المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: بيان السعادة في مقامات العبادة - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ١

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد:

- ‌الباب الأول: الاتجاه العقائدي في التفسير

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة في تفسير القرآن الكريم:

- ‌التعريف بهم:

- ‌نشأتهم:

- ‌عقيدة أهل السنة والجماعة:

- ‌بيان بعض عقائدهم:

- ‌أسس تفسير أهل السنة:

- ‌نماذج من تفسير أهل السنة والجماعة في العصر الحديث:

- ‌نماذج من مفسرى أهل السنة

- ‌مدخل

- ‌أولا: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:

- ‌ثانيا: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:

- ‌ثالثا: محاسن التأويل

- ‌رأيي في هذا المنهج:

- ‌الفصل الثاني: منهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم

- ‌تعريف الشيعة:

- ‌بداية ظهور التشيع:

- ‌فرق الشيعة

- ‌مدخل

- ‌الإمامية الإثنى عشرية

- ‌الإسماعيلة

- ‌الجمهوريون:

- ‌الزيدية:

- ‌الفصل الثالث: منهج الأباضية في تفسير القرآن الكريم

- ‌التعريف بالأباضية:

- ‌عقائدهم:

- ‌التفسير الأباضي:

- ‌تفسيري: هميان الزاد إلى دار المعاد، وتيسير التفسير

- ‌التعريف بالمؤلف:

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌رأيي في هذا التفسير:

- ‌الفصل الرابع: منهج الصوفية في تفسير القرآن الكريم

- ‌التعريف بالصوفية:

- ‌المراد بالتصوف:

- ‌نشأة التصوف وتطوره:

- ‌عقائد التصوف:

- ‌من شروط التصوف:

- ‌طبيعة التصوف:

- ‌أقسام التصوف:

- ‌موقف العلماء من هذا اللون في التفسير:

- ‌شروط قبول التفسير الإشاري:

- ‌أهم المؤلفات في التفسير الإشاري

- ‌مدخل

- ‌أولا: بيان السعادة في مقامات العبادة

- ‌ثانيا: ضياء الأكوان في تفسير القرآن

- ‌رأيي في التفسير الصوفي الحديث:

الفصل: ‌أولا: بيان السعادة في مقامات العبادة

‌أولا: بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

أما اسم مؤلفه كما جاء في تفسيره، فهو سلطان محمد بن حيدر محمد بن سلطان محمد بن دوست محمد بن نور محمد بن الحاج محمد بن الحاج قاسم علي البيرختي الجنابذي الخراساني، من علماء الشيعة الإمامية، نسبته إلى جنابذ "كونابذ" قرية في نواحي نيسابور، توفي سنة 1311/ 1894م.

التفسير:

وهو تفسير "بيان السعادة في مقامات العبادة".

ويقع في مجلدين كبيرين، فرغ منه مؤلفه في الرابع عشر من شهر صفر المظفر من شهور السنة الحادية عشرة بعد الثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية، وتم طبعه في الرابع عشر من شهر رمضان المبارك "سنة 1314"1 في طهران.

منهجه في التفسير:

لا أريد هنا أن أدرس منهج هذا التفسير دراسة مستوفية إلا من الجانب الصوفي ليس غير، ولكن هذا لا يعني أن نغفل الإشارة إلى ذكر أهم سمات هذا التفسير واتجاهاته.

1 بيان السعادة في مقامات العبادة: محمد حيدر ج2، الصفحة الأخيرة.

ص: 377

فأقول: إن صاحب التفسير مع أنه صوفي فهو شيعي متطرف من الشيعة الإمامية الاثني عشرية نضرب مثلا من آرائه الشيعية المتطرفة:

الأئمة هم ورثة علم محمد صلى الله عليه وسلم:

قال المؤلف في مقدمة تفسيره: "إن عليا أول العشرة ووارث علم محمد صلى الله عليه وسلم وبعده الأحد عشر من ولده، وإن الحادي عشر منهم غائب قائم منتظر لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج، ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، وإن هؤلاء الاثني عشر أئمته وشفعاؤه يوم القيامة"1.

وقال عن العترة: "إن العترة مبينون2 القرآن، فالقرآن إمام صامت والعترة قرآن ناطق، وكما أن محبة العالم من العترة وتعظيمه والنظر إليه والجلوس عنده واستماع قوله والتدبر في أفعاله وأحواله وأخلاقه والتفكر في شئونه والتسليم له ولمتشابهات ما مسه2 وتخلية بيت القلب لنزوله بملكوته فيه بملاحظة أنه حبل الله الممدود إلى الناس ومن غير عناد معه من أعظم العبادات"3.

وعقد الفصل العاشر في مقدمته لتأكيد هذه الأمور السابقة، وجاء في هذا الفصل:"الفصل العاشر في أن علم القرآن بتمام مراتبه منحصر في محمد صلى الله عليه وسلم وأوصيائه الاثني عشر وليس لغيرهم إلا بقدر مقامه. قد مضى أن بطون القرآن وحقائقه كثيرة متعددة وأن بطنه الأعلى وحقيقته العليا هو محمدية محمد وعلوية علي وهو مقام المشيّة التي هي فوق الإمكان وكل نبي ووصي كان لا يتجاوز مقامه إلا مكان سوى محمد وأوصيائه ومن لم يبلغ إلى مقام المشية لا يعلم ما فيه ولا يبين من ذلك المقام شيئا إلى أن قال: "ولما كان مقام محمد صلى الله عليه وسلم وعلي عليه السلام وأولاده المعصومين مقام المشية

1 بيان السعادة في مقامات العبادة: محمد حيدر ج1 ص2.

