الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: محاسن التأويل
صاحب التفسير:
اسمه: محمد جمال الدين أبو الفرج بن محمد سعيد بن قاسم، وقاسم هذا فقيه الشام في عصره الشيخ قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكر المعروف بالحلاق، وإلى هذا الفقيه ينسب حفيده فيسمى جمال الدين القاسمي.
ولادته:
ولقد ولد -رحمه الله تعالى- يوم الاثنين 8/ 5/ 1283 الموافق 17 أيلول 1866 من الميلاد، في دمشق.
نشأته:
تعلم -رحمه الله تعالى- القرآن أولا ثم تعلم الكتابة، ثم انتقل إلى مكتب في المدرسة الظاهرية فأخذ مبادئ التوحيد والصرف والنحو والمنطق والبيان والعروض وغيرها، ثم جود القرآن على شيخ القراء الشيخ أحمد الحلواني وقرأ على الشيخ سليم العطار والشيخ بكري العطار، وأجازه كثير من علماء عصره.
تدريسه:
بدأ في التعليم بسن مبكرة، وانتدبته الحكومة أربع سنوات من سنة 1308 إلى سنة 1312 لإلقاء دروس عامة خلال شهر رمضان في وادي العجم والنبك وبعلبك، وقام مقام أبيه في الدرس العام وإمامة الجامع وإلقاء الدروس فيه بعد وفاة والده سنة 1317، واستمر فيه إلى وفاته، رحمه الله تعالى.
نشاطه:
اتهم بعد عودته من الانتداب سنة 1313 وزيارته لمصر وللمدينة بتأسيس مذهب فقهي خامس هو "المذهب الجمالي" فقبضت عليه الحكومة ليلة واحدة ثم أخلي سبيله في الصباح، واعتذر له والي دمشق.
وانقطع بعدها للتأليف وإلقاء الدروس الخاصة والعامة، وفي سنة 1326 حدثت له حادثة أخرى، حيث فُتشت كتبه وصُودر بعضها وأُعيدت له بعد شهرين.
وحادثة ثالثة، حيث استُدعي أمام قاضي التحقيق بدمشق حيث اتهم بأن جمعية النهصة السورية لم تنشأ إلا بتشويقه هو والشيخ عبد الرزاق البيطار، وأنهما من أركانها، وأنها فرع لجمعيات في البلاد كاليمن ونجد.
وأن لهم مكاتبات مع أمراء نجد ومواصلات
…
وما مذهب الوهابية وكم عدة الوهابيين في الشام
…
إلى نحو ذلك.
أسلوبه في الدعوة:
عرف عنه -رحمه الله تعالى- أنه كان عف اللسان والقلم لم يتعرض بالأذى لأحد من خصومه، سواء أكان ذلك في دروسه الخاصة أو العامة في مجالسه أو ندواته، وإنما كان يناقش بالبرهان والدليل من الكتاب والسنة.
ولم تتضمن كتبه على كثرتها مع أن بعضها إنما وضع للرد على المخالفين، لم تتضمن لفظا نابيا أو كلمة جارحة وإنما اعتصم بالنقاش العلمي الأدبي ولم يكن -رحمه الله تعالى- يريد من الرد على مخالفيه إفحامهم أو تصغير أقدارهم أو الحط من شأنهم، وإنما كان هدفه الهدى والرشاد إلى صراط مستقيم.
وفاته:
توفي -رحمه الله تعالى- في دمشق مساء السبت 23/ 5/ 1332 ودفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق، وله من العمر 49 عاما.
مؤلفاته:
ترك -رحمه الله تعالى- عددا كبيرا من المؤلفات تقارب المائة عددا، وقد اطلع الزركلي على اثنين وسبعين مصنفا له
…
وأهم مؤلفاته:
1-
محاسن التأويل: وهو التفسير الذي سنفرده بالحديث، إن شاء الله.
2-
قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث: في مجلد، بين يدي طبعة دار إحياء الكتب العربية الطبعة الثانية سنة 1380 بتحقيق وتعليق محمد بهجت البيطار. أما الطبعة الأولى ففي شهر شوال سنة 1353.
