وحل عرضه أن يقول مطلني، وعقوبته الحبس: ذكره النجاري [؟ البخاري] عن سفيان الثوري، وذكر أحمد وإسحاق عنه حل عرضه أن يشكوه انتهى، فقال يدل على أن لي من ليس بواجد لا يحل عرضه وعقوبته، ومن الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره "مطل الغني ظلم" فقال يدل على أن مطل غير الغني ليس بظلم اعتبارا لمفهوم الصفة، فإن الواجد والغني صفتا مقدر: أي المديون، والمراد بالغنى: القدرة على الإيفاء (وكذا) صح (عن الشافعي) رحمه الله فهم مفهوم الصفة (نقله) أي الفهم المذكور (عنه خلق) كثيرون (وهما) أي أبو عبيد والشافعي رحمهما الله (عالمان باللغة) وفهما ذلك من مجرد اللفظ من غير اجتهاد، فيجب كون ما فهماه مدلوله (وعورض) الاستدلال المذكور (بقول الأخفش ومحمد بن الحسن) بخلاف ذلك، وهما إمامان في العربية: أما الأخفش فهو من الثلاثة

ص: 103

المشهورين أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد شيخ سيبويه، وأبو الحسن سعيد بن مسعدة صاحب سيبويه، وأبو الحسن علي بن سليمان صاحب ثعلب والمبرد، وأما محمد فناهيك به، وقد روى الخطيب بإسناده عنه قال: ترك أبي ثلاثين ألف درهم، فأنفقت خمسة عشر ألفا على النحو والشعر، وخمسة عشر ألفا على الحديث والفقه (ولو ادعى) على صفة المجهول (السليقة في الشافعي) أي مذاق العربية فيه ذوقا طبيعيا، وفي القاموس يتكلم بالسليقة: أي عن طبعه، لا عن تعلم (فالشيباني) يعني محمد بن الحسن منسوب إلى شيبان، وهي قبيلة من العرب، والخبر محذوف: أي مثله، وكذلك (مع تقدم زمانه) على زمان الشافعي رحمه الله، فإنه ولد سنة اثنين وثلاثين ومائة، وتوفي سنة تسع وثمانين ومائة، والشافعي رحمه الله ولد سنة خمسين [و] مائة، وتوفي سنة أربع ومائتين، والمتقدم قد أدرك من صحة الألسنة ما لم يدركه المتأخر، ومن ثم استغنى الصدر الأول عن تدوين علم العربية. وعلى زمان أبي عبيد فإنه توفي سنة أربع وعشرين ومائتين عن سبع وستين أو ثلاث وسبعين، وأيضا رأي المتقدم أقرب إلى الصواب لقوله عليه الصلاة والسلام "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم" الحديث، وروي أن كليهما ممن تتلمذ له، وأخذ عنه خصوصا الشافعي رحمه الله حتى ذكر أصحابه وغيرهم عنه أنه قال حملت عن محمد بن الحسن وقري بختي كتبا، وأسند الخطيب البغدادي عنه قال ما رأيت سمينا أخف روحا من محمد بن الحسن، وما رأيت أفصح منه: كنت إذا رأيته يقرأ كأن القرآن نزل بلغته. وقال أبو إسحاق في الطبقات، وروى الربيع قال: كتب الشافعي رحمه الله إلى محمد وقد طلب منه كتبا ينسخها فأخرها عنه:

قولوا لمن لم تر عين من رآه مثله * ومن كأن من رآه قد رأى من قبله

العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله * لعله يبذله لأهله لعله

وعن أبي عبيد "ما رأيت أعلم بكتاب الله من محمد بن الحسن"(أو العلم) معطوف على السليقة، يعني أو ادعى في الشافعي العلم البالغ إلى حد لم يبلغ إليه علم محمد بن الحسن (وصحة النقل) أي وادعى أنه صح عنه نقل ذلك (للأتباع) أي لكثرة الأتباع، وكونهم ثقات (فكذا) أي الشيباني مثله في العلم، وصحة النقل عنه لكثرة أصحابه، وكونهم ثقات، وبهذا تبين ضعف ما قيل من أن أبا يوسف ومحمدا لم يكونا مجتهدين على الإطلاق، بل من المجتهدين في المذهب. (فإن قيل) الدليل (المثبت) للحكم (أولى) بالقبول من الدليل النافي إياه عند التعارض، ودليل القائل بمفهوم الصفة مثبت للحكم فهو أولى بالقبول من الدليل النافي إياه عند التعارض، ودليل خصمه ينفيه، فإن القائل يقول يدل اللفظ عليه، وخصمه يقول لا يدل عليه: وذلك

ص: 104

لأن المنفي لعدم الوجدان، وهو لا يدل على عدم الوجود إلا ظنا، والإثبات للوجدان، وهو يدل عليه قطعا. (قلنا ذلك) أي كونه أولى إنما هو (في نقل الحكم عن الشارع و) نقل (نفيه) لأن الإحاطة بالنفي هناك غير ممكن فعدم الوجدان، وهو لا يدل على عدم الوجود إلا ظنا (أما هنا) أي فيما نحن فيه من إثبات المفهوم ونفيه بحسب اللغة (فلا أولوية) للمثبت على النافي لإمكان الإحاطة بالنفي للحاذق بمعرفة اللغة (وسيظهر) وجها قريبا (قالوا) أي المثبتون مطلقا (لو لم يدل) الكلام المشتمل على ما ذكر من الصفة والشرط والغاية واللقب (على نفي الحكم) عن المسكوت (خلا التخصيص) أي تخصيص الحكم بأحد المذكورات (عن فائدة) لأن غيره من الفوائد معدوم ظاهرا، واللازم باطل لخروج كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن البلاغة. (أجيب بمنع انحصار الفائدة فيه) أي في نفي الحكم عن المسكوت لجواز أن يكون له فائدة أخرى، وعدم ظهورها بالنسبة إلى بعض الأفهام لا يستلزم عدم ظهورها بالنسبة إلى الكل (و) أجيب أيضا (بأنه) أي ما ذكرتم (إثبات اللغة: أي وضع التخصيص لنفي الحكم عن المسكوت) تفسير للغة، فإنها عبارة عن اللفظ الموضوع، وإثباته بمعنى إثبات وضعه، والتخصيص لما كان من اعتبارات اللفظ الموضوع جعل بمنزلته (فإنه) أي التخصيص متعلق بإثباته (حينئذ) أي حين يجعل دالا على ما ذكر (مفيد) بخلاف ما إذا لم يجعل، فإنه على ذلك التقدير يلزم خلوه عن الفائدة فلا يصار إليه، ويتعين جعله دالا (وهو) أي إثبات اللغة بدليل العقل بدون النقل (باطل) كما عرفت في موضعه. فإن قلت الخلاف في إثبات اللغة بالقياس لا بغيره. قلت منشأ الخلاف كونه إثباتا بالعقل، وهو موجود في التعليل المذكور لأن كون التخصيص مفيدا يحتمل أن لا يجعل سببا للوضع (وتحقيق الاستدلال) بالخلو عن الفائدة فلا يصار إليه على تقدير عدم اعتبار المفهوم (يدفعه) أي هذا الجواب (وهو) أي تحقيقه (أن الاستقراء) أي تتبع اللغة (دل) حاكيا (عنهم) أي عن أهلها على (أن ما من التخصيص) بوصف: أي غيره بيان للموصول (ظن) على صيغة المجهول، وقوله (أن لا فائدة فيه) قائم مقام فاعله، والجملة صلة الموصول (سوى كذا) مما يصلح أن تكون فائدة له، استثناء من الفائدة المنفية (تعين) ذلك الذي استثني منها مرادا من التخصيص المذكور. (وحاصله) أي التحقيق، أو الاستقراء (أن) بالتخفيف (وضع) على المجهول (التخصيص) بالرفع (لفائدة) يعني أن الوضع يعرف بالاستعمال، وقد علم باستقراء مواد التخصيص إرادة فائدة ما من غير تخلف، فعلم أنه وضع لها (فإن ظنت) الفائدة (غير النفي عن المسكوت فهي) أي الفائدة المظنونة هي الموضوع لها التخصيص (وإلا) أي وإن لم تظن

ص: 105

غير النفي المذكور (حمل) التخصيص (عليه) لكونه من أفراد ما وضع له (ولا يخفى أن مفيده) أي وضع التخصيص لما ذكر إنما هو (نقل اللفظ) لأن دلالة الاستقراء التتبع للغة تابعة لدلالة الألفاظ المنقولة إليه، فإفادته وضع التخصيص لما ذكر إفادة نقل اللفظ في الحقيقة. فإن قلت إذا كان التخصيص موضوعا لما ذكر كان دلالته من قبيل المنطوق لا المفهوم. قلت: هو ليس بلفظ ليلزم ذلك (ولا معنى له) أي لكونه موضوعا للفائدة التي تتعين بالظن الذي يختلف (لاختلاف الفهم) ففهم يظن انحصار فائدته في شيء، وآخر في شيء آخر (فكان) وضعه لما ذكر (وضعا للإفادة) ودفع الجهل باعتبار قصد الواضع (مؤديا) بالآخرة (إلى الجهل) باعتبار اختلاف الفهم، وموجبا لاختلاف الكلام لعدم انضباط مدلوله بحسب المفهوم (والاستقراء إنما يفيد وجود الاستعمال) أي استعمال ما فيه تخصيص بالوصف وغيره (ثم غاية ما) قد (يعلم عنده) أي عند وجود الاستعمال (انتفاء الحكم) المنطوق في ذلك الاستعمال (عن المسكوت) وفيه إشارة إلى أن هذا العلم مفقود في أكثر المواد (والكلام بعد ذلك) أي بعد حصول العلم المذكور (في أنه) أي الانتفاء المذكور، هل هو (مدلول اللفظ) أي الذي فيه التخصيص (أو) مدلول (الأصل) الذي هو الاستصحاب، فإن الأصل عدم الحكم للمنطوق خرج عن حكم الأصل بالتصريح، والمسكوت بقي على حاله، أو الذي قرره السمع على ما مر (أو علم الواقع) يعني أو ليس فهم الانتفاء مدلول شيء من اللفظ أو الأصل، بل هو علم حاصل للمخاطب بما هو الواقع، يعني الانتفاء المذكور، فهذه احتمالات لم يرجح واحد منها، فكيف يتعين كونه مدلول اللفظ (لا يفيد ذلك) أي كونه مدلول اللفظ (الاستقراء) بالرفع على الفاعلية، والمفعول ذلك، والجملة تأكيد لما علم ضمنا في قوله الاستقراء إنما يفيد وجود الاستعمال، وفذلكة للكلام السابق (ولهذا) أي لأجل ما ذكرنا من عدم إفادة الاستقراء ذلك إلى آخره (نفاه) أي المفهوم (من ذكرنا من أهل اللغة) من الأخفش ومحمد بن الحسن وغيرهما (مع أن الاستعمالات والمرادات لم تخف عليهم) تأييد لمنع دلالة الاستقراء، بأنه لو دل ما اختص بفهمه من أهل الاستقراء بعض دون بعض، ولما كان قوله: ولهذا نفاه في معرض مناقشة أن ما قبله أفاد التردد في أنه مدلول اللفظ أو لا، فكيف يتفرع عليه نفي كونه مدلولا له، أشار إلى دفعها بقوله (وهذا) أي التردد والنفي (لأن أكثر ما انتفى فيه الحكم عن المسكوت) من الاستعمالات التي شملها (يوافق الأصل) لكون الانتفاء المذكور موجب الأصل الذي هو الاستصحاب، أو الذي قرره السمع، فالنفي المذكور بموجب الأصل مثبت، وباعتبار الفهم من اللفظ منفي لما ذكر من التردد (والاستقراء

ص: 106

يفِيدهُ) أَي كَون الْأَكْثَر مُوَافقا للْأَصْل (فَلَا يتَمَكَّن من إثْبَاته) أَي انْتِفَاء الحكم (بِاللَّفْظِ و) الْحَال أَنه (فِيهِ) أَي فِي إثْبَاته بِاللَّفْظِ (النزاع) بَين الْفَرِيقَيْنِ وَالْحَاصِل أَنه لَو لم يكن الأَصْل الَّذِي يصلح لِأَن يثبت بِهِ انْتِفَاء الحكم علن الْمَسْكُوت مَوْجُودا فِي الْأَكْثَر كَأَن يظنّ ثُبُوته بِالْمَفْهُومِ، لِأَنَّهُ إِذا علم مَشْرُوعِيَّة الحكم وَلم يظْهر لَهُ فِي الشَّرْع مَا يظنّ كَونه دَلِيلا لَهُ سوى أَمر خَاص يكَاد أَن يتَعَيَّن لذَلِك، وَأما إِذا وجد لَهُ مَا يصلح لذَلِك سوى أَمر هُوَ مَحل النزاع تعين إِسْنَاده إِلَيْهِ (وَإِذ قد ظهر) بِمَا ذكر من الِاسْتِدْلَال بفهم أبي عبيد وَغَيره على الْمَفْهُوم (أَن الدَّلِيل) لإِثْبَات الْمَفْهُوم (الْفَهم) أَي فهم انْتِفَاء الحكم عَن الْمَسْكُوت فِي الْموَاد الْمَذْكُورَة (وَفِي مفيده) أَي الْفَهم الْمَذْكُور (احْتِمَال لما ذكرنَا) من التَّرَدُّد فِي أَنه مَدْلُول اللَّفْظ أَو الأَصْل الخ (اتَّحد حَال الْإِثْبَات وَالنَّفْي) أَي نِسْبَة إِثْبَات الْمَفْهُوم ونفيه إِلَى اللَّفْظ على السوية لتساوي احتمالية الْإِرَادَة وَعدمهَا بِالنّظرِ إِلَيْهِ، وَالدَّال على الشَّيْء لَا يشك فِي أَنه يفِيدهُ أم لَا، فالشك فِي إفادته يسْتَلْزم نفي دلَالَته، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوب (فَإِن أُجِيب عَن الْمَنْع) أَي منع انحصار الْفَائِدَة فِي النَّفْي عَن الْمَسْكُوت بتحرير الدَّلِيل على وَجه لَا يتَّجه الْمَنْع الْمَذْكُور بِأَن يُقَال (وضع التَّخْصِيص للفائدة) على صِيغَة الْمَجْهُول أَو الْمصدر الْمُضَاف (وضع الْمُشْتَرك الْمَعْنَوِيّ) بِالنّصب على الأول وَالرَّفْع على الثَّانِي: أَي وضع مَا وضع لمَفْهُوم عَام تَحْتَهُ أَفْرَاد هِيَ الْفَوَائِد الْجُزْئِيَّة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وكل فَائِدَة فَرد مِنْهُ) أَي الْمُشْتَرك الْمَذْكُور (تتَعَيَّن بِالْقَرِينَةِ) لتِلْك الْفَائِدَة الْمُطلقَة الْمَوْضُوع لَهَا التَّخْصِيص (فِي المورد) فِي كل كَلَام ورد فِيهِ التَّخْصِيص بِالْقَرِينَةِ الْمعينَة لَهَا (وَهِي) أَي الْقَرِينَة (عِنْد عدم قرينَة غير الْمَنْفِيّ عَن الْمَسْكُوت لُزُوم عدم الْفَائِدَة) للتخصيص الْمُوجب وجود الْمَوْضُوع بِدُونِ مَا وضع لَهُ فَيجب (إِن لم يكن) النَّفْي عَن الْمَسْكُوت مرَادا من التَّخْصِيص (فَيجب) أَن يكون النَّفْي عَنهُ حِينَئِذٍ (مدلولا لفظيا) لِأَن الْمَوْضُوع للْجِنْس إِذا أُرِيد بِهِ فَرد مِنْهُ بِالْقَرِينَةِ يكون دَالا عَلَيْهِ (قُلْنَا لَا دلَالَة للأعم على الْأَخَص) بِخُصُوصِهِ بِإِحْدَى الدلالات الثَّلَاث، يَعْنِي إِذا قُلْتُمْ بِوَضْع التَّخْصِيص لمُطلق الْفَائِدَة الَّذِي نفى الحكم عَن الْمَسْكُوت فَرد مِنْهُ لزم كَون التَّخْصِيص أَعم مِنْهُ، وَقُلْنَا لَا دلَالَة إِلَى آخِره (فَلَيْسَ) النَّفْي الْمَذْكُور مدلولا (لفظيا بل) الدّلَالَة (للقرينة) مَعْطُوف على قَوْله للأعم فَإِن قلت ذكر الْعَام وَإِرَادَة الْخَاص بمعاونة الْقَرِينَة إِطْلَاق مجازى ومدلول الْمجَاز مَدْلُول لَفْظِي قلت النزاع فِي إِثْبَات الْمَفْهُوم وَهُوَ عبارَة عَن دلَالَة اللَّفْظ بِاعْتِبَار التَّخْصِيص من غير حَاجَة إِلَى أَمر آخر وَمَا ذكرته من لُزُوم عدم الْفَائِدَة أَمر آخر على أَن قَوْلنَا فَلَيْسَ لفظيا سَنَد للْمَنْع، فَإِن الْمُجيب عَن الْمَنْع منصبه إِثْبَات الْمُدعى بادعاء وضع التَّخْصِيص إِلَى آخِره، والخصم يمْنَع وَضعه لما ذكر، وَيُؤَيّد مَنعه بِنَفْي

ص: 107

المدلولية اللفظية، وَلَا خَفَاء فِي أَنه سَنَد أخص، وإبطاله غير موجه، وَأَيْضًا يتَحَقَّق النزاع فِي كل مَادَّة بقول الْخصم بِثُبُوت الْمَفْهُوم مُدعيًا وجود الْقَرِينَة، أَعنِي لُزُوم عدم الْفَائِدَة، فَيُقَال لَهُ لَا نسلم ذَلِك: لم لَا يجوز أَن يكون هُنَاكَ فَائِدَة أُخْرَى؟ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالثَّابِت) فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يدعى فِيهَا الْخصم ثُبُوت الْمَفْهُوم (عدم الْعلم بِقَرِينَة الْغَيْر) أَي غير نفي الحكم عَن الْمَسْكُوت (لَا عدمهَا) أَي عدم قرينَة الْغَيْر فِي نفس الْأَمر لعدم الْإِحَاطَة بِالنَّفْيِ (فَيكون) التَّخْصِيص الَّذِي ادّعى وَضعه لمُطلق الْفَائِدَة (مُجملا) لازدحام الْمعَانِي الممكنة إرادتها وَعدم مَا تعين بَعْضهَا (فِي) نفي الحكم عَن (الْمَسْكُوت وَغَيره) أَي غير النَّفْي (لَا مُوجبا فِيهِ) أَي فِي الْمَسْكُوت (شَيْئا) من نفي الحكم عَنهُ وَغَيره أَو شَيْئا من الْإِيجَاب (كَرجل بِلَا قرينَة فِي زيد) فَإِنَّهُ مُجمل فِي زيد وَعَمْرو وَغَيرهمَا، وَلَا يُوجب فِي زيد شَيْئا (فَإِن قيل) لَيْسَ الْأَمر كَمَا زعمتم من أَن الثَّابِت عدم الْعلم بهَا لَا لعدمها، وَأَن الأول لَا يدل على الثَّانِي (بل) عدم الْعلم بِقَرِينَة الْغَيْر (ظَاهر فِي عدمهَا) أَي فِي عدمهَا بِحَسب الْوَاقِع، وَإِن لم يكن نصافيه (بعد فحص الْعَالم) بأساليب الْكَلَام، وقرائن الْمقَام مَعَ كَمَال الاهتمام عَن قرينَة الْغَيْر، فَيدل عدم علمه بهَا على عدمهَا بِحَسب غَالب الظَّن لِأَنَّهَا لَو كَانَت لم تخف عَلَيْهِ، وَهَذَا الْكَلَام إِثْبَات للمقدمة الممنوعة على تَقْدِير أَن يكون مَا قبله منعا، وَإِبْطَال لعدم ثُبُوت عدم الْقَرِينَة إِن كَانَ مُعَارضَة (قُلْنَا) ظُهُور عدمهَا (مَمْنُوع) أَن عدم الْعلم بِشَيْء وَلَو بعد فحص الْعَالم لَا يسْتَلْزم عَدمه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن يستلزمه (لم يتَوَقَّف) الْعَالم بعد الفحص (فِي حكم) لِأَنَّهُ لَا تَخْلُو حَادِثَة من الْحَوَادِث عَن حكم ثَابت من الله تَعَالَى مَعَ أَمارَة أُقِيمَت عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الْحق عِنْد أهل التَّحْقِيق، وَمن ضَرُورَة استلزام عدم الْعلم بالشَّيْء عدم استلزام وجود الْعلم فَلَا وَجه للتوقف (وَقد ثَبت) التَّوَقُّف (عَن الْأَئِمَّة) الْمُجْتَهدين فِي كثير من الْأَحْكَام فَإِن قلت لَعَلَّ توقفهم لعدم الْقطع، وَنحن قُلْنَا ظَاهر فِي عدمهَا، وَلم نَدع الْقطع بِهِ قُلْنَا ثَبت عَنْهُم التَّوَقُّف فِيمَا يَكْتَفِي فِيهِ بِالظَّنِّ من الْفُرُوع (فَإِن قيل) لاثبات الْمُقدمَة الممنوعة، وَهُوَ ظُهُور عدم قرينَة الْغَيْر بِإِبْطَال السَّنَد الْمسَاوِي للْمَنْع بزعم الْخصم التَّوَقُّف (نَادِر) كَالْمَعْدُومِ فَلَا يُنَافِي الظُّهُور الْمَذْكُور (قُلْنَا) لتأييد الْمَنْع بِسَنَد آخر إِن لم يسلم ذَلِك السَّنَد (فمواضع الْخلاف) بَين الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ والنافين، أَو بَين الْمُجْتَهدين فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (كَثِيرَة تفِيد) تِلْكَ الْمَوَاضِع (عدم الْوُجُود بالفحص) أَي عدم وجود علم (للْعَالم) بِسَبَب الفحص مَعَ وجود المفحوص عَنهُ فِي الْوَاقِع، أَو عدم وجود مَا فحص عَنهُ لما زعمتم من أَن عدم علم الْعَالم بِهِ دَلِيل على عَدمه وَهُوَ بَاطِل لوُجُوده بِدَلِيل مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده الْمُخَالف تَوْضِيحه أَن كلا من الْمُجْتَهدين

ص: 108

المخالفين لم يعلم ما أدى إليه اجتهاد الآخر، ولا شك أن ما أدى إليه اجتهاد أحدهما حكم الله لم يعلمه الآخر مع وجوده في نفس الأمر، والمفروض أن قول كل منهما نقيض الآخر لجاز أن لا يكون شيء منهما حكم الله (ولو سلم) ظهور عدم علم العالم بعد الفحص في عدم قرينة غير المنفي عن المسكوت (في) كلام (غير الشارع) لعدم سعة دائرة ما يقصدون بالتخصيص من الفوائد بحيث لا يمكن إحاطة علم العالم بها (اقتصر) جواب لو: أي اقتصر اعتبار المفهوم على كلام غير الشارع (فقلنا به) أي باعتبار المفهوم (في غيره) أي في كلام غير الشارع (من المتكلمين للزوم الانتفاء) أي انتفاء فائدة التخصيص اللام متعلق بقلنا (لولاه) أي لولا انتفاء الحكم عن المسكوت، فالضمير راجع إلى الانتفاء بطريق الاستخدام، وذلك لما فرض من تسليم استلزام عدم علم العالم الفاحص عن قرينة غير انتفاء الحكم عن المسكوت عدمها (أما الشارع فللقطع بقصدها) أي الفائدة إجمالا (منه) أي من الشارع في التخصيص (يجب تقديرها) أي اعتبار الفائدة في كلامه المخصص واعتقاد وجودها فيه إجمالا (فلا يلزم الانتفاء) أي انتفاء الفائدة (لولا الانتفاء) أي انتفاء الحكم عن المسكوت (فإثباته) أي نفي الحكم عن المسكوت (إقدام على تشريع حكم بلا ملجئ) أي موجب، فلزوم انتفاء الفائدة لولا اعتبار انتفاء الحكم عن المسكوت للعمل بوجود الفائدة إجمالا من غير دليل على تعيينها. (فإن قيل) نفي الحكم عن المسكوت (ظني) فيكفي لإثباته ظن أن لا فائدة في التخصيص سواه. (قلنا ظن المعين) بصيغة المفعول، وهو الانتفاء المذكور (عند انتفاء معينه) بصيغة الفاعل المضاف إلى ضمير المعين، وهي القرينة المعينة له (ممنوع، وعلمت أنه) أي المعين للنفي المذكور (لزوم انتفاء الفائدة) أي فائدة التخصيص إن لم يرد به (وانتفاءه) أي وعلمت انتفاء اللزوم المذكور لا سيما في كلام الشارع (واندفع بما ذكرنا قولهم) أي المثبتين للمفهوم (تثبت دلالة الإيماء) وهو قران الحكم بما لو لم يكن علة له كان بعيدا على ما مر (لدفع الاستبعاد) متعلق بتثبت (فالمفهوم) أي فثبوت دلالة التخصيص على النفي المذكور (لدفع عدم الفائدة) اللازم على تقدير عدم انتفاء الحكم عن المسكوت (أولى) لأن الاحتراز عن إيراد ما لا فائدة فيه أهم منه عن الاستبعاد (ولو جعل) القول المذكور (إثباتا لإثبات الوضع بالفائدة) ردا على من حكم ببطلان إثبات الوضع بها، وكلمة لو وصلية إشارة إلى أنه لا فرق في الاندفاع بين أن يجعل دليلا مستقلا على المطلوب كما فعله القاضي عضد الدين، وبين أن يجعل جوابا ثانيا يمنع إثبات الوضع بالفائدة كما فعل غيره من شارحي المختصر، ووجه الاندفاع ظهور الفرق بين ثبوت دلالة الإيماء، ودلالة التخصيص لظهور وجود القرينة المعينة هناك،

ص: 109

وهو الاستبعاد المذكور على ما مر، وعدمه ههنا لعدم لزوم عدم الفائدة على ما بين بما لا مزيد عليه (وأما الاعتراض عليه) أي الدليل المذكور، وهو لزوم خلو التخصيص عن الفائدة (بأن تقوية دلالته) أي دلالة ما وقع فيه التخصيص (على الثبوت) أي ثبوت الحكم المنطوق (في الموصوف) بدفع توهم خروجه على سبيل التخصيص (فائدة) فإنه لو قال في الغنم زكاة توهم أن يراد في المعلوفة دون السائمة زال الوهم (وكذا) في المشروط والمغيا، والمعدود، وكذا الاعتراض على الدليل المذكور بأن يقال (ثواب القياس) والاجتهاد في إلحاق المسكوت بالمذكور لاشتراكهما في العلة فائدة تصلح لأن يكون التخصيصلها فلا يتعين النفي المذكور لأن يكون فائدة له (فدفع الأول بأنه) أي الأول، وهو التقوية المذكورة (فرع عموم الموصوف في نحو في الغنم السائمة زكاة) حتى يكون معناه في الغنم سيما السائمة زكاة (ولا قائل به) أي بعموم الموصوف في نحوه (ولو ثبت) العموم (في مادة) كالصورة المذكورة فرضا (وصار المعنى في الغنم سيما السائمة) زكاة (خرج عن) محل (النزاع) لأن النزاع فيما لا شيء يقتضي التخصيص فيه سوى مخالفة المسكوت عنه للمذكور، ودفع وهم التخصيص فائدة سواها (و) دفع (الثاني بأنا شرطنا في دلالته) أي التخصيص على نفي الحكم عن المسكوت (عدم المساواة في المناط) أي عدم مساواة المسكوت عنه للمنطوق في علة الحكم (والرجحان) أي وعدم كونه أولى من المنطوق به، وثواب الاجتهاد إنما يتصور فيما إذا كانا متساويين في العلة وإلحاق المسكوت في الحكم بالمنطوق بدلالة النص إنما يكون عند الرجحان (وسيدفع هذا) أي الدفع الثاني (ونقضه) أي الدليل المذكور (بمفهوم اللقب) وهو تعليق الحكم بجامد كفي الغنم زكاة، بأن يقال لو لم يدل على نفي الحكم عما عداه لم يكن التخصيص باللقب مفيدا، فيلزمكم إثباته ولستم بمثبتيه، وإن أثبته شذوذ (مدفوع بأنه) أي ذكر اللقب (ليصح الأصل) أي أصل الكلام في إفادة أصل المراد فإنه يختل بدونه، وهذا أعظم فائدة. (ومن أدلتهم) أي القائلين بالمفهوم (المزيفة) أي المضعفة، وأصله زيف الدراهم: إذا جعلها زيوفا مردودة لغش (لو لم يكن) التخصيص (للحصر لزم اشتراك المسكوت، والمذكور في الحكم) لعدم الواسطة بين الاختصاص والاشتراك (وهو) أي الاشتراك (منتف) اتفاقا (للقطع بأنه) أي الحكم (ليس له) أي للمسكوت (بل) هو للمذكور (محتمل) لأن يكون ثابتا للمسكوت أيضا، فتعين الحصر (ودفع بمنع الملازمة) أي لا نسلم أنه لو لم يكن للحصر لزم الاشتراك (بل اللازم) إذن (عدم الدلالة) أي عدم دلالة التخصيص (على اختصاص ولا) على (اشتراك، بل) الدلالة (على مجرد تعلق الحكم بالمذكور) والمسكوت على