2 كذا وردت.

3 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص2.

ص: 378

كان علم القرآن كله عندهم وكان علي هو من عنده علم الكتاب، كما في الآية بإضافة العلم إلى الكتاب المفيد للاستغراق"1.

تحريف القرآن:

ذكرنا في المنهج الشيعي لتفسير القرآن استفاضة الأخبار عن أئمتهم بوقوع التحريف في القرآن وهو ما يؤكده صاحب هذا التفسير محمد حيدر الخراساني، إذ جاء في مقدمة تفسيره وفي الفصل الحادي عشر منها قوله: "الفصل الثالث عشر في وقوع الزيادة والنقيصة والتقديم والتأخير والتحريف والتغيير في القرآن الذي بين أظهرنا2 الذي أمرنا بتلاوته وامتثال أوامره ونواهيه

إلخ". اعلم أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار "ع" بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه بحيث لا يكاد لا يقع3 شك في صدور بعضها منهم، وتأويل الجميع بأن الزيادة والنقيصة والتغيير إنما هي في مدركاتهم من القرآن لا في لفظ القرآن كلفة، ولا يليق بالكاملين في مخاطباتهم العامة؛ لأن الكامل يخاطب بما فيه حظ العوام والخواص وصرف4 للفظ من ظاهره من غير صارف وما توهموه صارفا من كونه مجموعا عندهم في زمن النبي وكانوا يحفظونه ويدرسونه وكان الأصحاب مهتمين بحفظه عن التغيير والتبديل، حتى إنهم ضبطوا قراءات القراء وكيفيات قراءاتهم، فالجواب عنه: أن كونه مجموعا غير مسلم، فإن القرآن نزل في مدة رسالته إلى آخر عمره نجوما. وقد استفاضت الأخبار بنزول بعض السور وبعض الآيات في العام الآخر، وما ورد من أنهم جمعوه بعد رحلته وأن عليا جلس في بيته مشتغلا بجمع القرآن أكثر من أن يمكن إنكاره، وكونهم يحفظونه ويدرسونه مسلم، لكن كان الحفظ والدرس فيما كان بأيديهم واهتمام الأصحاب بحفظه وحفظ قراءات القراء وكيفيات قراءاتهم كان

1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص10.

2 لا أدري لِمَ عدل المؤلف عن وصفه بين أيدينا إلى بين أظهرنا، وقد ذم الله في كتابه الذين نبذوه وراء ظهورهم؟!

3 هكذا بالنفي، وصحة سياق العبارة: لا يكاد يقع.

4 علق المؤلف على هذا بأنه عطف على كلفة.

ص: 379

بعد جمعه وترتيبه وكما كان الدواعي متوفرة في حفظه كذلك كانت متوفرة من المنافقين في تغييره، وما قيل: إنه لم يبق لنا حينئذ اعتماد عليه والحال أنا مأمورون بالاعتماد عليه واتباع أحكامه والتدبر في آياته وامتثال أوامره ونواهيه وإقامة حدوده وعرض الأخبار عليه لا يعتمد عليه في صرف مثل هذه الأخبار الكثيرة الدالة على التغيير والتحريف عن ظواهرها؛ لأن الاعتماد على هذا المكتوب ووجوب اتباعه وامتثال أوامره ونواهيه وإقامة حدوده وأحكامه إنما هي للأخبار الكثيرة الدالة على ما ذكر، لا للقطع بأن ما بين الدفتين هو الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من غير نقيصة، وزيادة، وتحريف فيه"1.

نزول القرآن بتمامه في الأئمة، وفي أعدائهم:

وعقد المؤلف الفصل الرابع عشر في أن القرآن نزل بتمامه في الأئمة الاثني عشر بوجه، ونزل فيهم وفي أعدائهم بوجه، ونزل أثلاثا: ثلث فيهم وفي أعدائهم، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام بوجه"2.

هذه أمور ثلاثة حرصت على سياقها مستطردا؛ لأنها ما اجتمعت إلا في متطرفي الشيعة الاثني عشرية وهو ما أردت إثباته بادئ ذي بدء لهذا التفسير، ومن ثَمَّ ننطلق إلى مرادنا من هذا التفسير وهو التفسير الصوفي فيه.

المنهج الصوفي في تفسيره:

وأول ما يواجهنا في تفسيره من انتمائه إلى التفسير الإشاري قوله في مقدمة تفسيره: "وقد كان يظهر لي بعض الأحيان من إشارات الكتاب وتلويحات الأخبار لطائف ما كنت أجدها في كتاب ولا أسمعها من خطاب، فأردت أن أثبتها في وريقات، وأجعلها نحو تفسير للكتاب"3.

وقد أغرق المؤلف تفسيره بكثرة التأويلات الصوفية والشطحات والمواجيد

1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص12.

2 المصدر السابق: ج1 ص12.