3-
إصلاح المساجد من البدع والعوائد: في مجلد واحد، تبلغ صفحاته قرابة 280 صفحة، صدرت طبعته الأولى في القاهرة سنة 1341، وبين يدي الطبعة الرابعة سنة 1399 في بيروت، خرج أحاديثها وعلق على بعض مواطن الإشكال فيها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
4-
تاريخ الجهمية والمعتزلة: صدرت آخر طبعاته من مؤسسة الرسالة ببيروت سنة 1399.
5-
تعطير المشام في مآثر دمشق الشام: مخطوط في أربعة مجلدات، ذكره الزركلي في أعلامه.
6-
موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين: وغير ذلك من المؤلفات، رحمه الله رحمة واسعة ونفع بعلمه، إنه سميع مجيب1.
التفسير:
"محاسن التأويل":
ويعرف هذا التفسير بـ"تفسير القاسمي" طبع في سبعة عشر مجلدا ويقع في 6316 صفحة بدون المجلد الأول الذي جعله مقدمة لتفسيره وصدرت
1 اعتمدت في ترجمته -رحمه الله تعالى- على ما ورد في ترجمته في كتابه: "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث"، وعلى ما ورد في الأعلام للزركلي؛ ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة؛ وفي كتاب الأدب العربي المعاصر في سورية للأستاذ سامي الكيالي.
الطبعة الأولى بين عامي 1376-1377 من دار إحياء الكتب العربية، ووقف على طبعه وتصحيحه، ورقمه وخرج آياته وأحاديثه وعلق عليه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، وأصدرت دار الفكر ببيروت الطبعة الثانية سنة 1398 مصورة عن الطبعة الأولى.
طريقته في التفسير:
بين -رحمه الله تعالى- في مقدمة تفسيره أنه اطلع على ما قدر له من تفاسير السابقين وتعرف ما تخللها من الغث والسمين، ثم بعد أن صرف في الكشف عن حقائق التفسير شطرا من عمره ووقف على فحص دقائقه قدرا من دهره قال:"أردت أن أنخرط في سلك مفسريه الأكابر قبل أن تبلى السرائر وتفنى العناصر وأكون بخدمته موسوما وفي حملته منظوما، فشحذت كليل العزم وأيقظت نائم الهم واستخرت الله تعالى في تقرير قواعده وتفسير مقاصده في كتاب اسمه بعون الله الجليل: "محاسن التأويل" أودعه ما صفا من التحقيقات وأوشحه بمباحث هي المهمات وأوضح فيه خزائن الأسرار وأنقد فيه نتائج الأفكار وأسوق إليه فوائد التقطتها من تفاسير السلف وفرائد عثرت عليها في غضون الدفاتر وزوائد استنبطتها بفكري القاصر مما قادني الدليل إليه، وقوى اعتمادي عليه وسيحمد السابح في لججه والسانح في حججه ما أودعته من نفائسه الغريبة البرهان وأوردته من أحاديثه الصحاح والحسان وبدائعه الباهرة للأذهان، فإنها لباب اللباب ومهتدى أولي الألباب ولم أطل ذيول الأبحاث بغرائب التدقيقات، بل اخترت حسن الإيجاز في حل المشكلات اللهم إلا إذا قابلت فرسان مضمار الحق جولة الباطلات، فهنالك تصوب أسنة البراهين نحو نحور الشبهات"1.
وقد جعل -رحمه الله تعالى- الجزء الأول مقدمة لتفسيره، قال عنها:"وهي قواعد فائقة وفوائد شائقة جعلتها مفتاحا لمغلق بابه، ومسلكا لتسهيل خوض عبابه، تعين المفسر على حقائقه وتطلعه على بعض أسراره ودقائقه"1.
1 محاسن التأويل ج1 ص5 و6.
ومفسرنا -رحمه الله تعالى- كثيرا ما ينقل نقولا طويلة عن علماء السلف، فينقل عن أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن جرير الطبري والشاطبي والعز بن عبد السلام وابن حزم والرازي والزمخشري والراغب والقرطبي والبقاعي وغيرهم، رحمهم الله أجمعين.
وكثيرا ما يستشهد رحمه الله، وهو من علماء الحديث- بالأحاديث النبوية من الصحاح والسنن والمسانيد.
