الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمامية الإثنى عشرية
…
الإمامية الاثنا عشرية:
ويرون أن الإمامة انتقلت بعد جعفر الصادق إلى ابنه موسى "الكاظم" ثم إلى ابنه علي الرضا ثم إلى ابنه محمد "الجواد"، ثم إلى ابنه علي "الهادي" ثم إلى ابنه "الحسن العسكري"، ثم إلى ابنه محمد "المهدي" المنتظر في عقيدتهم، وبهذا يكون الأئمة عندهم اثني عشر فنُسبوا إلى هذا1.
وأصول العقيدة عندهم خمسة2:
الأول: التوحيد.
الثاني: النبوة.
الثالث: الإمامة.
الرابع: العدل.
الخامس: المعاد.
وهذه الأصول الخمسة تتضمن عقائد أخرى انفردت بها الإمامية الاثنا عشرية ومنها:
1-
البداء:
حيث يقسمون القضاء الإلهي إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قضاء الله الذي لم يطلع عليه أحد من خلقه، والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه. "قالوا": ولا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم.
1 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص59.
2 المرجع السابق. انظر الصفحات 61-75.
الثاني: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سيقع حتما. "قالوا": ولا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء.
الثالث: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج، إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه. "قالوا": وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء1.
ومعنى ذلك عندهم أنه تعالى قد يظهر شيئا على لسان نبيه أو وليه أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الإظهار ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولا مع سبق علمه تعالى بذلك كما في قصة إسماعيل لما رأى أبوه إبراهيم أنه يذبحه2
…
قالوا: وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم. بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وسلم2.
2-
الإمامة والعصمة:
فقالوا: "ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت عمدا وسهوا كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان"3.
3-
المهدية:
ويعتقدون أن المهدي: "هو شخص معين معروف، ولد سنة 256 هجرية ولا يزال حيا، هو ابن الحسن العسكري واسمه "محمد""4.
4-
الرجعة:
وهي مرتبطة بالعقيدة السابقة في المهدي، ذلك أنهم يعتقدون: "أن الله
1 البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الموسوي الخوثي ص387 و388.
2 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص70.
3 المرجع السابق: ص45.
4 المرجع السابق: ص108.
تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعز فريقا ويذل فريقا آخر، ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد، عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام"1.
وقالوا: "ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان، أو من بلغ الغاية من الفساد"1.
5-
التقية:
ويعرفونها بأنها: "كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكالمة المخالفين وترك مخالفتهم بما يعقب ضررا في الدين والدنيا"2.
وما زالت التقية سمة تعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأمم3.
6-
أنهم لا يقبلون من السنة إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت عن جدهم، يعني ما رواه الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن الحسين السبط عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما ما يرويه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب ومروان بن الحكم وعمران بن حطان وعمرو بن العاص ونظائرهم، فليس له عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة4.
7-
أنهم لا يعملون بالقياس وينسبون إلى أئمتهم القول: "إن الشريعة إذا قيست محق الدين"4.
8-
وفي الصلاة تعطل الإمامية الاثنا عشرية صلاة الجمعة؛ لأنها لا تجوز
1 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص109.
2 الصلة بين التصوف والتشيع: كامل مصطفى الشيبي ص403.
3 عقائد الإمامية: محمد المظفر ص114.
4 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص79.
ما دام الإمام غائبا، ولا تقام حتى يظهر الإمام المستتر، وقد أمر الخميني في شعبان سنة 1400 بأداء صلاة الجمعة.
9-
الخمس:
ويجب عندهم في سبعة أشياء:
1-
غنائم دار الحرب.
2-
الغوص.
3-
الكنز.
4-
المعدن.
5-
أرباح المكاسب.
6-
الحلال المختلط بالحرام.
7-
الأرض المنتقلة من المسلم إلى الذمي.
ويدفع الخمس إلى الإمام إن كان ظاهرا وإلى نائبه وهو "المجتهد العادل" إن كان غائبا. وهو عندهم حق فرضه الله لآل محمد صلى الله عليه وسلم عوض الصدقة التي حرمها عليهم من زكاة الأموال والأبدان.
10-
نكاح المتعة:
أو عقد الانقطاع، والمراد به عقد الزواج إلى أجل مسمى، وتجب العدة على الزوجة بعده:"وهي على الأقل خمسة وأربعون يوما"1.
هذه:
هي أهم سمات مذهب الإمامية الاثني عشرية وما تتميز به عن سائر المذاهب الأخرى، اكتفينا منها بأهمها ومن عرضها بالإشارة حتى لا يطغى على مسار البحث وهدفه.
1 المرجع السابق: ص 112.
منهجهم في تفسير القرآن الكريم:
ولهم منهج مستقل في التفسير ساروا عليه لا يشاركهم أحد في جميع جوانبه. وتتعدد نواحي الخلاف بين منهجهم ومنهج أهل السنة والجماعة.
