المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التمهيد: بسم الله الرحمن الرحيم نشأة التفسير: قد أتى حين من الدهر على - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ١

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد:

- ‌الباب الأول: الاتجاه العقائدي في التفسير

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة في تفسير القرآن الكريم:

- ‌التعريف بهم:

- ‌نشأتهم:

- ‌عقيدة أهل السنة والجماعة:

- ‌بيان بعض عقائدهم:

- ‌أسس تفسير أهل السنة:

- ‌نماذج من تفسير أهل السنة والجماعة في العصر الحديث:

- ‌نماذج من مفسرى أهل السنة

- ‌مدخل

- ‌أولا: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:

- ‌ثانيا: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:

- ‌ثالثا: محاسن التأويل

- ‌رأيي في هذا المنهج:

- ‌الفصل الثاني: منهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم

- ‌تعريف الشيعة:

- ‌بداية ظهور التشيع:

- ‌فرق الشيعة

- ‌مدخل

- ‌الإمامية الإثنى عشرية

- ‌الإسماعيلة

- ‌الجمهوريون:

- ‌الزيدية:

- ‌الفصل الثالث: منهج الأباضية في تفسير القرآن الكريم

- ‌التعريف بالأباضية:

- ‌عقائدهم:

- ‌التفسير الأباضي:

- ‌تفسيري: هميان الزاد إلى دار المعاد، وتيسير التفسير

- ‌التعريف بالمؤلف:

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌رأيي في هذا التفسير:

- ‌الفصل الرابع: منهج الصوفية في تفسير القرآن الكريم

- ‌التعريف بالصوفية:

- ‌المراد بالتصوف:

- ‌نشأة التصوف وتطوره:

- ‌عقائد التصوف:

- ‌من شروط التصوف:

- ‌طبيعة التصوف:

- ‌أقسام التصوف:

- ‌موقف العلماء من هذا اللون في التفسير:

- ‌شروط قبول التفسير الإشاري:

- ‌أهم المؤلفات في التفسير الإشاري

- ‌مدخل

- ‌أولا: بيان السعادة في مقامات العبادة

- ‌ثانيا: ضياء الأكوان في تفسير القرآن

- ‌رأيي في التفسير الصوفي الحديث:

الفصل: ‌ ‌التمهيد: بسم الله الرحمن الرحيم نشأة التفسير: قد أتى حين من الدهر على

‌التمهيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

نشأة التفسير:

قد أتى حين من الدهر على البشرية وهي تائهة ضالة على بسيط الأرض تعيش في بحار من الظلام وتسير في غمرة من الأوهام، ثم شاء الله أن يبعث فيهم رسولا منهم، يخرجهم من الظلمات إلى النور.

فدبّ فيها دبيب الصحة والعافية في جسد أنهكه المرض، وإن شئت فقل: أشرق فيهم نوره كما تشرق الشمس بعد ليل بهيم، فإذا بالنور يضيء أرجاء الأرض لا يستطيع له عدو منعا ولا يستطيع له دفعا، وإذا به يغشى أبصار الذين كفروا وإذا به يحرق أبصار الذين ألفوا الظلمة واعتادوا الضلال حتى صار جزءا من حياتهم فكانوا له محاربين وكانوا له معاندين ومكذبين، ولم يكن هؤلاء ولا أمثالهم بالذي يزعزع من كيان هذا النور أو يؤثر في سيره في الكون.

لم يكن ذلكم النور إلا دين الإسلام، وعماده وأساسه القرآن الكريم الذي تداعى المسلمون لقراءته وحفظه والعمل به فلم يكونوا ليتجاوزوا العشر الآيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل.

والعمل لا يكون إلا بعد علم وبعد فهم وتدبر لمعاني القرآن الكريم، وهكذا كان القوم رضي الله عنهم والفهم والتدبر لا يكون إلا بعد الكشف عن مرامي القرآن الكريم وبيان معانيه وحل ألفاظه وجلاء دلالاته، وهذه المعاني هي ما يجمعها مصطلح التفسير.

ص: 25

والقوم كانوا خالصي العروبة والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، فلا عجب أن يدركوا جل ذلك بهذه الخاصة إدراكا لا تعكره عجمة ولا يشوهه قبح ابتداع ولا يكدر صفوه عقيدة زائفة.

وكان عليه الصلاة والسلام يشرح لهم ما صعب عليهم فهمه بعد ذلك مما لا يعود فهمه إلى اللغة، ويجلي لهم ما عجزوا عن إدراكه امتثالا لأمر ربه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1.

وكان هذا الفهم المرتكز أساسا على مدلول اللغة وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم هو النواة الأولى للتفسير، وبهذا المنهج الصافي النقي كانت طريقة الصحابة رضي الله عنهم في فهم القرآن، وإن شئت أن ترى أثره فيهم فانظر إلى أثرهم في مجتمعهم بل وخارج مجتمعهم.

كانوا في مجتمعهم مثالا شامخا للمجتمع الإسلامي الذي بعث من أجله محمد صلى الله عليه وسلم حين جعلهم خير القرون، وجعلهم القدوة لمن سيأتي بعدهم من المسلمين.

وكانوا خارج مجتمعهم جنودا للدعوة إلى الإسلام بالكلمة الصالحة وبالنفس والنفيس حتى ارتفعت راية الإسلام في شرق الأرض وغربها في بضع سنين، وحتى دانت لهم أرجاء المعمورة.

كيف لا والقرآن الكريم احتوى جميع ما تحتاج إليه البشرية في أمور دينها ودنياها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، في عقائدها وفي أخلاقها، في عباداتها وفي معاملاتها، في اقتصادها وفي سياستها الداخلية والخارجية، في سلمها وفي حربها.

كيف لا وتفسير القرآن الكريم هو الجسر الموصل لهذه المبادئ والمفتاح لهذه الكنوز.

لذلك فلا عجب أن يحرص المسلمون في ذلك الوقت على تلقي علوم

1 سورة النحل: من الآية 44.

ص: 26

التفسير وأن يحضروا ذلك في مجالس الصحابة -رضوان الله عليهم- للتلقي عنهم مباشرة، أو عن تلاميذهم من بعدهم.

واتسعت رقعة البلاد الإسلامية أرضا فدخلت فيه بلدان أخرى، واتسعت رقعته لسانا فدخلت فيه أمم أعجمية شتى بمختلف الألسنة ومختلف المذاهب والعقائد، دخل فيه بعد المشركين الذين يعبدون الأوثان أمم مجوسية وأهل كتاب وملل ونحل أخرى، وكان لهذا أثره في مسار التفسير.

فكدرته من بعد العجمة وخالطه قبح الابتداع وتحكمت فيه عقائد فاسدة زائفة جعلها بعض ذوي الملل والنحل أصلا يصرفون إليها التفسير، ويلوونه إليها ليا.

فتعددت من ثم مشارب التفسير وتنوعت من بعد مناهجه وطرقة فجد فيه مصادر محدثة وطرق مبتدعة وأهواء منكرة، وبقيت طائفة على المنهج الصافي الذي لا تكدره الأهواء ولا تبلبل أفكاره زائف العقائد، تحكي مثال التزام المنهج الحق في تفسير القرآن.

ولم يكن الفاصل بين تينكم المرحلتين وجيزا أو قصيرا، بل كان بينهما مراحل أخرى نحسبها مجتمعة هي مراحل التفسير التي مر بها من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر.

مراحل التفسير:

المرحلة الأولى: عصر الصحابة، رضي الله عنهم:

وهو الذي سبقت الإشارة إليه، وقد كانوا أن غمض عليهم معنى أو دق عليهم مرمى رجعوا إليه عليه الصلاة والسلام فجلاه لهم وبينه أحسن وأصدق بيان.

وقد كان التفاوت بينهم بينا فيما يحتاج إلى اجتهاد شأن التفاوت في عقول سائر البشر فكان بعضهم يرجع إلى من قد يكون أكثر منه فهما لمعنى أو إدراكا لرمز، وقد يكون أعلم فيما أحاط بالآية عند نزولها من أحداث لها التأثير في فهم مدلولها.

ص: 27

ونضرب لذلك مثلا ما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟! فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره، إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذاك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه له قال:" {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} ". فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول1.

هذا مثل واحد من أمثلة كثيرة على تفاوتهم رضي الله عنهم أجمعين- في إدراك معاني القرآن الكريم وإشاراته.

ومع هذا فقد كان كثير منهم رضي الله عنهم يمتنع -متحرجا- عن تفسير القرآن الكريم خشية من أن لا يوافق الحق قوله، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه- وهو مثال الورع والإيمان يقول:"أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن برأيي أو بما لا أعلم" وروي عن كثير من الصحابة نحو ذلك في التحرج من القول في التفسير من غير علم ولم يكن هذا التخوف ليمنعهم عن القول فيما لهم به علم.

ولم يكن ذلك الجيل الفريد من المسلمين يتناول الإسرائيليات في تفسيره، فقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على أن لا يستقوا من غير نبع الإسلام الصافي؛ ولذا فقد غضب عليه الصلاة والسلام حين رأى في يد عمر رضي الله عنه قطعة من التوراة.

وبطبيعة حالهم الذي أوتوه من المعرفة بدقائق اللغة، فقد كانوا لا يحتاجون

1 رواه البخاري باب التفسير ج6 ص221.

ص: 28

إلى الوقوف عند كل آية يتناولونها بالتفسير حيث يعرفون معناها بالسليقة التي طبعوا عليها؛ ولذا لم يكن تفسيرهم شاملا للقرآن كله كما هو حال من جاء من بعدهم.

ومن خصائص هذه المرحلة أيضا أنهم لا يتكلفون في التفسير ولا يتعمقون ذلك التعمق المذموم فاكتفوا من الآيات بمعناها العام ولم يلتزموا تفصيل ما لا فائدة كبيرة في تفصيله، فيكتفون مثلا بمعرفة أن المراد بقوله تعالى:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 1، أنه تعداد لنعم الله تعالى على عباده2.

ومن خصائصه قلة التدوين، فقد كانوا في غالبهم أميين ولم تتوافر لهم وسائل وأدوات الكتابة ثم بعد هذا كله فقد نهاهم عليه الصلاة والسلام أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن خشية أن يلتبس عليهم كلامه بالآيات، ثم أذن لهم بالكتابة بعد أن أمن عليهم من اللبس.

فكتب عبد الله بن عمرو بن العاص "الصحيفة الصادقة" كما سماها صاحبها حيث قال: "هذه الصادقة فيها ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه فيها أحد"3.

المرحلة الثانية: عهد التابعين:

انتشر عدد من الصحابة في أرجاء العالم الإسلامي يحملون على كاهلهم عبء الأمانة ويؤدون الرسالة، فكانت لهم مدارس للتفسير في أنحاء البلاد.

فأقامها عبد الله بن عباس رضي الله عنه في مكة المكرمة وكان من تلاميذه أئمة في التفسير منهم: سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة مولى ابن عباس وطاوس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح.

1 سورة عبس: الآية 31.

2 مجموع الفتاوى لابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج13 ص372.

3 الطبقات الكبرى، ابن سعد ص189 قسم2 ج7؛ وتقييد العلم للخطيب البغدادي، تحقيق يوسف العش ص84، وهي موجودة في مسند الإمام أحمد من ص235 ج9 والجزأين العاشر والحادي عشر بكاملهما وج12 إلى ص51.

ص: 29

وأقامها أبي بن كعب رضي الله عنه في المدينة وكان من تلاميذه زيد بن أسلم وأبو العالية ومحمد بن كعب القرظي.

وأقامها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في العراق وكان من تلاميذه علقمة بن قيس ومسروق والأسود بن يزيد وعامر الشعبي والحسن البصري وقتادة بن دعامة السدوسي.

ولم يكن هناك من فارق كبير يذكر بين منهج الصحابة ومنهج التابعين لكونهم إنما تلقوا التفسير عن الصحابة، وورثوا عنهم أيضا الورع عن القول في القرآن الكريم بغير علم، فهذا سعيد بن المسيب كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن سكت كأنه لم يسمع، وهذا الشعبي يقول: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله، وهذا -كما قلنا عن الصحابة رضي الله عنهم محمول على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه1.

وثمة فروق بين المنهجين هي ثمرة اتساع انتشار العلم ودخول أمم شتى ذات أفكار ومنازع متعددة كان لها أثر في التفسير.

فاتسعت رواية الإسرائيليات لدخول كثير من أهل الكتاب في الإسلام وكان عندهم علم من الكتاب لاقى نفوسا متفتحة لسماع تفاصيل أخبار القرآن وقصصه فزجت طائفة منهم في التفسير بكثير من تلك الأخبار دون تحرٍّ لصحة أو تحقق لخبر.

وكثرت الاختلافات والأقوال في تفسيرهم للآية الواحدة، بل للكلمة الواحدة، ومن جهة أخرى اتسع نطاق التفسير فشمل آيات لم يشملها في الفترة السابقة؛ وذلك لدخول أمم أعجمية وأشخاص لم يعارضوا نزول الآيات وأسبابها، فكانت حاجة هؤلاء وأولئك ماسة لأن يبين لهم ما لم يبين من قبل فاتسع بهذا مجال التفسير عمقا ومساحة.

1 مجموع الفتاوي: ابن تيمية ج13 ص373 -374.

ص: 30

وازداد التدوين للتفسير في هذه الفترة فقد كثر عدد الكتَّاب وتوفرت وسائل الكتابة، لكنه لم يكن مبوبا فكانت الأحاديث فيه غير مرتبة فحديث عن الزكاة يتلوه تفسير آية عن الخمر مثلا ثم يتلوه حديث عن البيع ونحو ذلك، ومما تم تدوينه في هذه المرحلة الصحيفة الصحيحة وهي التي أملاها أبو هريرة رضي الله عنه على همام بن منبه، وهي موجودة في مسند الإمام أحمد بكاملها ونقل الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- منها عددا كثيرا.

هذه بعض الفوارق بين منهج الصحابة رضي الله عنهم ومنهج التابعين.

المرحلة الثالثة: عصر التدوين:

ونقصد بهذه المرحلة تدوين الحديث النبوي مبوبا، وكون التفسير بابا من أبوابه حيث نشط في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى.

وكان لهم عناية خاصة بالإسناد، ولم تكن التفسيرات كلها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل ضم إليها تفاسير الصحابة رضي الله عنهم وتفاسير التابعين، رحمهم الله تعالى.

ودخل في التفسير في تلك المرحلة الكثير من الإسرائيليات وزادت كثيرا عن المرحلة السابقة.

واتسع التفسير بالرأي، فهذا مجاهد بن جبر يفسر قوله تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 1، بقوله:"مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا". وقد رد عليه تفسيره هذا ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- وعقب عليه بما أبطله2، وهذا الحسن البصري -رحمه الله تعالى- يفسر القرآن على

1 سورة البقرة: الآية 65.

2 جامع البيان عن تأويل آي القرآن: تفسير الطبري ت. محمود وأحمد شاكر ج2 ص173.

ص: 31

إثبات القدر ردا على من ينكره، وهذا قتادة بن دعامة السدوسي كان يقول بشيء من القدر1.

وهذا ولا شك كان نواة لظهور المذاهب الفكرية ونشأة التفسير بالرأي بعد ذلك.

المرحلة الرابعة: مرحلة "التصنيف":

ونعني بها كتابة التفسير بالمأثور مستقلا عن الحديث، شاملا لآيات القرآن، مرتبا حسب ترتيب المصحف، ومن المؤلفات في تلك المرحلة نسخة كبيرة جمعها أبو العالية، في التفسير عن أبي بن كعب2 رضي الله عنه وكتب عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة تفسيرا للقرآن عن الحسن البصري3 -رحمه الله تعالى- وكان عند زيد بن أسلم كتاب في التفسير4. وألف إسماعيل بن عبد الرحمن السدي تفسيرا للقرآن5، بل ومن أشهرها تفسير الطبري، رحمه الله تعالى.

ومن خصائص تلك المرحلة:

1-

أن ما دون فيها كان التفسير بالمأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وتابعيهم، وكان مشوبا بالرأي وتأييد بعض المذاهب.

2-

أنهم اعتنوا بالإسناد المتصل إلى صاحب التفسير المروي.

3-

لم تكن لهم عناية بالنقد وتحري الصحة في رواية الأحاديث في التفسير اكتفاء منهم بذكر السند، بل كان بعضهم يذكر كل ما روي في الآية من صحيح وسقيم ولم يتحر الصحة، بل لم يقصدها كابن جريج مثلا6.

1 الطبقات الكبرى: ابن سعد ج7 ص229.

2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج1 ص115.

3 وفيات الأعيان: ابن خلكان ج3 ص132.

4 تذكرة الحفاظ: شمس الدين الذهبي ج1 ص133.

5 الإتقان: السيوطي ج2 ص188، تفسير الطبري ج1 ص156-160.

6 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج1 ص155.

ص: 32

4-

اتسعت الرواية بالإسرائيليات في تلك الفترة، اتساعا كبيرا ودون كثير منها في التفسير.

المرحلة الخامسة:

وهي من أهم مراحل التفسير وأخطرها، وكأنما كان كل ما شاب التفسير في المراحل السابقة من كدر إنما هو تمهيد وتوطئة لتلك المرحلة.

حيث وجدت فيها طائفة من أعداء الإسلام فرصة لبث أفكارهم وشبهاتهم ودس أكاذيبهم عبرها.

وكان من خصائص تلك المرحلة أنهم اختصروا فيها الأسانيد ونقلوا الآثار المروية عن السلف دون أن ينسبوها لقائليها1؛ مما سهل لأعداء هذا الدين وممن يريد الكيد له أن يبث سمومه بهذه الطريقة فتلتبس على كثير من المسلمين.

ومن خصائصها أن ازداد القول في التفسير بالرأي واتسع مجاله المذموم منه والمحمود، وتجرءوا على القول في القرآن من غير علم وحرص بعضهم على الإكثار من إيراد الأقوال في تفسير الآية الواحدة، فصار كل من يسنح له قول يورده ومن يخطر بباله شيء يعتمده، فيأتي من بعده فيظنه صحيحا أو أن له أصلا.

