الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما التفسير الإشاري فلا يرتكز على مقدمات علمية، بل يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل إلى درجة تنكشف لها فيها من سجف العبارات هذه الإشارات القدسية، وتنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف السبحانية.
ثانيا: أن التفسير الصوفي النظري يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من المعاني وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل الآية عليه، هذا بحسب طاقته طبعا. أما التفسير الإشاري فلا يرى الصوفي أنه كل ما يراد من الآية، بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها أولا وقبل كل شيء: ذلك هو المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره1.
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص18.
موقف العلماء من هذا اللون في التفسير:
اختلف العلماء في قبول التفسير الإشاري أو رده، فمنهم من قبله، ومنهم من اعتبره من صفات الكمال والعرفان، ومنهم من رده، ومنهم من اعتبره إلحادا في آيات الله وخروجا به عن الحق.
وليس لنا أن نطلب من الرافضين لهذا التفسير دليلا؛ ذلكم أن الأصل عدم قبول هذا النوع من التفسير لأن تفسير القرآن لا يكون إلا بالقرآن أو بالسنة أو بالمتبادر من عموم لغة العرب؛ لأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، فلا يصح تفسيره بخلاف ظاهر اللفظ إلا بدليل يصرف المعنى المراد من ظاهر اللفظ إلى معنى آخر.
أما من قال بهذا اللون من التفسير، ومال إليه فهو المطالب بالدليل.
أدلة المؤيدين:
ومن الأدلة التي استدلوا بها:
1-
ما رواه الفريابي بسنده عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع" وسبق ذكر القول الصحيح في هذا الحديث ونحوه.
2-
ما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره، إنه كان توابا، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول"1.
3-
ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال: "إن القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون لا تنقضي عجائبه ولا تبلغ غايته، فمن أوغل فيه برفق نجا، ومن أخبر فيه بعنف هوى، أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن، فظهره التلاوة وبطنه التأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء.
وما روي عن أبي الدرداء أنه قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوها".
وما روي عن ابن مسعود أنه قال: "من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن".
قالوا: وهذا الذي قاله هؤلاء الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر2.
1 رواه البخاري، باب التفسير ج6 ص221.
2 انظر التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص20.
ونختم حديثنا عن التفسير الإشاري بإيراد أقوال بعض العلماء في ذلك، فمنهم:
الزركشي في برهانه:
قال الزركشي في البرهان: "كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل: إنه ليس بتفسير، وإنما هو معانٍ ومواجيد يجدونها عند التلاوة"1.
ابن الصلاح في فتاويه:
وقال ابن الصلاح في فتاويه، وقد سئل عن كلام الصوفية في القرآن:"وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر. قال ابن الصلاح وأنا أقول الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية وإنما ذلك منهم تنظير لما ورد به القرآن، فإن النظير يذكر بالنظير". ثم قال: "ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك؛ لما فيه من الإبهام والإلباس"2.
النسفي والتفتازاني:
قال النسفي في العقائد: "النصوص على ظواهرها والعدول عنها إلى معانٍ يدعيها أهل الباطل: إلحاد"، وعلق التفتازاني في شرحه للعقائد على هذا بقوله:
"سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها، بل لها معانٍ لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية". قال: "وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان"3.
1 البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي ج2 ص170.
2 فتاوي ابن الصلاح ص29.
3 العقائد النسفية وشرحها: سعد الدين التفتازاني ص143.
الغزالي في الإحياء:
وقال الغزالي في إحياء علوم الدين: "وأما الشطح فنعني به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية:
"أحدهما" الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب فيقولون: قيل لنا: كذا وقلنا: كذا
…
وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوى، فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال.
فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم، ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة، ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكار مصدره العلم والجدل والعلم حجاب والجدل عمل النفس، وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق. فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره، حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة.
الصنف الثاني من الشطح: كلمات غير مفهومة، لها ظواهر رائقة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل، وذلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها، بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته، بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر، وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة، ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان، أو يحمل على أن يفهم منها معاني ما أريدت بها ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه".
إلى أن قال: "وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح، وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى
الإفهام فائدة كدأب الباطنية في التأويلات، فهذا أيضا حرام وضرره عظيم، فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع من غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل، اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له، بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى، وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر وإنما قصد أصحابها الإغراب؛ لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذة لها، وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم
…
ومثال تأويل أهل الطامات قول بعضهم في تأويل قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} : إنه إشارة إلى قلبه وقال: هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان. وفي قوله تعالى: {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ، أي: كل ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه
…
" إلى أن قال: "ومن يستجيز من أهل الطامات مثل هذه التأويلات مع علمه بأنها غير مرادة بالألفاظ، ويزعم أنه يقصد بها دعوة الخلق إلى الخالق يضاهي من يستجيز الاختراع والوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما هو في نفسه حق ولكن لم ينطق به الشرع
…
بل الشر في تأويل هذه الألفاظ أطم وأعظم؛ لأنها مبطلة للثقة بالألفاظ، وقاطعة طريق الاستفادة والفهم من القرآن بالكلية"1.
هذا ما قاله الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- وإنما أطلت في نقل نصوصه لما فيها من الدقة والشمول، بحيث لم يبق لأحد منهم حجة فيما ادعاه.
ولا أحب في ختام حديثي هذا عن موقف العلماء من التفسير الإشاري إلا أن أجعل في ختامه رأي عالم أو عالمين من العلماء المعاصرين في التفسير الإشاري، فأكتفي بنقل رأي الذهبي والزرقاني؛ ففيهما الكفاية والسداد.
1 إحياء علوم الدين: الغزالي ج1 ص42-44 باختصار.
رأي الذهبي:
بعد أن نقل الذهبي رأي ابن الصلاح والتفتازاني وابن عطاء الله السكندري قال: "فهؤلاء العلماء حسنوا ظنهم بالقوم فحملوا أقوالهم الغريبة التي قالوها في القرآن على أنها ذكر لنظير ما ورد به القرآن أو على أنها إشارات خفيفة ومعانٍ إلهامية تنهل على قلوب العارفين وتزهوهم عن إرادة التفسير الحقيقي لكتاب الله بمثل هذه الشروح الغريبة التي نقلت عنهم، وهذا عمل حسن وصنيع جميل من هؤلاء العلماء، وقد تابعناهم عليه حملا لحال المؤمن على الصلاح
…
ولكن لم يلبث أن تبدد حسن ظننا بالقوم على أثر تلك المقالة التي قرأناها لابن عربي في فتوحاته، وفيها يصرح بأن مقالات الصوفية في كتاب الله ليست إلا تفسيرا حقيقيا لمعاني القرآن وشرحا لمراد الله من ألفاظه وآياته، ويذكر لنا أن تسميتها إشارة ليس إلا من قبيل التقية والمداراة لعلماء الرسوم أهل الظاهر، وفي هذه المقالة يحمل حملة شعواء على أهل الرسوم -على حد تعبيره- الذين ينكرون عليه وعلى غيره من الصوفية"1.
رأي الزرقاني:
أما الشيخ عبد العظيم الزرقاني فيقول عن التفسير الإشاري: "ولعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة، بل الإسلام كله ما هي إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات، وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح، فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.. فواجب النصح لإخواننا المسلمين يقتضينا أن نحذرهم الوقوع في هذه الشباك ونشير عليهم أن ينفضوا أيديهم من أمثال تلك التفاسير الإشارية الملتوية، ولا يعولوا على أشباهها مما ورد في كلام القوم بالكتب الصوفية؛ لأنها كلها أذواق ومواجيد خارجة
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص35 و36.