3 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص3.

ص: 380

والإشارات والاصطلاحات التي لا يكاد يعرف لها معنى، بل هي أشبه ما تكون بالطلاسم.

قصة خلق آدم:

ونبدأ ذكر الأمثلة على إشاراته ورموزه وتفسيره الصوفي بما فسر به الآيات القرآنية في خلق آدم وحواء عليهما السلام حيث قال: "اعلم أن قصة خلق آدم "على" وحواء "على" من الطين ومن ضلعه الأيسر ومن أمر الملائكة بسجود آدم1 "على" وإباء إبليس عن السجدة وإسكان آدم "على" وحواء "على" الجنة، ونهيهما عن أكل شجرة من أشجارها ووسوسة إبليس لهما وأكلهما من الشجرة المنهية وهبوطهما من المرموزات المذكورة في كتب الأمم السالفة وتواريخهم كما ذكرنا سابقا، فالمراد بآدم في العالم الصغير اللطيفة العاقلة الآدمية الخليفة على الملائكة الأرضيين وعلى الجنة والشياطين المطرودين عن وجه أرض النفس والطبع المسجودة للملائكة المخلوقة من الطين الساكنة في جنة النفس الإنسانية، وهي أعلم عن مقام النفس الحيوانية من المخلوق من ضلع جنبها الأيسر الذي يلي النفس الحيوانية زوجتها المسماة بحواء؛ لكدرة لونها بقربها في النفس الحيوانية، والمراد بالشجرة المنهية مرتبة النفس الإنسانية التي هي جامعة لمقام الحيوانية، والمرتبة الآدمية والمراد بالحية واختفاء إبليس بين لحييها القوة الواهمة، فإنها لكونها مظهرا لإبليس تسمى بإبليس في العالم الصغير ووسوسته تزيينها ما لا حقيقة له للجنب الأيسر من آدم المعبر عنه بحواء وهبوط آدم "على" وحواء "على" عبارة عن تنزلهما إلى مقام الحيوانية وهبوط إبليس والحية وذريتهما عبارة عن تنزلها عن مقام التبعية لآدم، فإن إبليس لما كان الواهمة أحد مظاهره كان رفعتها رفعته وشرافتها باستخدام آدم لها شرافته، وهبوط الواهمة كان هبوطا له، وإذا أريد بالشجرة النفس الإنسانية ارتفع الاختلاف من الأخبار، فإن النفس الإنسانية شجرة لها أنواع الثمار والحبوب وأصناف الأوصاف والخصال؛ لأن الحبوب والثمار وإن لم تكن بوجوداتها العينية الدانية الموجودة فيها لكن الكل بحقائقها

1 كذا، ولعل الصحيح: بالسجود لآدم. والمراد بـ"على" عليه السلام.

ص: 381

موجودة فيها، فتعيين تلك الشجرة بشيء من الحبوب والثمار أو العلوم والأوصاف بيان لبعض شئونها. روى في تفسير الإمام "على" أنها شجرة علم محمد "صلى" وآل محمد "صلى" الذين آثرهم الله تعالى به دون سائر خلقه فقال الله تعالى:{وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة} ، شجرة العلم فإنها لمحمد "صلى" وآله "صلى" دون غيرهم ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم، ومنها ما كان يتناوله النبي "صلى" وعلي "على" وفاطمة "على" والحسن "على" والحسين "على" بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير حتى لم يحسوا بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب وهي شجرة تميزت من بين سائر الأشجار بأن كلا منها إنما يحمل نوعا من الثمار، وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البر والعنب والتين والعناب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة؛ فلذلك اختلف الحاكون فقال بعضهم: برة وقال آخرون: هي عنابة وهي الشجرة التي من تناول منها بإذن الله ألهم علم الأولين والآخرين من غير تعلم، ومن تناول بغير إذن الله خاب من مراده وعصى ربه "أقول: آخر الحديث يدل على ما قالته الصوفية من أن السالك ما لم يتم سلوكه ولم ينته إلى مقام الفناء ولم يرجع إلى الصحو بعد المحو بإذن الله، لم يجز له الاشتغال بالكثرات ومقتضيات النفس زائدا على قدر الضرورة وشجرة علم محمد "صلى" وآل محمد "صلى" إشارة إلى مقام النفس الجامع لكمالات الكثرة والوحدة"1.

وهذا النوع من التفسير عنده وعند الصوفية لا يدرك بالقوة البشرية ولا بالمدارك الشيطانية، فلم يبق إلا الإلهام الإلهي حيث يقول: "ولما كان قصة آدم وخلقته وأمر الملائكة بسجدته وإباء إبليس عن السجود وهبوطه عن الجنة وبكاؤه في فراق الجنة

إلخ، من مرموزات الأوائل وقد كثر ذكره في كتب السلف خصوصا كتب اليهود وتواريخهم ورد أخبارنا2 مختلفة في هذا الباب اختلافا كثيرا مرموزا بها إلى ما رمزوه ومن أراد أن يحملها على ظاهرها تحير فيها، ومن رام أن يدرك المقصود بقوته البشرية والمدارك الشيطانية منها طرد عنها ولم يدرك منها

1 بيان السعادة: ج1 ص45 و46.

2 كذا وردت.