أما عن الإسرائيليات وغزوها للتفسير في هذه المرحلة فحدث ولا حرج، فهو عصرها الذهبي واشتغلوا بها عن البحث الجاد الأسمى في أمور الدين.

المرحلة السادسة:

وهي نتيجة حتمية للمرحلة السابقة، حيث انفتح الباب على مصراعيه فدخل منه الغث والسمين، الصحيح والعليل، ولم يزل الباب مفتوحا إلى عصرنا هذا.

فدخل في التفسير من هو ليس من أهله وتحول مسار التفسير إلى أن يعتني أرباب العلوم بما يوافق مذاهبهم وعلومهم، فكان كل من برع في علم من العلوم

1 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص190.

ص: 33

غلب ذلك على تفسيره. فالفقيه يكاد يسرد فيه الفقه ولا شيء سواه وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع والرد على المخالفين، كالقرطبي والجصاص والإخباري ليس له هم إلا سرد القصص واستيفاءها كالثعلبي والنحوي ليس له هم إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه، كالزجاج والواحدي وأبي حيان وصاحب العلوم العقلية ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبههم والرد عليها كالفخر الرازي حتى قال فيه بعضهم:"فيه كل شيء إلا التفسير"1.

ونشأ كثير من الفرق والمذاهب المنحرفة، وكلها يستدل بآيات من القرآن يدعم بها أصول مذهبه وإن لم توافقها انحرف بمعانيها انحرافا يلحد بها إليها.

وظهر التعصب المذهبي بأسوأ أحواله فتشعبت الآراء والمذاهب الفلسفية وتعددت مسائل الكلام.

ذلكم موجز المراحل التي مر بها التفسير في العصور السالفة مراحل بعضها لا يحتوي إلا على منهج واحد في التفسير وتعددت المناهج بتقدم المراحل فجاءت المرحلة الأخيرة شاملة لمناهج في التفسير عديدة.

مناهج التفسير عند السابقين:

يحدثنا التاريخ الإسلامي عن نكبات كبرى مر بها العالم الإسلامي من أعدائه المتربصين به، الذين أفرغوا جام غضبهم على تراث المسلمين كيف لا وهو نتاج فكرهم فأحرقوا ما أحرقوا وسرقوا ما سرقوا وألقوا في النهر ما ألقوا؛ ولذا فإنه ليس من السهل أن نجزم جزما بحصر اتجاهات التفسير عند السابقين، وإنما هو التحري المستطاع أو بعضه.

وقد تعددت مناهج التفسير وتنوعت، فإن أردنا أن نعرض لذكرها هنا فإنما هو ذكر الإشارة وإلا تداخلت الأبحاث وتشعبت، والحق أن كل عصر من

1 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص190.

ص: 34

العصور السالفة بحاجة لدراسة اتجاهات التفسير فيه، حتى تظهر لنا جلية سلسلة التفسير بمناهجه واتجاهاته وحتى يكتمل العقد.

وبهذا الطريق -طريق الإشارة- نعرض سريعا لتعداد مناهج واتجاهات التفسير عند السابقين، وأمثلة للمؤلفات في كل منهج.

الاتجاهات العقائدية:

وهو من الاتجاهات التي تأثرت بمرور السنين، حيث اندثرت بعض المذاهب التي كان لها صولة وكان لها جولة فلم نعد نجد لها في العصر الحديث من أثر يذكر.

وضعفت مذاهب أخرى واندثرت أكثر فرقها كفرقة الخوارج مثلا حتى لم يبق إلا فرقة واحدة هي فرقة الأباضية، وهي في صراع مع خصومها الذين يلصقونها بالخوارج، وهي تنكرهم وترفضهم.

ولم يعد للفرق الباطنية من نشاط في التفسير كسابق عهدهم، بل اكتفى أتباعهم وغيرهم بنشر كتبهم القديمة.

ولم تعد فرقة الزيدية ولا الصوفية تولي التفسير عناية كتلك العناية لسلفهم فلم يؤلفوا تلك المؤلفات العديدة والتفاسير المطولة.

وفي جانب آخر نشأت المدرسة العقلية الحديثة متأثرة بعض التأثر بمدرسة الاعتزال، والمدرسة العقلية القديمة. وجدَّ في هذا الاتجاه مناهج إلحادية ليست هي بالباطنية الذين يقولون بتفسير القرآن بالباطن أو الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، وليست بالتي تسلك التفسير الصحيح، بل تعلن التفسير الملحد وتعلن اعتقادها له، وتعلن أنه التفسير الصحيح للقرآن.

المؤلفات في منهج أهل السنة:

ونحمد الله أن تفاسير أهل السنة في الفترة السابقة كثيرة تحفظ للمسلمين النبع الصافي للعقيدة الإسلامية الصحيحة، وقد أجمل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- الحديث عن تفاسير أهل السنة بقوله:"وأما "التفاسير" التي في أيدي

ص: 35

الناس فأصحها "تفسير محمد بن جرير الطبري" فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير، والكلبي، والتفاسير غير المأثورة بالأسانيد كثيرة، كتفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد، ووكيع، وابن أبي قتيبة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه"1.

قلت: ومنها تفسيره هو -رحمه الله تعالى- الذي طبع عدة مرات مستقلا مرة وضمن مجموع التفاوى مرات أخرى.

ومنها تفسير ابن كثير -رحمه الله تعالى- الذي طبع أيضا عدة طبعات واختصره بعض العلماء.

هذه بعض التفاسير لأهل السنة والجماعة.

المؤلفات في منهج المعتزلة:

وقد ألف كثير من مفسريهم تفاسير للقرآن الكريم على أصول مذهبهم يعلنونها صريحة مرة ويخفونها حينا حتى لا تكاد تستخرج إلا بالمناقيش.

ومن أشهر مؤلفاتهم تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم2، المتوفى سنة 240، وتفسير أبي علي الجبائي3 "ت 303"، ومنها التفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني4، وتفسير علي بن عيسى الرماني5، ولأبي القاسم عبد الله بن أحمد البلخي المعروف بالكعبي المعتزلي تفسير في اثني عشر مجلدا6، ولأبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني "ت 322" تفسير "جامع التأويل لمحكم

1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص385.

2 المرجع السابق ج13 ص357، وطبقات المفسرين: شمس الدين محمد الداودي ج1 ص269.