طرق التفسير:
فأصح طرق التفسير عند أهل السنة والجماعة -كما مر- والشيعة أيضا تفسير القرآن بالقرآن ثم بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم اختلفوا بعد ذلك فأهل السنة يأخذون بعد هذا بأقوال الصحابة أما الإمامية الاثنا عشرية فهي: "ترى أن الصحابة والتابعين كبقية المسلمين لا حجية في أقوالهم إلا ما ثبت أنه حديث نبوي"1.
أما الطريق عندهم بعد أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فهي أقوال أئمتهم، قالوا:"وقد ثبت بطرق متواترة في حديث الثقلين أن أقوال العترة الطاهرة من أهل بيته عليهم السلام هي تالية لأقوال الرسول، فهي حجة أيضا"2.
بل وتجاوزوا هذا، فرفضوا ما رواه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردوا رواياتهم كلها إلا ما صح من طرق أهل البيت، حيث يقول محمد الحسين آل كاشف الغطاء عن فرقته الإمامية ومذهبهم في قبول الروايات:"إنهم لا يقبلون من السنة "أعني: الأحاديث النبوية" إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت"3.
أما القياس فقد سبق ذكر قولهم: "إن الإمامية لا تعمل بالقياس، وقد تواتر عن أئمتهم أن الشريعة إذا قيست محق الدين"3.
أما الإجماع، فليس حجة بنفسه إلا إذا كان الإمام المعصوم من المجمعين، أو كان الإجماع يعتمد على دليل معتبر، أو كاشفا عن رأيه في المسألة4.
أما العقل ودليله، فلا يدخل فيه عندهم القياس ولا المصالح ولا الاستحسان4.
1 القرآن في الإسلام: محمد حسين الطباطبائي ص59 و60.
2 المرجع السابق: ص60.
3 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص79.
4 أعيان الشيعة، ج1 ص477 عن "التفسير والمفسرون" 2/ 26.
إذن فطرق التفسير التي سلكوها هي تفسير القرآن بالقرآن وبالسنة "ويعنون بها ما ورد عن طرق أهل البيت" وبالإجماع بشرطه السابق، وبدليل العقل بخصوصه السابق.
لذلك كان لهم آراء فقهية انفردوا بها بناء على هذه الأصول وجاء تفسيرهم لكثير من آيات الأحكام في القرآن الكريم متأثرا بهذه النظرة، كإباحة نكاح المتعة ومنع المسح على الخفين، وأن الواجب مسح الرجلين في الوضوء دون غسلهما ونحو ذلك
…
وسيأتي إن شاء الله بيان بذلك.
للقرآن ظاهر وباطن:
وللقرآن عندهم ظهر وبطن ويقصدون بهذا: "أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم وأن الظهر والبطن أمران نسبيان فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره وبالعكس"1، ويستدل الطباطبائي لهذا بما ورد في "تفسير العياشي عن جابر قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني، ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم! فقال: يا جابر، إن للقرآن بطنا، وللبطن بطن وظهرا وللظهر ظهر، يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية تكون أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متصل ينصرف على وجوه"2.
وقال: "وقد روي عن علي، عليه السلام: أن القرآن حَمَّال ذو وجوه"3، أما الراسخون الذين يعلمون تأويله فالمراد بهم عندهم آل محمد4، ويروون عن الصادق: نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله5.
1 أعيان الشيعة ج1 ص477 عن "التفسير والمفسرون" 2/ 26.
2 الميزان ج3 ص73.
3 تفسير الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج3 ص87.
4 المرجع السابق ج3 ص67.
5 المرجع السابق ج3 ص69.
أسلوب الجري في القرآن عندهم:
وهو أن تطبق الآيات القرآنية على أئمتهم أو على أعدائهم، قال الطباطبائي في تفسيره:"واعلم أن الجري -وكثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب- اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت عليهم السلام"1.
وقال أيضا: "الروايات في تطبيق الآية القرآنية عليهم "عليهم السلام" أو على أعدائهم أعني: روايات الجري، كثيرة في الأبواب المختلفة، وربما تبلغ المئين"2.
وسنعرض لهذا فيما بعد.
التفسير العقلي:
ذكرنا آنفا أن من طرق تفسير القرآن عندهم التفسير بالعقل وتفاسيرهم لمسائل علم الكلام متأثرة تأثرا بينا بنظرة المعتزلة، ويرجع هذا التأثر إلى أن عددا كبيرا من سلف الشيعة تتلمذ لبعض مشايخ المعتزلة، وهذا واضح بين في تفاسير الحسن العسكري، والشريف المرتضى، وأبي علي الطبرسي3 وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك في تفاسير المحدثين.
