الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأيي في التفسير الصوفي الحديث:
استدل المتصوفة على صحة تفسيرهم بقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 1، وقوله سبحانه:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 2، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع" 3 واستدلوا بحادثة استدعاء عمر لابن عباس في مجلسه مع أشياخ بدر رضي الله عنهم أجمعين- وقد سبق بيان الحادثة.
هذا هو أهم ما استدلوا به لصحة تفسيرهم، وأن هذا دليل على سلامة تفاسيرهم وأن لها أصلا شرعيا.
ونحن لا ننكر وجوب التدبر في القرآن الكريم، ولا ننكر أيضا أن يكون لمعاني القرآن معانٍ ظاهرة متبادرة للذهن ومعانٍ أخرى حق تحتاج إلى تدبر وتمعن، يؤتيه الله من يشاء من عباده وتتفاوت فيه الدرجات، لكنا نرفض كل الرفض أن يكون هذا النوع هو الذي يزعمه الصوفية من إشارات ورموز وطلاسم قوامها الوجد والذوق، تذهب صفاء القرآن الكريم ونقاءه.
ولا بد أن نبين هنا رأيا لم نكد نجد أحدا قال به إلا الدكتور السيد أحمد خليل، الذي أجمل الإشارة إليه وليته زادها تفصيلا4.
1 سورة محمد: الآية 24.
2 سورة النساء: من الآية 78.
3 أخرجه الفريابي من رواية الحسن مرسلا، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق تخريج هذا الحديث عند بيان منهج أهل السنة في التفسير.
4 دراسات في القرآن: الدكتور السيد أحمد خليل ص127 و128.
إنه يجب أن نفرق بين نوعين من التفسير، هما:
1-
التفسير الإشاري.
2-
التفسير الرمزي.
أما الأول فحق، وهو ينقسم إلى قسمين:
تفسير إشاري معنوي.
وتفسير إشاري لفظي.
ونريد بالتفسير الإشاري المعنوي: التفسير المرتبط بإشارة المعنى العام للآية أو السورة، وهي الدلالة على معنى آخر يستبطن المعنى الإجمالي فهما يؤتيه الله من يشاء من عباده لا يخالف نصا، ولا يجافي لفظا، ولا يجاوز معنى حقا. ومن هذا النوع ما سبق ذكره من استدعاء عمر لابن عباس رضي الله عنهم في مجلسه مع شيوخ بدر رضي الله عنه وسؤال عمر لهم: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه له قال:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول، رواه البخاري.
ومن هذا النوع أيضا ما رواه ابن جرير الطبري لما نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1 وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما يبكيك؟ " قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال:"صدقت"2.
كل هذا المعاني معانٍ باطنة لا تخالف المعنى الظاهر للآية، ولا تنتهك نطاق لفظه ولا حدود معانيه، فكان القبول لها حليفا.
ونريد بالتفسير الإشاري اللفظي: التفسير المرتبط بإشارة لفظه خاصة
1 سورة المائدة: من الآية 3.
2 تفسير الطبري: ج9 ص519.
يستدل بها على معنى آخر يستبطن معناها في سياقها العام، ومن هذا النوع من التفسير ما استدل به العز بن عبد السلام على صحة أنكحة الكفار من قوله تعالى:{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} 1 ومنه أيضا ما استدل به المفسرون من قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} 2 بأنه "عبر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه؛ لأن الوالدات إنما ولدن للآباء ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم"3.
هذا هو التفسير الإشاري السليم بقسميه، فهم لا يعكر معنى ولا يخالف نصا ولا يجافي لفظا بل يستمد مقوماته من النص الماثل أمامه من غير تحريف ولا تأويل خارج عن حدود الدين واللغة، وهو الذي تدل عليه النصوص والأدلة التي استدلوا بها لصحة التفسير الإشارى إذ هذا هو ما تدل عليه.
أما النوع الذي يجب أن نفرق بينه وبين التفسير الإشاري فهو التفسير الرمزي، وهو التفسير الذي سلكه الصوفيون وهم يحسبون أنهم يسلكون الأول وما هم بسالكيه.
ذلكم أن التفسير الرمزي تفسير صوفي يعتمد في سبيل الوصول إلى المعرفة على منهج قوامه الوجد والذوق والترقي في مقاماتهم، حتى يصل المتصوف مقام العرفان فتفيض عليه -بزعمهم- مكنونات العلم وأسرار المعرفة، بل يصل إلى أبعد من هذا فتفوض جملة الأمور إليه بحيث لا يسقط ورق من شجر إلا بإذن وكتاب وأجل منه، وليس وراء هذه مقام ومرتبة4.
ولأن تفاسيرهم لا تخضع لقاعدة ولا لأصل، بل تختلف باختلاف مقام الصوفي ومواجده وذوقه؛ لذا "تختلف تفسيراتهم اختلافا شديدا لا يمكن حده أو النظر في أبعاده"5.