ص: 110

الاحتمال (وللإمام) أي إمام الحرمين استدلال (قريب منه) أي من هذا الدليل، وهو أن التخصيص (لو لم يفد) بيان (الحصر لم يفد اختصاص الحكم) بالمذكور دون غيره، واللازم منتف، أما الملازمة فلأنه لا معنى للحصر فيه إلا اختصاصه به دون غيره، وأما انتفاء اللازم فللعلم الضروري أنه يفيد اختصاص الحكم بالمذكور، وإليه أشار بقوله (لكنه يفيده في المذكور، وجوابه منع انتفاء اللازم) بأن يقال لا نسلم أن عدم إفادته الاختصاص منتف (بل إنما يفيد الحكم على المذكور لاختصاصه به) أي بالمذكور (مع ما في تركيبه) أي جوابه المنع مع الذي في تركيب الدليل أو المستدل من المحذور، يعني المصادرة على المطلوب أو ما يقرب منه (إذ هو) أي ما في التركيب ما حاصله (لو لم يفد الحصر لم يفد الحصر) قال الأبهري: في تالي هذه الشرطية تفصيل ليس في مقدمها، فلا يعد من استلزام الشيء لنفسه، وفي نقيض تاليها تفصيل ليس في نقيض مقدمها، فلا يعد من المصادرة على المطلوب، بل هو من الاستدلال من التفصيل على الجملة انتهى. وقال المحقق التفتازاني: لا تفاوت بين المقدم والتالي إلا في اللفظ، وكان لفظ الاختصاص أوضح دلالة فجعل التالي انتهى، فغاية العناية به الفرار عن المحذورين لا إثبات المطلوب (وما روي لأزيدن على السبعين) أي ومن أدلتهم المزيفة احتجاجهم بأنه صلى الله عليه وسلم فهم مفهوم العدد من قوله تعالى -إن تستغفر لهم سبعين مرة-، وهو أعلم الناس بلسان العرب لما روي عنه صلى الله عليه وسلم "لأزيدن على السبعين" في الصحيحين "لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي على عبد الله بن أبي ابن سلول، قام عمر، فأخذ بثوبه، فقال يا رسول الله: تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم إنما خيرني الله فقال تعالى -استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة- وسأزيد على السبعين" وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد في تفسيره عن قتادة والطبري عن عروة مرسلا بلفظ الكتاب، ولو لم يفهم صلى الله عليه وسلم أن حكم ما زاد على السبعين خلاف حكمها، وهو المغفرة لما قال ذلك، بل امتنع عن الاستغفار، وإذا ثبت مفهوم العدد ثبت مفهوم الصفة بالطريق الأولى، ولذا كل من قال بمفهوم العدد قال بمفهوم الصفة من غير عكس، وكذا ثبت مفهوم الشرط لكونه أقوى لمثل ما ذكرنا، وكذا الحال في مفهوم الغاية. (وأجيب بأنه) أي ما روي (ليس محل النزاع للعلم بأن ذكرها) أي السبعين ليس لتقييد عدم المغفرة بخصوص هذا العدد بل (للمبالغة) في الكثرة، فإنها صارت معناها عرفا في مثل هذا المقام، فالمراد سلب المغفرة بالكلية وإقناط منها، وإن بلغ عدد الاستغفار غاية الكثرة، ويلزمه عدم التفاوت بينها وبين ما فوقها، وإليه أشار بقوله (واتحاد الحكم في الزائد) أي وللعلم باتحاده

ص: 111

فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك (فكيف يفهم الاختلاف) بأن يكون حكم سبعين عدم المغفرة، وحكم ما زاد عليها المغفرة (فلأزيدن تأليف) أي فقوله صلى الله عليه وسلم لأزيدن تأليف لقلب ابنه وأقاربه من المؤمنين، روي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان من المخلصين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر الله له ففعل، فنزلت، فقال صلى الله عليه وسلم "لأزيدن على السبعين" على أنه لم يكن عند ذلك ممنوعا عن الاستغفار لهم حتى يلزم مخالفة النهي. وقد يجاب عنه بأنه يجوز أن يكون من قبيل حل الكلام على غير المراد مع العلم به استعطافا وطلبا للرحمة والفضل كقول القبعثرى للحجاج وقد قال له متوعدا: لأحملنك على الأدهم، يعني القيد: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب يحمل كلامه على الفرس الأدهم، فقال ثانيا: إنه حديد، فقال: لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا: الأدهم الذي غلب سواده حتى ذهب البياض الذي فيه، والأشهب الذي غلب بياضه حتى ذهب ما فيه من السواد، ثم أجاب بطريق التنزل وفرض كونه من محل النزاع وأنه ليس للمبالغة فقال:(وعلم أن الاختلاف) أي اختلاف السبعين والزائد عليها في الحكم (جائز) خبر أن (إن ثبت) العلم المذكور (يجب كونه) أي ذلك الثبوت أو العلم حاصلا (من خصوص المادة) فقوله يجب إلخ جواب الشرطن وهو مع جزائه خبر المبتدأ: أعني علم وفي كلمة إن إشارة إلى أنه لم يثبت. يعني إن فرض علمه صلى الله عليه وسلم بأن حكم ما زاد على السبعين بخلاف السبعين، وهو الغفران، فذلك العلم ليس بسبب مفهوم العدد، بل يجب كونه من خصوص المادة (وهو) أي خصوص المادة (قبول دعائه) صلى الله عليه وسلم. ولا يخفى بعد هذا العلم بعد العلم بموت ابن أبي على الكفر (وقول يعلى بن أمية لعمر ما بالنا نقصر وقد أمنا) أي ومن الأدلة المزيفة احتجاجهم بأن يعلى وهو من البلغاء فهم مفهوم المخالفة من قوله تعالى -ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم- الآية، وأن القصر مقصور على الخوف، فقال وما بالنا إلى آخره ووافقه عمر في فهم ذلك، ولذا لم يرد عليه في فهمه ذلك (في الشرط) متعلق بيعلى، فإن هذا القول الدال على فهم المفهوم المخالف إنما وقع منه في مادة الشرط، وإذا ثبت فيه يثبت في الباقي قياسا عليه، فقال عمر ليعلى (عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم) فدل على أنه صلى الله عليه وسلم أقر عمر في فهمه مفهوم الشرط ولم ينكر عليه كما أنه أقر يعلى عليه غير أنه بين عدم إرادة المفهوم في خصوص المادة بقوله صدقة، يعني حكم الرخصة في السفر يعم الخوف والأمن

ص: 112

وإن كان سببه الخوف فالتخصيص بالشرط لا بد له من فائدة لوقوعه في كلام الله لمزيد العناية بشأنه لكونه سببا للتشريع في الأصل إلى غير ذلك (والجواب) منع بلزوم فهم المفهوم من كلامهما، والسند (جواز بنائهما) العجب من القصر (على الأصل) في الصلاة قبل رخصة القصر للخوف (وهو) أي الأصل المذكور (الإتمام وإنما خولف) الأصل (في الخوف) لورود النص، وخلاف الأصل مقتصر على مورد النص، فيبقى فيما عداه على الأصل، قيل هذا مخالف لما ذهب إليه أصحابنا رحمهم الله من أن الأصل في السفر عندنا القصر، والإتمام في حق المقيم بعارض الإقامة حتى لو صلى المسافر الرباعية أربعا إن أتى بالقعدة الأولى أساء، وإلا فسدت صلاته، ويشهد لهم ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها "فرض الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في السفر والحضر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر" واللفظ للبخاري، والجواب أن سند المنع جواز بنائهما على الأصل هو الإتمام لما يفهم من نفي الجناح المقرون بما يصلح لعليته من الخوف، فإن المتبادر منه أنه لولا ذلك كان المطلوب الإتمام، وبالجملة لا يلزم كون تلك الأصالة المظنونة لهما لما قامت عندهما من الأمارة مذهبا لأصحابنا (وإن في القول به تكثير الفائدة) أي ومن الأدلة المزيفة أن في القول بمفهوم المخالفة تكثير فائدة الكلام اللائق ببلاغته لاستلزامه نفي الحكم عن المسكوت مع إثباته للمذكور (ونقض) هذا الدليل نقضا إجمالي، والناقض الآمدي (بلزوم الدور) لأنه يتوقف حينئذ ثبوت المفهوم على التكثير لكونه علة لوضع التخصيص له مع أن التكثير متوقف عليه لحصوله به (وليس) هذا النقض (بشيء، لظهور أن الموقوف عليه الدلالة) أي دلالة اللفظ على نفي الحكم عن المسكوت (تعقلها) أي تعقل الواضع كثرة الفائدة (واقعة) مفعول ثان للتعقل لتضمنه معنى العلم فعلم أن علة الوضع قصورها بصفة الوقوع لا تحققها في نفس الأمر (وتحققها) أي كثرة الفائدة بحسب الواقع (هو الموقوف عليها) أي الدلالة، فالدلالة متأخرة عنها باعتبار الوجود الذهني متقدمة عليها باعتبار الوجود الخارجي، هكذا شأن العلل الغائية (بل الجواب ما تقدم) من أنه يلزمه إثبات اللغة بالفائدة وهو باطل، ولا يدفعه تحقيق الاستدلال ههنا كما دفعه هناك وهو ظاهر (وأنه لو لم يكن المسكوت مخالفا) المذكور في الحكم (لزم حصول الطهارة قبل السبع) أي ومن أدلتهم المزيفة على مفهوم العدد أنه لو لم يكن المسكوت، وهو ما دون السبع مخالفا للمذكور، وهو السبع لزم حصول طهارة الإناء الذي ولغ فيه الكلب قبل أن يغسل سبع مرات (في) حديث ذكر في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة مرفوعا (طهور إناء أحدكم) إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات إحداهن بالتراب". (والتحريم) أي وحصول تحريم النكاح

ص: 113

بين رجل وامرأة اشتركتا في رضاع مدته (قبل الخمس) أي خمس رضعات (في خمس رضعات يحرمن) في حديث صحيح ذكره مسلم وغيره عن عائشة موقوفًا عليها (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ من القرآن) بيان ذلك أنه إذا لم يعتبر مفهوم العدد كان حكم ما دون الخمس في التحريم كالخمس (ويلزم) عند تحصيل الطهارة والتحريم بالعدد المذكورين (تحصيل الحاصل) لحصولهما قبل تحقق العددين بالأقل منهما (والجواب منع الملازمة) لأن المراد بقوله لو لم يكن المسكوت مخالفا فرض عدم دلالة التخصيص على كونه مخالفا لاعدم كونه في نفس الأمر، لأن المدعى إنما هو الدلالة المذكورة فلابد من فرض نقيضها، وبيان استلزامه المحال. وحاصل المنع أنه لا نسلم أن اللازم على تقدير نقيض المدعى لزوم حصول الطهارة إلى آخره (بل اللازم عدم الدلالة على نفي الطهارة والتحريم) قبل تحقق السبع (وإنما يلزم ما ذكر) من التحريم قبل الخمس (لو لم يكن الأصل) المعتمد قبل هذا النص (عدم التحريم) أي عدم تحريم النكاح بين كل اثنين من الذكر والأنثى إذا لم يكن ثمة شيء من موجباته لكن الواقع كون الأصل عدم التحريم (فيبقى) عدم التحريم الذي هو موجب الأصل مستمرًا (إلى وجود ما علق) التحريم (به) وهو الخمس من الرضعات المعلق بها (ضده) أي ضد عدم التحريم، وهو التحريم (ولذا صارت النجاسة) الحاصلة من ولوغ الكلب في الإناء (متقررة) في الإناء (بالدليل) وهو العلم بولوغ نجس العين المستلزم إصابة لعابه المتولد من لحمه الاناء (فتبقى) تلك النجاسة مستمرة (كذلك) أي إلى وجود ما علق به ضد النجاسة: أي الطهارة، وهو السبع من الغسلات، وهذا كله مبني على مذهب الشافعية، (وأما الحنفية فالتحريم) بالرضاع عندهم لا يتوقف على السبع، بل يثبت (بالثلاث) على ما ذكر الحاكم في إشاراته، ونقل عن أبي حنيفة رحمه الله وجوبها واستحباب الأربعة بعدها أو بغلبة ظن زوالها على ما ذكره الوبري من أنه لا توقيت في غسلها، بل العبرة لأكبر الرأي ولو مرة، ونقله النووي عن ابي حنيفة رحمهما الله. قال شيخ الإسلام ظاهر الرواية نجاسة عين الكلب، وفرع عليه قاضيخان بتنجس البئر الواقع فيها الكلب وإن لم يصب فمه الماء، لكنه اختار طهارة عينه، ونجاسة لحمه، وما يتولد منه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (أيما إهاب دبغ فقد طهر). رواه الترمذي وصححه، وإخراج الخنزير منه لمعارضة الكتاب إياه، فعلى هذا نجاسته لنجاسة سائر السباع (وهما) أي توقف التحريم بالرضاع على خمس،

