الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العصور السالفة بحاجة لدراسة اتجاهات التفسير فيه، حتى تظهر لنا جلية سلسلة التفسير بمناهجه واتجاهاته وحتى يكتمل العقد.
وبهذا الطريق -طريق الإشارة- نعرض سريعا لتعداد مناهج واتجاهات التفسير عند السابقين، وأمثلة للمؤلفات في كل منهج.
الاتجاهات العقائدية:
وهو من الاتجاهات التي تأثرت بمرور السنين، حيث اندثرت بعض المذاهب التي كان لها صولة وكان لها جولة فلم نعد نجد لها في العصر الحديث من أثر يذكر.
وضعفت مذاهب أخرى واندثرت أكثر فرقها كفرقة الخوارج مثلا حتى لم يبق إلا فرقة واحدة هي فرقة الأباضية، وهي في صراع مع خصومها الذين يلصقونها بالخوارج، وهي تنكرهم وترفضهم.
ولم يعد للفرق الباطنية من نشاط في التفسير كسابق عهدهم، بل اكتفى أتباعهم وغيرهم بنشر كتبهم القديمة.
ولم تعد فرقة الزيدية ولا الصوفية تولي التفسير عناية كتلك العناية لسلفهم فلم يؤلفوا تلك المؤلفات العديدة والتفاسير المطولة.
وفي جانب آخر نشأت المدرسة العقلية الحديثة متأثرة بعض التأثر بمدرسة الاعتزال، والمدرسة العقلية القديمة. وجدَّ في هذا الاتجاه مناهج إلحادية ليست هي بالباطنية الذين يقولون بتفسير القرآن بالباطن أو الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، وليست بالتي تسلك التفسير الصحيح، بل تعلن التفسير الملحد وتعلن اعتقادها له، وتعلن أنه التفسير الصحيح للقرآن.
المؤلفات في منهج أهل السنة:
ونحمد الله أن تفاسير أهل السنة في الفترة السابقة كثيرة تحفظ للمسلمين النبع الصافي للعقيدة الإسلامية الصحيحة، وقد أجمل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- الحديث عن تفاسير أهل السنة بقوله:"وأما "التفاسير" التي في أيدي
الناس فأصحها "تفسير محمد بن جرير الطبري" فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير، والكلبي، والتفاسير غير المأثورة بالأسانيد كثيرة، كتفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد، ووكيع، وابن أبي قتيبة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه"1.
قلت: ومنها تفسيره هو -رحمه الله تعالى- الذي طبع عدة مرات مستقلا مرة وضمن مجموع التفاوى مرات أخرى.
ومنها تفسير ابن كثير -رحمه الله تعالى- الذي طبع أيضا عدة طبعات واختصره بعض العلماء.
هذه بعض التفاسير لأهل السنة والجماعة.
المؤلفات في منهج المعتزلة:
وقد ألف كثير من مفسريهم تفاسير للقرآن الكريم على أصول مذهبهم يعلنونها صريحة مرة ويخفونها حينا حتى لا تكاد تستخرج إلا بالمناقيش.
ومن أشهر مؤلفاتهم تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم2، المتوفى سنة 240، وتفسير أبي علي الجبائي3 "ت 303"، ومنها التفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني4، وتفسير علي بن عيسى الرماني5، ولأبي القاسم عبد الله بن أحمد البلخي المعروف بالكعبي المعتزلي تفسير في اثني عشر مجلدا6، ولأبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني "ت 322" تفسير "جامع التأويل لمحكم
1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص385.
2 المرجع السابق ج13 ص357، وطبقات المفسرين: شمس الدين محمد الداودي ج1 ص269.
3 المرجع السابق من الفتاوى، وطبقات المفسرين ج2 ص189.
4 المرجع السابق من الفتاوى، وطبقات المفسرين ج1 ص257.
5 المرجع السابق من الفتاوى، وطبقات المفسرين ج1 ص420.
6 كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ج1 ص234، وطبقات المفسرين ج1 ص223.
التنزيل"، ويقع في أربعة عشر مجلدا1، وعبد السلام بن محمد القزويني له تفسير في ثلاثمائة مجلد منها سبعة مجلدات في الفاتحة، كذا قال السيوطي2.
ومن أهم مؤلفاتهم المطبوعة والموجودة في العصر الحاضر تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار، وهو في مجلد واحد فسر فيه الآيات المتشابهة.
ومنها وهو أهمها: تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تأليف محمود بن عمر الزمخشري، ويقع تفسيره في أربعة مجلدات كبار وقد نال هذا التفسير اهتمام كثير من العلماء، فكتبوا التعليقات والحواشي وأخرجوا اعتزالياته وخرجوا أحاديثه.
ومنها غرر الفوائد ودرر القلائد المعروف بـ "أمالي المرتضى" ومؤلفه علي بن الطاهر الملقب بـ "الشريف المرتضى" وهو كتفسير القاضي عبد الجبار لا يشمل تفسير القرآن كله، بل آيات تدور حول العقائد.
المؤلفات في منهج الشيعة:
وهم كما هو معلوم فرق شتى غالى بعضهم حتى خرج عن ربقة الإسلام كالإسماعيلية وغيرها من الباطنية واعتدل بعضهم حتى كاد أن يكون من أهل السنة والجماعة كالزيدية. وعلى ضوء هذا الميزان فإنا نشير لأهم مؤلفاتهم في هذه المواقع الثلاثة الباطنية، والزيدية، والمتوسطين بين هؤلاء وهؤلاء أعني الإمامية الاثني عشرية.
مؤلفات الباطنية:
نحمد الله أن هذه الطائفة لم تجمع تفسيرا كاملا للقرآن الكريم.
وقد علل الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- ذلك بقوله:
1 الفهرست: ابن النديم ص51، وطبقات المفسرين: الداودي ج2 ص106، والتفسير والمفسرون: الذهبي ج 3 ص388.
2 طبقات المفسرين: السيوطي ص67.
"إنهم لم يستطيعوا أن يتمشوا بعقائدهم مع القرآن آية آية، ولو أنهم حاولوا ذلك لاصطدموا بعقبات وصعاب لا يستطيعون تذليلها ولا يقدرون على التخلص منها"1.
وقد بحثت كثيرا فلم أجد تفسيرا مستقلا كما ذكر الذهبي رحمه الله ووجدت ابن النديم في كتابه الفهرست يعد من الإسماعيلية الحسين بن منصور الحلاج، الزنديق المتصوف والذي يتبرأ بعض الصوفية من نسبته إليهم2، وقد عد ابن النديم والداودي في طبقات المفسرين من كتبه كتاب "تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ} "3.
أما ما عدا ذلك، فمدسوس في ثنايا كتبهم.
مؤلفات الإمامية الاثني عشرية:
وهذه الطائفة تعد أكثر فرق الشيعة تأليفا في التفسير، ويشهد لذلك تلك المؤلفات الكثيرة عددا وحجما على أصول مذهبهم الشيعي، ومن هذه المؤلفات:
تفسير الحسن العسكري "ت 254" طبع في مجلد واحد وتفسير العياشي من علماء القرن الثالث الهجري وتفسير إبراهيم بن محمد بن هلال "ت 383"، وتفسير علي بن إبراهيم القمي من القرن الثالث وأوائل الرابع وطبع في مجلد واحد كبير وتفسير أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي المسمى: الرغيب في علوم القرآن وتفسير أبي الفتوح الرازي الحسين توفي في القرن السادس وتفسير الصافي لمحمد بن مرتضى الشهير بملا محسن الكاشي وتفسير الأصفى للمؤلف السابق اختصره من الصافي وطبع في مجلد واحد والبرهان لهاشم البحراني "ت 1107" وطبع في مجلدين كبيرين ومرآة الأنوار ومشكاة الأسرار للمولى عبد اللطيف الكازراني وتفسير "المؤلف" لمحمد مرتضى الحسيني من علماء القرن الثاني عشر
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص229.