تحريف القرآن:
لا يكاد يذكر القول بتحريف القرآن إلا ويذكر مذهب الشيعة، ولا تكاد تقلب كتابا عن عقائد الشيعة إلا وتجده قد أفرد القول بتحريف القرآن بمقال، وهم فيما يكتبون سلكوا أحد طريقين:
1-
إما أن يثبتوا بأدلتهم تحريف القرآن الكريم.
2-
وإما أن ينكروا القول بالتحريف، وينكروا نسبته إلى الشيعة.
ولنتحدث عمن سلك الطريق الأول.
1 المرجع السابق ج1 ص41.
2 المرجع السابق ج1 ص42.
3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص25 و26.
القول بتحريف القرآن:
ذكر إمامهم الخوئي في البيان في تفسير القرآن أن التحريف يراد منه عدة معانٍ:
الأول: نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره، ومنه قوله تعالى:{وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عن مَوَاضِعِهِ} [4: 46] ثم ذكر أن كل من فسر القرآن بغير حقيقته وحمله على غير معناه فقد حرفه.
الثاني: النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات مع حفظ القرآن وعدم ضياعه، وإن لم يكن متميزا في الخارج عن غيره.
الثالث: النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين مع التحفظ على نفس القرآن المنزل.
الرابع: التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة مع التحفظ على القرآن المنزل، والتسالم على قراءة النبي صلى الله عليه وسلم إياها.
ثم زعم أن هذه الأنواع الأربعة من التحريف واقعة في القرآن قطعا1.
النوع الخامس: التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصاحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل "والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة"2، والحق أن كل من قرأت له ممن تعرض لهذا النوع ذكر الإجماع على عدم القول بتحريف القرآن بالزيادة فيه، إلا أني اطلعت على نص عند الشيعة يقول بهذا النوع، وهو ما رواه ميسرة عن أبي جعفر عليه السلام قال:"لولا أن زيد في كتاب الله ونقص منه ما خفي حقنا على ذي حجى"3.
1 البيان في تفسير القرآن: الخوئي ص197-199.
2 المرجع السابق ص200.
3 انظر تفسير العياشي 1/ 13؛ والصافي للمحسن الكاشي المقدمة السادسة ص10؛ والبرهان لهاشم البحراني 1/ 22؛ والبحار للحجلي 19/ 30.
النوع السادس: التحريف بالنقيصة، بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا، لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء، فقد ضاع بعضه من الناس.
ثم قال: "والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف، فأثبته قوم ونفاه آخرون"1.
والقول بتحريف القرآن الكريم عند الشيعة مما اتفقوا عليه من القرن الرابع إلى القرن السادس ولم ينكر أحد منهم القول بتحريف القرآن إلا أربعة: ابن بابوية القمي الملقب عندهم بالصدوق "ت 381" والمرتضى "ت 436" والطوسي "ت 450" والطبرسي "ت 548".
واعترف بهذا الاستثناء شيخ الشيعة النوري الطبرسي حيث قال: "إنه لم يعرف الخلاف صريحا إلا من هؤلاء الأربعة"2.
واعترف به أيضا نعمة الله الجزائري بقوله: "إن الأصحاب قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة، بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن"3، ثم قال:"نعم قد خالف فيه المرتضى والصدوق والشيخ الطبرسي، وحكموا بأن ما بين دفتي هذا المصحف هو القرآن المنزل لا غير، ولم يقع فيه تحريف ولا تبديل"3.
وما لنا ولعلمائهم السابقين والقول بتحريف القرآن يتشدق به طائفة من علمائهم المعاصرين، فهذا شيخهم محمد بن حيدر الخراساني يعقد فصلا في مقدمة تفسيره قال فيه:"الفصل الثالث عشر في وقوع الزيادة والنقيصة والتقديم والتأخير والتحريف والتغيير في القرآن الذي بين أظهرنا"، ثم قال:"اعلم أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار "ع" بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه بحيث لا يكاد لا يقع شك في صدور بعضها منهم وتأويل الجميع
1 المرجع السابق ص200.
2 فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب: حسين الطبرسي ص15.
3 الأنوار النعمانية: نعمة الله الجزائري ج2 ص357.
بأن الزيادة والنقيصة والتغيير إنما هي في مدركاتهم من القرآن، لا في لفظ القرآن كلفة"1.
وقال في موضع آخر عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2: ولا ينافي حفظه تعالى للذكر بحسب حقيقته التحريف في صورة تدوينه، فإن التحريف إن وقع، وقع في الصورة المماثلة له كما قال:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وما هو من عند الله3.
ولا يكتفي شيخهم هذا بالادعاء بتحريف القرآن، فيعمد إلى ذكر المواضع التي زعم وقوع التحريف فيها، فقد أورد في تفسير قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 4 الآية، قال:"وعن أمير المؤمنين "ع" في جواب مسائل الزنديق الذي سأل عن أشياء أنه أسقط بين طرفي تلك الآية أكثر من ثلث القرآن"5.