ص: 114

وتوقف طهارة الإناء على سبع (منسوخان) عندهم، وحكمهم بالنسخ إما بالاجتهاد، وإما بالنقل، وأفاد الأول بقوله (اجتهاد بالترجيح) نقل الشارح في تفسيره: أي بسبب ترجيح ما عندهم من المعارضة فإن كل موضع تعارض فيه دليلا، فرجح المجتهد أحدهما يلزم بالضرورة القول بمنسوخية الآخر، وإلا كان تركا لدليل صحيح عن الشارع فتأمل انتهى، لعل وجه التأمل أن الترجيح لا يستلزم النسخ لجواز عدم صدور المرجوح عن الشارع في الواقع، لأن أخبار الآحاد لا يفيد إلا الظن، فلا يقطع بعدم نقيضه، والمعارض الراجح ما روى ابن عدي عن عطاء عن ابي هريرة مرفوعا " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات " مع ما أخرجه الدارقطني بسند صحيح عن عطاء موقوفا على أبي هريرة أنه كان إذا ولغ الكلب في الإناء أهرقه ثم غسله ثلاث مرات، أو ثبوت عمل أبي هريرة، وهو راوي السبع على خلاف روايته يوجب ومنافيها فيعارضه، وتقد عليه لما ثبت من نسخ التشديد في أمر الكلاب أول الأمر حتى أمر بقتلها على أن القياس بسائر النجاسات أيضا يفيد التحريم، وفي تحريم قليل الرضاع إطلاق الكتاب كقوله تعالى - وأمهاتكم التي أرضعنكم - والسنة لحديث " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "، ويقدم لقطعية الكتاب وسلامة الحديث من القوادح سندا ومتنا، بخلاف حديث الخمس فقد قال الطحاوي منكر، والقاضي عياض لا حجة فيه، لأن عائشة رضي الله عنها أحالت ذلك على أنه قرآن. وقد ثبت أنه ليس بقرآن، ولا تحل القراءة به، ولا إثباته في المصحف إذ القرآن لا يثبت بخبر الواحد (أو نقلا) أو هما منسوخان نقلا، والفيد له عمل أبي هريرة على خلافه، فإن ظنية خبر الواحد بالنسبة إلى رواية الذي سمعه من فم النبي صلى الله عليه وسلم فقطعي ينسخ به الكتاب إذا كان قطعي الدلالة، فيلزم أنه لم يتركه إلا قطعه بالنسخ، فتركه بمنزلة روايته للناسخ، وما روى عن ابن عباس لما قيل له: إن الناس يقولون إن الرضعة لا تحرم. قال كان ذلك ثم سخ، وعن ابن مسعود قال " آل أمر الرضاع إلى أن قليله وكثيره يحرم " عن ابن عمر أن القليل يحرم، وهذه الآثار صالحة لنسخ حديث عائشة رضي الله عنها، وإن لم تكافئه في صحة السند لكثرتها، ولما يلزمه من نسخ القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبوت قول الرافضة ذهب كثير من القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تثبته الصحابة، بطلان اللازم من ضروريات الدين. وقد قال الله تعالى - إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون - (فاللازم) على تقدير عدم دلالة التخصيص في الحديثين من حصول الطهارة والتحريم قبل الخمس والسبع على ما ادعى الخصم (حق) في حد ذاته لا من حيث أنه لازم لما عرفت من أن الملازمة غير مسلمة (فيسقطان)

ص: 115

أي الدليلان المذكوران، (واعلم ان المعول عليه نفي المفهوم عدم ما يوجبه) أي القول به (إذا علم أن الأوجه) المذكورة لاثباته (لم تفده) أي الاثبات (وأيضا الاتفاق) من الفريقين على أن المصير إليه) أي القول بالمفهوم إنما هو (عند عدم فائدة أخرى) للتخصيص سواء (وهي) أي الفائدة الأخرى (لازمة) متحققة في جميع مواد التخصيص فيجب أن يضار إليه اتفاقا (إذ ثواب الاجتهاد للالحاق) أي إلحاق المسكوت بالمذكور في حكمه بجامع بينهما (فائدة لازمة) للتخصيص (والدفع) بهذا اللزوم (بأن شرطه) أي القول بالمفهوم (عدم المساواة) بين المذكور والمسكوت في المناط، واكتفى بذكر المساواة عن الرجحان لما تقدم ذكرها والوعد بهذا الدفع بقوله، وسيدفع (فعندها) أي المساواة المحل (غير) محل (النزاع) لوجوب اشتراك المذكور والمسكوت في الحكم حينئذ (ليس بشيء) خبر المبتدأ: أعني الدفع (لأن فائدة الثواب) الإضافة بيانية (تلزم الاجتهاد) سواء (أوصل) الاجتهاد (إلى ظن المساواة) بينهما فتحقق الإلحاق (أو) أوصله (إلى عدمها) أي المساواة (أولا) أي أو لم يوصله إلى شيء آخر منها (ثم ينتفي الحكم) الثابت للمذكور عن المسكوت على كل من الأخيرين (بالأصل) وقد مر بيانه (وعدم المساواة ليس لازما بينا لكل تخصيص ليمتنع الاجتهاد لاستكشاف حال المسكوت) فإنه إذا كان بينا كان عدم مشاركتهما بديهيا غير محتاج إلى اجتهاد واستكشاف (ولهم) أي الحنفية (غيره) أي المعول عليه (أدلة منظور فيها) أي يرد عليها الاعتراض (منها انتفاؤه) أي المفهوم (في الخير نحو الشام غنم سائمة) فإنه لا يدل على عدم المعلوفة فيها لغة وعرفا (مع عموم أوجه الاثبات) أي إثبات المفهوم في الخبر والانشاء، حاصل الاستدلال انه لو كان التخصيص دالا على المفهوم للأوجه المذكورة كان يدل في نحو ما ذكر لجريانها فيه لكنه لا يدل فلا دلالة. (وأجيب) عنه بوجهين (بالتزامه) أي عموم المفهوم فيها (إلا لدليل) خارجي دال على عدم إرادته في البعض (ومنه) أي من ذلك الدليل (المثال) أي ما في مثال المذكور من العلم بوجود المعلوفة فيه (وبالفرق) بين الخبر والإنشاء (بأن كون المسكوت في الخبر غير مخبر عه لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في نفس الأمر) للمسكوت إذ لا يلزم من عدم إدراك الوقوع واللاوقوع عدمها في نفس الأمر، وتوضيحه أن في الخبر نسبتين بين طرفي الحكم خارجية كائنة بينهما في الواقع وذهنية حاكية عن الخارجية، وانتفاء الثانية لا يستلزم انتفاء الأولى (بخلاف الأمر ونحوه) من الإنشاء (فإنه لا خارج له يجري فيه ذلك الاحتمال) وهو كون المسكوت متعلق الحكم في الواقع مع عدم كونه متعلقه في العقل بحسب دلالة اللفظ (فإذا انتفي تعرضه) أي الأمر ونحوه (للمسكوت

ص: 116

ينتفى الحكم عَنهُ فِي نفس الْأَمر) لِأَن ثُبُوت الحكم لَهُ فرع تعرضه (وَدفع الأول) من الْوَجْهَيْنِ (بِأَنَّهُ مُكَابَرَة) لظُهُور عدم اعْتِبَار مَفْهُوم المخالقة فِي الْأَخْبَار مُطلقًا، وَفِيه نظر كَيفَ وأوجه الْإِثْبَات غير مُخْتَصَّة بالإنشاء (و) دفع (الثَّانِي) وَهُوَ الْفرق بَينهمَا (بإفادته) أَي إِفَادَة انْتِفَاء تعرضه للمسكوت (السُّكُوت عَن الْمَسْكُوت) لانْتِفَاء الحكم فِي نفس الْأَمر فَلَا فرق بَينهمَا (وَهُوَ) أَي السُّكُوت عَن المكسوت وَعدم إِفَادَة الحكم ثَابت لَهُ (قَول النافين) للمفهوم فِيهِ أَن قَول النافين السُّكُوت عَنهُ إِثْبَاتًا ونفيا، وَاللَّازِم من انْتِفَاء التَّعَرُّض الَّذِي ذكره الْخصم السُّكُوت عَنهُ إِثْبَاتًا فَقَط (وَمِنْهَا) أَي وَمن الْأَدِلَّة المنظور فِيهَا أَنه (لَو ثَبت الْمَفْهُوم ثَبت التَّعَارُض) فِي حكم الْمَسْكُوت بَين الدَّال على نفي الحكم عَنهُ وَبَين مَا يدل على مشاركته للمذكور فِيهِ (لثُبُوت الْمُخَالفَة) فِي مواد التَّخْصِيص بَين مَا يَقْتَضِيهِ الْمَفْهُوم من نفي الحكم، وَبَين مَا يَقْتَضِيهِ دَلِيل آخر من ثُبُوته للمسكوت (كثيرا) وَيلْزمهُ ثُبُوت التَّعَارُض كثيرا، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة} - إِذْ مَفْهُومه عدم النَّهْي عَن الْقَلِيل إِذْ النَّهْي عَن الْقَلِيل وَالْكثير ثَابت لقَوْله - {وَحرم الرِّبَا} - وَغَيره (وَهُوَ) أَي التَّعَارُض (خلاف الأَصْل لَا يُصَار إِلَيْهِ) أَي التَّعَارُض أَو خلاف الأَصْل (إِلَّا بِدَلِيل) ملجئ إِلَى الْمصير إِلَيْهِ، وَيتَّجه حِينَئِذٍ أَن الْأَدِلَّة الْمَذْكُورَة للمفهوم كَثِيرَة فيصار إِلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (فَإِن أقيم) الدَّلِيل على اعْتِبَاره (فَبعد صِحَّته) فِيهِ إِشَارَة إِلَى عدم صِحَّته وَعدم صلاحيته لِأَن يُعَارض دليلنا لصِحَّته: أَي فَبعد تَسْلِيم صِحَّته (كَانَ دليلنا مُعَارضا) وَإِذا تَعَارضا تساقطا فَلَا يبْقى بعد ذَلِك الِاعْتِبَار الْمَفْهُوم مُرَجّح، وَتعقبه المُصَنّف بِأَن ذَلِك إِذا لم ترجح عَلَيْهِ، فَقَالَ (وَالْحق أَن كل دَلِيل يخرج) الحكم (عَن الأَصْل) بإفادته إِيَّاه على خلاف إِفَادَة مَا يُوَافق الأَصْل (بعد صِحَّته يقدم) ذَلِك الدَّلِيل الْمخْرج على مَا يُوَافق (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يقدم (لزم مثله) أَي مثل مَا ذكر من ثُبُوت التَّعَارُض الَّذِي هُوَ خلاف الأَصْل إِلَى آخِره (فِي حجية خبر الْوَاحِد وَغَيره) مِمَّا يدل على خلاف الأَصْل يَعْنِي إِذا دلّ ظَنِّي كالقياس على حكم مُوَافق للْأَصْل، وَخبر الْوَاحِد على خِلَافه يُقَال: لَو ثَبت حجية الْخَبَر ثَبت التَّعَارُض، ثمَّ تقديمهم الْمخْرج عَن الأَصْل كترجيحهم بَيِّنَة الْخَارِج على ذِي الْيَد (وَيدْفَع) هَذَا الْإِيرَاد: أَعنِي تَقْدِيم الْمخْرج للُزُوم مثله الخ من قبل النافين (بِأَن ذَلِك) أَي تَرْجِيح مُثبت خلاف الأَصْل إِنَّمَا هُوَ (عِنْد تساويهما) أَي الْأَدِلَّة المتعارضة (فِي استلزام الْمَطْلُوب وأدلتكم) أَيهَا المثبتون (بَينا أَن شَيْئا مِنْهَا لَا يسْتَلْزم اعْتِبَاره) أَي الْمَفْهُوم فَإِذن لَا تصلح، لِأَن تعَارض أدلتنا لاستلزامها عدم اعْتِبَاره (وَمثله فِي الشَّرْط) أَي وَمثل ذكره فِي الصّفة من الْأَدِلَّة مَا أورد عَلَيْهَا ذكره

ص: 117

فِي الشَّرْط (من الْجَانِبَيْنِ) الْمُثبت والنافي (وَشَرطه) أَي مَفْهُوم الشَّرْط (وَمَا تقدم من عدم خُرُوجه) أَي الْقَيْد، وَهُوَ الشَّرْط هَهُنَا (مخرج الْغَالِب) وَقد مر تَفْسِيره كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا} - على أحد الْوُجُوه (وَنَحْوه) مِمَّا لَا يتَعَيَّن مَعَه كَون الْمَفْهُوم فَائِدَة للتَّقْيِيد (ويخصه) أَي مَفْهُوم الشَّرْط (قَوْلهم أَنه) أَي الشَّرْط (سَبَب) للجزاء (فعلى) تَقْدِير (اتحاده) أَي السَّبَب انْتِفَاء الحكم عَنهُ انْتِفَاء الشَّرْط (ظَاهر) ضَرُورَة انْتِفَاء الشَّيْء عِنْد انْتِفَاء السَّبَب بِالْكُلِّيَّةِ (وعَلى) تَقْدِير (جَوَاز التَّعَدُّد) أَي تعدد السَّبَب (الأَصْل عدم غَيره) أَي الشَّرْط من الْأَسْبَاب الْأُخَر، فَإِن سَبَبِيَّة الشَّرْط مَعْلُومَة وسببية غَيره غير مَعْلُومَة، وَالْأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْعَدَم كَمَا أَفَادَ بقوله (فَإِذا انْتَفَى) الشَّرْط الَّذِي هُوَ السَّبَب (انْتَفَى) الْمُسَبّب (مُطلقًا) لانحصار السَّبَب فِيهِ لما ذكر (مُلَاحظَة النَّفْي الْأَصْلِيّ مَا لم يقم دَلِيل الْوُجُود) أَي وجود سَبَب آخر للجزاء (مَعَ أَن الْكَلَام فِيمَا إِذا استقصى الْبَحْث) أَي بولغ فِي التفتيش والفحص إِلَى أقْصَى الْغَايَة (عَن) وجود سَبَب (آخر فَلم يُوجد فَإِن احْتِمَال وجوده) أَي سَبَب آخر (يضعف) حِينَئِذٍ جدا (فيترجح الْعَدَم) رجحانا تَاما (وَالْمَفْهُوم) ثُبُوته (ظَنِّي لَا يُؤثر فِيهِ) ذَلِك (الِاحْتِمَال) الضَّعِيف، بل حَقِيقَة الظَّن لَا يتَحَقَّق بِدُونِهِ، وَالِاحْتِمَال الْمَرْجُوح إِنَّمَا يُنَافِي الْقطعِي (وَلَا يخفى أَن هَذَا) التَّقْرِير (رُجُوع عَن أَنه) أَي مَفْهُوم الشَّرْط (مَدْلُول اللَّفْظ إِلَى إِضَافَته) أَي الْمَفْهُوم (إِلَى انْتِفَاء السَّبَب) فكأنهم اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ لَا يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ، بل يدل عَلَيْهِ دَلِيل عَقْلِي هُوَ انْتِفَاء السَّبَب المستلزم انْتِفَاء الْمُسَبّب الَّذِي هُوَ الحكم (وَهُوَ) أَي الرُّجُوع إِلَيْهَا (قَول الْحَنَفِيَّة أَنه) أَي انتفام الحكم عِنْد عدم الشَّرْط (يبْقى على عَدمه الْأَصْلِيّ فِي التَّحْقِيق) ظرف لنسبة الْخَبَر إِلَى الْمُبْتَدَأ (وَالْأَقْرَب لَهُم) أَي المثبتة (إِضَافَته) أَي مَفْهُوم الشَّرْط (إِلَى شَرْطِيَّة اللَّفْظ المفادة للأداة) بِنَاء (على أَن الشَّرْط) الَّذِي هُوَ من حَيْثُ شرطيته مفادة للأداة لُغَة مَعْنَاهَا (مَا ينتفى الْجَزَاء بانتفائه فَيكون) انْتِفَاء الْجَزَاء لانْتِفَاء الشَّرْط (مدلولا) لفظيا (للأداة) إِشَارَة إِلَى مَا قَالُوا من أَن أهل اللُّغَة قاطبة أطْلقُوا حرف الشَّرْط على كلمة إِن، وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة، فَيكون مَا دخلت عَلَيْهِ شرطا، وَالشّرط ينتفى الْمَشْرُوط بانتفائه: أَلا ترى أَن الْعلم وَالزَّكَاة ينتفيان بِانْتِفَاء الْحَيَاة والحول انْتهى، وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه من بَاب اشْتِبَاه الشَّرْط الْحكمِي بِالشّرطِ النَّحْوِيّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالْجَوَاب منع كَون الشَّرْط) النَّحْوِيّ شَيْئا (سوى مَا جعل سَببا للجزاء) ذهنا أَو خَارِجا سَوَاء كَانَ عِلّة للجزاء كطلوع الشَّمْس لوُجُود النَّهَار أَو معلولاله كَعَكْسِهِ أَو غَيرهمَا، كَانَ دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق (والانتفاء) أَي انْتِفَاء الْجَزَاء (للانتفاء) أَي لانْتِفَاء الشَّرْط (لَيْسَ