2 طبقات المفسرين: الداودي ج1 ص159.
3 المرجع السابق ج1 ص160، والفهرست لابن النديم ص272.
وهو مخطوط في مجلد واحد صغير بدار الكتب المصرية. وتفسير المولى السيد عبد الله بن محمد رضا العلوي "ت 1242" ويقع في مجلد كبير وتفسير التبيان لأبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي "ت 460"، وتفسير مجمع البيان في تفسير القرآن لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من علماء القرن السادس، وهو تفسير كبير يقع في عدة مجلدات وتفسير نور الثقلين لمؤلفه عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي من علماء القرن الحادي عشر، ويقع في خمسة مجلدات كبار1.
هذه أهم مؤلفات الاثني عشرية في التفسير.
مؤلفات الزيدية:
وهم أيضا من المقلين في التأليف في التفسير، وأشهر مؤلفاتهم فيه التفسير المشهور فتح القدير للعلامة محمد بن علي الشوكاني وهو في خمسة مجلدات كبار وجمع فيه -رحمه الله تعالى- بين الرواية والدراية، وهناك تفسير آخر هو شرح لآيات الأحكام واسمه:"الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة" لمؤلفه شمس الدين يوسف بن أحمد بن محمد الثلاثي، في ثلاثة أجزاء كبار.
وقد نقب الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- عن مؤلفاتهم فلم يعثر على غير ما ذكرنا، لكنه وجد ذكرا لمؤلفات أخرى لهم في التفسير لكنها غير موجودة الآن، وذكر منها:
كتاب التفسير الكبير، وكتاب نوادر التفسير وكلاهما لمقاتل بن سليمان، والتفسير الكبير والتفسير الصغير وهما للمرادي، وتفسير غريب القرآن للإمام زيد بن علي جمعة بن يزيد وتفسير البستي وتفسير التهذيب لابن كرامة المعتزلي ثم الزيدي وتفسير عطية النجراني "ت 665" والتيسير في التفسير للحسن النحوي "ت 791" وتفسير ابن الأقضم وشرح الخمسمائة آية "تفسير آيات الأحكام" لحسين بن أحمد النجري من علماء القرن الثامن ومنتهى المرام شرح
1 انظر: التفسير والمفسرون، الذهبي ج2 ص42-43.
آيات الأحكام لمحمد بن الحسين بن القاسم من القرن الحادي عشر وتفسير القاضي عبد الرحمن بن مجاهد من علماء القرن الثالث عشر1.
المؤلفات على منهج الخوارج:
والخوارج -أيضا- من المقلين في التفسير في القديم والحديث، ولعل ما ذكره ابن النديم في الفهرست عن كتبهم بأنها "مستورة محفوظة"2 يكشف قلة مؤلفاتهم وقلة انتشارها ولا أدري إن كان من أثره ما عانيته في الحصول على بعض مؤلفاتهم ومطبوعاتهم في العصر الحديث.
وقد سأل الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- أحد علمائهم المعاصرين وهو الشيخ إبراهيم أطفيش عن أهم مؤلفاتهم في التفسير فذكر له ستة مؤلفات، ثلاثة منها قديمة وهي:
1-
تفسير عبد الرحمن بن رستم الفارسي من أهل القرن الثالث الهجري.
2-
تفسير هود بن محكم الهواري من أهل القرن الثالث الهجري، مخطوط في أربعة مجلدات.
3-
تفسير أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الورجلاني، من أهل القرن السادس الهجري3.
وقد بحثت كثيرا عن ذكر لهذه المؤلفات في كتب التفسير وطبقات المفسرين فلم أعثر لها على أثر إلا أني وجدت الزركلي ذكر أن لعبد الرحمن بن رستم تفسيرا ولم يذكر ليوسف بن إبراهيم الورجلاني شيئا في التفسير وكذا عمر كحالة في معجمه للمؤلفين، أما هود بن محكم فلم يترجما له إلا أن الأستاذ فؤاد سزكين ذكر له ترجمة وأشار إلى أن له تفسيرا للقرآن ووصل إلينا وتوجد منه نسخة مخطوطة في الجزائر4.