ص: 382

إلا خلاف مدلولها"1.

وهذا النوع من التفسير هو الذي سلكه الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره، فقال في تفسير الآيات السابقة في قصة آدم عليه السلام:"وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا أن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها، فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض؛ لأنه يعمل باختياره ويعطي استعدادا في العلم والعمل لا حد لهما هو تصوير لما فيه استعداد الإنسان لذلك، وتمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه به في استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك، وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري"2.

وهو أيضا نفس التأويل الذي أوّل به محمد عبده المراد بالملائكة بقوله: "يشعر كل من فكر في نفسه ووازن بين خواطره عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر بأن في نفسه تنازعا كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى، فهذا يورد وذاك يدفع، وأحد يقول: افعل وآخر يقول: لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين ويترجح أحد الخاطرين فهذا الشيء

1 المرجع السابق: ج1 ص42.

2 تفسير المنار: ج1 ص281 و282.

ص: 383

الذي أودع في أنفسنا ونسميه قوة وفكرا، وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه وروح لا تكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكا أو يسمي أسبابه ملائكة أو ما شاء من الأسماء فإن التسمية لا حجر فيها على الناس فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع"، ثم قال: "ولو أن نفسا مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق"، وقد علق تلميذه السيد رشيد رضا على هذا بقوله: "إن غرض الأستاذ من هذا التأويل الذي عبر عنه بالإيماء وبالإشارة إقناع منكري الملائكة بوجودهم بتعبير مألوف عندهم، تقبله عقولهم"1.

ولا أشك في ضلال هذا النوع من التفسير الذي يصرف أخبار القرآن عن ظاهرها وحقائقها إلى أوهام يتخيلها إيماءات أو إشارات، مهما كان هدف قائلها، ومهما كان مراده ما دامت المعاني التي ساقها لا تمت إلى النص بصلة أصيلة، أو أدلة قوية صريحة.

الإنسان بين نشأتي الجذب والسلوك:

وظهر تفسيره الصوفي المليء باصطلاحات ورموز وإشارات الصوفية في تفسيره لقوله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} 2. وقد ذكر في سبب نزولها ما خلاصته أن عليا رضي الله عنه حلف أن لا ينام بالليل، وأن بلالا رضي الله عنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا، وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا. فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك "صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات، إني أنام الليل وأنكح وأفطر بالنهار، فمن رغب عن سنتي فليس مني" فقام هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك، فأنزل الله آيات الحلف الآتية"3.

1 تفسير المنار: ج1 ص268-270.

2 سورة المائدة: الآية 88.

3 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص250.

ص: 384

وبما أن المؤلف إمامي يعتقد بعصمة علي رضي الله عنه فإن في هذا الأمر إشكالين وضحهما ورد عليهما بقوله: "أولا بأن أمثال هذه المعاتبات ونسبة التحريم والاعتداء والتقوى ولغو الإيمان غير مناسبة لمقام علي عليه السلام وثانيا بأنه عليه السلام ما كان عالما بأن تحريم الحلال إن كان بالاستبداد والرأي كان من البدع والضلال، وإن كان بالنذر وشبهه كما دل عليه الخبر كان مرجوحا غير مرضي لله تعالى، ومع ذلك حرمه على نفسه أو كان جاهلا بذلك، وكلا الوجهين غير لائق بمقامه، عليه السلام.

والجواب الجلي لطالبي الآخرة والسالكين إلى الله الذين بايعوه بالولاية وتابعوه بقدم صدق واستشموا نفحات نشأته حال سلوكه أن يقال: إن السالك إلى الله يتم سلوكه باستجماعه بين نشأتي الجذب والسلوك، بمعنى توسطه بين تفريط السلوك الصرف وإفراط الجذب الصرف، فإنه إن كان في نشأة السلوك فقد جمد طبعه ببرودة السلوك حتى يقف عن السير، وإن كان من نشأة الجذب فقط فني بحرارة الجذب عن أفعاله وصفاته وذاته بحيث لا يبقى منه أثر ولا خبر، وهو وإن كان في روح وراحة لكنه ناقص كمال النقص من حيث إن المطلوب منه حضوره بالعود لدى ربه مع جنوده وخدمه وأتباعه وحشمه، وهو طرح الكل وتسارع بوحدته، فالسالك إلى الله تكميله مربوط بأن يكون في الجذب والسلوك منكسرا برودة سلوكه بحرارة جذبه، فالجذب والسلوك كالليل والنهار أو كالصيف والشتاء من حيث إنهما يربيان المواليد بتضادهما، فهما مع كونهما متنازعين متآلفان متوافقان.