ص: 118

من مفهومه) أي الشرط مستفادًا من أدلته (بل) الانتفاء للانتفاء (لازم لتحققه) أي الشرط غالبا لانحصار السببية فيه وعدم وجود شيء بدون سببه (ويجيء الأول) وهو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط لعدم دليل ثبوته (ويتحد) حينئذ قول مثبته (بقول الحنفية) أن عدم المشروط هو العدم الأصلي (وفائدة الخلاف أن النفي) أي نفي الحكم عند عدم الشرط (حكم شرعي عنده) أي عند الشافعي رحمه الله لكونه مدلول الدليل اللفظي عنده (وعدم أصلي عندهم) أي الحنفية (فلا يخص) عموم ما وراء المحرمات المذكورة قبل قوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم بمفهوم) قوله تعالى (ومن لم يستطع الآية) فإن قوله تعالى - ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات - يدل بمفهومه عند القائل بمفهوم الشرط على عدم حل نكاح الأمة عند القدرة على نكاح الحرة المؤمنة بالقدرة على المهر فيخص به عموم ما ذكر، ولما لم تقل به لم يخصص به، لأن مدلول الشرط المذكور عندنا الحل عند عدم الاستطاعة من غير تعرض بحال الاستطاعة، ولولا أن قوله تعالى - وأحل لكم ما وراء ذلكم -، دل بعمومه على جواز نكاح الأمة عند الاستطاعة المذكورة لكنا نقول بعدم جوازه بناء على العدم الأصلي لا لمفهوم الشرط، كذا قيل، وفيه نظر (وإن لم يشترط الاتصال) أي اتصال المخصص بالخصص وإن وصلية متصلة فلا يخص (كقوله) أي الشافعي إشارة إلى خلافية أخرى، وهي أن من شرط المخصص أن يكون متصلا بما يخصص به عندنا خلافا له، فهذا بحث على طريق التنزل، وإيماء إلى مانع آخر عن التخصيص (و) كما لا يخص عموم ما ذكر بمفهوم من لم يستطع كذلك (لا ينسخ) به بناء (على قولنا) الخاص (المتأخر ناسخ) للعام المتقدم في القدر الذي وقع فيه التعارض بينهما، لأن التخصيص والنسخ ههنا فرع اعتبار مفهوم المخالفة، وإفادة الشرط المذكور عدم نكاح الأمة مع استطاعة الحرة المؤمنة، وحيث لا دلالة له عليه لا يتحقق شيء منها (خلافا له) أي الشافعي رحمه الله فإنه يقول إن الخاص المتأخر المتراخي مخصص لا ناسخ كما سيأتي، يعني لو اعتبر هنا مفهوم المخالفة لكان يلزم أحد الأمرين: إما التخصيص على قول من يقول: الخاص المتأخر مخصص، وإما النسخ على من يقول ناسخ، وذلك لأن قوله تعالى - ومن لم يستطع - الاية متأخر متراخ من قوله - وأحل لكم ما وراء ذلكم - (وما قيل من بناء الخلاف) المذكور، وهو أن النفي حكم شرعي عنده عدم أصلي عندنا (على أن الشرط) والتعليق في مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق (مانع من انعقاد السبب) أي سبب الحكم قبل وجود فأنت طالق لا يتصف بسبيته للطلاق

ص: 119

قبل دخول الدار (فعدم الحكم) كالطلاق (بالأصل عندنا) لأن الأصل في الأحكام وغيرها العدم عند عدم أسبابها على أن الشرط مانع (من) انعقاد (الحكم عنده) لا من انعقاد السبب، بل السبب موجود مع وجود التعليق، ونظيره التعليق الحسي في القنديل، فإنه مانع عن السقوط لا عن سببه الذي هو الثقل، وعدم الحكم (بانتفاء شرطه) عند وجود سببه لا يكون عدما أصليا، بل يكون حكما شرعيا، وسيجيء أن هذا الكلام غلط كما لا يخفى على الفطن (وانبنى عليه) أي على كون الشرط مانع السبب، أو الحكم (صحة تعليق الطلاق) للاجنبة، (و) تعليق (العتاق) لغير المملوك (بالملك) أي يملك النكاح في الطلاق كقوله إن تزوجت فلانة فهي طالق، وبملك الرقبة في العتاق كقولك: إن ملكتك فأنت حر (عندنا) ظرف للصحة حتى إذا ملك يقع الطلاق والعتاق (و) ابتنى على ما ذكر (عدمه) أي عدم صحة تعليقهما بالملك (عنده) أي الشافعي رحمه الله ظرف لعدم الصحة، وجه الابتناء أن وجود المحل شرط لانعقاد السبب، وقبل الملك لا وجود له فلا ينعقد، وإذا كان تأثير التعليق في عدم انعقاد الحكم فقط، فالسبب باق على سببته وصحة التعليق تستلزم صحة السببية فعدم وجود المحلي يستلزم عدم صحة السببية، وعدم السببية يستلزم عدم صحة التعليق.

ولما كان تأثير التعليق عندنا في السبب والحكم معا صح التعليق بدون السبب (بل الصحة) أي صحة تعليقهما بالملك حال عدم قيامه (أولى منها) أي من صحة تعليقهما بغير الملك كما هو على خطر التحقق مع زوال الملك (حال قيامه) أي الملك (للتيقن بوجود المحل) هو الملك في التعليق بالملك (عند) وجود (الشرط) وهو عين الملك، بخلاف ما إذا علقا بغير الملك، والملك موجود في زمان التعليق لجواز زواله عند وجود الشرط (وكذا) يبتني على المبتني المذكور (تعجيل المنذور المعلق) بشرط قبل وجود الشرط، نحو: إن شفى الله مريضي فالله علي أن أتصدق بكذا جوازا وامتناعا (يمتنع عندنا) لعدم انعقاد السبب، وعدم صحة أداء الواجب قبل وجود سببه، فإن تصدق بذلك قبل الشفاء لا يمنع، ويجب التصدق بعده (خلافا له) أي الشافعي رحمه الله فإنه يجوز عنده التعجيل قبل وجود الشرط لانعقاد السبب، وإنما مثلناه في المنذور المالي للاتفاق على أنه في البدني كالصلاة والصوم لا يجوز التعجيل قبل وجود الشرط (غلط) خبر المبتدأ، أعني ما قيل (لأن ما يدعيه الشافعي سببا) مفعول ثان للادعاء المتضمن معنى الجعل (ينتفي الحكم) المعلق بالشرط (بانتفائه) الضمير للموصوف بالجملة أعني سببا (في الخلافية) المذكورة، وهي أنه هل يدل التعليق بالشرط على انتفاء الحكم المعلق به عند انتفائه أم لا إنما هو (معنى لفظ الشرط لا) معنى لفظ (الجزاء)

ص: 120

كَمَا يفهم مِمَّا قبل (وَالْخلاف الْمشَار إِلَيْهِ) بقوله الشَّرْط مَانع إِلَى آخِره (هُوَ أَن اللَّفْظ الَّذِي ثبتَتْ سببيته) مشروعيته (شرعا) أَي ثبوتا شَرْعِيًّا، أَو سَبَبِيَّة شَرْعِيَّة (لحكم) كَأَنْت طَالِق لإنشاء الطَّلَاق (إِذا جعل جَزَاء لشرط) كَانَ دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق (هَل يسلبه) أَي الْجعل الْمَذْكُور المجعول جَزَاء (سببيته) الثَّابِتَة شرعا (لذَلِك الحكم) الْمُسَبّب شرعا (قبل وجود الشَّرْط) ظرف للسبب (كَأَنْت طَالِق و) أَنْت (حرَّة) مثل اللَّفْظ الثَّابِت سببيته شرعا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (جعل) شرعا (سَببا لزوَال الْملك) أَي ملك النِّكَاح والرقبة (فَإِذا دخل الشَّرْط) على السَّبَب الْمَذْكُور (منع) دُخُوله عَلَيْهِ (الحكم) عَن الِانْعِقَاد (عِنْده) أَي عِنْد الشَّافِعِي (فَقَط) لَا السَّبَب، فَلَا يسلب سببيته قبل وجود الشَّرْط، فغايته تَأْخِير انْعِقَاد الحكم إِلَى وجوده (وَعِنْدنَا منع) دُخُوله عَلَيْهِ (سببيته) أَي السَّبَب الْمَذْكُور، فَيلْزم منع الحكم بِالطَّرِيقِ الأولى (فتفرعت الخلافيات) الْمَذْكُورَة، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن منشأ الْغَلَط اشْتِرَاك الخلافيتين فِي أَمر التَّعْلِيق بِالشّرطِ، وَذكر السَّبَب شرعا، وَعدم الحكم بِانْتِفَاء الشَّرْط وَعدم الْفرق بَين السَّبَب فَمَا نَحن فِيهِ، وَهُوَ الشَّرْط، وَالسَّبَب الْمَذْكُور فِي تِلْكَ الخلافية، وَهُوَ السَّبَب الشَّرْعِيّ الْوَاقِع جَزَاء الشَّرْط، وَأَن عدم سَبَب الشَّرْط سَببه سَبَب الحكم شرعا لَا يسْتَلْزم كَون عدم الحكم عِنْد عدم الشَّرْط حكما شَرْعِيًّا لَا عدما أَصْلِيًّا، وَلَا مُنَاسبَة بَينهمَا، ثمَّ لما بَين عدم بِنَاء الْخلاف فِيمَا نَحن فِيهِ على مَا ذكر أَرَادَ أَن يبين مُنَاسبَة أُخْرَى بَينهمَا، فَقَالَ (وَإِنَّمَا يتفرعان مَعًا) أَي الْخلاف الَّذِي نَحن بصدد بَيَانه، وَمَا جعله الغالط مَبْنِيّ لَهُ (على الْخلاف فِي اعْتِبَار الْجَزَاء) حَال كَونه جُزْءا (من التَّرْكِيب الشرطي) وَالِاعْتِبَار لتَضَمّنه معنى الْجعل يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، فَالْأول مَا أضيف إِلَيْهِ، وَالثَّانِي قَوْله (يُفِيد) أَي الْجَزَاء (حكمه على عُمُوم التقادير) وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله يُفِيد استئنافا لبَيَان الِاعْتِبَار كَأَن سَائِلًا قَالَ كَيفَ الْخلاف فِي اعْتِبَاره، فَقَالَ هَل يُفِيد الْجَزَاء الَّذِي هُوَ سَبَب شَرْعِي لحكم حكمه على جَمِيع التقادير أم لَا بِأَن يدل من حَيْثُ ذَاته مَعَ قطع النّظر على تَقْيِيده بِالشّرطِ على ثُبُوت حكمه فِي جَمِيع الْأَوْقَات بِاعْتِبَار جَمِيع أَحْوَاله وأوضاعه غير أَنه (خصصه الشَّرْط) أَي خصص الشَّرْط عُمُومه الْمُسْتَفَاد مِنْهُ (بِإِخْرَاج مَا) أَي بِإِخْرَاج التقادير الَّتِي هِيَ (سوى مَا تضمنه) الشَّرْط من التقادير الْحَاصِلَة مَعَ وجود الشَّرْط (عَن ثُبُوت الحكم مَعَه) كلمة عَن مُتَعَلقَة بالاخراج، وَضمير مَعَه رَاجع إِلَى مَا سوى الشَّرْط، يَعْنِي يخرج الشَّرْط مَا سوى متضمنه عَن أَن يثبت الحكم مَعَه، فَيلْزم إِفَادَة الشَّرْط نفي الحكم عِنْد التقادير المخرجة (فَيكون النَّفْي) أَي نفي حكم الْجَزَاء عِنْد عدم الشَّرْط (مُضَافا إِلَيْهِ) أَي الشَّرْط (لِأَنَّهُ) أَي الشَّرْط (دَلِيل التَّخْصِيص) أَي تَخْصِيص الحكم بِمَا