هذا شيخ من شيوخهم المعاصرين قال بتحريف القرآن الكريم، بل إن بعض علمائهم أفردوه بمؤلفات مستقلة، فقد ألف شيخهم حسين بن محمد تقي الدين الطبرسي المتوفى سنة 1320 كتابه:"فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب" وصفه صاحبه بأنه "كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان، وسميته: "فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب""6.
وفي الهند ألف ميرزا سلطان أحمد الدهلوي كتابا سماه: "تصحيف كاتبين ونقص آيات كتاب مبين" وألف محمد مجتهد اللكنوي كتابه: "ضربة حيدرية".
1 بيان السعادة في مقامات العبادة ج1 ص12.
2 سورة الحجر: الآية 9.
3 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص402، وقد وقع المؤلف في خلط بين الآيتين 79 من البقرة و78 من آل عمران.
4 سورة النساء من الآية 3.
5 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص190.
6 فصل الخطاب: حسين الطبرسي الورقة أ.
ولست هنا بصدد جمع أقوال أصحاب هذا الرأي وأدلتهم، فهذا شأن آخر وإنما أردت إثبات أن هذا القول هو مذهب راسخ عند الشيعة، حتى أفردوه في مؤلفات خاصة.
ولنذكر بعد هذا من سلك الطريق الثاني منهم، فأنكر القول بتحريف القرآن ونسبته إلى الشيعة.
القول بسلامة القرآن من التحريف:
وقد ذهب بعض الشيعة خاصة في العصر الحديث إلى إنكار القول بتحريف القرآن الكريم وأنكروا نسبة ذلك إلى الشيعة، بل زعموا نسبة ذلك إلى بعض علماء أهل السنة وعدوا القول بنسخ التلاوة قولا بالتحريف، متجاهلين -ولا أقول جاهلين؛ لأن مثل هذا لا يخفى- أن النسخ أمر إلهي والتحريف من شأن البشر فلا يعد ذلك تحريفا ولا يعد ذا نسخا.
ثم ذهب كثير منهم في عصرنا هذا يعددون الأدلة على عدم تحريف القرآن فيقول الخوئي: "والحق بعد هذا كله أن التحريف بالمعنى الذي وقع النزاع فيه غير واقع في القرآن أصلا بالأدلة التالية: الدليل الأول قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [15: 9] ، الدليل الثاني قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [41: 42] "1.
وقال شيخهم محمد رضا المظفر: "نعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي ومن ادعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه، وكلهم على غير هدى؛ فإن كلام الله الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه} "2.
1 البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الخوئي ص207-210.
2 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص85.
وقال الخوئي: إن القول بعدم التحريف هو المشهور بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم1.
وقال محمد الحسين آل كاشف الغطاء: "يعتقد الشيعة الإمامية
…
أن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ نص الكتاب العظيم:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة وأخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا، فإما أن تؤول بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار"2.
وقال السيد محسن الأمين: "إن كتب المحققين ومن يعتنى بقولهم من علماء الشيعة مجمعة على عدم وقوع التحريف في القرآن، لا بزيادة ولا نقصان"3.
ولسنا بحاجة هنا إلى أن نسوق النصوص الكثيرة في إنكارهم تحريف القرآن أو نسبة ذلك إلى الشيعة، وإن القارئ لتصيبه الحيرة مما تقول هذه الطائفة منهم وإذا ما علم أن من عقائدهم التقية لم يجد بدا من حمل إنكارهم هذا على تلك العقيدة، ذلك أن تواتر الروايات عندهم في تحريف القرآن مما لا يمكن إنكاره.
ولنعد هنا قولين من أقوال علمائهم لا نزيد عليهما، قال شيخهم نعمة الله الجزائري: "إن القول بصيانة القرآن وحفظه يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن
…
مع أن أصحابنا -رضوان الله عليهم- قد أطبقوا على صحتها والتصديق بها"4.
1 البيان: ص206.
2 أصل الشيعة وأصولها: محمد حسين آل كاشف الغطاء ص63 و64.
3 الشيعة بين الحقائق والأوهام: السيد محسن الأمين ص160.
4 الأنوار النعمانية: نعمة الله الجزائري 2/ 357 و358.
وقال الطبرسي: "إن ملاحظة السند في تلك الأخبار الكثيرة توجب سد باب التواتر المعنوي فيها، بل هو أشبه بالوسواس الذي ينبغي الاستعاذة منه"1.