1 سورة المسد: الآية 4.
2 سورة البقرة: من الآية 233.
3 تفسير القاسمي: ج3 ص610.
4 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص79.
5 دراسات في القرآن: د. السيد أحمد خليل ص127.
ولهذا جعل الصوفية معجما خاصا باصطلاحات حتى هم أنفسهم لا يعرفون بعضها ويحذرون المريد من الشك فيما لا يفهمه من طلاسمهم، وهذا النوع هو الذي أراده الإمام الغزالي في الصنف الثاني من الشطح عند الصوفية، حيث قال عنه:"كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائعة وفيها عبارات هائلة، وليس وراءها طائل، وتلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه، وهذا هو الأكثر وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة، ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان أو يحمل على أن يفهم منها معانٍ ما أريدت، ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه"1.
هذه ناحية من ناحيتين يؤدي إليهما التفسير الذي يقوم على الوجد، والذوق.
أما الناحية الثانية فهو ما زعموه من الحب لله وتفريغ القلب من سواه والعشق والهيام، وقسموا أنفسهم حسب تفاوتهم في هذا إلى مراتب، وأعلاها مرتبة الفناء، وهي أن ينتهي سلوكه إلى الله تعالى في الله يستغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تضمحلّ ذاته في ذاته وصفاته في صفاته، ويغيب عن كل ما سواه ولا يرى في الوجود إلا الله، وهو الذي يسمونه: الفناء في التوحيد"2.
وقد مر بنا أن الغزالي عدّ هذا النوع من شطح الصوفية وأنها "الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة، حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب، فيقولون: قيل لنا: كذا وقلنا: كذا"3.
1 إحياء علوم الدين ج1 ص42 و43.
2 مصرع التصوف: برهان الدين البقاعي ص81 عن التفتازاني في شرح المقاصد.
3 إحياء علوم الدين: الغزالي ج1 ص43.
وقد حرصت في التفسيرين اللذين درسناهما في التصوف وهما: بيان السعادة في مقامات العبادة، وضياء الأكوان في تفسير القرآن: أن يكون أولهما من النوع الأول في التفسير الرمزي وهو التفسير الذي يكثر فيه الألفاظ الغامضة والطلاسم والاصطلاحات، وأن يكون ثانيهما من النوع الثاني فيه وهو ما تكثر فيه عبارات العشق والشوق، حيث جعل الحج عند العارفين حج الروح إلى القلب الذي هو بيت الله العامر وليس إلى بيت الخليل؟! وزعم حلاوة المعاني راحا طهورا من شربها هام في الحبيب، وجعل الذكر ترديد: الله الله حتى يشرق عليك نور الاسم، وجعل شهادة الأولياء بقتلهم بسيوف المحبة وسهام مخالفة النفس ونحو ذلك.
وقد حان وقت صلاة الظهر وأنا في مكتبة أحدهم في بلد إسلامي وعدت بعد أدائها والرجل لا يزال في مكانه، وحين سألته: لِمَ لم يصلِّ؟ اكتفى بضحكة أحسبها ساخرة وكأنه يقول كما وصفهم الغزالي في النص السابق: "إنه قام بالوصال المغني عن الأعمال الظاهرة" أما وصاله فقد امتلأت كتبه بشنيع الأقوال، فهو يزعم حب الإله فينادي إلهه بقوله:"أحببتك حبا لا يعدله حب مخلوق لك، اللهم سوى مصطفاك وحده الذي خلقته بالحب ومن الحب وفي الحب" ثم ندم على هذا الاستثناء فأعاده بدونه: "لقد أحببتك يا مولاي حبا لا يساويه حب أحد قبلي، ولن يدانيه حب أحد بعدي"1.
وهو يزعم أنه رأى الله لا في صنعه، بل في الحقيقة وعلى الحقيقة فقال: إلهي لم أرد أني رأيتك في صنعك وفي إبداعك وفيما أنشأته في ملكك وتنشئه في ملكوتك فحسب، فهذا ما تراه البهم والعجماوات بل رأيتك في الحقيقة: على الحقيقة"2.
ذكرني هذا بقول الغزالي عنهم: وصال مغن عن الأعمال الظاهرة وادعاء المشاهدة بالرؤية.
1 الحب: ابن الخطيب ص82 و83.
2 الحب: ابن الخطيب ص90.
خلاصة الرأي: أن المقبول هو التفسير الإشاري على المعنى الذي ذكرته، والمرفوض هو التفسير الرمزي الصوفي الذي لا يقوم على قواعد صحيحة ولا أسس سليمة، وإنما قوامه الوجد والذوق الذي ما أنزل الله به من سلطان.
انتهى الجزء الأول، ويليه -إن شاء الله- الجزء الثاني، وأوله الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير