المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ١

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد:

- ‌الباب الأول: الاتجاه العقائدي في التفسير

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة في تفسير القرآن الكريم:

- ‌التعريف بهم:

- ‌نشأتهم:

- ‌عقيدة أهل السنة والجماعة:

- ‌بيان بعض عقائدهم:

- ‌أسس تفسير أهل السنة:

- ‌نماذج من تفسير أهل السنة والجماعة في العصر الحديث:

- ‌نماذج من مفسرى أهل السنة

- ‌مدخل

- ‌أولا: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:

- ‌ثانيا: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:

- ‌ثالثا: محاسن التأويل

- ‌رأيي في هذا المنهج:

- ‌الفصل الثاني: منهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم

- ‌تعريف الشيعة:

- ‌بداية ظهور التشيع:

- ‌فرق الشيعة

- ‌مدخل

- ‌الإمامية الإثنى عشرية

- ‌الإسماعيلة

- ‌الجمهوريون:

- ‌الزيدية:

- ‌الفصل الثالث: منهج الأباضية في تفسير القرآن الكريم

- ‌التعريف بالأباضية:

- ‌عقائدهم:

- ‌التفسير الأباضي:

- ‌تفسيري: هميان الزاد إلى دار المعاد، وتيسير التفسير

- ‌التعريف بالمؤلف:

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌رأيي في هذا التفسير:

- ‌الفصل الرابع: منهج الصوفية في تفسير القرآن الكريم

- ‌التعريف بالصوفية:

- ‌المراد بالتصوف:

- ‌نشأة التصوف وتطوره:

- ‌عقائد التصوف:

- ‌من شروط التصوف:

- ‌طبيعة التصوف:

- ‌أقسام التصوف:

- ‌موقف العلماء من هذا اللون في التفسير:

- ‌شروط قبول التفسير الإشاري:

- ‌أهم المؤلفات في التفسير الإشاري

- ‌مدخل

- ‌أولا: بيان السعادة في مقامات العبادة

- ‌ثانيا: ضياء الأكوان في تفسير القرآن

- ‌رأيي في التفسير الصوفي الحديث:

الفصل: ‌أولا: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:

‌أولا: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:

صاحب التفسير:

هو: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي.

مولده: ولد رحمه الله سنة 1325 في "تنبة" من أعمال مديرية "كيفا" في شنقيط، وهي دولة موريتانيا الإسلامية الآن.

نشأته:

توفي والده وهو صغير يقرأ في جزء عم وترك له ثروة من الحيوان والمال، فسكن مع أمه عند أخواله وحفظ القرآن على خاله وعمره عشر سنوات، وتعلم رسم المصحف العثماني على ابن خاله، ودرس الأدب دراسة واسعة على زوجة خاله قال: أخذت عنها مبادئ النحو كالأجرومية وتمرينات ودروس واسعة في أنساب العرب وأيامهم والسيرة النبوية ونظم الغزوات وشروحه1. فكان بيت أخواله المدرسة الأولى له.

ثم درس الفقه المالكي وألفية ابن مالك، ثم أخذ بقية الفنون على مشايخ متعددة في فنون مختلفة وكلهم من الجكنيين إلى أن برع فيها.

رحلة الحج:

أزمع -رحمه الله تعالى- على الحج عن طريق البر وعلى نية العودة بعد الحج، وكان كغيره في نفسه شيء غير قليل من رواسب الشبهات الملصقة بدعوة الشيخ

1 ترجمة للشيخ، رحمه الله: محاضرة ألقاها تلميذه عطية محمد سالم ملحقة في آخر الجزء التاسع من التفسير ص23 منها.

ص: 123

محمد بن عبد الوهاب، وما أن وصل إلى البلاد حتى اتصل ببعض علمائها وقرأ بعض كتب الدعوة من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وبعض رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعا، وكان هذا كافيا لتنقية عقله وفكره مما شابه من تدنيس الخصوم وجلاء الحقيقة أمام ناظريه، وانقلب ثم عزمه على العودة إلى رغبة في البقاء.

تدريسه في المسجد النبوي:

كان رحمه الله يقول: "ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وتم له ذلك بأمر من جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله1، وبعد أن كان مقتصرا على المذهب المالكي ولما عزم على البقاء وبدأ التدريس في المسجد النبوي وخالط العامة والخاصة وجد من يمثل المذاهب الأربعة ومن يناقش فيها، وقد ظهر ذلك في منهجه في تفسيره: أضواء البيان حينما يعرض لآيات الأحكام فيستوفي أقوال العلماء، ويرجح ما يظهر له بمقتضى الدليل.

تدريسه في الرياض:

سنة 1371 افتتح في الرياض معهد علمي أعقبه افتتاح كليتي الشريعة واللغة العربية، وقد اختير رحمه الله لتدريس التفسير والأصول إلى سنة 1381 حين افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

عودته إلى المدينة المنورة:

عاد -رحمه الله تعالى- إلى المدينة المنورة للتدريس في الجامعة الإسلامية، وفي سنة 1386هـ افتتح في الرياض المعهد العالي للقضاء، فكان رحمه الله أستاذا زائرا للتفسير والأصول.