فإذا كانت هذه الروايات وصلت عندهم إلى تلك الدرجة، فكيف يجرؤ أولئك على إنكار القول بتحريف القرآن وإنكار نسبة ذلك إلى عقيدة الشيعة.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن أولئك الذين أنكروا نسبة هذا إلى الشيعة وأنكروا تواتره فضلا عن صحته أنهم أقروا بأنفسهم في مواضع أخرى وهم يتخبطون بين الإنكار تقية والاعتراف عقيدة، أقروا بالقطع بصحة بعض الروايات في تحريف القرآن، فقال الخوئي مثلا عن تلك الروايات:"إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السلام ولا أقل من الاطمئنان بذلك وفيها ما روي بطرق معتبر، فلا حاجة بنا إلى التكلم في سند كل رواية بخصوصها"2.
ولا ندري لِمَ يزعم محمد جواد مغنية3 أن القول بسلامة القرآن من الزيادة والنقصان "اليوم أصبح هذا القول ضرورة من ضرورات الدين وعقيدة لجميع المسلمين، إذ لا قائل بالنقيصة لا من السنة ولا من الشيعة، فإثارة هذا الموضوع والتعرض له في هذا العصر لغو وعبث أو دس وطعن على الإسلام والمسلمين"؟ 4.
ولا ندري لم يزعم هذا وهو ممن لا يخفى عليه الحق في تلك القضية، لا تخفى عليه أبدا تلك المؤلفات لعلماء الشيعة في عصرنا هذا التي أفردوها لهذه الفرية وهذا الزعم؟
1 فصل الخطاب: ورقة 124.
2 البيان في تفسير القرآن: الحوئي ص226.
3 هو: محمد جواد مغنية العاملي: من علماء الشيعة الإمامية، ولد سنة 1322/ 1904م في طيردبا "قضاء صور" بلبنان، وتعلم بالنجف وعاد فسكن بيروت ومات فيها، ودفن بالنجف 1400/ 1979م. وله عدد كبير من المؤلفات منها: التفسير الكاشف في سبعة مجلدات، والتفسير المبين في مجلد كبير على هامش القرآن الكريم.
4 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص58.
وليس لنا إلا أن نسأل أولئك الذين أنكروا القول بتحريف القرآن ونسبوا القول بذلك -بهتانا- إلى جماعة من علماء السنة والشيعة وأنكروا -زورا- وجود أحد في هذا العصر يقول بهذا القول. ليس لنا إلا أن نسألهم: ما تقولون فيمن يعتقد هذا الاعتقاد؟ فيمن يعتقد تحريف القرآن الكريم، أمؤمن هو أم كافر؟ إن قلتم: مؤمن قلنا: إنه إيمان فريد من نوعه لكنه حتما ليس بالإيمان الذي جاء به الأنبياء والمرسلون وإن قلتم: هو كافر قلنا: لقد حكمتم على كثير من علمائكم، وبقى تخبطكم هذا من أي الصنفين هو الإيمان أو الكفر أو هو من قبيل التقية التي هي دينكم ودين آبائكم كما تقولون؟!
نماذج من تفسيرهم:
ذكرت فيما سبق موقف الشيعة من القرآن الكريم وتفسيره. وإذا أردنا أن نذكر شيئا من تفاسير الإمامية الاثني عشرية للقرآن الكريم فإنا نرى وجوب الاقتصار على تفسير الآيات التي يدعمون بها ما انفردوا به من آراء، ويستندون إليها في إثباتها، ونضيف إلى هذا ما اشتهر عنهم في قضايا أخرى.
أولا: الإمامة
للإمامة عند الإمامية مكانة كبيرة؛ إذ هي المحور الذي تدور حوله عقائدهم وترتكز عليه مبادئهم، حتى نسبوا إليها وسموا بالإمامية.
ففي قوله تعالى خطابا لإبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1 يفسر السيد محمد الطباطبائي2 ذلك بقوله: " {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} أي: مقتدًى يقتدي بك الناس ويتبعونك في أقوالك وأفعالك3، ويرفض القول بأن المراد بالإمامة النبوة ويصفه بأنه في غاية السقوط"3.
1 سورة البقرة: من الآية 124.
2 سيأتي الحديث عنه إن شاء الله.
3 المرجع السابق: ج1 ص270.
ثم يزيد تفسيره للإمامة إيضاحا فيقول: "والذي نجده في كلامه تعالى أنه كلما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير، قال تعالى في قصص إبراهيم عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ، فوصفها بالهداية وصف تعريف ثم قيدها بالأمر فبين أن الإمامة ليست مطلق الهداية، بل هي الهداية التي تقع بأمرالله"1.
وهذا هو الفارق بين الإمامة والنبوة، فالنبوة والرسالة ليستا إلا مجرد إراءة الطريق، إذ يقول:"وبالجملة فالإمام هادٍ يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول، وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة"2.
ومن صفات الإمام عند الإمامية أنه "يجب أن يكون إنسان ذا يقين مكشوفا له عالم الملكوت، متحققا بكلمات من الله سبحانه"3، وهو أيضا أي الإمام "يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد خيرها وشرها، وهو المهيمن على السبيلين جميعا سبيل السعادة وسبيل الشفاوة"3.
