الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
البدع المتعلقة بالنية
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الجهر بالنية:
اعتاد كثير من المصلين أن يتلفظوا بالنية جاهرين بها فتسمع أحدهم يقول قبل أن يحرم بصلاة الظهر: نويت أصلي أربع ركعات فرض صلاة الظهر جماعة مقتدياً بهذا الإمام مستقبلاً الكعبة الشريفة.
وهذا التلفظ جهراً بالنية بدعة سيئة مذمومة مخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وتوضيح ذلك بما يلي:
أولاً: إن النية من عمل القلب وليست من عمل اللسان لذلك فإن كثيراً من أهل العلم يعرفون النية بأنها عزيمة القلب أو قصد القلب.
قال الإمام الخطابي: [النية قصدك الشيء بقلبك وتحري الطلب منك له. وقيل عزيمة القلب](1).
وقال الإمام القرافي: [هي قصد الإنسان بقلبه ما يريده بفعله](2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والنية هي القصد والإرادة والقصد والإرادة محلهما القلب دون اللسان باتفاق العقلاء](3).
وقال العلامة ابن القيم: [النية عمل القلب](4).
(1) مقاصد المكلفين ص 24.
(2)
الذخيرة 1/ 240، وانظر الأمنية في إدراك النية للقرافي أيضاً ص 17.
(3)
مجموع الفتاوى 22/ 236.
(4)
بدائع الفوائد 3/ 192 نقلاً عن مقاصد المكلفين ص 30.
وقال أبو إسحاق الشيرازي: [لأن النية هي القصد بالقلب](1).
وقال التيمي هي: [وجهة القلب](2).
وقال البيضاوي: [النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالاً أو مآلاً](3). وغير ذلك من التعريفات.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والنية محلها القلب باتفاق العلماء فإن نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه أجزأته النية باتفاقهم](4).
وقال شيخ الإسلام أيضاً: [محل النية القلب دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين في جميع العبادات](5).
وقال السيوطي: [محلها القلب في كل موضع](6).
وقال الشيخ أحمد الشويكي الحنبلي: [ومحلها القلب](7). وهذا الذي عليه المحققون من العلماء (8).
ثانياً: إن الأصل في العبادات التوقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قررته سابقاً ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلفظ بالنية وكذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم أحداً من
(1) المهذب مع المجموع 3/ 276.
(2)
مقاصد المكلفين ص 30.
(3)
المرجع السابق ص 31.
(4)
مجموع الفتاوى 18/ 262.
(5)
مجموع الفتاوى 22/ 217 - 218.
(6)
الأشباه والنظائر ص 76.
(7)
التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح 1/ 233.
(8)
انظر فتح الباري 1/ 14، مرقاة المفاتيح 1/ 94، الفروع 1/ 139، الإنصاف 1/ 142، زاد المعاد 1/ 201، دليل الفالحين 1/ 54، المواهب اللدنية 1/ 72، الهداية مع شرح فتح القدير 1/ 232.
الصحابة التلفظ بالنية ولو كان التلفظ مشروعاً لنقل إلينا كما نقلت إلينا أدق أعمال الصلاة وغيرها.
قال العلامة ابن القيم: [كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: (الله أكبر) ولم يقل شيئاً قبلها ولا تلفظ بالنية البتة ولا قال: أصلي لله صلاة كذا مستقبل الكعبة أربع ركعات إماماً أو مأموماً. ولا قال: أداءً ولا قضاءً ولا فرض الوقت وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة منها البتة. بل ولا عن أحد من أصحابه ولا استحسنه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة](1).
وقال العلامة القسطلاني: [وبالجملة فلم ينقل أحد أنه صلى الله عليه وسلم تلفظ بالنية ولا علم أحداً من أصحابه التلفظ بها ولا أقره على ذلك بل المنقول عنه في السنن أنه قال:
[مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم].
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم لما علم المسيء صلاته قال له: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) فلم يأمره بالتلفظ بشيء قبل التكبير] (2).
وقال العلامة القسطلاني أيضاً: [
…
ولقد صلَّى صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال: نويت أن أصلي صلاة كذا وكذا وتركه صلى الله عليه وسلم سنة، كما أن فعله سنة فليس لنا أن نسوي بين ما فعله وتركه فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله
…
] (3).
ونقل ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: [ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه واحدة منها فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم نويت أصلي صلاة الظهر فريضة الوقت أداء لله تعالى إماماً أو مأموماً
(1) زاد المعاد 1/ 201.
(2)
المواهب اللدنية 4/ 72.
(3)
المصدر السابق 4/ 73، وانظر مرقاة المفاتيح 1/ 97.