1 ترجمة الشيخ ملحقة بالجزء التاسع من التفسير، كتبها تلميذه عطية محمد سالم ص37.

ص: 124

وفي سنة 1391 صدر تشكيل لهيئة كبار العلماء، وكان رحمه الله أحد أعضائها1.

وفي رابطة العالم الإسلامي كان عضو المجلس التأسيسي فيه، وكان له فيه خدمات جليلة.

وفاته:

توفي -رحمه الله تعالى- ضحى يوم الخميس 17/ 12/ 1393هـ بمكة المكرمة مرجعه من الحج، ودفن بمقبرة المعلاة وصلي على جثمانه في الحرم المكي، وفي ليلة الأحد أقيمت عليه صلاة الغائب بالمسجد النبوي.

مؤلفاته:

من أهم مؤلفاته، رحمه الله تعالى:

1-

منع جواز المجاز في المنزَّل للتعبد والإعجاز: وغرضه فيه، نفي ادعاء المجاز في أسماء الله تعالى وصفاته، وإجراؤها على طريقة السلف بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، وزاد هذا المعنى إيضاحا في كتابه آداب البحث والمناظرة.

2-

دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب: أبان فيه مواضع قد يبدو تعارضها عند بعض الناس، وأزال هذه الشبهة بما يجلو هذا العارض.

3-

مذكرة الأصول على روضة الناظر: جمع فيها بين أصول الحنابلة والمالكية والشافعية، وألفه لطلبة كليتي الشريعة والدعوة بالجامعة الإسلامية.

4-

آداب البحث والمناظرة: بين فيه آداب البحث من إيراد المسائل وبيان الدليل ونحو ذلك، ويقع في جزأين، وهو أيضا مقرر في الجامعة.

5-

"أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن": ونفرده بالدراسة هنا2.

1 مشاهير علماء نجد وغيرهم: عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ص146.

2 اقتبسنا هذه الترجمة من:

أ- الترجمة التي ألحقها تلميذه عطية محمد سالم بالجزء التاسع من التفسير.

ب- علماء ومفكرون عرفتهم: الأستاذ محمد المجذوب.

ص: 125

التفسير:

"أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن":

تعريف عام:

وصل المؤلف -رحمه الله تعالى- في تفسيره هذا إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آخر سورة المجادلة، واستغرق هذا سبعة مجلدات.

- صدر المجلد الأول في غرة ذي القعدة سنة 1386 في حياة المؤلف.

- صدر المجلد الثاني في غرة ذي الحجة سنة 1386 في حياة المؤلف.

- صدر المجلد الثالث في ربيع الأول سنة 1383 في حياة المؤلف.

- صدر المجلد الرابع في غرة ذي القعدة سنة 1384 في حياة المؤلف.

- صدر المجلد الخامس في غرة ربيع الأول سنة 1390 في حياة المؤلف.

- صدر المجلد السادس في غرة محرم سنة 1392 في حياة المؤلف.

- صدر المجلد السابع في شهر شوال سنة 1396 بعد وفاة المؤلف رحمه الله ثم أكمل التفسير من بعده تلميذه عطية محمد سالم في مجلدين كبيرين.

- صدر المجلد الثامن وهو الأول من التتمة في شهر رمضان سنة 1397هـ.

- صدر المجلد التاسع وهو الثاني بدون تاريخ وفيه تفسير جزء عم، وضم معه بعض مؤلفات الشيخ رحمه الله وهي رسالة في الناسخ والمنسوخ ثم رسالة منع جواز المجاز عن المنزل للتعبد والإعجاز، ثم دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب ثم محاضرة لتلميذه الشيخ عطية محمد سالم وهي ترجمة لحياة الشيخ، رحمه الله تعالى.

منهجه:

بين المؤلف -رحمه الله تعالى- غرضه من تأليف هذا التفسير بقوله: "واعلم أن من أهم المقصود بتأليفه أمرين:

ص: 126

"أحدهما: بيان القرآن بالقرآن لإجماع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله. إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جل وعلا من الله جل وعلا، وقد التزمنا أنا لا نبين القرآن إلا بقراءة سبعية سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها، أو آية أخرى غيرها. ولا نعتمد على البيان بالقراءات الشاذة وربما ذكرنا القراءة الشاذة استشهادا للبيان بقراءة سبعية، وقراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف ليست من الشاذ عندنا ولا عند المحققين من أهل العلم بالقراءات.

والثاني: بيان الأحكام الفقهية في جميع الآيات المبينة -بالفتح- في هذا الكتاب، فإننا نبين ما فيها من الأحكام وأدلتها من السنة وأقوال العلماء في ذلك، ونرجح ما ظهر لنا أنه الراجح بالدليل من غير تعصب لمذهب معين ولا لقول قائل معين؛ لأننا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله لأن كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلامه صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن الحق حق ولو كان قائله حقيرا.