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص281-284.
2 الفهرست: ابن النديم ص258.
3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص315.
4 تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين، المجلد الأول ج1 ص96.
وعلى هذا فلا يوجد شيء من مؤلفات الخوارج في التفسير إلا تفسير هود بن محكم الذي يقع في أربعة مجلدات وهو متداول بين الأباضية في بلاد المغرب، ويوجد عند الأستاذ إبراهيم أطفيش المذكور آنفا جزآن مخطوطان، هما الأول والرابع منه1.
المؤلفات على منهج الصوفية:
ومن المؤلفات الصوفية في التفسير، تفسير بشير لنجم داية2 ومنها تفسير القرآن العظيم لسهل بن عبد الله التستري وهو مطبوع في مجلد صغير ومنها "حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي وهو في مجلد واحد كبير مخطوط، ومنها عرائس البيان في حقائق القرآن لأبي محمد الشيرازي وهو مطبوع في جزأين، ومنها التأويلات النجمية لنجم الدين داية وأتمه علاء الدولة السمناني وهو مخطوط في خمسة مجلدات كبار. وأهم هذه المؤلفات وأخطرها التفسير المسمى "تفسير القرآن الكريم" والمنسوب لأبي بكر محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن عربي وإنما قلت: المنسوب؛ لأن هناك من يشكك في نسبته لابن عربي، وليس المقام هنا مقام تحقيق ذلك.
هذه أهم المؤلفات في التفسير لأهم الفرق والمذاهب قديما، وكلها تحت الاتجاه العقدي في التفسير.
الاتجاه العلمي في التفسير:
وهو اتجاه يتسع فيشمل -فيما نرى- مناهج ثلاثة:
1-
منهج التفسير بالمأثور.
2-
منهج التفسير الفقهي.
3-
منهج التفسير العلمي التجريبي.
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص316.
2 مفتاح السعادة ومصباح السيادة: طاش كبرى زاده ج2 ص123.
وسنذكر هنا بعض المؤلفات لكل من:
منهج التفسير بالمأثور:
ولا شك أن أهم المؤلفات في هذا اللون في التفسير هو جامع البيان عن تأويل آي القرآن والمعروف بتفسير الطبري وقد طبع عدة مرات آخرها بتحقيق وتعليق الشيخ محمود محمد شاكر وخرَّج أحاديثه الشيخ أحمد محمد شاكر -رحمه الله تعالى- وصدر منه ستة عشر مجلدا حتى الآن وتوقف عند الآية 28 من سورة إبراهيم، أما الطبعة التي لم تحقق فكاملة.
ومن المؤلفات في ذلك: الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي، وهو مطبوع في ستة مجلدات كبيرة.
ومنها تفسير القرآن العظيم لابن كثير الدمشقي في أربعة مجلدات، وطبع عدة مرات وحظي هذا التفسير باهتمام العلماء به فخرجوا أحاديثه وعلقوا عليه، واختصروه.
منهج التفسير الفقهي:
وهي مؤلفات كثيرة جدا.
ففي الفقه الحنفي ألف أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص تفسيره: أحكام القرآن، وطبع عدة مرات في ثلاثة مجلدات.
وفي الفقه المالكي ألف أبو بكر بن العربي كتابه: أحكام القرآن، المطبوع في أربعة مجلدات، وألف أبو عبد الله القرطبي تفسيره: الجامع لأحكام القرآن المطبوع في عشرة مجلدات كبار.
وفي الفقه الشافعي ألف أبو الحسن الطبري المعروف بـ "إلكيا الهراسي" كتابه: أحكام القرآن، وألف السيوطي كتابه: الإكليل في استنباط التنزيل، وطبع في مجلد كبير.