أما أفعال الإمام فهي: "خيرات يهتدي إليها لا بهداية من غيره، بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي وتسديد رباني"4.
أما أقواله كما يقول محمد جواد مغنية في تفسيره "فإن قول الإمام نبيا كان أو وصيا هو قول الله، وهداه هدى الله، وحكمه حكم الله الذي لا يحتمل العكس"5.
1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي: ج1 ص272.
2 المرجع السابق: ج1 ص272.
3 المرجع السابق: ج1 ص273.
4 الميزان: الطباطبائي ج1 ص274.
5 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنية ج1 ص197.
وبديهي بعد هذا أن يكون الإمام عندهم معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت عمدا وسهوا، كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان1. أما مستندهم في هذا، فيقول عنه محمد جواد مغنية في تفسيره: "واستدل الشيعة الإمامية بقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} على وجوب العصمة للنبي والوصي، ووجه الدلالة أن الله قد بين صراحة أنه لا يعهد بالإمامة إلى ظالم، والظالم من ارتكب معصية في حياته مهما كان نوعها حتى ولو تاب بعدها حيث يصدق عليه هذا الاسم ولو آنا ما، ومن صدق عليه كذلك فلن يكون إماما"2، وقال: "ويكفي دليلا على عصمة أهل البيت "ع" شهادة الله لهم بالعصمة في الآية 33 من الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} "3.
وهو أيضا ما فسره به الطباطبائي في الميزان، حيث قال في تفسير الآية السابقة:"فمن المتعين حمل إذهاب الرجس في الآية على العصمة"4.
وقد حاول محمد جواد مغنية في تفسيره أن يعمم القول بالعصمة وأنكر اختصاص الشيعة بالقول بها فقال: "وفكرة العصمة لا تختص بالشيعة وحدهم، فإن السنة قالوا بها ولكنهم جعلوها للأمة مستندين إلى حديث لم يثبت عند الشيعة وهو: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"".
والمسيحيون قالوا بعصمة الباب، والشيوعيون بعصمة ماركس ولينين، وقال القوميون السوريون بعصمة أنطون سعادة، والإخوان المسلمون بعصمة حسن البنا5، وكل من استدل بقول إنسان واتخذ منه حجة ودليلا فقد قال بعصمته من حيث يريد أو لا يريد، وفي الصين مئات الملايين اليوم تؤمن بعصمة ماوتسي
1 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص95.
2 الكاشف ج1 ص198؛ والتفسير المبين: محمد جواد مغنية ص25.
3 الكاشف ج1 ص198.
4 الميزان ج16 ص312.
5 هذا محض افتراء وبهتان على الإخوان المسلمين.
تونغ -نحن الآن في سنة 1967- ويشيدون بتعاليمه وإذا اختلف الشيوعيون فيما بينهم وكذلك غيرهم ممن ذكرنا، فإنهم يختلفون في تفسير أقوال الرؤساء والمراد منها لا في وجوب العمل بها، والولاء لها، تماما كما يختلف المسلمون في تفسير نصوص القرآن والمسيحيون في تفسير الإنجيل
…
ومن خص العصمة بالشيعة فهو واحد من اثنين: إما جاهل مغفل، وإما مفترٍ متآمر1.
وهذا كلام لا يخلو من مغالطة، ذلكم أن الشيعة لا تنفرد بالقول بالعصمة على إطلاقها، فأهل السنة أيضا قالوا بالعصمة للأنبياء لكن لم يقل أحد منهم بالعصمة للأئمة من بعدهم وهو ما اختص به الشيعة، أما قول المسيحيين والشيوعيين والقوميين فمما لا يحتج به ولا ينظر إليه عند مناقشة آراء الفرق الإسلامية.
ثانيا: البداء
مذهب أهل السنة في تفسير قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 2 أنه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من الأقدار {وَيُثْبِتُ} ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير؛ لأن ذلك محال على الله، أن يقع في علمه نقص أو خلل؛ ولهذا قال:{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ، الذي ترجع إليه سائر الأشياء فهو أصلها وهي فروع وشعب.
فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة ويجعل الله لثبوتها أسبابا، ولمحوها أسبابا، لا تتعدى تلك الأسباب، ما رسم في اللوح المحفوظ.
كما جعل الله البر، والصلة، والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر، وكما جعل أسباب التجارة من
1 الكاشف ج1 ص198 و199.
2 سورة الرعد: 39.
المهالك والمعاطب سببا للسلامة وجعل التعرض لذلك سببا للعطب، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ1.
هذا ما ذهب إليه أهل السنة في ذلك ولم يقل أحد منهم بالبداء، أما الإمامية الاثنا عشرية فلهم رأي آخر في هذه الآية ونحوها، ففي تفسيرها يقول محمد حسين الطباطبائي:"أقول: والروايات في البداء عنهم عليهم السلام متكاثرة مستفيضة، فلا يعبأ بما نقل عن بعضهم أنه واحد"2.