وقد تضمن هذا الكتاب أمورا زائدة على ذلك، كتحقيق بعض المسائل اللغوية وما يحتاج إليه من صرف وإعراب والاستشهاد بشعر العرب وتحقيق ما يحتاج إليه فيه من المسائل الأصولية والكلام على أسانيد الأحاديث كما ستراه إن شاء الله تعالى"1.

وقال أيضا في بيان منهجه، رحمه الله تعالى:"واعلم أن مما التزمنا في هذا الكتاب المبارك أنه إن كان للآية الكريمة مبين من القرآن غير واف بالمقصود من تمام البيان، فإنا نتمم البيان من السنة من حيث إنها تفسير للمبين باسم الفاعل"2.

وقال أيضا: "وربما كان في الآية الكريمة أقوال كلها حق وكل واحد منها يشهد له قرآن، فإنا نذكرها ونذكر القرآن الدال عليها، من غير تعرض لتجريح بعضها؛ لأن كل واحد منها صحيح"3.

1 أضواء البيان في إيضاح القرآن: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص3-4.

2 المرجع السابق: ج1 ص24.

3 المرجع السابق: ج1 ص20.

ص: 127

وقد التزم -رحمه الله تعالى- بهذا، فالتزم تفسير القرآن بالقرآن معتمدا على القراءات السبع مبتعدا عن القراءات الشاذة، ومستندا إلى السنة النبوية الطاهرة، معتبرا لأقوال العلماء الثقات، لا يتعصب لرأي، ولا يحقر قولا، بل ينظر إلى ذات القول لا إلى قائله، يستوفي الأقوال ويرجح بالدليل والبرهان، إن كنت أصوليا وجدت في تفسيره دقائقه، وإن كنت من علماء الحديث وجدت فيه بدائعه، وإن كنت فقيها وجدت فيه وفاءه، وإن كنت من علماء العقيدة وجدت فيه صفاءها ونقاءها، بل عقيدة أهل السنة والجماعة التي لا تشوبها شائبة، وإن كنت من علماء كل هذا وجدت فيه رواءك وشفاءك.

نماذج من تفسيره:

الأسماء والصفات:

أفرد المؤلف -رحمه الله تعالى- آيات الأسماء والصفات برسالة خاصة بيّن فيها أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات وكثرة الأسئلة في ذلك الموضوع، من البدع التي يكرهها السلف1.

ثم أجمل الحديث عن آيات الصفات فقال عنها: دل القرآن العظيم أنه -أي مبحث آيات الصفات- يتركز على ثلاثة أسس من جاء بها كلها فقد وافق الصواب وكان على الاعتقاد الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، ومن أخلّ بواحد من تلك الأسس الثلاثة فقد ضل، وكل هذه الأسس الثلاثة يدل عليها قرآن عظيم.

أحد هذه الأسس الثلاثة هو تنزيه الله جل وعلا عن أن يشبه شيء من صفاته شيئا من صفات المخلوقين، وهذا الأصل يدل عليه قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} 4.

1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: ص5، تأليف محمد الأمين الشنقيطي.

2 سورة الشورى: من الآية 11.

3 سورة الإخلاص: الآية 4.

4 سورة النحل: من الآية 74.

ص: 128

الثاني من هذه الأسس: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 1، والإيمان بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال في حقه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3.

ولم يذكر -رحمه الله تعالى- الأساس الثالث هنا، لكنه في آخر بحثه قال: "هذه الأسس الثلاثة التي ركزنا عليها البحث وهي:

1-

تنزيه الله عن مشابهة الخلق.

2-

الإيمان بالصفات الثابتة بالكتاب والسنة، وعدم التعرض لنفيها.

3-

قطع الطمع عن إدراك الكيفية"4.

ذلكم مجمل موقفه -رحمه الله تعالى- من آيات الصفات.

إثبات الرؤية:

أبطل -رحمه الله تعالى- مذهب المعتزلة في إنكار رؤية الله تعالى يوم القيامة واستدلالهم بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} 5، فقال:"استدل المعتزلة النافون لرؤية الله بالأبصار يوم القيامة بهذه الآية على مذهبهم الباطل، وقد جاءت آيات تدل على أن نفي الرؤية المذكورة، إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فإن المؤمنين يرونه جل وعلا بأبصارهم كما صرح الكفار"

1 سورة البقرة: من الآية 140.

2 سورة النجم: الآيتان 3 و4.

3 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: محمد الأمين الشنقيطي ص5.

4 المرجع السابق: ص27-28، وانظر تفسيره أضواء البيان ج2 ص272-288 ففيه البيان الوافي.

5 سورة الأعراف: من الآية 143.

6 هكذا وردت، ولعل العبارة:"كما صرح بحجب الكفار".