وفي الفقه الحنبلي تفسير الخرقي لأبي القاسم عمر بن أبي على الحسين
الخرقي1، وأحكام القرآن لأبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء2.
وفي الفقه الزيدي ألف مقاتل بن سليمان كتاب "تفسير الخمسمائة آية"3 وكذا ألف حسين بن أحمد النجري "شرح الخمسمائة آية" وألف محمد بن الحسين بن القاسم من علماء القرن الحادي عشر كتاب "منتهى المرام شرح آيات الأحكام"4.
وفي الفقه الجعفري ألف مقدار السيوري "كنز العرفان في فقه القرآن"4.
منهج التفسير العلمي التجريبي:
وأشهر المؤلفات فيه التي أصبحت عَلَما في هذا تفسير "مفاتيح الغيب في تفسير القرآن" أو التفسير الكبير لأبي عبد الله محمد بن عمر المعروف بالفخر الرازي وقد أطنب فيه مؤلفه في أبحاث عديدة واستطرد إلى العلوم الرياضية والطبيعية والعلوم الفلكية وغير ذلك، حتى قيل عنه في كل شيء إلا التفسير.
وبعد، فتلكم هي أبرز الاتجاهات والمناهج في تفسير القرآن الكريم عند العلماء السابقين لم نقصد استيفاء لها ولا استقصاء وإنما رسم هيكل عام من زواياه ننظر إلى اتجاهات التفسير في العصر الحديث ومناهجه، فنعرف ما جد منها وما اندثر وما بقي على المناهج السابقة.
وقد جدت في العالم الإسلامي بعد ذلك أحداث، ووقعت الوقائع فأصبح المسلمون بعد أن كانوا يجوبون الآفاق بجيوشهم لنشر الإسلام يغزون في عقر دارهم، وبعد أن كانت الأرض الإسلامية في حالة تمدد أضحت في حالة تقلص وانكماش.
1 مفتاح السعادة: طاش كبرى زاده ج2 ص106.
2 معجم المفسرين: عادل نويهض ج2 ص520-521.
3 الفهرست: ابن النديم ص254.
4 التفسير والمفسرون: محمد الذهبي ج3 ص103.
بدأت الحروب الصليبية الواحدة بعد الأخرى وكان العالم الإسلامي في حالة ضعف وتفكك، فكان لهذه الحروب أثرها حيث نقلت الحضارة الإسلامية إلى بلاد الإفرنج متمثلة بالكتب والمؤلفات في شتى العلوم والمعارف، وحتى تدرك أبعاد هذا الأثر يكفي أن تعلم أن نقل هذه العلوم بث الحياة العلمية وأوقد نارها، فكثر طلابها وكثرت النظريات والاكتشافات العلمية ووقع الصدام بين العلم والكنيسة، ولم يزل إلى أن قامت الثورة على الكنيسة بعد ذلك.
أما أثر هذه الحروب داخل العالم الإسلامي، فقد أشغلته عن العلم وطلبه؛ لأن الحرب في أرضه وفي دياره خلاف الإفرنج الذين كانت ديارهم بعيدة عن أتون الحرب وسعارها.
أضف إلى ذلك إن شئت الحروب التي عاناها العالم الإسلامي بعد ذلك من هجمات المغول وسقوط الدولة العباسية والمذابح التي ارتكبت والمجازر التي انتشرت، زد على هذا القضاء على الفكر بإحراق الكتب وإغراقها في نهر دجلة، حتى صارت جسرا يعبر عليه المعتدون.
هذه ولا شك أمور لها أثرها في إنهاك الشعوب الإسلامية والشعوب كالأفراد يصيبها ما يصيبهم، والفرد إذا أنهكت قواه ركن إلى الاستسلام وطلب الراحة، وقد يستغرق في نوم عميق. وقد كانت هذه حال العالم الإسلامي.