ثم يوضح ما تدل عليه الآية بزعمه فيقول: "والرواية كما ترى تنفي البداء بمعنى علمه تعالى ثانيا بما كان جاهلا به أولا، بمعنى تغير علمه في ذاته كما ربما يتفق فينا، تعالى عن ذلك، وإنما هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا بعدما كان الظاهر منه خلافه أولا، فهو محو الأول وإثبات الثاني والله سبحانه عالم بها جميعا"2.
ويستدل الخوئي بهذه الآية أيضا، على إثبات النوع الثالث من أنواع البداء وعلى وقوعه فيقول:"الثالث: قضاء الله الذي أخبر به نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه، وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [13: 39] ، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [29: 4] "3، وقد دلت على ذلك روايات كثيرة منها هذه:
1-
ما في تفسير على بن إبراهيم عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدم شيئا أو يؤخره أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثم أثبت الذي أراده، قلت: وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب؟ قال: نعم، قلت: فأي
1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: عبد الرحمن السعدي ج4 ص116 و117.
2 الميزان ج1 ص381.
3 البيان: للخوئي ج1 ص388.
شيء يكون بعده؟ قال: سبحان الله، ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى"1.
واستدل أيضا بما في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية: {يَمْحُوا اللَّهُ
…
} "1.
وقال أيضا: "إن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا"2.
أما محمد رضا المظفر فعرف البداء في الإنسان بـ"أن يبدو له رأي في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقا بأن يتبدل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه إذ يحدث عنده ما يغير رأيه وعلمه به، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله وذلك عن جهل بالمصالح وندامة على ما سبق منه.
والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى؛ لأنه من الجهل والنقص وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الإمامية"3.
ثم اعترف بعد ذلك قائلا: "غير أنه وردت عن أئمتنا الأطهار عليهم السلام روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدم، كما ورد عن الصادق عليه السلام: "ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني" ولذلك نسب بعض المؤلفين في الفرق الإسلامية إلى الطائفة الإمامية القول بالبداء طعنا في المذهب وطريق آل البيت، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة"3.
وليس لنا إلا أن نقول: إذا كان الأمر كما تزعم فلماذا هذا التطرف والتشدد في الأخذ بهذا المبدأ من جانب الشيعة؟ ولماذا جعلوه أصلا من أصول مذهبهم
1 المرجع السابق ج1 ص 388 و389.
2 المرجع السابق ج1 ص392 و393.
3 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص69.
حتى قالوا: "ما عبد الله بشيء مثل البداء"1، وقالوا:"ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء"2، وقالوا:"ما عظم الله عز وجل بمثل البداء"3، وقالوا:"لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه"3؟
ما المقصود من إنزال هذا المعتقد هذه المنزلة؟ لو كان الأمر فيه اعتقاد كاعتقاد أهل السنة ما احتاج ذلك إلى كل هذا التوثيق والتأكيد، وما احتاج إلى أن يجعل أصلا من أصول العقيدة، وما احتاج إلى أن يكون أكبر ما عبد أو عظم الله به، ولكن الأمر أكبر من ذلك.
قال سليمان بن جرير: إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدا وهما: القول بالبداء وإجازة التقية إلى أن قال: "فأما البداء فإن أئمتهم أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم
…
فيما كان ويكون والإخبار بما يكون في غد وقالوا لشيعتهم: إنه سيكون في غد كذا كذا فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمه الأنبياء وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا: إنه يكون على ما قالوا، قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك بكونه"4.
ويؤكد هذا ما نسبوه إلى أبي عبد الله وأبي جعفر وعلي بن الحسين والحسين بن علي والحسن بن علي وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لولا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ
…
} "5.
بل إن صاحب الكافي عقد بابا في أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنهم لا يخفى عليهم الشيء6، وعقد المجلسي بابا في "أنهم أعلم من الأنبياء، عليهم السلام"7.
إذن فلا بد من اللجوء إلى عقيدة البداء بمعناها الباطل، إذ هو المخرج إذا وقع خلاف ما نسب إلى أئمتهم، وإذا ما أنكر "بعضهم" أن الإمامية يقولون بهذا فإنكارهم تقية إذ كتبهم على ما ينكرون شاهدة.
1 الكافي، كتاب التوحيد، باب البداء: محمد بن يعقوب الكليني ج1 ص146.
2 المصدر السابق 1/ 148.
3 البيان: الخوئي ج1 ص392.
4 المقالات والفرق: سعد القمي ص78؛ وفرق الشيعة: النوبختي ص55 و56.
5 البيان في تفسير القرآن: الخوئي ص390.
6 الكافي: الكليني ج1 ص260-263.
7 البحار: المجلسي ج26 ص194-200.