إذا علمت ذلك، فاعلم أن السالك إذا وقع في نشأة الجذب وشرب من شراب الشوق الزنجبيلي، سكر وطرب ووجد بحيث لا يبقى في نظره سوى الخدمة للمحبوب، وكلما رآه منافيا للخدمة رآه ثقلا ووبالا على نفسه ومكروها لمولاه فيصمم في طرحه ويعزم على ترك الاشتغال به، وهو من كمال الطاعة لا أنه ترك الطاعة كما يظن، فلا ضير أن يكون أمير المؤمنين على حال سلوكه وقع في تلك النشأة وحرم على نفسه كل ما يشغله عن الخدمة لكمال الاهتمام بالطاعة، ولما لم يمكن تحصيل الكمال التام إلا بالجمع بين النشأتين أسقاه محمد صلى الله عليه وسلم من شراب السلوك؛ لأنه كان مكملا مربيا له ولغيره؛ ولذا قالوا: لا بد

ص: 385

أن يكون للسالك شيخ وإلا فيوشك أن يقع في الورطات المهلكة ولا منقصة في أمثال هذه المعاتبات على الأحباب، بل فيها من اللطف والترغيب في الخدمة ما لا يخفى وعلي كان عالما بأن الكمال لا يحصل إلا بالنشأتين، لكنه يرى حين الجذب أن كل ما يشغله عن الخدمة فهو مكروه المحبوب ومرجوح عنده فحلف على ترك المرجوح، أو يقال: إن عليا لما كان شريكا للرسول صلى الله عليه وسلم في تكميل السلاك لقوله: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" وكان له شأن الدلالة ولمحمد صلى الله عليه وسلم شأن الإرشاد والمرشد بنشأته النبوية شأنه تكميل السالك بحسب نشأة السلوك وإن كان بنشأته الولوية، وشأن الإرشاد شأنه التكميل بحسب الجذب والدليل بنشأته الولوية شأنه التكميل بحسب نشأة الجذب وإن كان بنشأته النبوية وشأن الدلالة شأنه التكميل بحسب السلوك، فالدليل بولايته يقرب السالك إلى الحضور ويعلمه آداب الحضور وطريق العبودية من عدم الالتفات إلى ما سوى المعبود وطرح جميع العوائق من طريقه والمرشد بنبوته يبعده عن الحضور ويقربه إلى السلوك ويرغبه فيه، فهما في فعلهما كالنشأتين متضادان متوافقان، فأمير المؤمنين علي لما رأى بلالا وعثمان مستعدين لنشأة الجذب رغبهما إلى تلك النشأة بطرح المستلذات وترك المألوفات، وشاركهما في ذلك ليستكمل بذلك شوقهما ويتم جنبهما، ولما مضى مدة ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن عودهما إلى السلوك أوفق وأنفع لهما، ردهما إلى نشأة السلوك وعاتبهما بألطف عبارة ولا يرد نقص على أمير المؤمنين علي"1.

مراتب السالك:

وضح المؤلف في تفسيره المراتب التي يمر بها السالك، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 2، فقال: "اعلم أن للإنسان من أول تخيره إلى آخر مراتبه تطورات

1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص250 و251.

2 سورة المائدة: الآية 93.

ص: 386

ونشآت، وبحسب كل نشأة له أعمال وإرادات وشرور وخيرات وللسالك إلى الله من بدو سلوكه إلى آخر مراتبه غير المتناهية مقامات ومراحل وأسفار ومنازل، والتقوى تارة تطلق على التحفظ عن كل ما يضر الإنسان في الحال أو في المآل، وهو معناها اللغوي وبهذا المعنى تكون قبل الإسلام وقبل الإيمان ومعهما وبعدهما، وتارة تطلق على التحفظ عما يصرفه عن توجهه إلى الإيمان، وبهذا المعنى تكون مع الإسلام وقبل الإيمان ومع الإيمان، لكن في مرتبة الإسلام فإنه ما لم يسلم لم يتصور له توجه واهتداء إلى الإيمان حتى يتصور صارف له عن الإيمان وحفظ عن ذلك الصارف، والتقوى بهذا المعنى عبارة عن تحفظ النفس عن جملة المخالفات الشرعية، وتارة تطلق على ما يصرفه عن الطريق الموصل له إلى غايته ويدخله في الطريق الموصلة إلى الجحيم، وبهذا المعنى لا تكون قبل الإيمان؛ لأنه لم يكن ح1 في الطريق بل تكون مع الإيمان الخاص الذي به يكون الوصول إلى الطريق، والإيمان قد يطلق على الإذعان وهو معناه اللغوي، وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة العامة وهو الإيمان العام المسمى بالإسلام، وقد يطلق على ما قد يحصل بالبيعة الخاصة الولوية وهو الإيمان الحقيقي، وقد يطلق على شهود ما كان موقنا به وهو الإيمان الشهودي" إلى أن قال: "والإنسان من أول تميزه نشأته نشأة الحيوان لا يدري خيرا إلا ما اقتضته القوى الحيوانية، ولا شرا إلا ما استكرهته، ولا يتصور له التقوى سوى التقوى اللغوية، فإذا بلغ مقام المراهقة حصل له في الجملة تميز الخير والشر الإنسانيين وتعلق به زاجر إلهي باطني بحيث يستعد لقبول الأمر والنهي من زاجر بشري، لكن لا يكلف لضعفه ويمرن لوجود الاستعداد والزاجر الباطني ويتصور له التقوى بالمعنى الأول والثاني في هذا المقام بمقدار تميز الخير والشر الإنسانيين، فإذا بلغ أوان التكليف وقوى التميز والاستعداد والزاجر الإلهي تعلق به التكليف من الله بواسطة النذر، وبقبوله التكليف بالبيعة والميثاق يحصل له الإسلام ويتصور له التقوى أيضا بالمعنى الأول والثاني، ولا يتصور له التقوى بالمعنى الثالث لعدم وصوله إلى الطريق بعد، وفي هذا المقام يكلفه المكلف الإلهي بالتكاليف الغالبية، وينبهه على أن للإنسان طريقا

1 كذا في الكتاب.