3 المرجع السابق من الفتاوى، وطبقات المفسرين ج2 ص189.

4 المرجع السابق من الفتاوى، وطبقات المفسرين ج1 ص257.

5 المرجع السابق من الفتاوى، وطبقات المفسرين ج1 ص420.

6 كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ج1 ص234، وطبقات المفسرين ج1 ص223.

ص: 36

التنزيل"، ويقع في أربعة عشر مجلدا1، وعبد السلام بن محمد القزويني له تفسير في ثلاثمائة مجلد منها سبعة مجلدات في الفاتحة، كذا قال السيوطي2.

ومن أهم مؤلفاتهم المطبوعة والموجودة في العصر الحاضر تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار، وهو في مجلد واحد فسر فيه الآيات المتشابهة.

ومنها وهو أهمها: تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تأليف محمود بن عمر الزمخشري، ويقع تفسيره في أربعة مجلدات كبار وقد نال هذا التفسير اهتمام كثير من العلماء، فكتبوا التعليقات والحواشي وأخرجوا اعتزالياته وخرجوا أحاديثه.

ومنها غرر الفوائد ودرر القلائد المعروف بـ "أمالي المرتضى" ومؤلفه علي بن الطاهر الملقب بـ "الشريف المرتضى" وهو كتفسير القاضي عبد الجبار لا يشمل تفسير القرآن كله، بل آيات تدور حول العقائد.

المؤلفات في منهج الشيعة:

وهم كما هو معلوم فرق شتى غالى بعضهم حتى خرج عن ربقة الإسلام كالإسماعيلية وغيرها من الباطنية واعتدل بعضهم حتى كاد أن يكون من أهل السنة والجماعة كالزيدية. وعلى ضوء هذا الميزان فإنا نشير لأهم مؤلفاتهم في هذه المواقع الثلاثة الباطنية، والزيدية، والمتوسطين بين هؤلاء وهؤلاء أعني الإمامية الاثني عشرية.

مؤلفات الباطنية:

نحمد الله أن هذه الطائفة لم تجمع تفسيرا كاملا للقرآن الكريم.

وقد علل الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- ذلك بقوله:

1 الفهرست: ابن النديم ص51، وطبقات المفسرين: الداودي ج2 ص106، والتفسير والمفسرون: الذهبي ج 3 ص388.

2 طبقات المفسرين: السيوطي ص67.

ص: 37

"إنهم لم يستطيعوا أن يتمشوا بعقائدهم مع القرآن آية آية، ولو أنهم حاولوا ذلك لاصطدموا بعقبات وصعاب لا يستطيعون تذليلها ولا يقدرون على التخلص منها"1.

وقد بحثت كثيرا فلم أجد تفسيرا مستقلا كما ذكر الذهبي رحمه الله ووجدت ابن النديم في كتابه الفهرست يعد من الإسماعيلية الحسين بن منصور الحلاج، الزنديق المتصوف والذي يتبرأ بعض الصوفية من نسبته إليهم2، وقد عد ابن النديم والداودي في طبقات المفسرين من كتبه كتاب "تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ} "3.

أما ما عدا ذلك، فمدسوس في ثنايا كتبهم.

مؤلفات الإمامية الاثني عشرية:

وهذه الطائفة تعد أكثر فرق الشيعة تأليفا في التفسير، ويشهد لذلك تلك المؤلفات الكثيرة عددا وحجما على أصول مذهبهم الشيعي، ومن هذه المؤلفات:

تفسير الحسن العسكري "ت 254" طبع في مجلد واحد وتفسير العياشي من علماء القرن الثالث الهجري وتفسير إبراهيم بن محمد بن هلال "ت 383"، وتفسير علي بن إبراهيم القمي من القرن الثالث وأوائل الرابع وطبع في مجلد واحد كبير وتفسير أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي المسمى: الرغيب في علوم القرآن وتفسير أبي الفتوح الرازي الحسين توفي في القرن السادس وتفسير الصافي لمحمد بن مرتضى الشهير بملا محسن الكاشي وتفسير الأصفى للمؤلف السابق اختصره من الصافي وطبع في مجلد واحد والبرهان لهاشم البحراني "ت 1107" وطبع في مجلدين كبيرين ومرآة الأنوار ومشكاة الأسرار للمولى عبد اللطيف الكازراني وتفسير "المؤلف" لمحمد مرتضى الحسيني من علماء القرن الثاني عشر

1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص229.

2 طبقات المفسرين: الداودي ج1 ص159.

3 المرجع السابق ج1 ص160، والفهرست لابن النديم ص272.

ص: 38

وهو مخطوط في مجلد واحد صغير بدار الكتب المصرية. وتفسير المولى السيد عبد الله بن محمد رضا العلوي "ت 1242" ويقع في مجلد كبير وتفسير التبيان لأبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي "ت 460"، وتفسير مجمع البيان في تفسير القرآن لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من علماء القرن السادس، وهو تفسير كبير يقع في عدة مجلدات وتفسير نور الثقلين لمؤلفه عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي من علماء القرن الحادي عشر، ويقع في خمسة مجلدات كبار1.

هذه أهم مؤلفات الاثني عشرية في التفسير.

مؤلفات الزيدية:

وهم أيضا من المقلين في التأليف في التفسير، وأشهر مؤلفاتهم فيه التفسير المشهور فتح القدير للعلامة محمد بن علي الشوكاني وهو في خمسة مجلدات كبار وجمع فيه -رحمه الله تعالى- بين الرواية والدراية، وهناك تفسير آخر هو شرح لآيات الأحكام واسمه:"الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة" لمؤلفه شمس الدين يوسف بن أحمد بن محمد الثلاثي، في ثلاثة أجزاء كبار.