وفي اللغة يرجع إلى كتب اللغة، كالقاموس والصحاح وغيرهما. وقد عاب بعض النقاد عليه -رحمه الله تعالى- كثرة نقله من الكتب وزعموا أن الرجل لم يكن له رأي شخصي وأنه إنما كان يعتمد في تأليفه على نقل آراء غيره، فرد عليهم الأستاذ سامي الكيالي فقال عنهم: "أخطئوا من ناحيتين:
1-
لأن النقل بحد ذاته رأي، وقديما قيل:"اختيار المرء قطعة من عقله" فما كانت الآثار والآراء والأقوال التي ينقلها إلا آراء، ولو ارتأى أن يكتبها بنفسه، لكتب مثلها أو خيرا منها، ولكنه آثر أن يكتبها بقلم غيره للسبب الذي أشرت إليه.
2-
لأن بعض تآليفه التي وضعها في أخريات أيامه لم يكن فيها النقل إلا عرضا ولتأييد فكرته بقول غيره، وقد كان ذلك في الوقت الذي لم يعد فيه يبالي بالخصوم وأصبح اسمه علما ضخما في العالم الإسلامي"1.
أما السبب الذي أشار إليه الأستاذ سامي الكيالي فهو حسب اعتقاده أن الشيخ القاسمي لما رأى البدع قد تفشت وأن الخرافات قد استولت على الأذهان، أدرك أن أقواله سوف لا يكون لها من القيمة ما لأقوال الأئمة السابقين فكان يرتب الأفكار التي تجب معالجتها وينقل عن الغزالي وابن تيمية وابن حزم وابن الجوزي وابن القيم والشافعي وأبي حنيفة وأحمد ومالك وأمثالهم الأقوال الصحيحة التي تؤيد فكرته؛ ولهذا ظهر قسم من مؤلفاته وليس فيه إلا المقدمة
1 الأدب العربي المعاصر في سورية: سامي الكيالي ص155-156.
وبعض الأقوال القليلة النادرة ولم يكن ذلك عن عجز عن الكتابة، وإنما كان مقصودا لنشر الفكرة الإصلاحية التي يسعى إليها وليحمل الخصوم على قبولها والقناعة بها من أقوال أئمة لا يستطيعون أن يردوا عليها1.
والحق أن الشيخ القاسمي -رحمه الله تعالى- كثيرا ما يعتمد على النقل، نضرب لذلك مثلا في بيان المحكم والمتشابه في الآية السابعة من آل عمران، اكتفى -رحمه الله تعالى- بنقل نص لابن تيمية -رحمه الله تعالى- في 32 صفحة ثم بنص لابن المرتضى اليماني صاحب كتاب:"إيثار الحق على الخلق" في 12 صفحة ولم يكن له إلا الربط بين النصين، ولا يعد هذا عيبا إذ لم يكن هدفه -رحمه الله تعالى- التأليف، بل كان هدفه الإصلاح ونشر الحق بين الناس وإزالة البدع والمنكرات، وتحت ظلال هذه الأهداف فإن الأمر سيان بين أن يأتي بكلام من عنده، أو بكلام غيره ما دام يعتقده حقا ويعتقده صوابا، بل الثاني أولى لما ذكره الأستاذ سامي.
نماذج من تفسيره:
الأسماء والصفات:
أفرد القاسمي -رحمه الله تعالى- في المجلد الأول بيانا في أن الصواب في آيات الصفات هو مذهب السلف أورد فيه نقولا لبعض العلماء في إثبات ذلك، فنقل الباب الثاني في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف من كتاب "إلجام العوام عن علم الكلام" للإمام الغزالي ثم نقل ما وصفه بالقول الشامل في هذا الباب ما قاله الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ثم نقل عن الأوزاعي من كتابي الأسماء والصفات للبيهقي والسنة لأبي بكر الخلال، ثم نقل شرح ابن القيم لحديث:"فرح الله بتوبة عبده" من كتابه: طريق الهجرتين.
ولئن كان -رحمه الله تعالى- ينقل هذه النصوص نقل المستشهد المؤيد، فإني لم أعتبرها رأيا له مع أن من يفعل فعله فينقل نقل المستشهد المؤيد إنما عبر
1 الأدب العربي المعاصر في سورية: سامي الكيالي ص155-156.
عن رأيه بلفظ غيره فهي إن لم تكن رأيا له، فهي حتما دليل عليه. وإنما لم أعتبرها رأيا له دفعا للحجة وقطعا للمنازع، وسأعتمد في هذا وفي سواه على ألفاظه، رحمه الله تعالى.
فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، قال: "كما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة فكذا تتمتها وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد على المعطلة؛ ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف، فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فجمعوا بين التمثيل والتعطيل فمثلوا أولا وعطلوا آخرا، فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عز وجل بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة، فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تشبيه قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فرد على المشبهة بنفي المثلية، ورد على المعطلة بقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.
إثبات الرؤية:
قال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3: "أي مشاهدة إياه، ترى جمال ذاته العلية ونور وجهه الكريم كما وردت بذلك الأخبار والآثار عن رسول الله صلوات الله عليه وسلامه"4.
وكذا في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ ْأَرِنِي
1 سورة الشورى: من الآية 11.
2 محاسن التأويل ج14 ص5227.
3 سورة القيامة: الآيتان 22-23.
4 محاسن التأويل ج17 ص5996.
أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} الآية1، قال رحمه الله تعالى:"نبه تعالى على أن الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر، وفيه تسكين لفؤاد موسى بأن المانع من الانكشاف الإشفاق عليه، وأما أن المانع محالية الرؤية فليس في القرآن إشارة إليه"2.
ثم رد على المعتزلة فقال: "وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري فمعنى قوله: {أَرِنِي} ، أي: اجعلني عالما بك علما ضروريا، خلاف الظاهر فإن النظر الموصول بـ "إلى" نص في الرؤية البصرية فلا يترك بالاحتمال مع أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول، وكذا زعمهم أن موسى عليه السلام كان سألها لقومه حين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 3، فسأل ليعلموا امتناعها، فإنه خلاف الظاهر وتكلف يذهب رونق النظم فترده ألفاظ الآية، وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة بالكتاب والسنة؛ أما الكتاب فلقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وأما السنة فلا تحصى أحاديثها ولكن إذا أصيب أحد بداء المكابرة في الحق الصراح، عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة"4.
وأكد هذه العقيدة عند تفسيره لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 5، فسر الزيادة بالتفضل كما قال تعالى:{وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} ، وأعظم أنواعه النظر إلى وجهه تعالى الكريم؛ ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحد من الصحابة والتابعين ورفعها ابن جرير إلى النبي -صلوات الله عليه- عن أبي موسى وكعب بن عجرة وأبي، وكذا ابن أبي حاتم وروى الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
…
} إلخ. وقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار
1 سورة الأعراف: من الآية 143.
2 محاسن التأويل ج7 ص2851.
3 سورة البقرة: من الآية 55.
4 محاسن التأويل ج7 ص2852.
5 سورة يونس: من الآية 26.
نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ " قال:"فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم". وهكذا رواه مسلم1.
الاستواء:
ما رأيت الشيخ القاسمي -رحمه الله تعالى- أفاض الحديث عن صفة من صفات الله تعالى كما أفاضه في صفة الاستواء، فقد كتب عن قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} "من ص2702 إلى ص2750" وليس له -رحمه الله تعالى- فيما كتب إلا الربط بين نصوص علماء السلف، فقد نقل عن البخاري والذهبي من كتابه "العلو" وعن الإمام أحمد بن حنبل من كتابه "الرد على الجهمية" وعبد القادر الجيلاني من كتابيه "تحفة المتقين" و"الغنية" وعن أبي إسماعيل الأنصاري من كتابه ذم الكلام وأهله وعن الكناني من كتابه "الرد على الجهمية" وابن عرفة من كتابه "الرد على الجهمية" وعن أبي الحسن الأشعري من كتابه "الإبانة" وعن ابن عبد البر من كتابه "التمهيد" وعن ابن تيمية من "الرسالة المدنية" ومن ولي الله الدهلوي من كتابه "حجة الله البالغة"، وعن الألوسي من محاكمة الأحمدين، وأكثر نقله عن ابن تيمية، رحمه الله تعالى.
ثم عقب -رحمه الله تعالى- بعد هذه النقول بقوله: "وإنما أشبعنا الكلام في هذا المقام؛ لأنه من أصول العقائد الدينية ومهمات المسائل التوحيدية وقد كثر فيه تعارك الآراء وتصادم الأهواء ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأباها فطرة الله أشد الإباء، فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين مائلة إلى مذهب السلف الصالحين فإن الأئمة منهم كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين، والحمد لله رب العالمين"2.