ص: 129

{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1، فإنه يفهم من مفهوم مخالفته أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه جل وعلا.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2: "الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم"، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى:{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 3، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم"، وتحقيق المقام في المسألة: أن رؤية الله جل وعلا بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الأدلة على جوازها عقلا في دار الدنيا، قول موسى:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} لأن موسى لا يخفى عليه الجائز والمستحيل في حق الله تعالى، وأما شرعا فهي جائزة وواقعة في الآخرة كما دلت عليه الآيات المذكورة، وتواترت به الأحاديث الصحاح، وأما في الدنيا فممنوعة شرعا كما تدل عليه آية الأعراف هذه، وحديث:"إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" كما أوضحناه في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"4.

الاستواء:

قدم -رحمه الله تعالى- لحديثه عن الاستواء بمقدمة وافية كافية عن صفات الله تعالى عموما، ثم قال: وأمثال هذا من الصفات الجامعة كثير في القرآن. ومعلوم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفات المذكورة حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله، وأن ما وصف به المخلوق منها مخالف لما وصف به الخالق، كمخالفة ذات الخالق جل وعلا لذوات الحوادث ولا إشكال في شيء من ذلك. إلى أن قال: فإذا حققت كل ذلك علمت أنه جل وعلا وصف نفسه بالاستواء على العرش، ووصف غيره بالاستواء على بعض المخلوقات

1 سورة المطففين: الآية 15.

2 سورة يونس: من الآية 26.

3 سورة ق: من الآية 35.

4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص297-298.

ص: 130

فتمدح جل وعلا في سبع آيات من كتابه باستوائه على عرشه ولم يذكر صفة الاستواء إلا مقرونة بغيرها من صفات الكمال والجلال القاضية بعظمته وجلاله -جل وعلا- وأنه الرب وحده المستحق لأن يعبد وحده

ثم ذكر -رحمه الله تعالى- الآيات السبع عن الاستواء في الأعراف وفي سورة يونس وفي سورة الرعد وفي سورة طه وفي سورة الفرقان وفي سورة السجدة وفي سورة الحديد، ثم قال: وقال جل وعلا في وصف الحادث بالاستواء على بعض المخلوقات: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} 2 الآية، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} 3 الآية، ونحو ذلك من الآيات، وقد علمت مما تقدم أنه لا إشكال في ذلك وأن للخالق جل وعلا استواء لائقا بكماله وجلاله، وللمخلوق أيضا استواء مناسبا لحاله، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق، على نحو:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4 كما تقدم إيضاحه5.

يد الله تعالى:

قال رحمه الله تعالى: كل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات الخلق، وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق، فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق هو كونها جارحة وهي عظم ولحم ودم، وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى:{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 6، والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ

1 سورة الزخرف: من الآية 13.

2 سورة المؤمنون: من الآية 28.

3 سورة هود: من الآية 44.

4 سورة الشورى: من الآية 11.

5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص282-285 بتلخيص.

6 سورة المائدة: من الآية 38.

ص: 131

بِيَدَيَّ} 1 أنها صفة كمال وجلال، لائقة بالله جل وعلا ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله

ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة لإجماع أهل الحق والباطل كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة. ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السموات والأرض، فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها لا يليق بالله؛ لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها أن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى وعلى كتابه العظيم، وأنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين وقد جرك شؤم هذا التشبيه إلى ورطة التعطيل، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من السلف. وماذا عليك لو صدقت الله وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل؟ وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق؟ هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن2 أحد، حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق؟ فاخشَ الله يا إنسان واحذر من التقول على الله بلا علم، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه، واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول: هذا الذي وصفت به نفسك غير لائق بك وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ولا من رسولك وآتيك بدله بالوصف اللائق بك. فاليد مثلا التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا، وأبدلها لك بوصف لائق بك وهو النعمة أو القدرة مثلا أو الجود!! سبحانك هذا بهتان عظيم3.

1 سورة ص: من الآية 75.

2 هكذا وردت ولعلها: "عند أحد".

3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص444-446 بتلخيص.

ص: 132

وقال أيضا: "فإن قيل: إن هذا القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين والعرب لا تعرف في لغتها كيفية لليد مثلا إلا كيفية المعاني المعروفة عندها، كالجارحة وغيرها من معاني اليد المعروفة في اللغة، فبينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم، فالجواب من وجهين:

الوجه الأول: أن العرب لا تدرك كيفيات صفات الله من لغتها؛ لشدة منافاة صفة الله لصفة الخلق، والعرب لا تعرف عقولهم كيفيات إلا لصفات الخلق، فلا تعرف العرب كيفية للسمع والبصر إلا هذه المشاهدة في حاسة الأذن والعين، أما سمع لا يقوم بأذن، وبصر لا يقوم بحدقة، فهذا لا يعرفون له كيفية البتة، فلا فرق بين السمع والبصر، وبين اليد والاستواء، فالذي تعرف كيفيته العرب من لغتها من جميع ذلك هو المشاهد في المخلوقات. وأما الذي اتصف الله به من ذلك فلا تعرف له العرب كيفية، ولا حدا لمخالفة صفاته لصفات الخلق إلا أنهم يعرفون من لغتهم أصل المعنى، كما قال الإمام مالك، رحمه الله: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما يعرفون من لغتهم أن بين الخالق والمخلوق والرزق والمرزوق والمحيي والمحيا، والمميت والممات فوارق عظيمة لا حد لها، تستلزم المخالفة التامة بين صفات الخالق والمخلوق.

الوجه الثاني: أن نقول لمن قال: بينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم من كونها صفة كمال وجلال منزهة عن مشابهة جارحة المخلوق: هل عرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة باليد، فلا بد أن يقول: لا، فإن قال ذلك قلنا: معرفة كيفية الصفات تتوقف على معرفة كيفية الذات، فالذات والصفات من باب واحد، فكما أن ذاته جل وعلا تخالف جميع الذوات، فإن صفاته تخالف جميع الصفات، ومعلوم أن الصفات تختلف وتتباين باختلاف موصوفاتها، ألا ترى مثلا أن لفظ رأس كلمة واحدة؟ إن أضفتها إلى الإنسان فقلت: رأس الإنسان، وإلى الوادي فقلت: رأس الوادي، وإلى المال فقلت: رأس المال، وإلى الجبل فقلت: رأس الجبل، فإن كلمة رأس اختلفت معانيها وتباينت تباينا شديدا بحسب اختلاف إضافتها مع أنها في مخلوقات حقيرة. فما بالك بما أضيف من الصفات

ص: 133

إلى الله وما أضيف منها إلى خلقه، فإنه يتباين كتباين الخالق والمخلوق، كما لا يخفى"1.

سلامة القرآن من التحريف:

قال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2:

"بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي نزل القرآن العظيم، وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شيء أو يبدل، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 3، وقول: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 4، وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} راجع إلى الذكر الذي هو القرآن، وقيل: الضمير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 5 والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق"6.

ظاهر القرآن:

عند قول تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 7، رد رحمه الله تعالى على الذين يصرفون آيات القرآن الكريم عن ظاهرها حتى زعم أحدهم أن العلماء قالوا: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، رد رحمه الله تعالى على هذا الزعم ونحوه فقال: "من هم العلماء الذين قالوا: إن

1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص449-451.

2 سورة الحجر: الآية 9.

3 سورة فصلت: الآية 42.

4 سورة القيامة: الآية 16-19.

5 سورة المائدة: من الآية 67.

6 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج3 ص107.

7 سورة محمد: الآية 24.

ص: 134

الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟ سموهم لنا، وبينوا لنا: من هم؟ والحق الذي لا شك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم ولا متعلم؛ لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده، وتنفذ به أوامره، وينصف به بين عباده في أرضه، والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جدا لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جدا كقوله تعالى:{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 1. والغالب الذي هو الأكثر هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر، وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه، إلى المحتمل المرجوح، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول. فتنفير الناس وإبعادهم عن كتاب الله وسنة رسوله بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى، وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر ويتباعد منها كل التباعد ويتجنب أسبابها كل الاجتناب، فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي"2.

وفي تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} 3، قال: "وحاصل تحرير مسألة التأويل عند أهل الأصول أنه لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح:

الأولى: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صحيح في نفس الأمر يدل على ذلك، وهذا هو التأويل المسمى عندهم بالتأويل الصحيح والتأويل القريب

ثم ضرب له مثالا.

الحالة الثانية: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لأمر يظنه الصارف دليلا وليس بدليل في نفس الأمر، وهذا هو المسمى عندهم بالتأويل الفاسد والتأويل البعيد

ثم ضرب لها مثالا.

1 سورة البقرة: من الآية 196.

2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص442-443.

3 سورة آل عمران: من الآية 7.

ص: 135

الحالة الثالثة: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا دليل له أصلا، وهذا يسمى في اصطلاح الأصوليين لعبا، كقول بعض الشيعة:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1 يعني عائشة، رضي الله عنها"2.

الإمامة:

في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 3، قال "قال مقيده، عفا الله عنه": من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الله في أرضه، ولم يخالف في هذا إلا من لا يعتد به

وأكثر العلماء على أن وجوب الإمامة الكبرى بطريق الشرع كما دلت عليه الآية المتقدمة وأشباهها وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولأن الله قد يزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن وكما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 4؛ لأن قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ، فيه إشارة إلى إعمال السيف عند الإباء بعد إقامة الحجة

واعلم أن ما تتقوله الإمامية من المفتريات على أبي بكر وعمر وأمثالهما من الصحابة، وما تتقوله في الاثني عشر إماما، وفي الإمام المنتظر المعصوم ونحو ذلك من خرافاتهم وأكاذيبهم الباطلة كله باطل لا أصل له، وإذا أردت الوقوف على تحقيق ذلك فعليك بكتاب:"منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" للعلامة الوحيد الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية -تغمده الله برحمته- فإنه جاء فيه بما لا مزيد عليه من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على إبطال جميع تلك الخرافات المختلفة"5.