وكما يدخل اللصوص الدار إذا نام صاحبها، دخل المستعمرون العالم الإسلامي وهو يغط في نومته هذه، فسلبوا خيرات البلاد الإسلامية وسخروا أهلها وهم نيام لتحقيق مآربهم وأهدافهم، وبثوا أفكارهم وسمومهم حتى ألفت طائفة النوم وأزعجها الضجيج فوضعت في آذانها العجين وباتت في نوم كالموت، بل هو أشد.
وأبت طائفة النوم ولم يقر لها قرار ولم يطب لها مضجع ولم يغمض النوم لها جفنا، فأخذت على عاتقها عبء هذه الرسالة والقيام بهذه الأمانة، فلم يزالوا في كفاح وجهاد، ولم يزالوا يصرخون في النائمين حتى استيقظ الجميع أو أكثرهم.
وكانت النهضة الإسلامية الحديثة متمثلة في مظاهر شتى في مختلف أرجاء
بلاد المسلمين فبدأت شعائر الإسلام -والحمد لله- ترفع وانتشر الدعاة في أرجاء الأرض وفتحت المدارس والجامعات وانتشر التعليم وعدلت المناهج والمقررات المدرسية، وانجلى الحق وسيزهق الباطل بإذن الله عما قريب.
وصاحب هذا كله عودة إلى مصادر الإسلام، يدرسونها ويتذاكرونها فصدرت المؤلفات العديدة الكثيرة في مختلف جوانب الثقافة الإسلامية، وكان نصيب الدراسات القرآنية منها عامة والتفسير خاصة كبيرا.
وكغيره من العلوم لم يكن التفسير صورة مطابقة كل التطابق لسابق عهده في مناهجه وطرقه في مؤلفيه واتجاهاتهم، وإنما كان هناك وجوه تشابه ووجوه اختلاف.
وليس من المناسب أن أعرض لهذين النوعين قبل أن نعرف مناهج التفسير واتجاهاته في القرن الرابع عشر، وهما ولا شك صلب الدراسة وأسّها، فلنرجئ هذا الحديث إلى الخاتمة إن شاء الله.
وإنما المناسب أن نجمل إجمالا مناهج التفسير واتجاهاته في القرن الرابع عشر:
وهي متعددة، منها الجديد ومنها القديم كما أشرت آنفا، وقد جمعت منها حسب قدرتي المحدودة.
1-
الاتجاه العقدي في التفسير:
وتحته مناهج:
1-
منهج أهل السنة والجماعة.
2-
منهج الشيعة، ويشمل:
أ- المذهب الإمامي الاثنا عشري.
ب- المذهب الزيدي.
ج- مذهب الإمامية السبعية أو "الإسماعيلية".
3-
منهج الأباضية.
4-
منهج الصوفية.
2-
الاتجاه العلمي في التفسير:
وتحته أيضا مناهج:
1-
منهج التفسير بالمأثور.
2-
منهج التفسير الفقهي "تفسير آيات الأحكام".
3-
منهج التفسير العلمي التجريبي.
ولعلي ألمح سؤالا يوحي باعتراض على هذا التقسيم أحب أن أجيب عليه ما دام رطبا، يقول السؤال فيما أحسبه: لم فصلت الاتجاه العقدي عن الاتجاه العلمي ولم تجعل الأول منهجا من مناهج الاتجاه الثاني؟
أقول لهذا المعترض: لقد رأيت في الاتجاه الأول "العقدي" ما يوجب فصله عن الاتجاه الثاني واستقلاله باتجاه خاص، ذلكم أن العقيدة أصل تنبثق منها العلوم الأخرى وليست فرعا صغيرا منه.
وبعبارة أوضح: إن التفسير السني وهو منهج من مناهج الاتجاه العقدي قد تكون وسيلته التفسير بالمأثور وقد يصطبغ بالمنهج العلمي التجريبي وقد يكون فقهيا وهو باقٍ متربع في منهج أهل السنة والجماعة، لكنه لا يكون بحال من الأحوال متأثرا بالمذهب الشيعي أو الأباضي، فبينهما فاصل كبير.