أربع ركعات مستقبل القبلة، ثم يزعج أعضاءه ويثني جبهته ويقيم عروق عنقه ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو، ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئاً من ذلك لما ظفر به إلا أن يجاهر بالكذب البحت، فلو كان في هذا خيرٌ لسبقونا إليه ولدلونا عليه فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال] (1).
كما أنه ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلفظ بالنية بل كان يبدأ الصلاة بالتكبير كما صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين) رواه مسلم (2).
وثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته عندما قال له: (علمني يا رسول الله، قال له: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن
…
) رواه البخاري ومسلم (3).
وقال العلامة ملا علي القاري: [وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قام إلى الصلاة فكبر فلو نطق بشيء آخر لنقلوه. وورد في حديث المسيء صلاته أنه قال له: (إذا
(1) إغاثة اللهفان 1/ 138 - 139.
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 159.
(3)
صحيح البخاري مع الفتح 3/ 383، صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 82.
قمت إلى الصلاة فكبر) فدل على عدم وجود التلفظ] (1).
ثالثاً: لم يقل أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من العلماء الكبار بالتلفظ بالنية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والجهر بالنية لا يجب ولا يستحب باتفاق المسلمين بل الجاهر بالنية مبتدع مخالف للشرع إذا فعل ذلك معتقداً أنه من الشرع فهو جاهل ضال
…
] (2).
وقال شيخ الإسلام أيضاً: [إن التلفظ بالنية لا يجب عند أحد من الأئمة](3).
وقال الشيخ ابن أبي العز الحنفي: [فإنه لم يقل أحد من الأئمة الأربعة لا الشافعي ولا غيره باشتراط التلفظ بالنية وإنما النية محلها القلب باتفاقهم
…
] (4).
وقال القاضي جمال الدين أبو الربيع سليمان بن عمر الشافعي: [وأما الجهر بها وبالقراءة خلف الإمام ليس من السنة بل مكروه. فإن حصل به تشويش على المصلين فحرام، ومن قال بأن الجهر بلفظ النية من السنة فهو مخطىء ولا يحل له ولا لغيره أن يقول في دين الله تعالى بغير علم.
ومنهم أبو عبد الله محمد بن القاسم التونسي المالكي، قال: النية من أعمال القلوب فالجهر بها بدعة مع ما في ذلك من التشويش على الناس.
ومنهم الشيخ علاء الدين بن العطار عفا الله عنه قال: ورفع الصوت بالنية مع التشويش على المصلين حرام إجماعاً ومع عدمه بدعة قبيحة فإن قصد به الرياء كان حراماً من وجهين كبيرة من الكبائر والمنكر على من قال بأن ذلك من السنة مصيب ومصوبه مخطئ. ونسبته إلى دين الله اعتقاداً كفر وغير اعتقاد معصية.
(1) مرقاة المفاتيح 1/ 95.
(2)
مجموع الفتاوى 22/ 218.
(3)
المصدر السابق 22/ 221.
(4)
الإتباع ص 62.
ويجب على كل مؤمن تمكّن من زجره زجره ومنعه وردعه ولم ينقل هذا النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ولا عن أحد ممن يقتدى به من علماء الإسلام.
ومنهم الشيخ العلامة أبو عبد الله محمد بن الحريري الأنصاري، قال في هذه المسألة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم ولا أحد من الأئمة الأربعة ولا علماء المسلمين يفعل مثل ذلك
…
فإن زعم الفاعل لذلك أن هذا هو دين الله تعالى فقد كذب على الله تعالى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخل في دين الله ما ليس منه يستتاب بعد التعريف وتزاح عنه الشبهة التي عرضت له فإن تاب وإلا قتل بذلك] (1).
رابعاً: نسب بعض الشافعية وهو أبو عبد الله الزبيري للإمام الشافعي أنه يوجب التلفظ بالنية تعلقاً بأن الشافعي قال في كتاب " المناسك " ولا يلزمه إذا أحرم بقلبه أن يذكره بلسانه وليس كالصلاة التي لا تصح إلا بالنطق، فتأول ذلك على وجوب النطق بالنية.
قال الماوردي: [وهذا فاسد وإنما أراد - الشافعي - وجوب النطق بالتكبير ثم مما يوضح فساد هذا القول حجاجاً: أن النية من أعمال القلب فلم تفتقر إلى غيره من الجوارح كما أن القراءة لما كانت من أعمال اللسان لم تفتقر إلى غيره من الجوارح](2).
(1) مجموعة الرسائل الكبرى 1/ 254 - 256، وانظر مقاصد المكلفين ص 123 - 124.
(2)
الحاوي الكبير 2/ 91 - 92.
وقال الإمام النووي مخطئاً كلام الزبيري: [قال أصحابنا غلط هذا القائل وليس مراد الشافعي بالنطق في الصلاة هذا بل مراده التكبير](1).