1 سورة البقرة: من الآية 67.

2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص234-235.

3 سورة البقرة: من الآية 30.

4 سورة الحديد: من الآية 25.

5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص50-51.

ص: 136

لا رجعة قبل يوم القيامة:

قال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} 1: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة يوم القيامة يقرون بأن الرسل جاءت بالحق ويتمنون أحد امرين: أن يشفع لهم شفعاء فينقذوهم، أو يردوا إلى الدنيا ليصدقوا الرسل ويعملوا بما يرضي الله، ولم يبين هنا هل يشفع لهم أحد؟ وهل يردون؟ وماذ يفعلون لو ردوا؟ وهل اعترافهم ذلك بصدق الرسل ينفعهم؟ ولكنه تعالى بين ذلك كله في مواضع أخر؛ فبين أنهم لا يشفع لهم أحد بقوله:{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} 2.. الآية، وقوله:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3، وقوله:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 4، مع قوله:{وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 5، وقوله:{فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 6. وبين أنهم لا يردون في مواضع متعددة كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 7، فقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} الآية، دليل على أن النار وجبت لهم فلا يردون ولا يعذرون، وقوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} 8، فصرح بأنه قطع عذرهم في الدنيا بالإمهال مدة يتذكرون فيها

1 سورة الأعراف: من الآية 53.

2 سورة الشعراء: من الآية 100.

3 سورة المدثر: الآية 48.

4 سورة الأنبياء: من الآية 28.

5 سورة الزمر: من الآية 7.

6 سورة التوبة: من الآية 96.

7 سورة السجدة: الآيتان 12-13.

8 سورة فاطر: من الآية 37.

ص: 137

وإنذار الرسل، وهو دليل على عدم ردهم إلى الدنيا مرة أخرى، وأشار إلى ذلك بقوله:{أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} 1 جوابا لقولهم: {أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} ، وقوله:{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} 2، بعد قوله تعالى عنهم:{فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} 3، وقوله:{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} 4

الآية، بعد قوله:{وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} ، وقوله هنا:{قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}

الآية، بعد قوله:{فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ}

الآية، فكل ذلك يدل على عدم الرد إلى الدنيا وعلى وجوب العذاب، وأنه لا محيص لهم عنه5.

الميزان:

قرر رحمه الله تعالى أن ظاهر القرآن الكريم يدل على تعدد الموازين لكل شخص فقال: "وقوله في هذه الآية الكريمة": {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} 6، جمع ميزان وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص لقوله:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} 7، وقوله:{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} 7، فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله، كما قال الشاعر:

ملك تقوم الحادثات لعدله

فلكل حادثة لها ميزان

والقاعدة المقررة في الأصول أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا

1 سورة إبراهيم: من الآية 44.

2 سورة غافر: من الآية 12.

3 سورة غافر: من الآية 11.

4 سورة الشورى: من الآية 45.

5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص270-271.

6 سورة الأنبياء: من الآية 47.

7 سورة الأعراف: من الآيتين 8 و9.

ص: 138

بدليل يجب الرجوع إليه، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة:"الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه"1.

الموالاة والمعاداة:

قال رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} 2، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله جاء موضحا في آيات أخر، كقوله تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 3، وقوله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 4، وقوله تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} 5، وقوله تعالى:{وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} 6

الآية، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 7، إلى غير ذلك من الآيات8.

وقال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 9: ذكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى من المسلمين فإنه يكون منهم بتوليه إياهم، وبين في موضع آخر أن توليهم موجب لسخط الله

1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج4 ص584-585.

2 سورة المجادلة: من الآية 22.

3 الممتحنة: من الآية 4.

4 سورة الفتح: من الآية 29.

5 سورة المائدة: من الآية 54.

6 سورة التوبة: من الآية 123.

7 سورة التوبة: من الآية 73.

8 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص824-825.

9 سورة المائدة: من الآية 51.

ص: 139

والخلود في عذابه وأن متوليهم لو كان مؤمنا ما تولاهم، وهو قوله تعالى:{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1. ونهى في موضع آخر عن توليهم مبينا سبب التنفير منه وهو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} 2.

إلى أن قال رحمه الله تعالى: "ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمدا اختيارا رغبة فيهم، أنه كافر مثلهم"3.

محبة الصحابة:

قال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}

الآية4: ولا يخفى أنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان وهو دليل قرآني صريح في أن من يسبهم ويبغضهم أنه ضال مخالف لله جل وعلا، حيث أبغض من رضي الله عنه، ولا شك أن من أبغض من رضي الله عنه مضاد له جل وعلا، وتمرد وطغيان5.

أهل البيت:

رد رحمه الله تعالى على بعض العلماء الذين قالوا: إن أزواجه صلى الله عليه وسلم لا يدخلن في أهل بيته في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ

1 سورة المائدة: من الآية 80-81.

