الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:
صاحب التفسير:
هو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي الناصري التميمي الحنبلي. ولد في مدينة عنيزة بالقصيم سنة 1307، توفيت والدته وهو في الرابعة، ثم والده وهو في الثانية عشرة فكفلته زوجة والده وعطفت عليه أكثر من عطفها على أولادها وأدخلته مدرسة تحفيظ القرآن، فحفظه في الرابعة عشرة من عمره.
ثم اشتغل بطلب علم التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصوله والنحو، فقرأ الكتب وحفظ المتون، إلى أن بلغ الثالثة والعشرين من عمره فجلس للتدريس، فكان يعلم ويتعلم واشتهر بعلمه وارتفع قدره، فأقبل طلبة العلم عليه وتلقي العلوم والمعارف عنه واشتهر عدد من تلاميذه.
وفاته:
توفي -رحمه الله تعالى- قبل فجر الخميس 22 جمادى الآخرة سنة 1376 بسبب نزيف في المخ أصابه يوم الأربعاء، وقد أرسل الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- طائرة تحمل الأطباء لعلاجه ولسوء الأحوال الجوية ذلك اليوم لم تستطع الطائرة الهبوط على أرض المطار.
مؤلفاته:
ترك -رحمه الله تعالى- عددا كبيرا من المؤلفات العلمية طبع أكثرها على نفقته ووزعها مجانا، وما زال بعضها مخطوطا لم يطبع، ومن أهم مؤلفاته:
1-
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: وهو موضوع بحثنا هنا، وسنفرده بالدراسة.
2-
تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن: وهو خلاصة التفسير المطول السابق.
3-
فوائد قرآنية: لخصها بعض الباحثين من خلاصة التفسير السابق.
4-
القواعد الحسان لتفسير القرآن: ذكر فيه سبعين قاعدة تعين على فهم كلام الله والاهتداء به، وتفتح له من طرق التفسير ومنهاج الفهم عن الله ما يغني عن كثير من التفاسير الخالية من هذه البحوث النافعة، طبع الكتاب بمطبعة أنصار السنة المحمدية، بتصحيح محمد حامد الفقي سنة 1366هـ.
5-
المواهب الربانية من الآيات القرآنية: وهي فوائد فتح الله عليه بها في شهر رمضان سنة 1347هـ فقيدها، طبع طبعة جديدة سنة 1402.
6-
فوائد مستنبطة من قصة يوسف: وافق الفراغ من تأليفها شهر صفر سنة 1375، وطبعت في نفس السنة.
7-
الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي: وهي رسالة صغيرة في حجمها تقع في خمسين صفحة من القطع الصغير، كتبها في محرم سنة 1375 وطبعت بمطابع الرياض سنة 1376.
8-
التنبيهات اللطيفة: فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة وعليها منتخبات من تقارير الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، تم الفراغ منها في جمادى الأولى سنة 1369، طبعت بدون تاريخ.
9-
الفواكه الشهية في الخطب المنبرية: طبعت سنة 1372هـ.
10-
إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب بطريق مرتب على السؤال والجواب: طبع الطبعة الأولى سنة 1365، والطبعة الثانية سنة 1400هـ.
11-
الفتاوى السعدية: وهي مجموعة فتاوى وكتابات وأسئلة وأجوبة كتبها -رحمه الله تعالى- بيده، جمعها بعض محبيه وطبعت الطبعة الأولى سنة 1388هـ والثانية سنة 1402هـ.
هذه بعض مؤلفاته -رحمه الله تعالى- التي تجاوزت الثلاثين مؤلفا، نفع الله بها وغفر له، إنه سميع مجيب1.
التفسير:
يقع تفسيره: "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" في سبعة مجلدات، وقد فرغ -رحمه الله تعالى- من تأليفه سنة 1344، وصدرت طبعته الأولى سنة 1365 بمطبعة الترقي بدمشق ووزع مجانا على نفقة المؤلف.
ثم صدرت طبعته الثانية بالمطبعة السلفية بالقاهرة.
وصدرت طبعته الثالثة بالرياض بدون تاريخ، ولكن فيها ما يستدل به على أن طبعها كان سنة 1976م وسنة 1977م.
وهذا التفسير وهو وإن كان شاملا لآيات القرآن الكريم كلها، إلا أنه ليس من التفاسير المطولة وتحدث -رحمه الله تعالى- عن ذلك فقال: "كثرت تفاسير الأئمة رحمهم الله لكتاب الله، فمن مطول خارج في أكثر بحوثه عن المقصود، ومن مقتصر يقتصر على حل بعض الألفاظ اللغوية بقطع النظر عن المراد، وكان الذي ينبغي في ذلك أن يجعل المعنى هو المقصود، واللفظ وسيلة إليه فينظر في سياق الكلام وما سيق لأجله ويقابل بينه وبين نظيره في موضوع آخر، ويعرف أنه سيق لهداية الخلق كلهم، عالمهم وجاهلهم، حضريهم وبدويهم، فالنظر لسياق الآيات مع العلم بأحوال الرسول وسيرته مع أصحابه
1 لخصنا هذه الترجمة من كتاب: مشاهير علماء نجد وغيرهم، تأليف عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ومن قراءاتي الخاصة لمؤلفاته. وانظر ترجمته في الأعلام للزركلي، ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة.