خامساً: قول من قال باستحباب التلفظ بالنية ليساعد اللسان القلب (2)، لا دليل عليه من الشرع ولم يقل بالاستحباب أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من الأئمة السابقين بل المنصوص عن الإمامين مالك وأحمد أنه لا يستحب التلفظ بالنية كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية (3).
وقد سأل أبو داود - في مسائل أحمد - الإمام أحمد فقال: [يقول المصلي قبل التكبير شيئاً؟ قال: لا](4).
ويجاب على قولهم باستحباب التلفظ بالنية بوجوه:
الأول: إن الاستحباب حكم شرعي لا يكون إلا بدليل، ولا دليل. قال الإمام الأذرعي:[ولا دليل للندب](5).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ولو كان مستحباً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولعظمه المسلمون](6).
وقال شيخ الإسلام أيضاً: [وكل ما يحدث في العبادات المشروعة من الزيادات التي لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي بدعة بل كان صلى الله عليه وسلم يداوم في العبادات على تركها،
(1) المجموع 3/ 277، وانظر مجموع الفتاوى 22/ 221، زاد المعاد 1/ 201، الإتباع ص 62، مقاصد المكلفين ص 125.
(2)
مغني المحتاج 1/ 343.
(3)
مجموع الفتاوى 22/ 221، وانظر مقاصد المكلفين ص 126.
(4)
مسائل أحمد ص 31 نقلاً عن الأمر بالإتباع ص 295.
(5)
مغني المحتاج 1/ 343.
(6)
مجموع الفتاوى 22/ 222.
ففعلها والمداومة عليها بدعة وضلالة من وجهين: من حيث اعتقاد المعتقد أن ذلك مشروع مستحب أي يكون فعله خير من تركه مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعله البتة فيبقى حقيقة هذا القول إنما فعلناه أكمل وأفضل مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سأل رجل مالك بن أنس عن الإحرام قبل الميقات فقال: أخاف عليك الفتنة. فقال له السائل: أي فتنة في ذلك؟ وإنما زيادة أميال في طاعة الله عز وجل.
قال: وأي فتنة أعظم من أن تظن في نفسك أنك خصصت بفضل لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت في الصحيحين أنه قال: (من رغب عن سنتي فليس مني) فأي من ظن أن سنة أفضل من سنتي فرغب عما سنيته معتقداً أنما رغب فيه أفضل مما رغب عنه فليس مني، لأن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم) كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب بذلك يوم الجمعة.
فمن قال: إن هدي غير محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من هدي محمد فهو مفتون بل ضال، قال الله تعالى - إجلالاً له وتثبيت حجته على الناس كافة -:
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
أي: وجيع.
وهو صلى الله عليه وسلم قد أمر المسلمين باتباعه، وأن يعتقدوا وجوب ما أوجبه واستحباب ما أحبه وأنه لا أفضل من ذلك فمن لم يعتقد هذا فقد عصى أمره، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(هلك المتنطعون - قالها ثلاثاً -) أي المشددون في غير موضع التشديد، وقال أبي بن كعب وابن مسعود: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة] (1).
(1) المصدر السابق 22/ 223 - 224.
الوجه الثاني: ثبت أنه عليه الصلاة والسلام لم يتلفظ بالنية كما سبق وقد ذكرت أدلة ذلك تحت قولي ثانياً.
الوجه الثالث: إن المتلفظ بالنية يفعل ويداوم على فعل لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يداوم عليه وهذا بدعة واضحة عند أهل العلم.
الوجه الرابع: لا مدخل للتلفظ بالنية في حصولها في القلب والتلفظ بها عبث والقصد أمر ضروري لفعل الفاعل:
لقد ظن القائلون بالاستحباب أن للتلفظ مدخلاً في تحصيل النية بأن يؤكد عزيمة القلب وهذا خطأ فإن القائل - إذا قال نويت صلاة الظهر أو نويت رفع الحدث - إما أن يكون مخبراً أو منشئاً فإن كان مخبراً فإما أن يكون إخباره لنفسه أو لغيره وكل ذلك عبث لا فائدة فيه، لأن الإخبار إنما يفيد إذا تضمن تعريف المخبر ما لم يكن عارفاً وهذا محال في إخباره لنفسه، وإن كان إخباراً لغيره بالنية فهو عبث محض وهو غير مشروع ولا مفيد وهو بمثابة إخباره بسائر أفعاله من صومه وصلاته وحجه وزكاته بل بمنزلة إخباره له عن إيمانه وحبه وبغضه بل قد يكون في هذه الأخبار فائدة وأما إخبار المأمومين أو الإمام بالنية فعبث محض.