1 محاسن التأويل: ج9 ص3341.
2 محاسن التأويل: ج7 ص2750.
كلام الله:
وفي قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 1 قال رحمه الله تعالى: "يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة؛ لأن تأكيد {كَلَّمَ} بالمصدر يدل على تحقيق الكلام وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بلا شك؛ لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر فلا يقال: أراد الحائط يسقط إرادة، وهذا رد على من يقول: إن الله خلق كلاما في محل فسمع موسى ذلك الكلام. قال الفراء: "العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل، لكن لا تحققه بالمصدر وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام فدل قوله تعالى:{تَكْلِيمًا} ، على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة، قال بعضهم: كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه منجما من الأنبياء، كذا في اللباب"2. ثم قال رحمه الله تعالى:"تنبيه: يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام، فإنها من أعظم مسائل الدين، وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين، واضطربت فيها الأقوال وكثرت بسببها الأهوال وأثارت فتنا وجلبت محنا وكم سجنت إماما وبكت أقواما وتشعبت فيها المذاهب واختلف فيها المشارب ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة المقتفين لأثر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم فنقول"3.
ثم نقل -رحمه الله تعالى- نصوص السلف في كلام الله وإثباته على الوجه اللائق به جل وعلا وأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، فنقل نصوصا مطولة لابن تيمية تقع في "23 صفحة" ونقل بعد ذلك نصوصا لعلماء آخرين على مذهب أهل السنة والجماعة.
1 سورة النساء: من الآية 164.
2 محاسن التأويل: ج5 ص1723.
3 محاسن التأويل: ج5 ص1723-1724.
سلامة القرآن من التحريف:
قال -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1، أي: من كل من بغى له كيدا، فلا يزال نور ذكره يسري وبحر هداه يجري وظلال حقيته في علومه تمتد على الآفاق ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق رغما عن كيد الكائدين، وإفساد المفسدين:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . وفي إيراد الجملة الثانية اسمية دلالة على دوام الحفظ2. وقال في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} 3، قال: "أي: منيع محمي عن التغيير والتبديل، وعن محاكاته بنظير"4.
الإمامة والعصمة:
رد -رحمه الله تعالى- ما يستدل به المعتزلة والشيعة في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 5، فقال: "وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة والكشاف أوسع المقال في ذلك هنا، وأبدع في إيراد الشواهد، كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة ظاهرا وباطنا على ما نقله الرازي عنهم وحاورهم، أقول: إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك. المراد بالعهد تلك الإمامة المسئول عنها، وهل كانت إلا الإمامة في الدين وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته؟ كما قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
1 سورة الحجر: الآية 9.
2 محاسن التأويل: ج10 ص3748-3749.
3 سورة فصلت: من الآية 41.
4 محاسن التأويل: ج14 ص5211.
5 سورة البقرة: الآية 124.
مُبِينٌ} 1 ولو دلت الآية على ما ادعوا لخالفه الواقع.. فقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين، فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصة والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل؛ لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق أو ذهاب إلى أن الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم كما قاله بعضهم وهو أشد تمحلا، ومعلوم أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل، والعمل بالشرع كما ورد، ومتى زاغ عن ذلك كان ظالما"2.
لا رجعة:
في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3. قال رحمه الله تعالى: "تمنوا الرجوع إلى الدنيا حين لا رجوع، واعدين أن لا يكذبوا بما جاءهم وأن يكونوا من المؤمنين"4.
الميزان:
في تفسير قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5، قال:"قال السيوطي في الإكليل في هذه الآية: ذكر الميزان ويجب الإيمان به، انتهى"، ثم قال: "الذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما
…
ثم ذكر أدلة هذا القول
…
وقيل: صحائف الأعمال هي التي توزن
…
ثم استدل له
…
وقيل: يوزن صاحب العمل
…
ثم استدل له، وقال بعد هذا: قال الحافظ ابن كثير: وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا فتارة توزن الأعمال
1 سورة الصافات: من الآية 113.
2 محاسن التأويل: ج2 ص246.
3 سورة الأنعام: الآية 27.