ص: 387

إلى الغيب وله بحسب هذا الطريق تكاليف أخر ويدله على من يريه الطريق ويكلفه التكليفات الأخر إشارة أو تصريحا أو يريه بنفسه الطريق، فإذا ساعده التوفيق وتمسك بصاحب الطريق حتى قبله وكلفه بالبيعة والميثاق التكليفات القلبية صار مؤمنا بالإيمان الخاص، ومتمسكا بالطريق متقيا بالمعنى الثالث وسالكا إلى الله وله في سلوكه مراحل ومقامات وزكاة وصوم وصلاة وترؤات وفناءات ففي المرتبة الأولى يرى من نفسه الفعل والترك وجملة صفاته، فإذا ترقى وطرح بعض ما ليس له ويرى الفعل من الله -ولا حول ولا قوة إلا بالله- صار فانيا من فعله باقيا بفعل الحق، فإذا ترقى وطرح بعضا آخر بحيث لا يرى من نفسه صفة صار فانيا من صفته باقيا بصفة الله، فإذا ترقى وطرح الكل بحيث لا يرى نفسه في البين صار فانيا من ذاته، وفي هذا المقام -إن أبقاه الله- صار باقيا بعد الفناء ببقاء الله وتم له السلوك وصار جامعا بين الفرد والجمع والوحدة والكثرة، وجعل العرفاء الشامخون بحسب الأمهات أسفار السالك وسيره أربعة وسموها أسفارا أربعة: السفر الأول السير من النفس إلى حدود القلب وهو سيره في الإسلام وعلى غير الطريق ويسمونه السفر من الخلق إلى الحق، والثاني سيره من حدود القلب إلى الله وهو سيره في الإيمان وعلى الطريق وبدلالة الشيخ المرشد وفي هذا السير يحصل الفناءات الثلاثة ويسمونه السفر من الحق في الحق إلى الحق، والثالث سيره بعد الفناء في المراتب الإلهية من غير ذات وشعور بذات، ويسمونه السفر بالحق في الحق، والرابع سيره بالحق في الخلق بعد صحوه وبقائه بالله ويسمونه السفر بالحق في الخلق إذا علمت ذلك فنقول: معنى الآية أنه ليس على الذين بايعوا بالبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة، وأسلموا بقبول الأحكام القالبية وتوجهوا من ديار الإسلام التي هي صدورهم إلى ديار الإيمان التي هي قلوبهم وعملوا الأعمال التي أخذوها من صاحب إسلامهم جناح فيما فعلوا وحصلوا من الأفعال والعلوم، ولما كان المراد بالتقوى في لسان الشارع هو المعنى الثاني والثالث دون الأول لم يقل تعالى شأنه: ليس على الذين اتقوا وآمنوا في تلك المرتبة واقتصر على الإيمان والعمل الصالح، لكن نفى الجناح بشرط أن اتقوا صوارفهم عن التوجه إلى الإيمان والترحل إلى السفر الثاني والوصول إلى

ص: 388

الطريق وجملة المخالفات الشرعية صوارف عن هذا التوجه وآمنوا بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة وعملوا الصالحات التي أخذوها من صاحب الطريق، ثم اتقوا نسبة الأفعال والصفات إلى أنفسهم وآمنوا شهودا بما آمنوا به غيابا، وفي هذا المقام يقع السالك في ورطات الحلول والاتحاد والإلحاد وسائر أنواع الزندقة من الثنوية وعبادة الشيطان والرياضة بخلاف الشرائع الإلهية ومغلطة الأرواح الخبيثة بالأرواح الطيبة، فإنه مقام تحته مراتب غير متناهية وورطات غير محصورة وأكثر ما فشا في القلندرية من العقائد والأعمال نشأ من هذا المقام والسالك في هذه المرتبة لا يرى صفة لنفسه ولا فعلا من نفسه؛ ولذلك أسقط العمل الصالح ولم يذكره ثم اتقوا من رؤية ذواتهم، وهذا هو الفناء التام والفناء الذاتي، وفي هذا المقام لا يكون لهم ذات بعد التقوى حتى يتصور لهم إيمان أو عمل والسالك في هذا السفر لا نهاية لسيره ولا تعين لوجوده ولا نفسية له ويظهر منه الشطحيات التي لا تصح من غيره كما تظهر منه في المقام السابق أيضا، وكما لا يرى السالك في هذا المقام لنفسه عينا ولا أثرا لا يرى لغيره أيضا عينا ولا أثرا، ومن هذا المقام نشأت الوحدة الممنوعة وما يترتب عليها من العقائد الباطلة والأعمال الكاسدة، فإن أدركته العناية وأفاق من فنائه وصار باقيا ببقاء الله صار محسنا بحسب الذات والصفات والأفعال؛ ولذلك قال تعالى بعد ذكر التقوى {وَأَحْسَنُوا} وأسقط الإيمان والعمل جميعا؛ لأنه بعد فنائه الذاتي وبقائه بالله صار ذاته وصفته وفعله حسنا وإحسانا حقيقيا، وأما قبل ذلك فإنه لا يخلو من شوب سوئه وإساءته بقدر بقاء نسبة الوجود إلى نفسه قبل فنائه، وأيضا قبل الفناء بقدر نسبة الوجود إلى نفسه يكون مبغوضا لا محبوبا على الإطلاق وبعد الفناء وقبل الفناء بالله لا موضوع له حتى يحكم عليه بالمحبوبية والمبغوضية وبعد البقاء بالله يصير محبوبا على الإطلاق؛ ولذلك قال:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} في آخر الآية"1.