وكذا المذهب الشيعي وهو فرع من فروع الاتجاه الأول "العقدي" قد يكون بالمأثور عن أئمتهم، وقد يكون فقهيا وقد يكون مصطبغا بالصبغة العلمية التجريبية، لكنه لا يكون سنيا ولهذا فإني رأيت فصل الاتجاه العقدي بمناهجه عن الاتجاه العلمي بمناهجه.
3-
الاتجاه العقلي الاجتماعي:
وإنما أفردته كذلك؛ لأن أصحابه لم يتأثروا كل التأثر بالمدرسة العقلية القديمة "المعتزلة" وإلا لاعتبرتها امتدادا لمدرسة الاعتزال وأدخلتها ضمن الاتجاه الأول "العقدي" لكن الفاصل بينهم يبدو كبيراحيث لم يلتزموا أصولهم الخمسة التي لا يصح الاعتزال بدونها كما يعترف بذلك أئمة المعتزلة، وإنما كان نصيبهم التأثر بتحكيم العقل تأثرا بينا، بقي أن أقول: إني لم أدخلهم أيضا في الاتجاه
الأول "العقدي" كفرقة مستقلة؛ لأنهم لم يأتوا بما يجعلهم ذوي عقيدة مستقلة تنفصل انفصالا كاملا عن أهل السنة والجماعة، وإن أتوا بما يميز فكرهم بعض التمييز ويجعل لهم اتجاها خاصا في سبيل الوصول إلى المعرفة.
أضف إلى هذا تلك الصبغة الاجتماعية التي يحلون بها تفسيرهم من العناية بالقضايا الاجتماعية وتطبيق الآيات القرآنية مباشرة على تلك القضايا والمجتمع الذي يعيشون فيه، مما كان له الأثر في إحداث الوعي بين مختلف الطبقات، فكان حقا أن يستقلوا باتجاه خاص من سماته العقلانية والاجتماعية، بغض النظر عن إصابة الحق أو الحيدة عنه.
4-
الاتجاه الأدبي:
وتحته:
1-
المنهج البياني.
2-
منهج التذوق الأدبي للقرآن الكريم.
وهذا الاتجاه كالاتجاه الذي قبله جديد، من سمات هذا القرن الرابع عشر، وسنعرض إن شاء الله لبيان ذلك في موضعه.
5-
الاتجاه المنحرف:
وتحته مناهج:
1-
المنهج الإلحادي.
2-
منهج المقصرين.
3-
اللون اللامنهجي.
وهذا الاتجاه فيه أوجه اتفاق وأوجه تجديد -وإن كان تجديدا إلى الأسوأ- مع المناهج القديمة. ذلكم أن الإلحاد موجود في القديم من التفاسير، لكنه كان يسير على مبادئ واحدة تجمعها عقيدة واحدة وإن كانت ضالة، أما الإلحاد في العصر الحديث فهو أضل؛ ذلكم أنه لا يلتزم أصلا حتى وإن كان باطلا يقوم عليه وإنما نزعات نفسية متأثرة بمطالب أو أهواء ورغبات خاصة تعرض لبعض المفسرين، فتظهر آثارها جلية في تفاسيرهم.
وإنما قسمت الإلحاد إلى هذه الأقسام أو المناهج الثلاثة لأمور سيأتي الحديث عنها في موضعها، إن شاء الله.
وعلى هذا، فالمنهج الأول الإلحادي موجود في القديم والحديث مع الاختلاف في القاعدة التي يقوم عليها.
أما المنهج الثاني واللون الثالث فأحسبها مناهج جديدة من السمات السيئة لهذا العصر.
تلكم -فيما أرى- اتجاهات التفسير ومناهجه في القرن الرابع عشر، وهذا أوان الحديث عنها مفصلة، والله المستعان.