4 محاسن التأويل: ج6 ص2279.
5 سورة الأعراف: الآية 8.
وتارة يوزن محلها وتارة يوزن فاعلها، والله أعلم
…
ثم ذكر الحكمة في وزن الأعمال فقال: إن قلت: أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد، فما الحكمة في وزنها؟ قلت: فيه حِكَم.
منها: إظهار العدل وأن الله عز وجل لا يظلم عباده.
ومنها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، وإقامة الحجة عليهم في العقبى.
ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير وشر، وحسنة وسيئة.
ومنها: إظهار علامة السعادة والشقاوة.
ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى، كذا في اللباب"1.
الصراط:
وفي قوله تعالى عن الكافرين: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} 2 الآية، قال:"على إما على حقيقتها، أي: أُقيموا واقفين فوق النار على الصراط وهو جسر فوق جهنم، أو هي بمعنى في أي أُقيموا في جوف النار وغاصوا فيها وهي محيطة بهم، وصحح معنى الاستعلاء حينئذ كون النار دركات وطبقات بعضها فوق بعض"3.
القضاء والقدر:
فصَّل -رحمه الله تعالى- القول في القضاء والقدر وبين عقيدة الفرقة الناجية فقال في تفسيره لقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ
1 محاسن التأويل: ج7 ص2613 إلى ص2618 باختصار.
2 سورة الأنعام: من الآية 27.
3 محاسن التأويل: ج6 ص2278.
مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 1 الآيتين، قال رحمه الله تعالى: "هذه الآية تكرر نظيرها في التنزيل الكريم في عدة سور وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها، فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر كما تبجح بذلك منهم الطبرسي الشيعي في تفسيره وقال: إن فيها تكذيبا ظاهرا لمن أضاف مشيئة ذلك إلى الله سبحانه، وكذا الزمخشري في تفسيره.
ومعلوم أن عقيدة الفرقة الناجية الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وهو خالق لأفعال العباد.
وقد خالف في ذلك عامة القدرية -الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة- فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئا من أفعال العباد فعندهم أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى.
ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة تبرأ منهم الصحابة، وأصل بدعتهم -كما قال ابن تيمية- كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه، وسنبين تحقيق ذلك بعد أن نورد شبهتهم في هذه الآية وندفعها -بعون الله تعالى- بعدة وجوه فنقول:
"قالوا": إن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا: أشركنا بإرادة الله تعالى ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا ولما صدر عنا تحريم المحللات، فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم. ثم إنه تعالى رد عليهم مقالتهم وبين بطلانها وذمهم عليها وأوعدهم عليها وعيدا شديدا، فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى الله تعالى في ذلك، على ما تضيفون أنتم، لم يكن يرد ذلك عليهم ويتوعدهم!
1 سورة الأنعام: من الآيتين 148 و149.
"قلنا": إن المشيئة في الآية تتخرج على وجوه، ثم ذكر الشيخ القاسمي -رحمه الله تعالى- سبعة وجوه في الرد على شبهتهم نكتفي بإيراد واحد من هذه الوجوه عن الباقي، قال رحمه الله:"إن المشيئة في الآية بمعنى الأمر والدعاء إلى ذلك، أي: يقولون: إن الله أمرهم بذلك ودعاهم إليه كما أخبر عنهم في سورة الأعراف بقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فرد تعالى عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ".
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- بقية الوجوه في الرد على شبهتهم، ونقل بعد هذا نصا لابن القيم الدمشقي من كتابه: طريق الهجرتين، ثم بحثا ضافيا لابن تيمية وأعقب هذا كله بقوله: إذن معنا قضيتان قطعيتا الثبوت:
"إحداهما": كون الإنسان يعمل بقدرة وإرادة يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف، وهي بديهية.
و"الثانية": هي أن الله هو الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء وهي نظرية، ويتولد من هاتين القضيتين القطعيتين مسألتان نظريتان:
الأولى: ما الفرق بين علم الله تعالى وإرادته وقدرته، وبين علم الإنسان وإرادته وقدرته؟ والجواب من وجوه.