ص: 121

تضمنه الشَّرْط، فالثبوت والانتفاء حكمان شرعيان ثابتان بِاللَّفْظِ منطوقا ومفهوما ذكر السَّيِّد الشريف أَن هَذَا ظَاهر مَا ذهب إِلَيْهِ السكاكي لأهل الْعَرَبيَّة، فَإِن عِنْدهم على مَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ الحكم فِي الْجَزَاء وَالشّرط قيد لَهُ بِمَنْزِلَة الظّرْف وَالْحَال حَتَّى أَن الْجَزَاء إِذا كَانَ خَبرا، فالشرطية خبرية وَإِلَّا فإنشائية، فَالْقَوْل بِمَفْهُوم الشَّرْط يتَفَرَّع على هَذَا الْمَذْهَب، كَذَا قيل، وَلَا يظْهر مدافعة مَا نقل عَن الْمُحَقق لكَلَام السكاكي فَتَأمل فَإِن قلت عرفنَا تفرع كَون عدم الحكم حكما شَرْعِيًّا على إِفَادَة الْجَزَاء حكمه على عُمُوم التقادير، وتحصيص الشَّرْط، إِذْ حَاصله قصر الحكم على تقادير، وَهُوَ مركب من حكمين: أَحدهمَا أَن الحكم ثَابت مَعَ تقاديره، وَالثَّانِي أَنه مُنْتَفٍ فِيمَا عَداهَا، لَكِن مَا عرفنَا تفرع كَون الشَّرْط غير مَانع من انْعِقَاد السَّبَب عَلَيْهِ قلت يُمكن أَن يُقَال لما تربت على الشَّرْط التَّأْثِير الْمَذْكُور ناسب أَن يَجْعَل سَببا متراخيا عَنهُ الحكم لَا أمرا خَالِيا عَن السَّبَبِيَّة فَتَأمل جزاءه (وَأهل النّظر) وهم المنطقيون، وَفِي هَذَا التَّعْبِير إِشْعَار بِأَن الصَّوَاب مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ كَمَا هُوَ التَّحْقِيق (يمْنَعُونَ إفادته) أَي الْجَزَاء (شَيْئا) من الحكم (حَال وُقُوعه) أَي الْجَزَاء جُزْءا وَالْمرَاد بِالْأولِ ذَاته، وَبِالثَّانِي وَصفه، يَعْنِي فِي زمَان اتصافه بالجزائية، وَأما إِذا اسْتعْمل بِلَا تَقْيِيد بِالشّرطِ فَيُفِيد الحكم كَسَائِر الْجمل (بل هُوَ) أَي الْجَزَاء (حِينَئِذٍ) أَي حِين كَونه جُزْءا (كزاي زيد) فِي أَنه (جُزْء الْكَلَام الْمُفِيد) أَي للْحكم، وَلَيْسَ بمفيد لَهُ اسْتِقْلَالا، وَلَيْسَ التَّشْبِيه من كل وَجه، فَلَا يتَّجه أَن لَيْسَ فِي الْمُشبه بِهِ دلَالَة أصلا، بِخِلَاف الْمُشبه (فضلا عَن إِيجَابه) أَي الْجَزَاء الحكم (على عُمُوم التقادير) حَتَّى يكون الشَّرْط مُخَصّصا، لذَلِك الْعُمُوم، وفضلا ينصب بِمَحْذُوف، ويتوسط بَين أدنى وَأَعْلَى بعد نفي صَرِيح، أَو ضمني تَنْبِيها بِنَفْي الْأَدْنَى، واستبعاده على نفي الْأَعْلَى، واستحالته، وَضمير ناصبه بمضمون المنفية، نَحْو: فلَان لَا ينظر إِلَى الْفَقِير، فضلا عَن الْإِعْطَاء، من فضل عَن المَال إِذا ذهب أَكْثَره وَبَقِي أَقَله، وَالْمعْنَى نفي عدم النّظر عَن الْإِعْطَاء، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من التهكم (وَالْمَجْمُوع) أَي مَجْمُوع الشَّرْط وَالْجَزَاء عِنْدهم (يُفِيد حكما مُقَيّدا بِالشّرطِ) وَذَلِكَ الحكم الْمُقَيد مَا يُسْتَفَاد من قَوْله (فَإِنَّمَا دلَالَته) أَي الْمَجْمُوع (على الْوُجُود) أَي على مَضْمُون الْجَزَاء (عِنْد وجوده) أَي وجود مَضْمُون الشَّرْط (فَإِذا لم يُوجد) الشَّرْط (بَقِي مَا قيد) أَي الحكم الَّذِي قيد (وجوده بِوُجُودِهِ) أَي الشَّرْط (على عَدمه الْأَصْلِيّ) مُتَعَلق بقوله بَقِي وَذَلِكَ لِأَن الأَصْل فِي الحكم الْعَدَم، وَلم يُوجد مَا يُخرجهُ عَن الأَصْل إِلَّا الحكم بِوُجُودِهِ عِنْد وجود الشَّرْط، وَلم يُوجد الحكم بِوُجُودِهِ عِنْد عدم الشَّرْط ليخرج هُوَ أَيْضا عَن الْعَدَم الْأَصْلِيّ. فَالْقَوْل بِعَدَمِ مَفْهُوم الشَّرْط متفرع على هَذَا التَّحْقِيق وَحَاصِل تَحْقِيق السَّيِّد

ص: 122

فِي هَذَا الْمقَام أَنه لَو كَانَ الْخَبَر هُوَ التَّالِي لم يتَصَوَّر صدق الشّرطِيَّة مَعَ كذبه ضَرُورَة استلزام انْتِفَاء الْمُطلق انْتِفَاء الْمُقَيد وَحَاصِل اعْتِرَاض الدواني عَلَيْهِ منع كَون الْمُطلق الَّذِي قيد بِالشّرطِ ثُبُوت النِّسْبَة بِحَسب الْوَاقِع، بل مَا يعم الْوَاقِع وَالظَّن، فكذب زيد قَائِم فِي الْوَاقِع لَا يسْتَلْزم كذب زيد قَائِم فِي ظَنِّي، فَاعْتبر بدل الظَّن حَال وجود الشَّرْط قلت إِذا أطلق زيد قَائِم يفهم مِنْهُ بِحَسب الْوَاقِع، فَإِذا قيد بِالشّرطِ يُقيد بذلك الِاعْتِبَار، وَلَو قَالَ أَن المُرَاد أَن يتَحَقَّق عِنْد تحَققه أَن يتَحَقَّق فَهُوَ بِعَيْنِه تَحْقِيق أهل النّظر فَتدبر (وَأما تَفْرِيع) جَوَاز (تَعْجِيل الْكَفَّارَة الْمَالِيَّة) أَو أعتق الرَّقَبَة (قبل الْحِنْث) على أَن السَّبَب مُنْعَقد قبل وجود الشَّرْط وَأثر الشَّرْط إِنَّمَا هُوَ فِي تَأْخِير الحكم إِلَى وجوده على مَا مر، فَلَيْسَ بِظَاهِر لعدم لُزُوم التَّعْلِيق وَالْيَمِين (فَقيل) فِي تَأْوِيله أَن تفريعه (بِاعْتِبَار الْمَعْنى) الَّذِي هُوَ مدَار الأَصْل الْمَذْكُور، وَهُوَ أَن انْتِفَاء شَرط الشَّيْء لَا يمْنَع انْعِقَاد سَببه، وَقد تقرر عِنْد الشَّافِعِي رحمه الله أَن سَبَب الْكَفَّارَة الْيَمين والحنث شَرطهَا، وَإِنَّمَا قيد بالمالية، لِأَن المدنية لَا يجوز تَعْجِيلهَا، لِأَن وجوب أَدَائِهَا إِنَّمَا هُوَ بعد الْحِنْث إِجْمَاعًا، وَالْوُجُوب فِيهَا إِمَّا عين وجوب الْأَدَاء أَو هما متلازمان، فتعجيلها تَعْجِيل قبل الْوُجُوب بِخِلَاف الْمَالِيَّة، فَإِن وجوب المَال فِي الذِّمَّة قد يثبت قبل وجوب الْأَدَاء كَالثّمنِ الْمُؤَجل (وَلَا يخفى مَا فِيهِ) أَي فِي هَذَا التَّأْوِيل من التَّكَلُّف من غير ضَرُورَة، لِأَن تفريعه على الأَصْل الْمَذْكُور مُسْتَغْنى عَنهُ لكَونه من فروع أَن انْتِفَاء الشَّرْط الشَّرْعِيّ لَا يمْنَع انْعِقَاد السَّبَب، فَإِن الْحِنْث عِنْده شَرط وجوب الْكَفَّارَة وَالْيَمِين سَبَب لَهُ، وَقد انْعَقَد من غير مَانع، (وَالْأَوْجه خلاف قَوْله) أَي الشَّافِعِي رحمه الله فِي الْفَرْع الْمَذْكُور، وَهُوَ عدم جَوَاز تَعْجِيل أَدَاء الْكَفَّارَة الْمَالِيَّة قبل الْحِنْث (لعقلية سَبَبِيَّة الْحِنْث) أَي لمعقولية سَبَب هُوَ الْحِنْث بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَفَّارَة (لَا الْيَمين) أَي لَا معقولية سَبَب هُوَ الْيَمين، فالإضافة بَيَانِيَّة تَوْضِيحه أَن سَببهَا عِنْده الْيَمين، لِأَنَّهُ تَعَالَى أضافها إِلَى الْيَمين فِي قَوْله - {ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم} - ويتبادر مِنْهَا السَّبَبِيَّة، وعندما الْحِنْث، لِأَن الْكَفَّارَة تنبئ عَن ستر مَا وَقع من الْإِخْلَال بتوقير مَا يجب لاسم الله، فَيَنْبَغِي أَن يكون سَببهَا مَا يُوجب الْإِخْلَال، وَهُوَ الْحِنْث لكَونه مفضيا إِلَيْهَا من حَيْثُ أَنه جِنَايَة لَا الْيَمين الَّتِي انْعَقَدت للبر، وَوضعت للإفضاء إِلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَن تجْعَل سَببا، ومفضيا إِلَى مَا لَا يجب إِلَّا عِنْد عدم الْبر على أَن السَّبَب يجب تَقْدِيره عِنْد وجود الْمُسَبّب، وَالْيَمِين لَا تبقى عِنْد وجود الْكَفَّارَة لانتقاضها بِالْحِنْثِ، غَايَة الْأَمر أَن الْكَفَّارَة لَا تتَحَقَّق بِلَا سبق الْيَمين، وَهَذَا يقتضى كَونهَا شرطا فَإِن قلت لم لَا يجوز أَن تُفْضِي الْيَمين إِلَيْهَا بطرِيق الانقلاب، يَعْنِي أَنَّهَا مفضية إِلَى الْبر ابْتِدَاء، وَعند فَوَاته تصير مفضية إِلَى الْكَفَّارَة فَهِيَ خلف للبر قُلْنَا الافضاء

ص: 123

بطرِيق الانقلاب خلاف الظَّاهِر، وَلَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيل، وَلَا دَلِيل سوى الْإِضَافَة، وَهُوَ ضَعِيف لَا يُقَاوم عقلية سَبَب الْحِنْث، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِن أضيفت) الْكَفَّارَة (إِلَيْهِ) أَي الْحلف (فِي النَّص) الْمَذْكُور فَإِنَّهَا من إِضَافَة الحكم إِلَى شَرطه (كإضافة صَدَقَة الْفطر عندنَا) فَإِن الْفطر عندنَا شَرطهَا وسببها رَأس يمونه ويلي عَلَيْهِ، وَبِالْجُمْلَةِ دلَالَة الْإِضَافَة على السَّبَبِيَّة لَيست بِأَمْر مُسلم، وَلَا سِيمَا إِذا وجد مَا هُوَ مُتَعَيّن للسَّبَبِيَّة نظرا إِلَى مَا يفيدها لَهُ (وَوَجهه) أَي وَجه مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: من أَن الشَّرْط مَانع من انْعِقَاد سَبَبِيَّة مَا علق عَلَيْهِ لحكمه (أَولا أَن السَّبَب) الشَّرْعِيّ هُوَ المفضي إِلَى الحكم) أَي الطَّرِيق الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ (وَالتَّعْلِيق) أَي تَعْلِيق السَّبَب الْمَذْكُور (مَانع من الْإِفْضَاء) أَي من إفضائه إِلَى الحكم قبل وجود الشَّرْط (لمَنعه) أَي التَّعْلِيق السَّبَب الَّذِي علق من التَّأْثِير (من الْمحل) أَي مَحل الحكم، وَذَلِكَ لِأَن السَّبَب كَأَنْت طَالِق إِنَّمَا يُؤثر شرعا فِي مَحَله الَّذِي هُوَ ملك النِّكَاح إِنَّمَا نجز من غير تَعْلِيق بِشَيْء، وَإِذا علق بِهِ مَنعه عَن التَّأْثِير إِلَى حِين وجوده، فَعِنْدَ ذَلِك يصير تنجيزا (والأسباب الشَّرْعِيَّة لَا تصير قبل الْوُصُول إِلَى الْمحل أسبابا) وَالْمرَاد بوصوله: تعلقه بِهِ عِنْد وجود الْمُعَلق بِهِ، فَإِن الْمُتَكَلّم لم يقْصد تعلق مُوجب السَّبَب، وَهُوَ الطَّلَاق بِالْمحل الَّذِي هُوَ ملك النِّكَاح إِلَّا عِنْده فَلَا وُصُول قبله، فتسميتها قبل الْوُصُول أسبابا بِاعْتِبَار مَا تئول إِلَيْهِ (فضعف قَوْله) أَي الشَّافِعِي رحمه الله (السَّبَب) بِوُقُوع الطَّلَاق قَول الْمُعَلق (أَنْت طَالِق، وَالشّرط لم يعدمه) لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ عدم إعدامه ذَات السَّبَب من حَيْثُ هِيَ، فَلَا يجديه نفعا، وَإِن أَرَادَ من حَيْثُ إِنَّهَا سَبَب فَغير مُسلم لما عرفت من منع الْإِفْضَاء إِلَى آخِره (فَإِنَّمَا أخر الحكم) يَعْنِي لَا يمْنَع انْعِقَاد السَّبَب بل يُؤَخر الحكم إِلَى وجود الشَّرْط (وَأورد) علينا إِذا منع الشَّرْط انْعِقَاد السَّبَب وَالْحكم مَعًا لزم عدم إِفَادَة مَا علق بِهِ الشَّرْط شَيْئا (فَيجب أَن يَلْغُو) ذكر السَّبَب الْمُعَلق لعدم الإفادة شَيْء من الفائدتين (كالأجنبية) أَي كَمَا يَلْغُو ذكر الطَّلَاق مُنجزا فِي الْأَجْنَبِيَّة لتساويهما فِي عدم الْوُصُول إِلَى الْمحل، وَإِن كَانَ الْمحل مَوْجُودا فِي الأول دون الثَّانِي (وَأجِيب) عَن الْإِيرَاد الْمَذْكُور بِأَنَّهُ (لَو لم يرج) وُصُول السَّبَب الْمُعَلق إِلَى الْمحل بِأَن علق مَا لَا يُرْجَى الْوُقُوف عَلَيْهِ (لَغَا) جَوَاب لَو (كطالق إِن شَاءَ الله) فَإِن مَشِيئَته تَعَالَى فِيمَا لَا يعلم وُقُوعه بِدَلِيل لَا يُرْجَى الْعلم بهَا بوصول السَّبَب الْمُعَلق إِلَى الْمحل، فَيلْغُو (وَغَيره) أَي غير مَا لم يرج وُصُوله إِلَى الْمحل من الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة الْمُعَلقَة بِالشّرطِ (بعرضية السَّبَبِيَّة) فعلة بِمَعْنى الْمَفْعُول كَالْقبْضَةِ، يُقَال لما يعرض دون الشَّيْء، وللمعرض لِلْأَمْرِ المنهى لَهُ، وَهَذَا هُوَ المُرَاد هَهُنَا، وَالْيَاء للمصدرية وَالْإِضَافَة من إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْمَفْعُول بِوَاسِطَة حرف الْجَرّ وَالْمعْنَى كَون الْجَزَاء متهيئا للسَّبَبِيَّة