الباب الأول: الاتجاه العقائدي في التفسير
تمهيد:
نشأة الفرق الإسلامية:
جاء الرسول صلى الله عليه وسلم والناس في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، فنشر عليه الصلاة والسلام العقيدة الصحيحة ونفى زغل الجاهلية، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والعقيدة السليمة الطاهرة النقية هي السائدة بين المسلمين.
إلى أن دخل في الإسلام من ليس الحق هدفهم ولا الوصول إليه مرادهم، فعملوا على تزييف الحقائق ونشر العقائد الضالة والمنحرفة، ونشأت المذاهب الإسلامية المتعددة، وافترقت أمة محمد إلى فرق عديدة كلها في النار إلا من هم على ما عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ودافع علماء كل فرقة عن مذهبهم وعقائدهم بكل وسيلة.
وحمل التعصب المذهبي بعض أرباب هذه المذاهب والفرق إلى تأييدها بتفسير الآيات القرآنية الكريمة بما يتناسب مع أصول مذاهبهم وقواعدهم ولو بطريق إخضاع النصوص القرآنية لذلك، وصرفها عن معارضته وإنكار جميع التفاسير الأخرى إذا لم توافق آراءهم.
وتعددت مذاهب التفسير بتعدد المذاهب في العقيدة وكان لها صولة وكان لها جولة ثم خبا سعيرها وأصبح لا يرى في رمادها إلا وميض نار ونام العالم الإسلامي نومته.
إلى أن جاء بعض المجددين ونبهوا المسلمين إلى دينهم وأيقظوهم من نومهم، وأفاق المسلمون وعاد الكثير منهم إلى الإسلام عودا حميدا، واشتعل وميض النار من خلال الرماد؛ فنشطت أيضا بعض الفرق الإسلامية وأصبح كل منهم يدعو إلى مذهبه وإلى فرقته.
وإذا ما نظرنا إلى الفرق القائمة الآن وأردنا أن ندرس تفاسير المعاصرين منهم في القرن الرابع عشر، فإنا نجد أن الفرق القائمة الآن هي:
1-
أهل السنة والجماعة.
2-
الشيعة.
3-
الأباضية.
4-
الصوفية.
ولو كان بحثنا هذا بحث عقيدة، لكان لزاما علينا أن ندرس بتفصيل نشأة هذه الفرق، أما وقد كان مرادنا عرض مناهج هذه الفرق في التفسير فقد اكتفينا بالإشارة السريعة لنشأة كل فرقة، والاتجاه بعد ذلك لبيان منهجهم في التفسير.
وإنما قدمنا منهج أهل السنة والجماعة على المناهج الأخرى؛ ليكون ميزانا بيد القارئ يزن به ما يرد من عقائد للفرق الأخرى، وليكون أيضا مرجعا يرجع إليه إذا ما التبس عليه رأي أو أراد الحقيقة في حكم أو قضية.
ومن ثم فلا تثريب علي إذا ما أوجزت في شرح مذهب أهل السنة في أمر متفق عليه، أو إذا ما أطنبت في أمر خالفتهم فيه فرقة من الفرق.
ولا تثريب علي أيضا إذا لم أرد على كثير من الآراء لبعض الفرق خشية تكرار ما سبق.
ولنبدأ بعد هذا بمرادنا.
الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة في تفسير القرآن الكريم:
التعريف بهم:
أما السنة فهي الطريقة، وتطلق شرعا على عدة معانٍ؛ فعند المحدثين هي ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريره وما همَّ بفعله1، وأما في عرف أهل الفقه والأصول فإنهم يطلقونها على المندوب، وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
وليس هذا ولا ذاك هو المقصود في مباحث العقائد؛ إذ هي عندهم عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكذلك
مسائل القدر وفضائل الصحابة وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة، وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة؛ لأن خطره عظيم والمخالف فيه على شفا هلكة2.
ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه هم أهل السنة -كما يقول ابن الجوزي وغيره- لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه3.
1 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج13 ص245.
2 كشف الكربة: ابن رجب ص11-12.
3 نقد العلم والعلماء، أو تلبيس إبليس: لابن الجوزي ص16.