المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بيان بعض عقائدهم: - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ١

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد:

- ‌الباب الأول: الاتجاه العقائدي في التفسير

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة في تفسير القرآن الكريم:

- ‌التعريف بهم:

- ‌نشأتهم:

- ‌عقيدة أهل السنة والجماعة:

- ‌بيان بعض عقائدهم:

- ‌أسس تفسير أهل السنة:

- ‌نماذج من تفسير أهل السنة والجماعة في العصر الحديث:

- ‌نماذج من مفسرى أهل السنة

- ‌مدخل

- ‌أولا: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:

- ‌ثانيا: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:

- ‌ثالثا: محاسن التأويل

- ‌رأيي في هذا المنهج:

- ‌الفصل الثاني: منهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم

- ‌تعريف الشيعة:

- ‌بداية ظهور التشيع:

- ‌فرق الشيعة

- ‌مدخل

- ‌الإمامية الإثنى عشرية

- ‌الإسماعيلة

- ‌الجمهوريون:

- ‌الزيدية:

- ‌الفصل الثالث: منهج الأباضية في تفسير القرآن الكريم

- ‌التعريف بالأباضية:

- ‌عقائدهم:

- ‌التفسير الأباضي:

- ‌تفسيري: هميان الزاد إلى دار المعاد، وتيسير التفسير

- ‌التعريف بالمؤلف:

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌رأيي في هذا التفسير:

- ‌الفصل الرابع: منهج الصوفية في تفسير القرآن الكريم

- ‌التعريف بالصوفية:

- ‌المراد بالتصوف:

- ‌نشأة التصوف وتطوره:

- ‌عقائد التصوف:

- ‌من شروط التصوف:

- ‌طبيعة التصوف:

- ‌أقسام التصوف:

- ‌موقف العلماء من هذا اللون في التفسير:

- ‌شروط قبول التفسير الإشاري:

- ‌أهم المؤلفات في التفسير الإشاري

- ‌مدخل

- ‌أولا: بيان السعادة في مقامات العبادة

- ‌ثانيا: ضياء الأكوان في تفسير القرآن

- ‌رأيي في التفسير الصوفي الحديث:

الفصل: ‌بيان بعض عقائدهم:

‌بيان بعض عقائدهم:

تنزيه الله عن البداء:

البداء في لغة العرب على معنيين:

أولهما: الظهور بعد الخفاء، وورد هذا المعنى في القرآن الكريم في عدة

مواضع، منها قوله سبحانه:{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} 1، وقوله سبحانه:{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} 2، وقوله عز وجل:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 3.

ثانيهما: نشأة الرأي الجديد، ومنه في القرآن الكريم قوله تعالى:{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} 4.

والبداء بهذين المعنيين لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه وتعالى؛ لما يلزمهما من سبق الجهل وحدوث العلم بعده وكلاهما تنزه الله عنه؛ لأنهما صفتا نقص والأدلة كثيرة من الكتاب والسنة كقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 5، وقوله سبحانه:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 6، وغير ذلك من الآيات، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء"7.

وكما أن أهل السنة والجماعة وسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم8، فإنهم هنا أيضا في هذا المعتقد يتربعون على عرش الوسطية مرتفعين

1 سورة الزمر: الآية 47.

2 سورة الجاثية: الآية 33.

3 سورة البقرة: الآية 284.

4 سورة يوسف: الآية 35.

5 سورة الحديد: الآية 22.

6 سورة الانعام: الآية 59.

7 قال الألباني في هذا الحديث: "صحيح وأخرجه أيضا أحمد 2/ 169؛ والترمذي وصححه دون قوله: "وكان عرشه" وهو رواية لمسلم، ورواه البيهقي في الأسماء 269، شرح الطحاوية ص140.

8 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص141.

ص: 63

عن اليهود والرافضة، حيث أنكر اليهود النسخ؛ لأنه يستلزم البداء على الله بزعمهم، وقالت الرافضة بالنسخ وأثبتوا لازمه بزعمهم وهو البداء، وتوسط أهل السنة والجماعة فأخذوا بأدلة الكتاب والسنة وقالوا بالنسخ، وأنكروا البداء وقالوا: إنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 1 وإن كان يعلم أنهم لا يردون ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا كما قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 2، 3، وقالوا: على العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سمواته وأرضه4، وسيأتي تفسير الآيات المتعلقة بهذا البحث في موضعه عن شاء الله.

إثبات الرؤية:

ويعتقد أهل السنة أن أهل الجنة يرون ربهم يوم القيامة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، ِإلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 5، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن سول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه -وهي عندهم أعني الرؤية- من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون وتنافس المتنافسون6.

واستدلوا لإثبات الرؤية بعدة أدلة من الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله

1 الأنعام: الآية 28.

2 الأنفال: الآية 23.

3 شرح الطحاوية: علي بن أبي العز الحنفي ص152 "الشرح".

4 شرح الطحاوية: على بن أبي العز الحنفي ص302 "المتن".

5 سورة القيامة: الآيتان 22-23.

6 شرح الطحاوية: ص203-204.

ص: 64

تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، ِإلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، وقوله سبحانه على لسان موسى، عليه السلام:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 2 ولا يجوز أن يسأل موسى عليه السلام ربه ما يستحيل عليه، فإذا لم يجز ذلك على موسى عليه السلام علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلا وأن الرؤية جائزة على ربنا تعالى3، واستدلوا بقوله سبحانه جوابا لموسى، عليه السلام:{فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} 2، قالوا: لما كان الله تعالى قادرا على أن يجعل الجبل مستقرا، كان قادرا على الأمر الذي لو فعله لرآه موسى عليه السلام فدل ذلك على أن الله تعالى قادر أن يري عباده نفسه، وأنه جائز رؤيته4.

واستدلوا بقوله سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 5 ققالوا: إن الزيادة هي النظر إلى الله عز وجل ولم ينعم الله تعالى على أهل الجنة بأفضل من نظرهم إليه ورؤيتهم له، وقال تعالى:{ولدينا مَزِيدٌ} 6، قيل: النظر إلى الله عز وجل وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 7، وإذا لقيه المؤمنون رأوه، وقال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 8، فحجبهم عن رؤيته، ولا يحجب عنها المؤمنين9.

ومن السنة:

وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على الرؤية، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن10، ومنها حديث أبي هريرة، رضي

1 سورة القيامة: الآيتان 22-23.

2 سورة الأعراف: من الآية 143.

3 انظر الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري ص41.

4 المرجع السابق ص43.

5 سورة يونس: من الآية 26.

6 سورة ق: من الآية 35.

7 سورة الأحزاب: من الآية 44.

8 سورة المطففين: الآية 15.

9 الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري ص45-46.

10 شرح الطحاوية ص209.

ص: 65

الله عنه: أن ناسا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال:"هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا، قال:"فإنكم ترونه كذلك" الحديث1.

وحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: "إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته"2.

وما رواه صهيب رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3، قال:"إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة"4.

وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيا5.

الأسماء والصفات:

أما على سبيل الإجمال فقد سلف بيان عقيدة أهل السنة في ذلك، وأما على التفصيل فسأعرض لبعضها بشيء من ذلك وهو ما كان موضع خلاف بين أهل السنة والفرق التالية، في هذه الدراسة.

1 البخاري: ك الأذان ج1 ص195؛ ومسلم: ك الإيمان ج1 ص163؛ ومسند الإمام أحمد ج3 ص16 وغيرهم.

2 صحيح البخاري: المواقيت ج1 ص139؛ صحيح مسلم: المساجد ج1 ص439.

3 سورة يونس: الآية 26.

4 صحيح مسلم: كتاب الإيمان ج1 ص163؛ مسند أحمد ج4 ص333؛ وسنن الترمذي: كتاب التفسير ج5 ص286؛ وسنن ابن ماجه، المقدمة ج1 ص81.

5 شرح الطحاوية ص210.

ص: 66

الجهة:

قلنا: إن أهل السنة يصفون الله سبحانه بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه1.

وأحسن من اطلعت على قوله في هذا ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث وضح ذلك توضيحا شافيا في مثل هذا اللفظ ونحوه من الألفاظ حيث قال، رحمه الله تعالى:

وبالجملة، فمعلوم أن الألفاظ "نوعان":

لفظ ورد في الكتاب والسنة أو الإجماع، فهذا اللفظ يجب القول بموجبه، سواء فهمنا معناه أو لم نفهمه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقا، والأمة لا تجتمع على ضلالة.

"والثاني": لفظ لم يرد به دليل شرعي كهذه الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام والفلسفة، هذا يقول: هو متحيز وهذا يقول: ليس بمتحيز، وهذا يقول: هو في جهة، وهذا يقول: ليس هو في جهة، وهذا يقول: هو جسم أو جوهر وهذا يقول: ليس بجسم ولا جوهر، فهذه الألفاظ ليس على أحد أن يقول فيها بنفي ولا إثبات حتى يستفسر المتكلم بذلك، فإن بين أنه أثبت حقا أثبته وإن أثبت باطلا رده وإن نفى باطلا نفاه وإن نفي حقا لم ينفه، وكثير من هؤلاء يجمعون من هذه الأسماء بين الحق والباطل في النفي والإثبات2.

ثم طبق -رحمه الله تعالى- هذا القول على من قال بالجهة، فقال عنه: "فمن قال: إنه في جهة وأراد بذلك أنه داخل محصور في شيء من المخلوقات -كائنا من كان- لم يسلم إليه هذا الإثبات، وهذا قول الحلولية، وإن قال: إنه مباين للمخلوقات فوقها لم يمانع في هذا الإثبات، بل هذا ضد قول الحلولية،

1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص41.

2 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج5 ص298-299.

ص: 67

ومن قال: ليس في جهة، فإن أراد أنه ليس مباينا للعالم ولا فوقه، لم يسلم له هذا النفي"1.

وبهذا يتضح مذهب أهل السنة في نحو هذه الألفاظ، أعني: الجهة والجسم والجوهر والحيز ونحوها.

الاستواء:

ورد لفظ الاستواء في القرآن الكريم سبع مرات، منها قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2، ومنها قوله سبحانه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3.

وأهل السنة والجماعة يؤمنون باستواء الله على عرشه بالكيفية التي يعلمها سبحانه، ويقولون كما قال ربيعة بن عبد الرحمن: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين وعلينا التصديق، وكما قال تلميذه مالك بن أنس، حين جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء4! ثم قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا، ثم أمر به أن يخرج.

قال ابن تيمية: "فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب موافق لقول الباقين، أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة"5.

1 مجموع الفتاوى ج5 ص299.

2 سورة الأعراف: من الآية 54؛ وسورة يونس: من الآية 3.

3 سورة طه: الآية 5.

4 قال في القاموس: الرحضاء: عرق يغسل الجلد، كثره ج2 ص331.

5 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج5 ص40-41.

ص: 68

يمين الرحمن:

والحديث عن يمين الرحمن حديث عن يدي الله سبحانه وتعالى، وعقيدة أهل السنة في ذلك أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق آدم بيده وأنه يقبض الأرض ويطوي السموات بيده اليمنى وأن يديه مبسوطتان، ومعنى بسطهما بذل الجود وسعة العطاء1، وقد أثبت أهل السنة اليدين لله تعالى؛ لنصوص القرآن الكريم الكثيرة، ومنها قوله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 2، وقال سبحانه:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3، وقال عز وجل:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 4، وقال سبحانه:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} 5.

وقد تواتر في السنة مجيء اليد في حديث النبي، صلى الله عليه وسلم1.

هذه بعض الأبحاث الداخلة تحت عقيدة الإيمان بالله عند أهل السنة، وإنما خصصناها بالذكر لورود بعض التفاسير المخالفة لها عند بعض أرباب الفرق فيما سيأتي من أبحاث. أما العقيدة في القرآن الكريم فهي:

القرآن كلام الله منزل غير مخلوق:

يعتقد أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيا، وصدَّقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد

1 مجموع الفتاوى، لابن تيمية ج6 ص363.

2 سورة المائدة: من الآية 64.

3 سورة ص: من الآية 75.

4 سورة الزمر: من الآية 67.

5 سورة يس: من الآية 71.

ص: 69

كفر، وقد ذمه الله وأوعده بسقر حيث قال تعالى:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 1، فلما أوعد الله بسقر لمن قال:{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} 1 علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر2.

تلكم عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم، قال عنها شارح الطحاوية:"هذه قاعدة شريفة وأصل كبير من أصول الدين ضل فيه طوائف كثيرة من الناس، وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة"2.

سلامة القرآن من التحريف:

قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 3، وقال سبحانه:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 4.

لذا ولغيره من النصوص أجمع أهل السنة على سلامة القرآن من التحريف أو التغيير أو التبديل أو الزيادة أو النقص، ومن اعتقد أن القرآن الكريم غير محفوظ فقد خرج عن ربقة الإسلام.

ونصوص علماء أهل السنة في ذلك كثيرة، ومنها قول القاضي عياض رحمه الله تعالى: قد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض، المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين مما جمعه الدفتان من أول {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى آخر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، أنه كلام الله ووحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما فيه حق، وأن من نقص منه حرفا قاصدا لذلك

1 سورة المدثر: الآيتان 25-26.

2 شرح الطحاوية ص179.

3 سورة الحجر: الآية 9.

4 سورة فصلت: من الآيتين 41-42.

ص: 70

أو بدله بحرف آخر مكانه أو زاد فيه حرفا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدا لكل هذا، أنه كافر؛ ولهذا رأى مالك قتل من سب عائشة رضي الله عنها بالفرية لأنه خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل أي: لأنه كذب بما فيه، وقال ابن القاسم: من قال: إن الله تعالى لم يكلم موسى تكليما يقتل، وقاله عبد الرحمن بن المهدي، وقال محمد بن سحنون فيمن قال: المعوذتان ليستا من كتاب الله، يضرب عنقه إلا أن يتوب، وكذلك كل من كذب بحرف منه. وقال أبو عثمان الحداد: جميع من ينتحل التوحيد متفقون أن الجحد لحرف من التنزيل كفر وكان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل له: ليس كما قرأت ويقول: أما أنا فأقرأ كذا فبلغ ذلك إبراهيم فقال: أراه سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله، وقال عبد الله بن مسعود: من كفر بآية من القرآن، فقد كفر به كله

1.

وقال ابن قدامة: "ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفا متفقا عليه، أنه كافر"2.

وكذا قال البغدادي: "وأكفروا -أي: أهل السنة- من زعم من الرافضة أن لا حجة اليوم في القرآن والسنة لدعواه أن الصحابة غيروا بعض القرآن وحرفوا بعضه"3.

وقال ابن حزم: "القول بأن بين اللوحين تبديلا كفر صريح، وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم"4.

وها أنت ترى حكم علماء أهل السنة والجماعة فيمن أنكر حرفا واحدا من القرآن الكريم، فكيف بمن ادعى أكثر من ذلك، والعياذ بالله.

وما كنت لأزيد عن الإشارة لعقيدة أهل السنة في مثل هذا لولا أن نابتة

1 الشفا: القاضي عياض ج2 ص264-265.

2 لمعة الاعتقاد: موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ص16-17.

3 الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي ص315.

4 الفصل في الملل والنحل: ابن حزم ج4 ص182.

ص: 71

من علماء الشيعة في العصر الحديث كادت ومكرت في سبيل تقرير هذه العقيدة إذ لم يثبتوها بطريق مألوف مباشر، بل أنكروا قولهم بالتحريف وزعموا أنها عقيدة أهل السنة وذهبوا يستدلون لافترائهم هذا بأدلة لا أشك في اعتقادهم وهنها وضعفها دلالة وثبوتا وإنما أوردوها خداعا وتمويها وما عدا ذلك فاستدلوا بقول أهل السنة بالناسخ والمنسوخ وباختلاف القراءات وشبه لهم أن قول أهل السنة بهذا قول بالتحريف قلبوا الحقيقة فقول أهل السنة بهذا دليل على الحفظ لا على ضده إذ إنهم لم يفتهم من القرآن حتى ما نسخ وحتى القراءات المتعددة للكلمة، فإذا كان لم يفتهم شيء من هذا ولا ذاك، بل دونوه وميزوا بين الناسخ والمنسوخ وبين ما يقرأ به وما لا يقرأ به، وهذا لعمري من أقوى الأدلة على حفظ هذا القرآن الكريم إلا عند صاحب هوى وبدعة.

وإن المسلم ليعجب لحماس الشيعة في إيراد الأدلة عند أهل السنة والتكلف لإثباتها وتقرير دلالتها وهم يزعمون إنكار التحريف، ويعجب لهذا الحرص على تصحيحهم لهذه الأدلة ولا يدري سببا لم ينكرون -بزعمهم- القول بالتحريف إذا كانوا يعتقدون صحة هذه الأقوال.

ويبطل عجب المسلم اللبيب إذا عرف أنهم ينكرون القول بالتحريف تقية وكيدا ومكرا، ويعوضون هذا الإنكار بإيراد الأدلة والشبه وحشو ذهن القارئ بها ونسبة ذلك إلى عقيدة أهل السنة حتى إذا ما قبل القارئ دلالة هذه الأدلة وصدقها قال بتحريف القرآن، فوافق معتقدهم حقيقة وإن رفضها وأنكرها فإنما أنكر أدلة أهل السنة ورفض رأي أهل السنة وخرجوا منه أبرياء.. وهذا لعمري كيد أي كيد، ومكر أي مكر.

وأمر آخر، ذلكم أن كل من خالف من أهل الفرق فإنه أوّل آيات القرآن وحرف معانيها وحرف مدلولاتها عن حقيقتها إلى ما يؤيد مذهبه ولم يجرؤ أحد من أصحاب المذاهب والفرق إلى القول بالزيادة أو النقصان في القرآن إلا فرقة واحدة فرقة الشيعة، إذ لم يجدوا من النصوص القرآنية ما يؤيد عقيدتهم ولم يستطيعوا تأويلها وصرف معانيها عن حقيقتها صرفا يوازي انحراف عقيدتهم

ص: 72

فلم يجدوا موازيا لهذا الانحراف إلا القول بتحريف القرآن وبغيره لا يستطيعون إثبات عقائدهم.

وما كان نهجي أن أعرض للرأي المخالف وأنا أسوق عقائد أهل السنة لولا أن المخالف هنا متعين أولا، والحاجة ماسة إلى بيان أسلوبه ومكره في هذا ثانيا.

ظاهر القرآن وباطنه:

وجل ما يعتمد عليه أصحاب القول بأن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا، ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل حرف منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع" والحديث الذي سئل عنه ابن تيمية: "للقرآن باطن، وللباطن باطن إلى سبعة أبطن" فكان جوابه، رحمه الله تعالى:"أما الحديث المذكور فمن الأحاديث المختلقة التي لم يروها أحد من أهل العلم ولا يوجد في شيء من كتب الحديث، ولكن يروى عن الحسن البصري موقوفا أو مرسلا: "إن لكل آية ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا"1.

وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد أورده الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- بسندين قال عنهما الشيخ أحمد شاكر: "هو حديث واحد بإسنادين ضعيفين، أما أحدهما فلانقطاعه بجهالة راويه عمن ذكره عن أبي الأحوص، وأما الآخر فمن أجل إبراهيم الهجري راويه عن أبي الأحوص"، ثم قال:"والحديث بهذا اللفظ الذي هنا ذكره السيوطي في الجامع الصغير رقم 2727 ونسبه للطبراني في المعجم الكبير، ورمز له بعلامة الحسن ولا ندري إسناده عند الطبراني"2.

ومع وصف ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لنحو هذه الأحاديث بالاختلاق وتضعيف أحمد شاكر لهما، فإن أهل السنة بينوا المراد بالظاهر والباطن فيهما.

1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص231-232.

2 تفسير الطبري: تخريج أحمد محمد شاكر ج1 ص22-23.

ص: 73

بين ذلك الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- فقال: "وقوله صلى الله عليه وسلم: " وإن لكل حرف منها ظهرا وبطنا" فظهره الظاهر في التلاوة، وبطنه ما بطن من تأويله"1، وعلق على هذا الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- بقوله:"الظاهر: ما تعرفه العرب من كلامها وما لا يعذر أحد بجهالته من حلال وحرام، والباطن: هو التفسير الذي يعلمه العلماء بالاستنباط والفقه ولم يرد الطبري ما تفعله طائفة الصوفية وأشباههم في التلعب بكتاب الله وسنة رسوله والعبث بدلالات ألفاظ القرآن وادعائهم أن لألفاظه "ظاهرا" هو الذي يعلمه علماء المسلمين و"باطنا" يعلمه أهل الحقيقة، فيما يزعمون"1.

وبين ذلك ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث قسم الباطن إلى قسمين "أحدهما: باطن يخالف العلم الظاهر و"الثاني" لا يخالفه، فأما الأول فباطل: فمن ادعى علما باطنا أو علما بباطن وذلك يخالف العلم الظاهر كان مخطئا إما ملحدا زنديقا وإما جاهلا ضالا، وأما الثاني فهو بمنزلة الكلام في العلم الظاهر قد يكون حقا وقد يكون باطلا

فإن علم أنه حق قبل وإن علم أنه باطل رد وإلا أمسك عنه، وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم فبمثل ما يدعيه الباطنية القرامطة من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم، ممن وافقتهم من الفلاسفة وغلاة المتصوفة والمتكلمين"2. ووضح هذا في موضع آخر فقال: "وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان:

"أحدهما": أن يكون المعنى المذكور باطلا؛ لكونه مخالفا لما علم، فهذا هو في نفسه باطل فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا؛ لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنه حق.

و"الثاني": ما كان في نفسه حقا، لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك، فهذا الذي يسمونه "إشارات" و"حقائق التفسير"

1 المرجع السابق ج1 ص72.

2 مجموع الفتاوى ج13 ص235-236.

ص: 74

لأبي عبد الرحمن فيه من هذا الباب شيء كثير، وأما النوع الأول فيوجد كثيرا في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم.

وأما "النوع الثاني": فهو الذي يشتبه كثيرا على بعض الناس، فإن المعنى يكون صحيحا لدلالة الكتاب والسنة عليه، ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه، وهذان قسمان:

"أحدهما": أن يقال: إن ذلك المعنى مراد باللفظ، فهذا افتراء على الله، فمن قال: المراد بقوله: {تَذْبَحُوا بَقَرَةً} هي النفس وبقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} هو القلب {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أبو بكر {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عمر {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عثمان {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} علي، فقد كذب على الله، إما متعمدا وإما مخطئا.

"القسم الثاني" أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس لا من باب دلالة اللفظ، فهذا من نوع القياس فالذي تسميه الفقهاء قياسا هو الذي تسميه الصوفية إشارة، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل كانقسام القياس إلى ذلك"1.

ثم قال: "وقد تبين من ذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين، فهو مفترٍ على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام، وأما ما يروى عن بعضهم من الكلام المجمل مثل قول بعضهم: لو شئت لأوقرت من تفسير فاتحة الكتاب

إلخ2 فهذا إذا صح عمن نقل عنه كعلي وغيره لم يكن فيه دلالة على الباطن المخالف للظاهر، بل يكون هذا من الباطن الصحيح الموافق للظاهر الصحيح.

وقد تقدم أن الباطن إذا أريد به ما لا يخالف الظاهر المعلوم، فقد يكون حقا وقد يكون باطلا، ولكن ينبغي أن يعرف أنه قد كذب على علي وأهل بيته، لا سيما على جعفر الصادق ما لم يكذب على غيره من الصحابة"3.

1 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج13 ص240-242.

2 بقية الأثر كما ورد في السؤال الموجه إلى ابن تيمية "كذا وكذا حمل جمل".

3 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج13 ص243-244.

ص: 75

وعذرا إذا ما استطردت بعض الاستطراد في بيان هذا، إذ إن كثيرا من الفرق يقوم انحرافها على التأويلات الباطنية، فلزم أن أفصل مذهب أهل السنة في ذلك.

الإمامة:

إن الإمامة فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإمام، ينصب لهم القضاة والأمناء ويضبط ثغورهم ويغزي جيوشهم ويقسم الفيء بينهم وينتصف لمظلومهم من ظالمهم، وبالجملة1 يقيم شأن الدولة بجميع مرافقها.

ويرون أن طريق عقد الإمامة للإمام في هذه الأمة الاختيار بالاجتهاد. وقالوا: ليس من النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة واحد بعينه2 نصا صريحا ويثبتون الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون3.

وقالوا: لا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة، والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما4، والرافضة أخسر الناس صفقة في هذه المسألة؛ لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا!! فإنهم يدعون أنه الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري5.

هذا مجمل عقيدتهم في الإمامة.

1 الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي ص340.

2 المرجع السابق ص340.

3 العقيدة الطحاوية ص57.

4 العقيدة الطحاوية ص47-48.

5 شرح الطحاوية: ت جماعة من العلماء ص437.

ص: 76

العصمة:

ويعتقدون أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وتعالى وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة بخلاف غير الأنبياء فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء ولو كانوا أولياء لله1.

وقد سئل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عمن ادعى العصمة لغير نبي فقال: "فإن الرافضة ادعت ذلك فيمن لا شك في إيمانه وتقواه، بل فيمن لا يشك أنه من أهل الجنة، كعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم ومع هذا فقد اتفق أهل العلم والإيمان على أن هذا القول من أفسد الأقوال وأنه من أقوال أهل الإفك والبهتان، فإن العصمة في ذلك ليست لغير الأنبياء عليهم السلام" ثم قال: "والمقصود أن من ادعى عصمة هؤلاء السادة المشهود لهم بالإيمان والتقوى والجنة هو في غاية الضلال والجهالة، ولم يقل هذا القول من له في الأمة لسان صدق، بل ولا من له عقل محمود"2.

المهدي:

والمهدي حق، قال السيوطي، رحمه الله تعالى: "قال أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم السحري: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بمجيء المهدي وأنه من أهل بيته وأنه سيملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا وأنه يخرج مع عيسى عليه السلام فيساعده على قتل الدجال بباب لدّ بأرض فلسطين وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى يصلي خلفه3، وحكى التواتر أيضا محمد بن رسول الحسيني في كتابه: الإشاعة لأشراط الساعة4، وحكاه ابن قيم الجوزية في: المنار المنيف في الصحيح والضعيف5.

1 مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج10 ص289-290.

2 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج35 ص120 و126.

3 الحاوي للفتاوي: الإمام السيوطي ج2 ص165-166.

4 الإشاعة لأشراط الساعة: محمد بن رسول الحسيني ص112.

5 المنار المنيف في الصحيح والضعيف: ابن قيم الجوزية ص142.

ص: 77

قال الشيخ الذهبي، رحمه الله تعالى:"لم نر من المسلمين من ذهب مذهب الإمامية من تعيين المهدي ودعواهم أنه الإمام الثاني عشر الذي اختفى حيا وسيعود في آخر الزمان"1.

إنكار الرجعة:

ومن عقائد أهل السنة إنكار رجعة أحد من الأموات قبل قيام الساعة، فلا يرجع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه إلا يوم القيامة إذا رجع الله المؤمنين والكافرين للحساب والجزاء، هذا إجماع أهل الإسلام قبل حدوث الروافض2.

وقد نص القرآن الكريم نصا صريحا على أن لا رجعة، قال تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 3، وقال سبحانه:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} 4.

الميزان والصراط حسيان:

ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما جاء في الكتاب، وبكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت.

فيؤمنون بنصب الموازين لوزن أعمال العباد، قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 5، والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان

1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص8.

2 المحلى: ابن حزم ص28 ج1؛ والمعتمد في أصول الدين: محمد بن الحسين بن الغراء ص255.

3 سورة المؤمنون: الآيتان 99-100.

4 سورة السجدة: الآية 12.

5 سورة الأنبياء: الآية 47.

ص: 78

حسيتان مشاهدتان1. قال شارح الطحاوية: "فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام!! فإن الله يقلب الأعراض أجساما"1، وقال: فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا به الصادق صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان2.

ونؤمن بالصراط وهو جسر على جهنم يمر الناس عليه على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يمر كلمح البصر ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يزحف زحفا ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة3.

أهل الكبائر يوم القيامة:

ثار جدل طويل بين الفرق والمذاهب الإسلامية: هل يسمى مرتكب الكبيرة مؤمنا أو غير مؤمن؟ وهل يخلد في النار أو يخرج منها؟ وهل يشفع له أو لا يشفع له؟

وأصل النزاع بين هذه الفرق يتعلق بأصل الإيمان: هل يكون شيئا واحدا إذا زال زال جميعه، وإذا ثبت ثبت كله أم لا؟

أما المرجئة والجهمية والخوارج والمعتزلة، فجماع شبهتهم أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها. وانقسم هؤلاء إلى قسمين:

المرجئة قالوا: كل فاسق فهو كامل الإيمان، وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل، والتفاضل في غير الإيمان من الأعمال، والأعمال ليست من الإيمان.

وقالت الجهمية والخوارج والمعتزلة: لا يكون مع الفاسق إيمان، ثم انقسموا إلى قسمين: الخوارج قالت: هو كافر، والمعتزلة قالت: هو في منزلة بين المنزلتين، ثم اتفقوا في الحكم فقالوا: هو خالد في النار لا يخرج منها بشفاعة، ولا غيرها.

1 شرح الطحاوية: علي بن أبي العز ص472، 474.

2 شرح الطحاوية: علي بن أبي العز ص475.

3 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج3 ص146-147.

ص: 79

وكما أن الإسلام وسط بين الأديان، فإن أهل السنة استقروا في وسط الوسط بين الفرق والمذاهب وتوسطهم في هذه المسألة أنهم قالوا: إن الإيمان يتبعض فيذهب بعضه ويبقى بعضه كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان". ولهذا مذهبهم أن الإيمان يتفاضل ويتبعض، وهذا -كما قال ابن تيمية- مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم1.

ولهذا، فإنهم لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} 2، وقال سبحانه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 3.

ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم4.

وقالوا: إن أهل الكبائر لا يخلدون في النار كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية5. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد، وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تواترت بخروجهم من النار6.

1 مجموع الفتاوى ج18 ص270.

2 سورة البقرة: من الآية 178.

3 سورة الحجرات: من الآيتين 9، 10.

4 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص151-152.

5 سورة فاطر: من الآيتين 32، 33.

6 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج11 ص184.

ص: 80

وما داموا لا يخلدون في النار فإنهم يخرجون منها، فالصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة الأربعة وغيرهم يقرون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار قوما بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم، يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ويخرج آخرين بشفاعة غيره، ويخرج قوما بلا شفاعة1.

ذلكم رأي أهل السنة في إيمان أهل الكبائر، وعدم خلودهم في النار والشفاعة لهم.

الولاء والبراء:

ومذهب أهل السنة محبة أهل العدل والأمانة وبغض أهل الجور والخيانة، وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره فغير الله يحب في الله لا مع الله، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه ويبغض ما يبغضه ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه ويرضى لرضائه ويغضب لغضبه ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق لمحبوبه في كل حال، وقد يجتمع في العبد سبب الولاية وسبب العداوة والحب والبغض، فيكون محبوبا من وجه ومبغوضا من وجه والحكم للغالب2.

محبة الصحابة:

وخلاصة عقيدة أهل السنة في محبة الصحابة -رضوان الله عليهم- ما عبر عنه الطحاوي رحمه الله بقوله: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"3.

1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج1 ص149.

2 انظر شرح الطحاوية: ابن أبي العز ص432-433.

3 شرح الطحاوية ص528.

ص: 81

وما قاله ابن تيمية، رحمه الله تعالى:"ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" 2، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم3.

محبة أهل البيت:

وأهل السنة والجماعة يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال يوم غدير خم:"أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"4.

ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة5.

وهم مع هذا لا يشهدون لهم بعصمة ولا يغالون في أوصافهم ولا يعتقدون سقوط التكاليف عنهم، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أنزل الله:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 6 قال: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم

1 سورة الحشر: الآية 10.

2 صحيح البخاري: فضائل الصحابة ج4 ص195؛ صحيح مسلم: فضائل الصحابة ج4 ص1967.

3 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص152.

4 رواه مسلم في فضائل علي رضي الله عنه ج4 ص1873، والإمام أحمد في مسنده، ج4 ص367، والدارمي في سننه، ج2 ص154.

5 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص154.

6 سورة الشعراء: الآية 214.

ص: 82

لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا" 1.

التقية:

التبس الأمر على طائفة من الناس جلاء هذا اللبس، ونبراس هذه القضية يكمن في التفريق بين كلمتي الإكراه والخوف، وبالتفريق بينهما تتضح جوانب القضية وتضيء زواياها.

فالخوف هو توقع حلول مكروه أو فوت محبوب2، أما الإكراه فهو من الكره وهو فعل المضطر3 ولا يكون الاضطرار إلا بعد خوف، إذن فالإكراه خوف وزيادة.

والخوف ليس عذرا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإذن لو كان عذرا لما نهض أحد بتكاليف الإسلام، بل لما بلغ الأنبياء رسالاتهم التي أرسلوا بها إلا إذا ارتقى الخوف من درجة "التوقع" إلى درجة "اليقين" فحينئذ يكون بمنزلة الإكراه.

وهل للمكره أن يقول أو يفعل ما يخالف عقيدته الإسلامية تقية ممن ألزمه بذلك؟

نصوص القرآن صريحة في جواز لا وجوب، قول ما يخلص المؤمن من إكراه الكفار له، قال تعالى:{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 4، وقال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ

1 رواه البخاري: كتاب التفسير، سورة الشعراء ج6 ص17.

2 المعجم الوسيط ج1 ص261.

3 تاج العروس: محمد مرتضى الزبيدي ج9 ص408.

4 سورة آل عمران: الآية 28.

ص: 83

وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} 1. قال القرطبي، رحمه الله تعالى: "والقضية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر، بل يجوز له ذلك"2. بل حكى الإجماع فقال: "أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم عند الله ممن اختار الرخصة، واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له"3.

بل روي عن معاذ بن جبل ومجاهد، رضي الله عنهما:"وكانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم"4.

هذا إذا كانت التقية مع الكفار والإكراه بالقتل، فإنها تكون رخصة وأجمعوا على أن تركها أفضل فكيف بمن اتخذها مطية للكذب المطلق بالقول والفعل بلا حدود ولا قيود مع المسلمين، وزعم أنها من أصول الدين، بل إنها تسعة أعشار الدين وإن لا دين لمن لا تقية له5، {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 6.

الإيمان بالقدر خيره وشره:

قال ابن تيمية، رحمه الله تعالى: "وتؤمن الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:

فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه

1 سورة النحل: الآية 106.

2 تفسير القرطبي ج4 ص57.

3 تفسير القرطبي ج10 ص188.

4 تفسير القرطبي ج4 ص57.

5 الكافي: الكليني ج2 ص217.

6 سورة الأعراف: الآية 139.

ص: 84

القديم الذي هو موصوف به أزلا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال.

ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فأول ما خلق الله القلم قال له:"اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"1. فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 2، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3

فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما، ومنكره اليوم قليل.

وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه.

ومع ذلك، فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد.

والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم

1 رواه أبو داود: كتاب السنة ج4 ص225-226.

2 سورة الحج: الآية 70.

3 سورة الحديد: الآية 22.

ص: 85