ص: 124

بِحَيْثُ لَا يتَوَقَّف على شَيْء سوى وجود الشَّرْط مَعَ بَقَاء الْمحل قَابلا لوُرُود الحكم (فَلَا يلغى) ذكر السَّبَب وَلَا يعد لَغوا (تَصْحِيحا) لكَلَام الْعَاقِل، فَإِن عرضيته فَائِدَة مترتبة على ذكره مُعَلّقا فَإِن قلت السَّبَب مثل: أَنْت طَالِق مَوْضُوع لإِثْبَات التَّطْلِيق، وَعقد الطَّلَاق شرعا، فَإِذا علق بِالشّرطِ يتَأَخَّر حكمه بِالْإِجْمَاع، فالتعليق يمْنَع الحكم ضَرُورَة، وَلَا ضَرُورَة فِي منع سببيته، فَلَا يعدل عَن مُوجب وَضعه الشَّرْعِيّ من غير ضَرُورَة، فَينْعَقد قبل وجوب الشَّرْط سَببا، ويتأخر حكمه، وَأَيْضًا جَوَاب الشَّرْط يتَضَمَّن نِسْبَة أحد جزءيه إِلَى الآخر وَالْحكم بهَا، وَالثَّانِي هُوَ المنقسم إِلَى الْأَخْبَار والإنشاء، وكل مِنْهُمَا يَسْتَحِيل تَعْلِيقه لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ من الْكَلَام يَسْتَحِيل وجودهما حَيْثُ لَا كَلَام، وَالشّرط قد يُوجد حِين يكون الشارط سَاهِيا ونائما، وَغير مُتَكَلم، ويستحيل كَون الْإِنْسَان مخبرا ومنشئا عِنْد ذَلِك، فَتعين أَن التَّعْلِيق بِاعْتِبَار الأول، فالمعلق مخبر ومنشئ عِنْد التَّعْلِيق، وَالْحكم حَاصِل عِنْده، فَالْمَوْقُوفُ على دُخُول الدَّار مثلا إِنَّمَا هُوَ الطَّلَاق لَا التَّطْلِيق، فَقَوله: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق إنْشَاء التَّعْلِيق، لَا تَعْلِيق الْإِنْشَاء أَقُول: إِن أردْت بِقَوْلِك مَوْضُوع لإثباتهما شرعا أَنه مَوْضُوع على الْإِطْلَاق مُنجزا كَانَ أَو مُعَلّقا فَمَمْنُوع، لِأَنَّهُ لم يثبت سببيته شرعا إِلَى حَال التَّنْجِيز، وَإِن أردْت وَضعه عِنْد التَّعْلِيق فَهُوَ عين مَحل النزاع، وَإِن أردْت وَضعه عِنْد التَّنْجِيز فَلَا يجديك نفعا، ثمَّ إِن الْجَزَاء إِن كَانَ خَبرا فالمعلق خبري، وَإِن كَانَ إنْشَاء فإنشائي، فَيتَحَقَّق تَعْلِيق الْإِنْشَاء وإنشاء التَّعْلِيق مَعًا، وقولك: يَسْتَحِيل وجودهما حَيْثُ لَا كَلَام إِن أردْت بوجودهما تحقق مضمونهما فِي نفس الْأَمر مترتبا عَلَيْهِ الحكم الشَّرْعِيّ فَلَا يَسْتَحِيل حَيْثُ لَا كَلَام، وَهُوَ ظَاهر، وَإِن أردْت وجودهما فِي الذِّهْن والتلفظ، فَذَلِك عِنْد التَّعْلِيق، وَلَا سَهْو وَلَا نِسْيَان، ثمَّ الحكم التنجيزي نَوْعَانِ: ابتدائي يثبت بِمُجَرَّد التَّكَلُّم بِسَبَبِهِ الَّذِي مَا علق بِشَيْء، وَغير ابتدائي يثبت بِسَبَبِهِ الَّذِي يعْتَبر وجوده عِنْد تحقق مَا علق بِهِ، فَكَأَن الْمُتَكَلّم بِالتَّعْلِيقِ يصير متكلما بذلك السَّبَب عِنْد تحقق الشَّرْط، فَلَا يستدعى حصور الذِّهْن والتكلم إِلَّا عِنْد التَّعْلِيق إِذا تحقق، فَكَأَن الْمُعَلق يَقُول عِنْد التَّعْلِيق إِذا تحقق هَذَا الشَّرْط فَلْيَكُن هَذَا السَّبَب وَحكمه منجزين مني وَمن اعْتِبَار الشَّارِع هَذَا مِنْهُ، وَدفع عَنهُ مؤونة العقد الْجَدِيد حَال وجود الشَّرْط اكْتِفَاء بذلك التَّعْلِيق توسعة عَلَيْهِ فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من التعليقات لمصالحهم (وَثَانِيا) أَي وَوجه مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ من أَن الشَّرْط مَانع من انْعِقَاد سَبَبِيَّة مَا علق عَلَيْهِ الحكم ثَانِيًا (توقف) السَّبَب الَّذِي صَار جُزْءا (على الشَّرْط فَصَارَ) السَّبَب الْمُعَلق بِهِ (كجزء سَبَب) فِي احْتِيَاج الحكم إِلَيْهِ مَعَ عدم استقلاله فِي إِيجَابه، وَالشَّيْء لَا يتَحَقَّق بِمُجَرَّد تحقق جُزْء مِنْهُ أَو الْمَعْنى، فَصَارَ الشَّرْط كجزء سَبَب

ص: 125

ومآلهما وَاحِد، وَالْأول أظهر (بِخِلَاف) مَا ألحق الشَّافِعِي رحمه الله التَّعْلِيق بِهِ من (البيع الْمُؤَجل) فِيهِ الثّمن (و) بِخِلَاف البيع (بِشَرْط الْخِيَار و) بِخِلَاف السَّبَب الشَّرْعِيّ (الْمُضَاف) إِلَى الزَّمَان (كطالق غَدا) فَإِن كلا مِنْهُمَا (سَبَب) مُنْعَقد (فِي الْحَال) أَي فِي حَال صدوره عَن الْمُتَكَلّم لَا يمنعهُ شَيْء من الْوُصُول إِلَى الْمحل، وَهَذَا جَوَاب عَمَّا يُمكن تَقْرِيره بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا الْمُعَارضَة بِقِيَاس الْمُعَلق بِالشّرطِ على الْأَسْبَاب الْمَذْكُورَة فِي حكم الِانْعِقَاد من حَيْثُ السَّبَبِيَّة بِجَامِع الِاشْتِرَاك فِي كَونهَا معلقَة بِحَسب الْمَعْنى كَالْبيع بالأجل، وَالْخيَار، وَالطَّلَاق بالغد. وَثَانِيهمَا النَّقْض بَيَانه أَن القَوْل بِكَوْن الْمُتَعَلّق مَانِعا من الْإِفْضَاء إِلَى آخِره، أَو بصيرورة الْمَوْقُوف على الشَّرْط كجزء سَبَب مَنْقُوص بِهَذِهِ المعلقات وَحَاصِل الْجَواب إِمَّا منع صِحَة الْقيَاس لكَونه مَعَ الْفَارِق، أَو منع جَرَيَان الدَّلِيل بِبَيَان أَن الْمُعَلق فِي الْمَذْكُورَات الحكم دون السَّبَب، بِخِلَاف المنازع فِيهِ (لِأَن الْأَجَل) الَّذِي يعلق الْمُؤَجل بِالْوَقْتِ الْمعِين إِنَّمَا يعْتَبر (دُخُوله) ووروده فِي الْمَعْنى (على الثّمن) أَي على لُزُوم مُطَالبَته، فتأثير التَّأْجِيل فِي تَأْخِير الْمُطَالبَة فَقَط (لَا) يعْتَبر دُخُوله على (البيع) الَّذِي هُوَ سَبَب، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ تَأْخِيرهَا، وَهُوَ يحصل بِمُجَرَّد دُخُوله على لُزُوم مُطَالبَة الثّمن فِي الْحَال، فَلَا وَجه لاعْتِبَار دُخُوله على السَّبَب من غير حَاجَة، مَعَ أَنه على خلاف الْقيَاس، وَهُوَ متقدر بِقدر الضَّرُورَة (و) لِأَن (الْخِيَار) أَي شَرطه إِنَّمَا شرع (بِخِلَاف الْقيَاس لدفع الْغبن) أَي النَّقْص المتوهم فِي البيع عِنْد قلَّة التروي من البَائِع وَالْمُشْتَرِي بِاسْتِيفَاء النّظر فِي مُدَّة الْخِيَار (لِأَن إِثْبَات ملك المَال لَا يحْتَمل الْخطر) تَعْلِيل لكَونه على خلاف الْقيَاس، يَعْنِي أَن البيع إِثْبَات لملك المَال لكَونه عِلّة لَهُ شرعا، وَإِثْبَات ملك المَال لَا يحْتَمل أَن يعلق بِمَا بَين أَن يكون وَأَن لَا يكون (لصيرورته) أَي لصيرورة الْإِثْبَات الْمَذْكُور أَن يعلق بِمَا بَين أَن يكون وَأَن لَا يكون ذكر (قمارا) فِي الْمَعْنى لمشاركته إِيَّاه فِي عِلّة الْحُرْمَة، وَهِي التَّعْلِيق على أَمر لَا يعلم وجوده وَعَدَمه (فَاكْتفى) فِي البيع بِشَرْط الْخِيَار (بِاعْتِبَارِهِ) أَي شَرط الْخِيَار (فِي الحكم) بِتَأْخِيرِهِ إِلَى أَن يُجِيز أَو يرد، وَلم يعْتَبر فِي السَّبَب الَّذِي هُوَ البيع حذرا عَن صَيْرُورَته قمارا واحترازا عَن مُخَالفَة الْقيَاس بِغَيْر ضَرُورَة. قَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة وَلقَائِل أَن يَقُول: الْقمَار مَا حرم لِمَعْنى الْخطر، بل بِاعْتِبَار تَعْلِيق الْملك بِمَا لم يَضَعهُ الشَّرْع سَببا للْملك، فَإِن الشَّارِع لم يضع ظُهُور الْعدَد الْفُلَانِيّ سَببا للْملك، والخطر طرد فِي ذَلِك لَا أثر لَهُ انْتهى وَمعنى كَون الْخطر طردا فِيهِ عدم تحَققه بِدُونِ الْخطر، نعلم أَنه حقق هُنَاكَ ومشي مَعَ الْقَوْم هُنَا، وَيُمكن أَن يُعلل بنهيه صلى الله عليه وسلم عَن بيع وَشرط (وَالْحق أَنه) أَي اعْتِبَاره فِي الحكم دون السَّبَب ل (مُقْتَضى اللَّفْظ) أَي اللَّفْظ الدَّال على خِيَار الشَّرْط، وَهُوَ قَوْله على أَنِّي بِالْخِيَارِ

ص: 126

بعد قوله بعت أو اشتريت ونحوه (لأن الشرط) أي الاشتراط (بعلى) أي بواسطة كلمة على الداخلة على المشروط (لتعليق ما بعده) أي على (فقط) فلا يعلق ما قبله (فآتيك على أن تآتيني المعلق) فيه (إتيان المخاطب) على إتيان المتكلم، بخلاف آتيك إن أتيتني فإنه بالعكس، ويرد عليه أن خلاف المشهور غير أن المصنف رحمه الله بين في شرح الهداية أن الحق أنه حقيقة للاستعلاء إذا اتصلت بالأجسام، وفي غير ذلك حقيقة في معنى اللزوم المستحق في موارد استعماله من الشرط والمعارضة، وإذا تتبعت مواضع الشرط وجدت في الأكثر أنه لتعليق ما بعده، وقد قال الله تعالى - يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا - وظاهره تعليق المبايعة بعدم الاشراك، والمعنى: إذا جاءك المؤمنات حال اشتراطهن المبايعة بعدم الاشراك، وكذا فبايعهن، ويحتمل أن يكون المعنى حال اشتراطهن عدم الاشراك، وكذا بالمبايعة بأن يلزمن أنفسهن تلك الأشياء على تقدير المبايعة فبايعهن، ولاشك أن هذا أدعى إلى إجابة صلى الله عليه وسلم لما سألن من البايعة، فإن قلت عدم الاشتراك شرط صحة المبايعة لكونها عبادة لا تصح بدون الإيمان، فكيف يعلق عليها، قلت المعلق إنما هو التزام الاستقامة على عدم الاشراك، فكأنهن يقلن إن بايعتنا يا رسول الله نستقيم على هذه الأشياء، وأما لزوم كون الخيار معلقا على البيع بناء على ما مهده، فقد أشار إلى دفعه بقوله (فبعتك على أني بالخيار أي في الفسخ فهو) أي الفسخ (المعلق) بالخيار لا البيع على ما زعم الخصم (والبيع منجز) يعني لما تقرر أن الشرط بعلى لتعليق ما بعده فقط، وأن المعلق ما بعده لا ما قبله لزم عدم كون البيع معلقا بالخيار وإذا لم يكن معلقا كان منجزا لأن كلمة بعت موضوعة شرعا لتنجيز البيع ولم يوجد مانع عن ذلك من التعليق وغيره، ولا شك أنه لا يمكن جعل الخيار معلقا بالبيع، وكان الفسخ الذي يجب اعتباره بعد الخيار صالحا لأن يعلق صرف إليه التعليق المستفاد من كلمة على، فصار كل من المشروط والشرط بعد على وكان موجب ذلك عدم لزوم تعليق حكم البيع أيضا غير أنه يستلزم ضرر من ليس له الخيار بتصرفه في المبيع أو الثمن كزيادة البناء ونحوه اعتمادا على لزوم ملكه عند رد من له الخيار فاعتبر تعلق الحكم بالخيار، وإليه أشار بقوله (فتعلق الحكم دفعا للضرر) عمن ليس له الخيار (لو تصرف) من ليس له الخيار اعتمادا على ملكه الحاصل في العدل الموجبة من غير تعليق لا في الموجب ولا في الموجب تصرفا يبذل فيه مالا أو قوة بدنية، وأما إذا علق الحكم، فعلم من ليس له الخيار عدم خروج البدل عن ملك من له الخيار منعه ذلك عن التصرف، وليس المراد دفع ضرر من له الخيار لو تصرف من ليس له كما زعم الشارح والحق أن الأولى تعميم الضرر، فإن تصرفه