2 سورة الممتحنة: من الآية 13.

3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص98-99.

4 سورة التوبة: من الآية 100.

5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص424.

ص: 140

عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1 بأن قرينة السياق صريحة في دخولهن؛ لأن الله تعالى قال: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ} ، ثم قال في نفس خطابه لهن:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} ، ثم قال بعده:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ}

الآية. وقد أجمع جمهور علماء الأصول على أن صورة سبب النزول قطعية الدخول، فلا يصح إخراجها بمخصص.

والتحقيق إن شاء الله أنهن داخلات في الآية وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت2.

وبين المراد بإذهاب الرجس عنهم فقال: "يعني أنه يذهب الرجس عنهم ويطهرهم بما يأمر به من طاعة الله وينهى عنه من معصيته؛ لأن من أطاع الله أذهب عنه الرجس وطهره من الذنوب تطهيرا"3.

أما المراد بالمودة في القربى من قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4، فقال:"والتحقيق إن شاء الله، أن معنى الآية هو القول الأول {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذي الناس كما هو شأن أهل القرابات"5.

القضاء والقدر:

قال رحمه الله تعالى: إن في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} 6، وفي قوله سبحانه:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 7، وفي قوله سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ

1 سورة الأحزاب: من الآية 33.

2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص577.

3 المرجع السابق ج7 ص579.

4 سورة الشورى: من الآية 23.

5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص192.

6 سورة الزخرف: الآية 20.

7 سورة الأنعام: من الآية 148.

ص: 141

دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} 1 إشكالا، ووجه الإشكال أن الله صرح بكذبهم في هذه الدعوى التي ظاهرها حق. وأجاب عن هذا بأن مراد الكفار بقولهم:{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، وقولهم:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} ، مرادهم به: أن الله لما كان قادرا على منعهم من الشرك وهدايتهم إلى الإيمان ولم يمنعهم من الشرك دل ذلك على أنه راضٍ منهم بالشرك في زعمهم، قالوا: لأنه لو لم يكن راضيا به لصرفنا عنه، فتكذيب الله لهم في الآيات المذكورة منصب على دعواهم أنه راض به والله جل وعلا يكذب هذه الدعوى في الآيات المذكورة، وفي قوله:{وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 2.فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية القدرية تستلزم الرضى وهو زعم باطل وهو الذي كذبهم الله فيه في الآيات المذكورة3.

إلى أن قال رحمه الله تعالى: وحاصل هذا أن الله تبارك وتعالى قدَّر مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق، وعلم أن قوما صائرون إلى الشقاء وقوما صائرون إلى السعادة، فريقا في الجنة وفريقا في السعير.

وأقام الحجة على الجميع، ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبسا، فقامت عليهم حجة الله في أرضه لذلك، ثم إنه تعالى وفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي4، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر وصرف قدرهم وإرادتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا، طائعين مختارين غير مجبورين ولا مقهورين:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 6.

1 سورة النحل: من الآية 35.

2 سورة الزمر: من الآية 7.

3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص221، 222 باختصار.

4 كذا، ولعلها:"في علمه الأزلي" الشقاء.

5 سورة الإنسان: الآية 30.

6 سورة الأنعام: من الآية 149.

ص: 142

وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء، ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية كحركة المرتعش فرقا ضروريا لا ينكره عاقل، إنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون، وفقأت عينه مثلا، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر فقلت له: أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل لي فيه؛ فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك، بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا: إن هذا بإرادتك ومشيئتك.

ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته، أنه لا يمكن لأحد أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر، وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى، وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنى في محل كذا في وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنى الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك وتصير علم الله جهلا، بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟ والجواب بلا شك هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1.

إنكار البداء على الله جل وعلا:

وفي قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2. قال رحمه الله تعالى: "وما زعمه المشركون واليهود من أن النسخ مستحيل على الله لأنه يلزمه البداء وهو الرأي المتجدد، ظاهر السقوط واضح البطلان لكل عاقل؛ لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة، بل الله جل وعلا يشرع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت

1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص223-225.

2 سورة النحل: الآية 101.

ص: 143

المعين، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة، فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز جل وعلا ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه، وحدوث الغنى بعد الفقر وعكسه، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء؛ لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له، على وفق ما سبق في العلم الأزلي كما هو واضح.

وقد أشار جل وعلا إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ وتمحضها في الناسخ بقوله هنا: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّل} ، وقوله:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، وقوله:{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} 2، فقوله:{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} بعد قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ، يدل على أنه أعلم بما ينزل، فهو عالم بمصلحة الإنسان ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي3.

الشفاعة:

في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 4. قال رحمه الله تعالى: "ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقا يوم القيامة، ولكنه بين في مواضع أخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار والشفاعة لغيرهم بدون إذن رب السموات والأرض، أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 5، وقد قال: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 6

" إلى أن قال: "هذا

1 سورة البقرة: الآية 106.