ولا يصح أن يكون ذلك إنشاءً فإن اللفظ لا ينشئ وجود النية وإنما إنشاؤها إحضار حقيقتها في القلب لا إنشاء اللفظ الدال عليها.
والذي يوجد حقيقتها في القلب العلم الذي يتقدمها ويسبقها فالنية تتبع العلم فمن علم ما يريد فعله لا بد أن ينويه ضرورة كمن قدم بين يديه طعام ليأكله فإذا علم أنه يريد الأكل فلا بد أن ينويه وكذلك الركوب وغيره.
ولو كلف العباد أن يعملوا بغير نية كلفوا ما لا يطيقون فإن كل أحد إذا أراد أن يعمل عملاً مشروعاً أو غير مشروع فعلمه سابق إلى قلبه وذلك هو النية وإذا علم الإنسان أنه يريد صلاة أو صوماً أو طهارة فلا بد أن ينويه - إذا علمه - ضرورة وإنما يتصور عدم
النية إذا لم يعلم ما يريد مثل من نسي الجنابة واغتسل للنظافة أو للتبرد أو من يريد أن يعلّم غيره الوضوء ولم يرد أن يتوضأ لنفسه أو من لا يعلم أن غداً من رمضان فيصبح ناوياً للصوم وأما الذي يعلم أن غداً من رمضان وهو يريد الصوم فهذا لا بد أن ينويه ضرورة ولا يحتاج أن يتكلم به (1).
الوجه الخامس: إن القول بوجوب التلفظ أو استحبابه له آثار سيئة فقد أوقع كثيراً من الناس في الوسوسة في الصلاة وغيرها.
قال ابن الجوزي: [واعلم أن الوسوسة في نية الصلاة سببها خبل العقل وجهل بالشرع، ومعلوم أن من دخل عليه عالم فقام له وقال: نويت أن أنتصب قائماً تعظيماً لدخول هذا العالم لأجل علمه مقبلاً عليه بوجهي، سفه في عقله فإن هذا قد تصور في ذهنه منذ رأى العالم، فقيام الإنسان إلى الصلاة ليؤدي الفرض أمر يتصور في النفس في حالة واحدة لا يطول زمانه وإنما يطول زمان نظم هذه الألفاظ والألفاظ لا تلزم والوسواس جهل محض، وإن الموسوس يكلف نفسه أن يحضر في قلبه الظهرية والأدائية والفرضية في حالة واحدة مفصلة بألفاظها وهو يطالعها وذلك محال، ولو كلف نفسه ذلك في القيام للعالم لتعذر عليه فمن عرف هذا عرف النية](2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [بل التلفظ بالنية نقص في العقل والدين، أما في الدين فلأنه بدعة وأما في العقل فلأنه بمنزلة من يريد يأكل طعاماً فيقول: نويت بوضع يدي في هذا الإناء أني أريد آخذ منه لقمة فأضعها في فمي فأمضغها ثم ابلعها لأشبع. مثل القائل الذي يقول: نويت أصلي فريضة هذه الصلاة المفروضة علي حاضر الوقت أربع ركعات في جماعة أداء لله تعالى، فهذا كله حمق وجهل وذلك أن
(1) مقاصد المكلفين ص 132 - 133.
(2)
تلبيس إبليس ص 138 - 139.
النية بليغ العلم، فمتى علم العبد ما يفعله كان قد نواه ضرورة، فلا يتصور مع وجود العلم بالعقل أن يفعل بلا نية ولا يمكن مع عدم العلم أن تحصل نية.
وقد اتفق الأئمة على أن الجهر بالنية وتكريرها ليس بمشروع بل من اعتاد ذلك فإنه ينبغي له أن يؤدب تأديباً يمنعه عن ذلك التعبد بالبدع وإذاء الناس برفع صوته لأنه قد جاء الحديث: (أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهرن بعضكم على بعض بالقراءة) فكيف حال من يشوش على الناس بكلامه بغير قراءة؟ بل يقول: نويت أصلي، أصلي فريضة كذا وكذا، في وقت كذا وكذا من الأفعال التي لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم] (1).
وقال ابن الحاج: [وما تقدم من أن النية لا يجهر بها فهو عام في الإمام والمأموم والفذ فالجهر بها بدعة على كل حال إذ أنه لم يرو أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء ولا الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين جهروا بها فلم يبق إلا أن يكون الجهر بها بدعة](2).
وهذا الحكم وهو عدم جواز التلفظ بالنية وأنه بدعة يعم جميع العبادات من الطهارة والصلاة والصيام والاعتكاف والحج وغيرها.
(1) مجموع الفتاوى 22/ 231 - 232.
(2)
المدخل 2/ 282.