ص: 127

المشترى إذا كان الخيار للبائع مثلا قد يكون موجبا لنقصان في البيع (بخلاف الطلاق) والعتاق متعلق بمحذوف هو حال عن فاعل لا يحتمل: أي لا يحتمل إثبات ملك المال الخطر حال كونه ملتبسا بمخالفة الطلاقة والعتاق ولا يضر طول الفصل بالجمل الاعتراضية لظهور الارتباط فإن كلا منهما (اسقاط محض) والاسقاط (يحتمله) أي الخطر لعدم صيرورته قمارا عند التعليق، لأن القمار تعليق إثبات الملك بالخطر (وإن كان العتاق اثباتا لكنه ليس إثباتا لملك مال) بل هو اثبات قوة شرعية هي القدرة على تصرفات شرعية من الولايات: كالشهادة، والقضاء وإنكاح نفسه وابنته، وفي كون العتاق إثباتا مسامحة، لأن الاثبات وصف الاعتاق لا العتاق، فإنه خلوص حكمي مما كان ثابتا فيه بالرق، وكلمة إن وصلية، ولا منافاة بين كونه إسقاطا محضا، وكونه إثباتا لأنه محض إسقاط باعتبار حقيقته وإثبات باعتبار لازمه على أن المراد نفي شائبة إثبات المال لا الاثبات مطلقا (فبطل إيراد أنه) أي الاعتاق (إثبات أيضا) كما أورده المحقق التفتازاني في التلويح، ولما فرغ من بيان الفرق بين البيع المؤجل والمشروط بالخيار، وبين السبب المعلق المنازع فيه شرع في بيان الفرق بينه وبين المضاف فقال (والتعليق يمين) قال المصنف في شرح الهداية لفظ اليمين مشترك بين الجارحة والقوة والقسم لغة، وأما مفهومه الاصطلاحي فجملة أولى انشائية مقسم فيها باسم الله أو صفته يؤكد بها مضمون جملة ثانية في نفس السامع ظاهرًا أو يحمل المتكلم على تحقيق معناها، فدخلت بقيد ظاهرا الغموس أو إلتزام مكروه كفرا وزوال ملك على تقدير ليمتنع عنه أو محبوب ليحمل عليه، فدخلت التعليقات مثل أن فعل فهو يهودي، وإن دخلت فأنت طالق، وإن بشرتني فأنت حر (وهي) أي اليمين تعقد (للبر) وهي المحافظة على موجب اليمين ضد الحنث (اعدام موجب المعلق) بدل من البر، فإن اليمين في اليمين المنعقدة متضمن إعدام ما يوجبه المعلق الذي هو السبب الشرعي: يعني الطلاق مثلا كان دخلت فأنت طالق لكونه منعقدا للمنع عن الدخول، وإذا امتنع عن الدخول لا جرم أنه لا يقع ما علق به، وإن لم يقع لم يقع مجبه (فلا يفضي) المعلق (إلى الحكم) الذي هو سبب عند التنجيز، وهذا على تقدير أن يكون موجب المعلق بفتح الجيم، وأما إن كان بكسرها فالمراد به الشرط، والمعنى أن التعليق لئلا يتحقق الشرط المستلزم لوجود الجزاء الذي يكره وجوده المعلق (أما الإضافة) المذكورة في السبب الشرعي المضاف إلى الزمان (فلثبوت حكم السبب في وقته) أي الوقت الذي أضيف إليه السبب المذكور فالمقصود منها وجود الحكم على خلاف التعليق (لا لمنعه) أي السبب كما في التعليق، فالمقصود من أنت حر يوم الجمعة ثبوت الحرية فيه (فيتحقق السبب) المضاف قبل تحقق الوقت الذي أضيف إليه (بلا مانع)

ص: 128

كالتعليق الْمَانِع من انْعِقَاد السَّبَب الْمُعَلق بِالشّرطِ كَمَا عرفت، وَعدم الْمَانِع مَعَ وجود الْمُقْتَضى وَهُوَ التَّكَلُّم بِالسَّبَبِ بِلَا تَعْلِيق يقتضى تحَققه، غَايَة الْأَمر تَأْخِير الحكم الْمُسَبّب إِلَى وجود الْوَقْت الْمعِين الَّذِي هُوَ كَائِن لَا محَالة (إِذْ الزَّمَان من لَوَازِم الْوُجُود) الْخَارِجِي فالإضافة إِلَيْهِ إِضَافَة إِلَى مَا قطع بِوُجُودِهِ، وَفِي مثله مَا يكون الْغَرَض من الْإِضَافَة تَحْقِيق الْمُضَاف إِلَيْهِ (وَيرد) على القَوْل بِأَن الْيَمين إعدام مُوجب الْمُعَلق أَنه لَا يَصح على إِطْلَاقه بل (كَون الْيَمين توجب الإعدام) لما ذكر إِنَّمَا يَصح (فِي الْمَنْع) أَي فِيمَا إِذا كَانَ الْمَقْصُود من الْيَمين الْمَنْع عَن إِيقَاع مَا عقدت للِاحْتِرَاز عَنهُ، و (أما) إِذا قصد بهَا (الْحمل) على الْإِثْبَات بِمَا عقدت لقصد تَحْصِيله (فَلَا) توجب الإعدام وَهُوَ ظَاهر (كَأَن بشرتني بقدوم وَلَدي فَأَنت حر) فَإِن غَرَض الْمُتَكَلّم فِيهِ حث عَبده على الْمُبَادرَة إِلَى الْبشَارَة (فَالْأولى) فِي التَّفْرِقَة بَين الْمُعَلق والمضاف، وَالْقَوْل بِأَن الأول يمْنَع السَّبَب عَن الِانْعِقَاد دون الثَّانِي أَن يُقَال (الْفرق) بَينهمَا حَاصِل (بالخطر وَعَدَمه) أَي بِأَن وجود الشَّرْط الْمُعَلق بِهِ السَّبَب على الْخطر فَهُوَ بَين أَن يُوجد، بِخِلَاف الْوَقْت الْمُضَاف إِلَيْهِ السَّبَب فَإِنَّهُ كَائِن لَا محَالة لما عرفت، وَإِذا كَانَ وجود الشَّيْء مشكوكا فِيهِ فانعقاده سَببا أولى بذلك، وَالْإِضَافَة إِلَى الْكَائِن لَا محَالة لَا تورث شكا فِي وجود الْمُضَاف: فَلَا يمنعهُ عَن الِانْعِقَاد شَيْء، لِأَن الأَصْل عدم مَانع آخر فَإِن قلت فِي الْإِضَافَة يثبت الحكم فِي الْمُسْتَقْبل إِذا بَقِي الْمحل، فَأَما إِذا لم يبْق فَلَا، فَكيف ينْعَقد الْمُضَاف سَببا مَعَ التَّرَدُّد فِي وجود مسببه بِسَبَب التَّرَدُّد فِي وجود مَحل ذَلِك الْمُسَبّب قلت الأَصْل فِي الشَّيْء الثَّابِت الْبَقَاء (ثمَّ) إِن الْفرق بالخطر وَعَدَمه (يَقْتَضِي كَون) أَنْت حر) (يَوْم يقدم فلَان كَانَ قدم) فلَان (فِي يَوْم) كَذَا لاشْتِرَاكهمَا فِي الْبناء على الْخطر، وَإِن سمي الأول إِضَافَة، وَالثَّانِي تَعْلِيقا، لِأَن الْعبْرَة بالمعاني، وَلَا فرق بَينهمَا معنى لتوقف الْحُرِّيَّة فِي كل مِنْهُمَا على مَا لَا يعم وجوده، لِأَن الْيَوْم الْمُقَيد بقدوم فلَان مَشْكُوك الْوُجُود بِاعْتِبَار قَيده (ويستلزم) أَيْضا (عدم جَوَاز التَّعْجِيل) بِالصَّدَقَةِ (فِيمَا لَو قَالَ عَليّ صَدَقَة يَوْم يقدم فلَان) أَي فِي صَدَقَة فرض إِيجَابهَا يَوْم قدوم فلَان فِي القَوْل الْمَذْكُور (وَإِن كَانَ) كل من القيدين متلبسا (بِصُورَة إِضَافَة) لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة بصورته بعد مَا ظهر عدم الْفرق بَينه وَبَين الْمُعَلق بِالشّرطِ فِي معنى الْخطر، وَهُوَ يسْتَلْزم عدم انْعِقَاد السَّبَب وَالْأَدَاء قبل انْعِقَاد السَّبَب غير جَائِز اتِّفَاقًا (و) كَذَا يسْتَلْزم (كَون إِذا جَاءَ غَد فَأَنت حر كإذا مت فَأَنت حر) فِي انْعِقَاد سَبَب الْحُرِّيَّة فِي كل مِنْهُمَا (لعدم الْخطر) الْمَانِع عَن الِانْعِقَاد (فَيمْتَنع بَيْعه قبل الْغَد كَمَا يمْتَنع) بَيْعه (قبل الْمَوْت لانعقاده) أَي انْعِقَاد إِذا جَاءَ غَد إِلَى آخِره كانعقاد أَنْت حر إِذا مت (سَببا فِي الْحَال) أَي بِمُجَرَّد التَّكَلُّم قبل مَجِيء الْغَد وَالْمَوْت (على مَا عرف)

ص: 129

من أَن سَبَب الْحُرِّيَّة فِي الْمُدبر القَوْل الْمَذْكُور، لِأَنَّهَا تثبت بعد الْمَوْت، وَلَا ثُبُوت بِلَا سَبَب، وَلَا سَبَب غَيره، فإمَّا أَن يَجْعَل سَببا فِي الْحَال، أَو بعد الْمَوْت، وَلَا سَبِيل إِلَى الثَّانِي، لِأَن الْمَوْت سالب الْأَهْلِيَّة، وَسبب التَّصَرُّف لَا ينْعَقد إِلَّا من أَهله (لكِنهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (يجيزون بَيْعه قبل الْغَد، والأجوبة عَنهُ) أَي عَن الأشكال على الْفرق والخطر وَعَدَمه بِالْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورين (لَيست بِشَيْء) مِنْهَا كَون الْغَد كَائِنا لَا محَالة لجَوَاز قيام الْقِيَامَة قبله، ورد بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَقِيم إِذا كَانَ التَّعْلِيق بعد أَشْرَاط السَّاعَة، وَمِنْهَا أَن الْكَلَام فِي الْأَغْلَب فَيلْحق النَّادِر بِهِ، ورد بِأَنَّهُ اعْتِرَاف بالإيراد على أَن التَّعْلِيق بِمثل مَجِيء الْغَد وَرَأس الشَّهْر غير نَادِر إِلَى غير ذَلِك (وَقيل) فِي دفع مَا ذكر من استلزام الْفرق بالخطر وَعَدَمه المحذورات الْمَذْكُورَة (المُرَاد بِالسَّبَبِ فِي نَحْو قَوْلنَا الْمُعَلق لَيْسَ سَببا فِي الْحَال) أَي فِي حَال التَّعْلِيق قبل وجود الْمُعَلق بِهِ (الْعلَّة) اعتبروا فِي حَقِيقَة الْعلَّة ثَلَاثَة أُمُور: إِضَافَة الحكم إِلَيْهَا كَمَا يُقَال قَتله بِالرَّمْي، وَعتق بِالشِّرَاءِ وَهلك بِالْجرْحِ، أَو كَونهَا مَوْضُوعَة لَهُ شرعا، وتأثيرها فِيهِ وحصوله مَعهَا فِي الزَّمَان، وَفِي حَقِيقَة السَّبَب أَن يكون طَرِيقا للْحكم من غير تَأْثِير وَمن غير أَن يُضَاف إِلَيْهِ وجوبا أَو وجودا وَيُطلق اسْم كل مِنْهُمَا عَن الآخر لما بَينهمَا من الْمُنَاسبَة (وَفِي الْمُضَاف السَّبَب المفضي) معطوفان بعطف وَاحِد على قَوْله فِي نَحْو قَوْلنَا، وَقَوله الْعلَّة على مَذْهَب الْأَخْفَش، أَو من عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة بِحَذْف الْمُبْتَدَأ مَعَ مَا يتَعَلَّق بِهِ: أَي المُرَاد بِالسَّبَبِ فِي قَوْلنَا الْمُضَاف سَبَب فِي الْحَال السَّبَب المفضي إِلَى الحكم من غير تَأْثِير (وَهُوَ) أَي السَّبَب المفضي (السَّبَب الْحَقِيقِيّ) اصْطِلَاحا كَمَا مر (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين إِذْ اخْتلف مورد النَّفْي وَالْإِثْبَات بِأَن نفى عَن السَّبَب الْمُعَلق السَّبَبِيَّة بِمَعْنى علية الْعلية، وَأثبت للمضاف بِمَعْنى الْإِفْضَاء على الْوَجْه الْمَذْكُور و (لَا خلاف) فِي الْمَعْنى بَين الْمُعَلق والمضاف بِاعْتِبَار النَّفْي وَالْإِثْبَات، فَلَا يتَوَجَّه أَنه لَا فرق بَينهمَا فِي الِانْعِقَاد سَببا، وَعَدَمه فِيمَا إِذا كَانَ مَا بِهِ التَّقْيِيد أمرا كَائِنا لَا محَالة أَو مَشْكُوك الْوُجُود فَلم فرقتم بَينهمَا؟ لأَنا لم نفرق بَينهمَا، بل نَفينَا الْعلية عَن الْمُعَلق، وَلم نثبتها للمضاف، وأثبتنا الْإِفْضَاء للمضاف وَمَا نفيناه عَن الْمُعَلق (وَارْتَفَعت الاشكالات وَصدق أَن الْمُضَاف لَيْسَ سَببا أَيْضا فِي الْحَال) كَمَا أَن الْمُعَلق لَيْسَ سَببا فِي الْحَال (بذلك الْمَعْنى) أَي بِمَعْنى الْعلَّة كَمَا عرفت (إِلَّا أَن اخْتِلَاف الْأَحْكَام حَيْثُ قَالُوا: الْمُضَاف سَبَب فِي الْحَال فَجَاز تَعْجِيله) أَي تَعْجِيل مُوجب حكمه إِذا كَانَ عبَادَة بدنية أَو مَالِيَّة أَو مركبة مِنْهُمَا كَمَا هُوَ قَول أبي حنيفَة رحمه الله وَأبي يُوسُف، لِأَنَّهُ تَعْجِيل بعد وجود سَبَب الْوُجُوب، خلافًا لمُحَمد رحمه الله فِيمَا عدا الْمَالِيَّة، ولزفر فِي الْكل (وَالْمُعَلّق لَيْسَ سَببا فِي الْحَال فَلَا يجوز تَعْجِيله بنفيه) خبران: أَي

ص: 130