وأعدائه وقت نزوله من أعظم ما يعين على معرفته وفهم المراد منه، خصوصا إذا انضم إلى ذلك معرفة علوم العربية على اختلاف أنواعها.
فمن وفق لذلك لم يبق عليه إلا الإقبال على تدبره وتفهمه وكثرة التفكر في ألفاظه ومعانيه ولوازمها وما تتضمنه وما تدل عليه منطوقا ومفهوما، فإذا بذل وسعه في ذلك فالرب أكرم من عبده، فلا بد أن يفتح عليه من علومه أمورا لا تدخل تحت كسبه.
ولما منَّ البارئ عليَّ وعلى إخواني بالاشتغال بكتابه العزيز بحسب الحال اللائقة بنا، أحببت أن أرسم من تفسير كتاب الله ما تيسر، وما منَّ به الله علينا ليكون تذكرة للمحصلين وآلة للمستبصرين، ومعونة للسالكين، ولأقيده خوف الضياع، ولمن يكن قصدي في ذلك إلا أن يكون المعنى هو المقصود، ولم أشتغل في حل الألفاظ والعقود، للمعنى الذي ذكرت، ولأن المفسرين قد كفوا من بعدهم، فجزاهم الله عن المسلمين خيرا"1.
قلت: وجزاه الله أيضا خيرا، ومع التزامه بما قال من الاكتفاء بأقوال المفسرين السابقين عن الإطناب في حل ألفاظ القرآن الكريم وتفسيره، فإن تفسيره يقع في سبعة مجلدات وذلك بسبب طريقة أحسبها خاصة به نبه بنفسه عليها في مقدمته فقال: اعلم أن طريقتي في هذا التفسير أني أذكر عند كل آية ما يحضرني من معانيها، ولا أكتفي بذكر ما تعلق بالمواضع السابقة عن ذكر ما تعلق بالمواضع اللاحقة؛ لأن الله وصف هذا الكتاب أنه "مثاني" تثنى فيه الأخبار والقصص والأحكام وجميع المواضيع النافعة لحكم عظيمة، وأمر بتدبره جميعه لما في ذلك من زيادة العلوم والمعارف وصلاح الظاهر والباطن وإصلاح الأمور كلها2.
وقد التزم -رحمه الله تعالى- بما رسم لنفسه من منهج، فجاء تفسيره وسطا بين طويل التفاسير ومختصره.
1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن بن ناصر السعدي ج1 ص12-14.
2 المرجع السابق ج1 ص2.
نماذج من تفسيره:
رؤية الله:
قال -رحمه الله تعالى- مثبتا لرؤية الله يوم القيامة عند تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} 1 الآية، قال:"أي: لن تقدر الآن على رؤيتي، فإن الله تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها ولا يثبتون لرؤية الله، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة، فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وأنه ينشئهم نشأة كاملة يقدرون معها على رؤية الله تعالى"2.
وبين في موضع آخر أنهم ينظرون إلى ربهم حسب مراتبهم، فقال في تفسير قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3، أي:"ينظرون إلى ربهم على حسب مراتبهم، ومنهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة"4.
وفسر الزيادة في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 5 بالنظر إلى وجهه الكريم، فقال:"وهي النظر إلى وجه الله الكريم وسماع كلامه والفوز برضاه والبهجة بقربه، فبهذا حصل أعلى ما يتمناه المتمنون، ويسأله السائلون"6.
1 سورة الأعراف: من الآية 143.
2 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج3 ص87.
3 سورة القيامة: الآيتان 22 و23.
4 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج7 ص526.
5 سورة يونس: من الآية 26.
6 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن ج3 ص345.
الاستواء:
في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 1، قال:"استوى استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه"2، وقال في موضع آخر:"استواء يليق بجلاله، فوق جميع خلقه"3.
العرش:
قال عنه -رحمه الله تعالى: "العرش الذي هو سقف المخلوقات وأعلاها وأوسعها وأجملها"4، وقال في موضع آخر:"العرش العظيم الذي يسع السموات والأرض، وما فيهما وما بينهما"5.
سلامة القرآن الكريم من التحريف:
في تفسير قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 6، قال: أي: لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجن لا بسرقة ولا بإدخال ما ليس منه به ولا بزيادة ولا نقص، فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه ومعانيه، قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 7 8، وقال في تفسير هذه الآية الأخيرة: " {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله واستودعه في قلوب أمته وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص ومعانيه من
1 سورة الأعراف: من الآية 54.
2 المرجع السابق ج3 ص38.
3 المرجع السابق ج7 ص283.
4 المرجع السابق ج5 ص489.
5 المرجع السابق ج3 ص38.
6 سورة فصلت: الآية 42.
7 سورة الحجر: الآية 9.
8 المرجع السابق ج6 ص582.
التبديل، فلا يحرف محرف معنى من معانيه إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين، ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم ولا يسلط عدوا يجتاحهم"1.
كلام الله غير مخلوق:
في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} الآيات2، قال رحمه الله تعالى:"وفي هذه الآيات من العبر والآيات إثبات الكلام لله تعالى وأنه لم يزل متكلما، يقول ما شاء ويتكلم بما شاء، وأنه عليم حكيم"3. وفي قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 4 قال: أي مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال: موسى كليم الرحمن5، وقال في موضع آخر: "وأما كلام الله فإنه من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة، ولا لها حد ولا منتهى"6.
لا رجعة لأحد قبل يوم القيامة:
قال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} 7، يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين أنه يندم في تلك الحال إذا رأى مآله وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك ليقول:{لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} من العمل وفرطت في جنب الله: {كَلَّا} أي: لا رجعة له ولا إمهال قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون8.
1 المرجع السابق ج4 ص158.
2 سورة البقرة: الآيات 30-34.
3 المرجع السابق ج1 ص73.
4 سورة النساء: من الآية 164.
5 المرجع السابق ج2 ص218.
6 المرجع السابق ج5 ص86.
7 سورة المؤمنون: الآيتان 99-100.
8 المرجع السابق ج5 ص379.
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} 1 أي:: "هل لنا طريق أو حيلة إلى رجوعنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل؟ وهذا طلب للأمر المحال الذي لا يمكن"2.
أصحاب الكبائر:
في الوعيد لمن قتل مؤمنا متعمدا المنصوص عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 3، قال رحمه الله تعالى:"وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار أو حرمان الجنة، وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها، مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار، ولو كانوا موحدين"4، ثم نقل قولا لابن القيم -رحمه الله تعالى- بين فيه موقف أهل السنة والجماعة المعروف من أصحاب الكبائر.
أما في تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 5، فقال -رحمه الله تعالى- فيها:"وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية وهي حجة عليهم كما ترى فإنها ظاهرة في الشرك، وهكذا كل مبطل يحتج بآية أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه"6.
أما الوعيد لمن عاد إلى أكل الربا في قوله تعالى: {مَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 7، فقال عنه: "في هذا أن الربا موجب
1 سورة الشورى: من الآية 44.
2 المرجع السابق ج6 ص626.
3 سورة النساء: من الآية 93.
4 المرجع السابق ج2 ص129.
5 سورة البقرة: من الآية 81.
6 المرجع السابق، ج1 ص103.
7 سورة البقرة: من الآية 275.
لدخول النار والخلود فيها؛ وذلك لشناعته ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان، وهذا من جملة الأحكام التي تتوقف على وجود شروطها، وانتفاء موانعها وليس فيها حجة للخوارج كغيرها من آيات الوعيد، فالواجب أن تصدق جميع نصوص الكتاب والسنة فيؤمن العبد بما تواترت به النصوص من خروج من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من الإيمان، من النار ومن استحقاق هذه الموبقات لدخول النار إن لم يتب منها"1.
الموالاة والمعاداة:
في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} 2 الآية، بين -رحمه الله تعالى- أصل الولاية فقال:"وأصل الولاية: المحبة والنصرة وذلك أن اتخاذهم أولياء موجب لتقديم طاعتهم على طاعة الله ومحبتهم على محبة الله ورسوله؛ ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك وهو أن محبة الله ورسوله يتعين تقديمها على محبة كل شيء، وجعل جميع الأشياء تابعة لهما"3.
وفي قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 4 الآية، قال:"وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين وترك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم"5.
وفي موضع آخر بين -رحمه الله تعالى- الولاية الواجبة على المؤمنين وما تدرك به وفائدتها وما يوجبها على المؤمنين؛ فقال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
1 المرجع السابق ج1 ص338 -339.
2 سورة التوبة: من الآية 23.
3 المرجع السابق ج3 ص212-213.
4 سورة النساء: من الآيتين 138-139.
5 المرجع السابق: ج2 ص197.
الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} 1، فقال:"لما نهى عن ولاية الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين، أخبر تعالى من يجب ويتعين توليه. وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، فولاية الله تدرك بالإيمان والتقوى فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا ومن كان لله وليا فهو ولي لرسوله، ومن تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من تولاه وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا وأخلصوا للمعبود بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها وأحسنوا للخلق وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم، وقوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} ، أي: خاضعون لله ذليلون، فأداة الحصر في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين والتبري من ولاية غيرهم. ثم ذكر فائدة هذه الولاية فقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ، أي: فإنه من الحزب المضافين إلى الله إضافة عبودية وولاية وحزبه الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، وهذه إشارة عظيمة لمن قام بأمر الله وصار من حزبه وجنده، أن له الغلبة وإن أديل عليه في بعض الأحيان لحكمة يريدها الله تعالى، فآخر أمره الغلبة والانتصار {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} "2.
محبة الصحابة:
وفي تفسير قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} الآيات3، تحدث -رحمه الله تعالى- عن المهاجرين ثم عن الأنصار ثم قال: "فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم،
1 سورة المائدة: الآيتان 55 و56.
2 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج2 ص310-311.
3 سورة الحشر: الآيات 8، و9، و10.
وأدركوا به من قبلهم فصاروا أعيان المؤمنين وسادات المسلمين وقادات المتقين، وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم ويأتمّ بهداهم"1.
القضاء والقدر:
فصل -رحمه الله تعالى- الحديث عن القضاء والقدر عند تفسيره لقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 2، فقال رحمه الله تعالى: "هذا إخبار من الله أن المشركين سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما أحل الله بالقضاء والقدر، ويجعلون مشيئة الله الشاملة لكل شيء من الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم، وقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولون كما قال في الآية الأخرى:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 3 الآية، فأخبر تعالى أن هذه الحجة لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة الرسل ويحتجون بها فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم، فلم يزل هذا دأبهم حتى أهلكهم الله وأذاقهم بأسه، فلو كانت حجة صحيحة لدفعت عنهم العقاب، ولما أحل الله بهم العذاب؛ لأنه لا يحل بأسه إلا بمن استحقه فعلم أنها حجة فاسدة وشبهة كاسدة من عدة أوجه:
منها: ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة لم تحل بهم العقوبة.
ومنها: أن الحجة لا بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان، فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص الذي لا يغني من الحق شيئا فإنها باطلة؛ ولهذا قال:{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} ، فلو كان لهم علم وهم خصوم ألداء لأخرجوه، فلما لم يخرجوه علم أنه لا علم عندهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا
1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج7 ص336.
2 سورة الأنعام: الآيتان 148 و149.
3 سورة النحل: من الآية 35.
الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} ، ومن بنى حجة على الخرص والظن فهو مبطل خاسر، فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد؟
ومنها: أن الله تعالى أعطى كل مخلوق قدرة وإرادة يتمكن بها من فعل ما كلف به، فما أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه، فالاحتجاج -بعد هذا- بالقضاء والقدر ظلم محض وعناد صرف.
ومنها: أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم بل جعل أفعالهم تبعا لاختيارهم، فإن شاءوا فعلوا وإن شاءوا كفوا. وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر، وأنكر المحسوسات فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية، وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله ومندرجا تحت إرادته.
ومنها: أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك، فإنهم لا يمكنهم أن يطردوا ذلك، بل لو أساء اليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الاحتجاج ولغضبوا من ذلك أشد الغضب، فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه ولا يرضون من أحد أن يحتج به في مقابله مساخطهم؟!!.
ومنها: أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا ويعلمون أنه ليس بحجة، وإنما المقصود منه دفع الحق، ويرون أن الحق بمنزلة الصائل منهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلام المصيب عندهم والمخطئ1.
وقال -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2: "وفي هذه الآية وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة والقدرية المجبرة"3.
1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج2 ص495-497.
2 سورة التكوير: الآية 29.
3 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج7 ص581.
هذه أمثلة من تفسير ابن سعدي -رحمه الله تعالى- سلك فيها منهج أهل السنة والجماعة، اكتفى في بيانه بوجيز العبارة من غير إطناب ممل ولا إيجاز مخل، وهو وإن لم يعرض الكثير من آراء أهل السنة والجماعة بالشرح والبيان لاعتقاده -كما قرر في مقدمته- أن المفسرين قد كفوا من بعدهم، ومع هذا فإن تفسيره -رحمه الله تعالى- قد جاء وسطا بين حاجة العلماء وحاجة من دونهم، ليس بالصعب الذي لا ترتقي إليه أفهام هؤلاء ولا بالسهل الذي لا يجد فيه أولئك بغيتهم، بل جمع هذا وذاك وأحسبه لم يفصل الحديث في العقائد؛ لأنه إنما كان يخاطب طائفة من أهل السنة والجماعة لم يكن بينهم من منازع أو خصم فكان يكتفي بوجيز العبارة ودقيق الإشارة. نفع الله به وبعلومه، إنه سميع مجيب.