1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص251 و252.

ص: 389

مراتب الكمال:

وتحدث في تفسيره عن مراتب كمال الإنسان عند تفسيره لقوله تعالى مخاطبا إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} 1 فقال: "فالإمامة آخر جميع مراتب كمالات الإنسان، فإن أول كمالاته العبودية من أولى درجاتها، وهي أولى درجات السلوك إلى الطريق متدرجا فيه إلى الوصول إلى الطريق متدرجا في السلوك على الطريق إلى الله، إلى أن خرج من أنانيته ورقيَّة نفسه ودخل في زمرة عباده واستكمل العبودية، وصار عبدا خالصا، فإن أدركته العناية وأبقاه الله بعد فنائه وأحياه بحياته لتكميل خلقه، فإما أن يوكله بإصلاح قلبه الذي هو بيت الله حقيقة وبإصلاح أهل مملكة نفسه من غير إذن له في الرجوع إلى خارج مملكته، وهو مقام النبوة المفردة عن الرسالة أو يأذن له مع ذلك بإصلاح المملكة الخارجة وهو الرسالة المفردة عن الخلة أو يختاره مع ذلك لنفسه ممتازا به عن سائر رسله معيدا له كرة أخرى غير العود الأول، فإن العود الأول كان بطرح كل ما أخذ وبهذا العود يعود معه جميع ما أعطاه الله وهو جميع ما سواه وهو الخلة، فإن استكمل مقام الخلة بأن كان مقامه مع الحق هو مقامه مع الخلق مع التمكن في ذلك اختاره للإمامة وتفويض جملة الأمور إليه بحيث لا يسقط ورق من شجر إلا بإذن وكتاب وأجل منه، وليس وراء هذه مقام ومرتبة، وقد علم من هذا أن كل إمام خليل وكل خليل رسول وكل رسول نبي وكل نبي عبد وليس بالعكس، وأن الإمامة بهذا المعنى هو الجمع بين المقام في الخلق والمقام عند الحق من غير قصور في شىء منهما، مع التمكن في ذلك"2.

هذا ما قاله ذلكم المفسر عن مقام الإمامة، ولئن كان وقوفي عند كثير من كلماته كثيرا وكثيرا، فإن أشده دهشة وأعظمه استغرابا عند قوله المنقول آنفا "

اختاره للإمامة وتفويض جملة الأمور إليه بحيث لا يسقط ورق من شجر إلا بإذن وكتاب وأجل منه" لا يدهشني قوله: "وليس وراء هذه مقام ورتبة" لأني

1 سورة البقرة: من الآية 124.

2 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص79.

ص: 390

أعتقد أنه ليس بعد مقام الألوهية مقام والرجل خص مقام الإمامة بأدق خصائص الألوهية والعياذ بالله، فهل يعتقد أن المرء يترقى في مقامات الكمال حتى يصل إلى مقام الإمامة بخصائص الألوهية، أو يعتقد أن مقام الإمامة ومقام الألوهية سيان ورمزان لمعنى واحد، أو يعتقد غير هذا وذاك؟ وكلها اعتقادات لا تخرج بحال من الأحوال عن الانحراف، والإلحاد في آيات الله.

اصطلاحات ورموز:

وتفسيره مليء باصطلاحات الصوفية ورموزها، ولو ذهبنا نذكر أمثلة لخرجنا عن حد الاعتدال في عرض المقصود إلى الإطناب ونسلم من الخروج عنه بذكر بعضها، فمن ذلك:

القرية:

للقرية في قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} 1.

فسرها بقوله: "إن كان النزول في ضعفاء مكة فلا اختصاص لها بهم كما في الخبر فالقرية مكة، وكل قرية لا يجد الشيعة فيها وليا من الإمام ومشايخهم، وكل قرية وقع بها الأئمة بين منافقي الأمة وقرية النفس الحيوانية التي لا يجد الجنود الإنسانية فيها وليا، ويطلبون الخروج منها إلى قرية الصدور ومدينة القلب ويسألون الحضور عند إمامهم أو مشايخهم في بيت القلب خاليا عن مزاحمة الأغيار بقولهم: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} "2.

اليتيم:

في قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُم} 3، قال في تفسيره: "اعلم أن

1 من سورة النساء: من الآية 75.

2 بيان السعادة: ج1 ص211.

3 سورة النساء: من الآية 2.