وقد نقب الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- عن مؤلفاتهم فلم يعثر على غير ما ذكرنا، لكنه وجد ذكرا لمؤلفات أخرى لهم في التفسير لكنها غير موجودة الآن، وذكر منها:

كتاب التفسير الكبير، وكتاب نوادر التفسير وكلاهما لمقاتل بن سليمان، والتفسير الكبير والتفسير الصغير وهما للمرادي، وتفسير غريب القرآن للإمام زيد بن علي جمعة بن يزيد وتفسير البستي وتفسير التهذيب لابن كرامة المعتزلي ثم الزيدي وتفسير عطية النجراني "ت 665" والتيسير في التفسير للحسن النحوي "ت 791" وتفسير ابن الأقضم وشرح الخمسمائة آية "تفسير آيات الأحكام" لحسين بن أحمد النجري من علماء القرن الثامن ومنتهى المرام شرح

1 انظر: التفسير والمفسرون، الذهبي ج2 ص42-43.

ص: 39

آيات الأحكام لمحمد بن الحسين بن القاسم من القرن الحادي عشر وتفسير القاضي عبد الرحمن بن مجاهد من علماء القرن الثالث عشر1.

المؤلفات على منهج الخوارج:

والخوارج -أيضا- من المقلين في التفسير في القديم والحديث، ولعل ما ذكره ابن النديم في الفهرست عن كتبهم بأنها "مستورة محفوظة"2 يكشف قلة مؤلفاتهم وقلة انتشارها ولا أدري إن كان من أثره ما عانيته في الحصول على بعض مؤلفاتهم ومطبوعاتهم في العصر الحديث.

وقد سأل الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- أحد علمائهم المعاصرين وهو الشيخ إبراهيم أطفيش عن أهم مؤلفاتهم في التفسير فذكر له ستة مؤلفات، ثلاثة منها قديمة وهي:

1-

تفسير عبد الرحمن بن رستم الفارسي من أهل القرن الثالث الهجري.

2-

تفسير هود بن محكم الهواري من أهل القرن الثالث الهجري، مخطوط في أربعة مجلدات.

3-

تفسير أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الورجلاني، من أهل القرن السادس الهجري3.

وقد بحثت كثيرا عن ذكر لهذه المؤلفات في كتب التفسير وطبقات المفسرين فلم أعثر لها على أثر إلا أني وجدت الزركلي ذكر أن لعبد الرحمن بن رستم تفسيرا ولم يذكر ليوسف بن إبراهيم الورجلاني شيئا في التفسير وكذا عمر كحالة في معجمه للمؤلفين، أما هود بن محكم فلم يترجما له إلا أن الأستاذ فؤاد سزكين ذكر له ترجمة وأشار إلى أن له تفسيرا للقرآن ووصل إلينا وتوجد منه نسخة مخطوطة في الجزائر4.

1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص281-284.

2 الفهرست: ابن النديم ص258.

3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص315.

4 تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين، المجلد الأول ج1 ص96.

ص: 40

وعلى هذا فلا يوجد شيء من مؤلفات الخوارج في التفسير إلا تفسير هود بن محكم الذي يقع في أربعة مجلدات وهو متداول بين الأباضية في بلاد المغرب، ويوجد عند الأستاذ إبراهيم أطفيش المذكور آنفا جزآن مخطوطان، هما الأول والرابع منه1.

المؤلفات على منهج الصوفية:

ومن المؤلفات الصوفية في التفسير، تفسير بشير لنجم داية2 ومنها تفسير القرآن العظيم لسهل بن عبد الله التستري وهو مطبوع في مجلد صغير ومنها "حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي وهو في مجلد واحد كبير مخطوط، ومنها عرائس البيان في حقائق القرآن لأبي محمد الشيرازي وهو مطبوع في جزأين، ومنها التأويلات النجمية لنجم الدين داية وأتمه علاء الدولة السمناني وهو مخطوط في خمسة مجلدات كبار. وأهم هذه المؤلفات وأخطرها التفسير المسمى "تفسير القرآن الكريم" والمنسوب لأبي بكر محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن عربي وإنما قلت: المنسوب؛ لأن هناك من يشكك في نسبته لابن عربي، وليس المقام هنا مقام تحقيق ذلك.

هذه أهم المؤلفات في التفسير لأهم الفرق والمذاهب قديما، وكلها تحت الاتجاه العقدي في التفسير.

الاتجاه العلمي في التفسير:

وهو اتجاه يتسع فيشمل -فيما نرى- مناهج ثلاثة:

1-

منهج التفسير بالمأثور.

2-

منهج التفسير الفقهي.

3-

منهج التفسير العلمي التجريبي.

1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص316.

2 مفتاح السعادة ومصباح السيادة: طاش كبرى زاده ج2 ص123.

ص: 41

وسنذكر هنا بعض المؤلفات لكل من:

منهج التفسير بالمأثور:

ولا شك أن أهم المؤلفات في هذا اللون في التفسير هو جامع البيان عن تأويل آي القرآن والمعروف بتفسير الطبري وقد طبع عدة مرات آخرها بتحقيق وتعليق الشيخ محمود محمد شاكر وخرَّج أحاديثه الشيخ أحمد محمد شاكر -رحمه الله تعالى- وصدر منه ستة عشر مجلدا حتى الآن وتوقف عند الآية 28 من سورة إبراهيم، أما الطبعة التي لم تحقق فكاملة.

ومن المؤلفات في ذلك: الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي، وهو مطبوع في ستة مجلدات كبيرة.

ومنها تفسير القرآن العظيم لابن كثير الدمشقي في أربعة مجلدات، وطبع عدة مرات وحظي هذا التفسير باهتمام العلماء به فخرجوا أحاديثه وعلقوا عليه، واختصروه.

منهج التفسير الفقهي:

وهي مؤلفات كثيرة جدا.

ففي الفقه الحنفي ألف أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص تفسيره: أحكام القرآن، وطبع عدة مرات في ثلاثة مجلدات.

وفي الفقه المالكي ألف أبو بكر بن العربي كتابه: أحكام القرآن، المطبوع في أربعة مجلدات، وألف أبو عبد الله القرطبي تفسيره: الجامع لأحكام القرآن المطبوع في عشرة مجلدات كبار.

وفي الفقه الشافعي ألف أبو الحسن الطبري المعروف بـ "إلكيا الهراسي" كتابه: أحكام القرآن، وألف السيوطي كتابه: الإكليل في استنباط التنزيل، وطبع في مجلد كبير.

وفي الفقه الحنبلي تفسير الخرقي لأبي القاسم عمر بن أبي على الحسين

ص: 42

الخرقي1، وأحكام القرآن لأبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء2.