…
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- ثلاثة وجوه أجملها في آخرها فقال: وبالجملة: إن المشاركة بين صفات الله تعالى وصفات عباده إنما هي في الاسم لا في الجنس، كما زعم بعضهم فبطل زعم من قال: إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته، يقتضي أن يكون شريكا لله تعالى، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
المسألة الثانية: وهي عضلة العقد ومحك المنتقد، أن القضاء عبارة عن تعلق علم الله تعالى أو إرادته في الأزل بأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه الممكنة والقدر وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل، ومن الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية، فإذا كان قد سبق القضاء المبرم بأن زيدا يعيش كافرا ويموت كافرا، فما معنى مطالبته
بالإيمان وهو ليس في طاقته، ولا يمكن في الواقع ونفس الأمر أن يصدر منه؛ لأنه في الحقيقة مجبور على الكفر في صورة مختارة له؟ كما قال بعضهم.
والجواب عن هذا:
إن تعلق العلم والإرادة بأن فلانا يفعل كذا لا ينافي أن يفعله باختيار إلا إذا تعلق العلم بأن يفعله مضطرا كحركة المرتعش مثلا، ولكن أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية، أي: بإرادة فاعليها لا رغما عنهم، وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثا ولا لغوا.
وثم وجه آخر في الجواب، وهو: لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلا يفعل كذا يستلزم أن يكون ذلك الفاعل مجبورا على فعله لكان الواجب، تعالى وتقدس، مجبورا على أفعاله كلها؛ لأن العلم الأزلي قد تعلق بذلك، وكل ما تعلق به العلم الصحيح لا بد من وقوعه.
فتبين بهذا أن الجبرية ومن تلا تلوهم قد غفلوا عن معنى الاختيار واشتبهت عليهم الأنظار فكابروا الحس والوجدان ودابروا الدليل والبرهان وعطلوا الشرائع والأديان وتوهموا أنهم بعظمون الله، ولكنهم ما قدروا الله حق قدره ولا فقهوا سر نهيه وأمره، حيث جرءوا الجهال على التنصل من تبعة الذنوب والأوزار، وادعاء البراءة لأنفسهم والإحالة باللوم على القضاء والقدر، وذلك تنزيه لأنفسهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل ذلك إغراء للإنسان بالانغماس في الفسوق والعصيان، فيا عجبا لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من الإغراء وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء، أليس من شأن من لم يفسد الجبر فطرته ويظلم الجهل بصيرته أن يكون أعظم مهذب لنفسه ومؤدب لعقله وحسه اعتقاده بأن الله عليم بما يسر ويعلن ويظهر ويبطن، وأنه ناظر إليه ومطلع عليه؟ بلى إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأما الذين ضلوا السبيل واتبعوا فاسد التأويل فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك بقوله عز وجل:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} الآية، فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل وجعل احتجاجهم بالقدر من
أسباب وقوع البأس والبلاء بهم. وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قلبه، والله عليم حكيم1.
أهل الكبائر:
في تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2، قال رحمه الله تعالى:"ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين؛ لما ثبت في السنة تواترا من خروج عصاة الموحدين من النار، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك، ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود"3.
وبهذا النحو فسر قوله تعالى عن آكلي الربا: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4، قال:"ومن عاد أي: إلى تحليل الربا بعد النص، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"؛ لكفرهم بالنص وردهم إياه بقياسهم الفاسد بعد ظهور فساده، ومن أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر فلذا استحق الخلود، وبهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق حيث بنوا على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة ولا يخفى أنه لا يساعدهم على ذلك الظاهر الذي استدلوا به. فإن الذي وقع العود إليه محمول على ما تقدم كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره، وهو فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع، ولا شك أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابرا في تحريمها مسندا إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات، بما يتوهمه من الخيالات، فقد كفر ثم ازداد كفرا وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال: إنه كافر مكذب غير مؤمن، وهذا لا خلاف فيه فلا دليل إذًا للمعتزلة على اعتزالهم في هذه الآية والله الموفق، أشار لذلك في الانتصاف. قال في فتح البيان:
1 محاسن التأويل: ج6 من ص2542 إلى ص2563 باختصار.
2 سورة البقرة: الآية 81.
3 محاسن التأويل: ج2 ص177.
4 سورة البقرة: من الآية 275.
والمصير إلى هذا التأويل واجب؛ للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار1.
الولاء والبراء:
فسر -رحمه الله تعالى- قوله سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 2 الآية، بقوله:"أي: لا تجد قوما جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين موادة أعداء الله ورسوله. والمراد بنفي الوجدان نفي الموادة على معنى أنه لا يبنغي أن يتحقق ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم، وزاد ذلك تأكيدا وتشديدا بقوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} أي: آباء الموادين، والضمير في: {كَانُوا} لمن حاد الله ورسوله والجمع باعتبار معنى {مَنْ} كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها"3.
أهل البيت:
في قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4، قال رحمه الله تعالى: "أي أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم، وتصلوا الرحم التي بيننا ولا يكن غيركم يا معشر قريش أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم
…
والاستثناء منقطع ومعناه نفي الأجر أصلا؛ لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم لكونها سبب نجاتهم فلا تصلح أن تكون أجرا له. وقيل: المعنى أن تودوا قرابتي والذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم وقيل: {الْقُرْبَى} التقرب إلى الله تعالى أي: إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه، والمعنى الأول هو الذي عوّل عليه الأئمة
1 محاسن التأويل: ج3 ص709.
2 سورة المجادلة: من الآية 22.
3 محاسن التأويل: ج16 ص5729.
4 سورة الشورى: من الآية 23.
ولم يرتض ابن عباس رضي الله عنه غيره، ففي البخاري عنه رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى:{إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال سعيد بن جبير: {الْقُرْبَى} آل محمد فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال:"إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة" 1، ثم لخص -رحمه الله تعالى- ما ورد في تفسير ابن كثير، وأورد كلام ابن تيمية في ذلك من كتابه: منهاج السنة، وفيه رد على تأويلات الشيعة في هذه الآية بما يبطلها، ولولا أني التزمت أن لا أنقل إلا نصوص المؤلف وأقواله لنقلتها لإبطال مزاعم الشيعة في ذلك فليرجع إليها في موضعها من يطلب الحق.
الشفاعة:
رد -رحمه الله تعالى- على من ينكر الشفاعة، فقال في تفسير قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 2، قال:"تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة؛ لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقا أخلت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع فعلم أنها لا تقبل للعصاة. والجواب: أنها خاصة بالكفار، ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال: {مَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3، وكما قال عن أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} 4، فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ولا يخلص منه أحد"5.
تلكم أمثلة من تفسير محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي رحمه الله
1 محاسن التأويل: ج14 ص5237-5238؛ وانظر صحيح البخاري، كتاب التفسير ج6 ص37.
2 سورة البقرة: من الآية 48.
3 سورة المدثر: من الآية 48.
4 سورة الشعراء: الآيتان 100-101.
5 محاسن التأويل: ج2 ص121.
تعالى- نهج فيها نهج أهل السنة والجماعة، لا يعطل صفة ولا يشبه ولا يمثل، ولا يرد حديثا صحيحا ولا يطنب في بيان مبهم ولا يعنى بإيراد الإسرائيليات، وهو في كل هذا لا يكاد يخطو خطوة في تفسيره إلا في طريق اتضحت جادته ورأى فيها آثار علماء السلف الصالح، فبهم يقتدي ولأقوالهم يستدل.
ولا يكاد القارئ يدلج في تفسيره حتى يتضح له أن المؤلف -رحمه الله تعالى- يكتفي بالنقل عن علماء السلف، ويورد حججهم وأدلتهم، وردودهم على شبه الخصوم بما يؤكد أن المؤلف -رحمه الله تعالى- كان يجعل همه -كل همه- الإصلاح ليس إلا وإنما يورد هذه النصوص -كما أسلفنا- ليلجم بها الخصوم فإنهم إن استطاعوا جدلا رد أقواله، صعب عليهم إبطال أقوال علماء بهم يقتدون ولعلمهم يعترفون، فكانت حجته لهم غالبة.
ولالتزامي بأن لا أنقل إلا عبارته وأن لا أستدل إلا بنصوصه فإني لم أكد أجد في بعض القضايا له من لفظ إلا الربط بين نصوص علماء السلف؛ ولذا كانت بعض العقائد هنا غفلا من إيراد تفسيره لها، رحمه الله تعالى، ونفع بتفسيره وبسائر مؤلفاته.