2 سورة الأعلى: الآية 6 و7.

3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج3 ص328.

4 سورة البقرة: الآية 48.

5 سورة الأنبياء: من الآية 28.

6 سورة الزمر: من الآية 7.

ص: 144

الذي قررنا من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعا مطلقا، يستثنى منه شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فهذه الصورة التي ذكرنا من تخصيص الكتاب بالسنة"1.

دقته في استخراج الأحكام:

إلى جانب التزامه -رحمه الله تعالى- منهج أهل السنة والجماعة في التفسير، فإن الله قد آتاه قسطا وافرا من فهم عميق وعميق الفهم يدرك به مدلول الإشارة، ويغوص به في دقائق الأمور فيجلوها ويوضح ما لا يفطن إليه إلا مثله، ولهذا نضرب مثالا:

أينا يفهم من قوله تعالى: " {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة: آية 7] ؟ أينا يفهم دلالتها على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟ ولنقرأ له -رحمه الله تعالى- تقرير ذلك حيث قال: "يؤخذ من هذه الآية صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم -أعني الفاتحة- بأن نسأله أن يهدينا صراطهم. فدل ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم وذلك في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين2. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين، فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم، الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم وأن إمامته حق"3.

ص: 145

وهناك مثال آخر في استنباطه الفقهي، فمن قول هارون لأخيه موسى عليهما السلام:{يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} 1، استنبط رحمه الله تعالى لزوم إعفاء اللحية وإليك البيان: "هذه الآية الكريمة بضميمة آية الأنعام إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية، فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها، وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ}

الآية. ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2، فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك أمر لنا؛ لأن أمر القدوة أمر لاتباعه كما بينا إيضاحه بالأدلة القرآنية في هذا الكتاب المبارك في سورة المائدة

فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في سورة الأنعام وعلمت أن أمره أمر لنا؛ لأن لنا فيه الأسوة الحسنة وعلمت أن هارون كان موفرا شعر لحيته بدليل قوله لأخيه: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} لأنه لو كان حالقا لما أراد أخوه الأخذ بلحيته تبين لك من ذلك بإيضاح أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم"3. ومثل هذا عنده كثير.

هذان مثالان فيهما بيان دقته في الاستنباط وهو قصدنا، ولمن أراد مزيد علم فليرجع إلى تفسيره -رحمه الله تعالى- ففيه بغيته.

وبعد:

ذلكم تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ما رأيت تفسيرا قديما أو حديثا فسر القرآن بالقرآن مثله، لا يكاد يتناول آية قرآنية إلا وبين ما تدل عليه

1 سورة طه: من الآية 94.

2 سورة الأنعام: من الآية 90.

3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج4 ص506-507.

ص: 146

وما لا تدل عليه ثم أورد الآيات التي تكشف ما لم تدل عليه الآية الأولى، فأصبحت الآيات مجتمعة كالسبيكة الواحدة تجلو كل إبهام وتوضح كل غامض.

ولا يعدل عن ظاهر القرآن الكريم إلا بدليل وقد رد ردودا طويلة على أولئك الذين يصرفون آيات القرآن عن ظاهرها لا لشيء إلا لشيء توهموه في صدورهم كبعض الصفات مثلا، أو لدليل حسبوه يعارض الظاهر فإذا به يجلو هذا الاشتباه فإذا بالتعارض قد زال، بل ذاب كما يذوب الملح في الماء.

وفصل -رحمه الله تعالى- آيات الأحكام تفصيلا موسعا كدت أقول: لا مزيد عليه فيه، بغية كل باحث ومراد كل فقيه.

أما أصول الفقه فهو الخبير فيه، لا تكاد تمر آية قرآنية فيها لأهل الأصول معترك إلا ودخل فيها وخرج والأنظار ترمقه، هممت أن أذكر مثالا فإذا بالأمثلة تصطرع ولم أستطع الحكم لأحدها فلينزل من أراد وردة إلى الحديقة وليقتطف منها ما شاء.

أما مباحث اللغة والبلاغة والبيان ففيه منها ما يوقفك متربعا على عرش الاقتناع.

ليس ما قلته وما لم أقله أيضا مصدره عين الرضا التي تكل عن كل عيب ولكنه عين ما رأيته حقا فوجب قوله ورأيت في ذكر المحاسن الأخرى إطالة فسكت عنها، ولو كان لي من الأمر شيء لقررته في كلياتنا الشرعية منها ليدرك به طلبة العلم الشرعي رائحة علماء السلف في استقامتهم وفي سعة أفقهم وأنها لا تزال قريبة منهم، فيشمروا عن سواعد الجد والطلب، وما ذلك على الله بعزيز.

رحم الله الشيخ ووفق الله طلبة العلم لخدمة هذا التفسير الجليل، إذ لا يزال بحاجة ماسة إلى الترقيم والفهرسة ونحوهما والله الموفق.

ص: 147