وفي الفقه الزيدي ألف مقاتل بن سليمان كتاب "تفسير الخمسمائة آية"3 وكذا ألف حسين بن أحمد النجري "شرح الخمسمائة آية" وألف محمد بن الحسين بن القاسم من علماء القرن الحادي عشر كتاب "منتهى المرام شرح آيات الأحكام"4.

وفي الفقه الجعفري ألف مقدار السيوري "كنز العرفان في فقه القرآن"4.

منهج التفسير العلمي التجريبي:

وأشهر المؤلفات فيه التي أصبحت عَلَما في هذا تفسير "مفاتيح الغيب في تفسير القرآن" أو التفسير الكبير لأبي عبد الله محمد بن عمر المعروف بالفخر الرازي وقد أطنب فيه مؤلفه في أبحاث عديدة واستطرد إلى العلوم الرياضية والطبيعية والعلوم الفلكية وغير ذلك، حتى قيل عنه في كل شيء إلا التفسير.

وبعد، فتلكم هي أبرز الاتجاهات والمناهج في تفسير القرآن الكريم عند العلماء السابقين لم نقصد استيفاء لها ولا استقصاء وإنما رسم هيكل عام من زواياه ننظر إلى اتجاهات التفسير في العصر الحديث ومناهجه، فنعرف ما جد منها وما اندثر وما بقي على المناهج السابقة.

وقد جدت في العالم الإسلامي بعد ذلك أحداث، ووقعت الوقائع فأصبح المسلمون بعد أن كانوا يجوبون الآفاق بجيوشهم لنشر الإسلام يغزون في عقر دارهم، وبعد أن كانت الأرض الإسلامية في حالة تمدد أضحت في حالة تقلص وانكماش.

1 مفتاح السعادة: طاش كبرى زاده ج2 ص106.

2 معجم المفسرين: عادل نويهض ج2 ص520-521.

3 الفهرست: ابن النديم ص254.

4 التفسير والمفسرون: محمد الذهبي ج3 ص103.

ص: 43

بدأت الحروب الصليبية الواحدة بعد الأخرى وكان العالم الإسلامي في حالة ضعف وتفكك، فكان لهذه الحروب أثرها حيث نقلت الحضارة الإسلامية إلى بلاد الإفرنج متمثلة بالكتب والمؤلفات في شتى العلوم والمعارف، وحتى تدرك أبعاد هذا الأثر يكفي أن تعلم أن نقل هذه العلوم بث الحياة العلمية وأوقد نارها، فكثر طلابها وكثرت النظريات والاكتشافات العلمية ووقع الصدام بين العلم والكنيسة، ولم يزل إلى أن قامت الثورة على الكنيسة بعد ذلك.

أما أثر هذه الحروب داخل العالم الإسلامي، فقد أشغلته عن العلم وطلبه؛ لأن الحرب في أرضه وفي دياره خلاف الإفرنج الذين كانت ديارهم بعيدة عن أتون الحرب وسعارها.

أضف إلى ذلك إن شئت الحروب التي عاناها العالم الإسلامي بعد ذلك من هجمات المغول وسقوط الدولة العباسية والمذابح التي ارتكبت والمجازر التي انتشرت، زد على هذا القضاء على الفكر بإحراق الكتب وإغراقها في نهر دجلة، حتى صارت جسرا يعبر عليه المعتدون.

هذه ولا شك أمور لها أثرها في إنهاك الشعوب الإسلامية والشعوب كالأفراد يصيبها ما يصيبهم، والفرد إذا أنهكت قواه ركن إلى الاستسلام وطلب الراحة، وقد يستغرق في نوم عميق. وقد كانت هذه حال العالم الإسلامي.

وكما يدخل اللصوص الدار إذا نام صاحبها، دخل المستعمرون العالم الإسلامي وهو يغط في نومته هذه، فسلبوا خيرات البلاد الإسلامية وسخروا أهلها وهم نيام لتحقيق مآربهم وأهدافهم، وبثوا أفكارهم وسمومهم حتى ألفت طائفة النوم وأزعجها الضجيج فوضعت في آذانها العجين وباتت في نوم كالموت، بل هو أشد.

وأبت طائفة النوم ولم يقر لها قرار ولم يطب لها مضجع ولم يغمض النوم لها جفنا، فأخذت على عاتقها عبء هذه الرسالة والقيام بهذه الأمانة، فلم يزالوا في كفاح وجهاد، ولم يزالوا يصرخون في النائمين حتى استيقظ الجميع أو أكثرهم.

وكانت النهضة الإسلامية الحديثة متمثلة في مظاهر شتى في مختلف أرجاء

ص: 44

بلاد المسلمين فبدأت شعائر الإسلام -والحمد لله- ترفع وانتشر الدعاة في أرجاء الأرض وفتحت المدارس والجامعات وانتشر التعليم وعدلت المناهج والمقررات المدرسية، وانجلى الحق وسيزهق الباطل بإذن الله عما قريب.

وصاحب هذا كله عودة إلى مصادر الإسلام، يدرسونها ويتذاكرونها فصدرت المؤلفات العديدة الكثيرة في مختلف جوانب الثقافة الإسلامية، وكان نصيب الدراسات القرآنية منها عامة والتفسير خاصة كبيرا.

وكغيره من العلوم لم يكن التفسير صورة مطابقة كل التطابق لسابق عهده في مناهجه وطرقه في مؤلفيه واتجاهاتهم، وإنما كان هناك وجوه تشابه ووجوه اختلاف.

وليس من المناسب أن أعرض لهذين النوعين قبل أن نعرف مناهج التفسير واتجاهاته في القرن الرابع عشر، وهما ولا شك صلب الدراسة وأسّها، فلنرجئ هذا الحديث إلى الخاتمة إن شاء الله.

وإنما المناسب أن نجمل إجمالا مناهج التفسير واتجاهاته في القرن الرابع عشر:

وهي متعددة، منها الجديد ومنها القديم كما أشرت آنفا، وقد جمعت منها حسب قدرتي المحدودة.

1-

الاتجاه العقدي في التفسير:

وتحته مناهج:

1-

منهج أهل السنة والجماعة.

2-

منهج الشيعة، ويشمل:

أ- المذهب الإمامي الاثنا عشري.