ص: 391

اليتيم كالرحم روحاني وجسماني، فالجسماني من انقطع من صغره عن أبيه الجسماني، والروحاني من انقطع عن إمامه الذي هو أبوه الروحاني كما ورد تصريحا وإشارة. واليتيم عن الإمام إما بغيبته عن شهود حسه بموت وغيره أو بغيبته عن شهود بصيرته بعدم استعداد الحضور وعدم حصول الفكر الذي هو مصطلح الصوفية، فإن من لم يتمثل مثال الشيخ في صدره ولم يشاهد صورته المثالية بعين بصيرته كان منقطعا عن إمامة وحقه الخدمة والمواساة والمحبة والنصيحة التي يعطون الميثاق عليها، هذا هو اليتيم الروحاني في العالم الكبير. وأما في العالم الصغير فالقوى الحيوانية والبشرية ما لم تبلغ في التبعية للنفس إلى مقام التمتع والالتذاذ بشهود النفس لشيخها تكون يتامى ومالها وحقها التلذذ بمشتهياتها ومقتضياتها في الحلال، فإن التلذذ في الحلال جعل قسيما لتزود المعاد في الأخبار"1.

البروج والسراج والقمر:

وذلك في تفسيره لقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} 2.

فسر البروج بقوله: "يجوز أن يراد بالبروج الكواكب السيارة

أو أن يراد اللطائف النبوية والولوية المحصورة كلياتها في اثنتي عشرة غير المنتهي جزئياتها إلى حد المحدودة بحسب الأمهات إلى مائة وأربعة وعشرين ألفا أو مائة وعشرين ألفا أو مائة ألف، وأن يراد الأنبياء "على" والأولياء "على" فإنهم بتعلقهم بأبدانهم الأرضية أركان الأرض، وبتجردهم الذاتي عن أرض الطبع أركان السماء، وأن يراد الجهات الفاعلية المحيية والمميتة والمفيضة للأرزاق أو المفيضة للعلوم والمعبر عنها بإسرافيل وعزرائيل وميكائيل وجبرائيل"3.

وفسر {سِرَاجًا وَقَمَرًا} بقوله: "والمراد بحسب التأويل من السراج لطيفة

1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص190.

2 سورة الفرقان: من الآية 61.

3 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص87.

ص: 392

الولاية، فإنها المضيئة بذاتها ومن القمر لطيفة النبوة والرسالة، فإنها كاسبة للنور من الولاية"1.

التعليم والتلقين:

وقد بين كيفية التعليم والتلقين عند الصوفية عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} 2، فقال:"وقد بقي بين الصوفية أن يكون التعليم والتلقين بتعاضد نفسين متوافقتين، يسمى أحد الشخصين هاديا والآخر دليلا والشيخ الهادي له الهداية وتولي أمور السالك فيما ينفعه ويجذبه والشيخ الدليل ينصره لمدافعته الأعداء ويخرجه عن الجهل والردى بدلالته طريق التوسل إلى شيخ الهدى، وفي الآية إشارة إلى أن السالك ينبغي له أن يطلب دائما حضوره عند شيخه بحسب مقام نورانيته ومقام صدره، وهو معنى انتظار ظهور الشيخ في عالم الصغير، وأما ظهور الشيخ بحسب بشريته على بشرية السالك فلا يصدق عليه أنه من لدن الله، وإذا ظهر الشيخ بحسب النورانية كان وليا من لدن الله ونصيرا من لدنه"3.

وبعد:

هذه أمثلة من تفسيره الصوفي رأينا فيها كيف جنح بصوفيته في تفسير القرآن الكريم من معانيها الظاهرة إلى رموز واصطلاحات وإشارات، فجعل مثلا القرية قرية النفس واليتيم من لا إمام له والبروج الأنبياء والأولياء أو الجهات الفاعلية المحيية والمميتة والسراج الولاية والقمر النبوة والولي والنصير الشيخ الهادي والشيخ الدليل، وغير ذلك من الأوهام التي جرفه إليها تصوفه والمعاني التي لا يدل عليها لفظ ظاهر، ولا دليل صحيح.

ولا يفوتني أن أذكر هنا أني إنما ذكرت من تفسيره الجانب الصوفي، إذ إني أكتب عن المنهج الصوفي عامة وليس عن تفسيره خاصة فإن طلبت أبرز عقائده

1 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص87.

2 سورة النساء: من الآية 75.

3 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص211.

ص: 393

أجملتها بأنه شيعي إمامي متطرف يعتقد أن عليا وارث علم محمد صلى الله عليه وسلم وبعده الأئمة الأحد عشر من ولده، وأن العترة هم المبينون للقرآن الكريم، وأن علم القرآن عندهم وما عداهم فعلمه قاصر ويعتقد بتحريف القرآن وتبديله، ويقول بالرجعة وجواز نكاح المتعة وبمسح الرجلين في الوضوء، وأن الأنبياء يورثون وينكر رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وغير ذلك من عقائد الشيعة.

والتفسير يحتوي على خرافات وأوهام في العقائد وفي القصص وفي الأخبار لا يجمعها سليم العقيدة ولا يدونها سليم الرأي، لا أريد أن أعدد بعضها من غير إثبات لنصوصها، ولو فعلت هذا وذاك لطال بنا الحديث ودلفنا عن المراد، ولعل فيما ذكرنا من تفسيره الصوفي وفاء ولو بعض وفاء بالموضوع.

ص: 394