ب- المذهب الزيدي.

ج- مذهب الإمامية السبعية أو "الإسماعيلية".

3-

منهج الأباضية.

4-

منهج الصوفية.

ص: 45

2-

الاتجاه العلمي في التفسير:

وتحته أيضا مناهج:

1-

منهج التفسير بالمأثور.

2-

منهج التفسير الفقهي "تفسير آيات الأحكام".

3-

منهج التفسير العلمي التجريبي.

ولعلي ألمح سؤالا يوحي باعتراض على هذا التقسيم أحب أن أجيب عليه ما دام رطبا، يقول السؤال فيما أحسبه: لم فصلت الاتجاه العقدي عن الاتجاه العلمي ولم تجعل الأول منهجا من مناهج الاتجاه الثاني؟

أقول لهذا المعترض: لقد رأيت في الاتجاه الأول "العقدي" ما يوجب فصله عن الاتجاه الثاني واستقلاله باتجاه خاص، ذلكم أن العقيدة أصل تنبثق منها العلوم الأخرى وليست فرعا صغيرا منه.

وبعبارة أوضح: إن التفسير السني وهو منهج من مناهج الاتجاه العقدي قد تكون وسيلته التفسير بالمأثور وقد يصطبغ بالمنهج العلمي التجريبي وقد يكون فقهيا وهو باقٍ متربع في منهج أهل السنة والجماعة، لكنه لا يكون بحال من الأحوال متأثرا بالمذهب الشيعي أو الأباضي، فبينهما فاصل كبير.

وكذا المذهب الشيعي وهو فرع من فروع الاتجاه الأول "العقدي" قد يكون بالمأثور عن أئمتهم، وقد يكون فقهيا وقد يكون مصطبغا بالصبغة العلمية التجريبية، لكنه لا يكون سنيا ولهذا فإني رأيت فصل الاتجاه العقدي بمناهجه عن الاتجاه العلمي بمناهجه.

3-

الاتجاه العقلي الاجتماعي:

وإنما أفردته كذلك؛ لأن أصحابه لم يتأثروا كل التأثر بالمدرسة العقلية القديمة "المعتزلة" وإلا لاعتبرتها امتدادا لمدرسة الاعتزال وأدخلتها ضمن الاتجاه الأول "العقدي" لكن الفاصل بينهم يبدو كبيراحيث لم يلتزموا أصولهم الخمسة التي لا يصح الاعتزال بدونها كما يعترف بذلك أئمة المعتزلة، وإنما كان نصيبهم التأثر بتحكيم العقل تأثرا بينا، بقي أن أقول: إني لم أدخلهم أيضا في الاتجاه

ص: 46

الأول "العقدي" كفرقة مستقلة؛ لأنهم لم يأتوا بما يجعلهم ذوي عقيدة مستقلة تنفصل انفصالا كاملا عن أهل السنة والجماعة، وإن أتوا بما يميز فكرهم بعض التمييز ويجعل لهم اتجاها خاصا في سبيل الوصول إلى المعرفة.

أضف إلى هذا تلك الصبغة الاجتماعية التي يحلون بها تفسيرهم من العناية بالقضايا الاجتماعية وتطبيق الآيات القرآنية مباشرة على تلك القضايا والمجتمع الذي يعيشون فيه، مما كان له الأثر في إحداث الوعي بين مختلف الطبقات، فكان حقا أن يستقلوا باتجاه خاص من سماته العقلانية والاجتماعية، بغض النظر عن إصابة الحق أو الحيدة عنه.

4-

الاتجاه الأدبي:

وتحته:

1-

المنهج البياني.

2-

منهج التذوق الأدبي للقرآن الكريم.

وهذا الاتجاه كالاتجاه الذي قبله جديد، من سمات هذا القرن الرابع عشر، وسنعرض إن شاء الله لبيان ذلك في موضعه.

5-

الاتجاه المنحرف:

وتحته مناهج:

1-

المنهج الإلحادي.

2-

منهج المقصرين.

3-

اللون اللامنهجي.

وهذا الاتجاه فيه أوجه اتفاق وأوجه تجديد -وإن كان تجديدا إلى الأسوأ- مع المناهج القديمة. ذلكم أن الإلحاد موجود في القديم من التفاسير، لكنه كان يسير على مبادئ واحدة تجمعها عقيدة واحدة وإن كانت ضالة، أما الإلحاد في العصر الحديث فهو أضل؛ ذلكم أنه لا يلتزم أصلا حتى وإن كان باطلا يقوم عليه وإنما نزعات نفسية متأثرة بمطالب أو أهواء ورغبات خاصة تعرض لبعض المفسرين، فتظهر آثارها جلية في تفاسيرهم.

ص: 47

وإنما قسمت الإلحاد إلى هذه الأقسام أو المناهج الثلاثة لأمور سيأتي الحديث عنها في موضعها، إن شاء الله.

وعلى هذا، فالمنهج الأول الإلحادي موجود في القديم والحديث مع الاختلاف في القاعدة التي يقوم عليها.

أما المنهج الثاني واللون الثالث فأحسبها مناهج جديدة من السمات السيئة لهذا العصر.

تلكم -فيما أرى- اتجاهات التفسير ومناهجه في القرن الرابع عشر، وهذا أوان الحديث عنها مفصلة، والله المستعان.

ص: 48

‌الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة في تفسير القرآن الكريم:

‌التعريف بهم:

أما السنة فهي الطريقة، وتطلق شرعا على عدة معانٍ؛ فعند المحدثين هي ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريره وما همَّ بفعله1، وأما في عرف أهل الفقه والأصول فإنهم يطلقونها على المندوب، وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.

وليس هذا ولا ذاك هو المقصود في مباحث العقائد؛ إذ هي عندهم عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكذلك

مسائل القدر وفضائل الصحابة وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة، وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة؛ لأن خطره عظيم والمخالف فيه على شفا هلكة2.

ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه هم أهل السنة -كما يقول ابن الجوزي وغيره- لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه3.

1 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج13 ص245.

2 كشف الكربة: ابن رجب ص11-12.

3 نقد العلم والعلماء، أو تلبيس إبليس: لابن الجوزي ص16.

ص: 35