ثالثا: المهدية
مر عند ذكر أئمة الشيعة الاثني عشر أنهم على الترتيب: علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين "زين العابدين" ثم أبو جعفر محمد بن علي "الباقر" ثم أبو عبد الله جعفر بن محمد "الصادق" ثم موسى بن جعفر "الكاظم" ثم علي بن موسى "الرضا" ثم محمد بن علي "الجواد" ثم علي بن محمد "الهادي" ثم الحسن بن علي "العسكري".
أما الإمام الثاني عشر فهو محمد بن الحسن "المهدي" وتعتقد الإمامية أنه ولد للنصف من شعبان سنة 255 في سامراء أيام الخليفة المعتمد، وتوفي والده وله من العمر خمس سنين1، ثم اختفى المهدي بعد ذلك واختفاؤه عندهم مر بمرحلتين: الأولى: الغيبة الصغرى، والثانية: الغيبة الكبرى.
الغيبة الصغرى: يقول محمد جواد مغنية: "ومعنى الصغرى أن الإمام كان يحتجب عن الناس إلا عن الخاصة وأن اتصاله بشيعته كان عن طريق السفراء، فكان الشيعة يعطون الأسئلة إلى السفير وهو بدوره يوصلها إلى الإمام وبعد الجواب عنها والتوقيع عليها يرجعها إلى السائلين على يد سفيره ومن هنا سميت الغيبة الصغرى، أي: إنها ليست بغيبة كاملة بحيث انقطع فيها عن
3 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص252.
جميع الناس وكانت مدتها 74 سنة"1.
وهم يعتقدون أن السفراء بين المهدي والناس في غيبته الصغرى أربعة "وكان السفير الأول بين الإمام الغائب وشيعته رجل يدعى عثمان بن عمر العمري الأسدي
…
ولما توفي عثمان تولى السفارة بعده ولده محمد بأمر المهدي ثم تولاها بعده الحسين بن روح النوبختي ثم علي بن محمد السمري وبعد هؤلاء السفراء الأربعة انتهت الغيبة الصغرى"2.
الغيبة الكبرى: "وتبتدئ بمنتصف شعبان "328هـ" وفيها انقطعت الاتصالات والسفارة بين الإمام وشيعته"3.
وإذا ما سألت عن سبب اختفائه أجابك الطوسي: "لا علة تمنع من ظهور المهدي إلا خوفه على نفسه من القتل؛ لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار"4.
وهم يروون أن أبا عبد الله جعفر الصادق قال: "للغلام غيبة قبل قيامة قيل ولم قال يخاف على نفسه الذبح"5.
ولا شك أن هذا تعليل واهٍ، فقد مر التشيع بفترات كان له الدولة وكانت له القوة ولا تزال إلى أيامنا هذه له دولة، وكلهم ينتظر خروجه فلم لم يظهر حتى الآن إن كان ما زعموه سببا.
ورتبت الإمامية الاثنا عشرية على غيبة الإمام المهدي أحكاما منها تكفير من أنكر مهديهم، وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن منتظرهم:"من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني"6، وقال ابن بابوية القمي: "من أنكر
1 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ج252.
2 المرجع السابق ص253.
3 المرجع السابق ص253.
4 الغيبة: الطوسي ص199.
5 الكافي للكليني ج1 ص340.
6 إكمال الدين: ابن بابوية القمي ص390.
القائم عليه السلام في غيبته مثل إبليس في امتناعه من السجود لآدم"1.
ومن ذلك أنهم جعلوا انتظاره أصلا من أصول الدين، رووا عن أبي جعفر: "والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي تدين الله به: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
…
وانتظار قائمنا"2.
ورتبوا على هذا عدم وجوب صلاة الجمعة؛ لأنها لا تجب إلا مع الإمام ويقولون: "الجمعة والحكومة لإمام المسلمين"3، ويقول الخميني:"تجب صلاة الجمعة في هذه الأعصار مخيرا بينها وبين صلاة الظهر والجمعة أفضل والظهر أحوط وأحوط من ذلك الجمع بينهما"4. وما رأيت تخبطا مثل هذا التخبط كيف تجب الجمعة ثم يخير بينها وبين الظهر؟! ثم كيف تكون الجمعة أفضل والظهر أحوط؟! وهل الاحتياط في ترك الأفضل؟! ثم كيف يجمع بينها وبين الظهر؟! فهي إما صحيحة فلا يصلي معها ظهرا أو باطلة فلا يصليها أصلا، ولكنه أراد أن يقول بإسقاطها بدليل إباحته البيع بعد الأذان مخالفا نص القرآن الكريم فيقول: "لا يحرم البيع يوم الجمعة بعد الأذان في أعصارنا مما لا تجب الجمعة فيه تعيينا"5.
أما تعسفهم في تأويل آيات القرآن الكريم لتوافق رأيهم في مهديهم المنتظر فكثير ذلك، بل إن أحدهم وهو صادق الحسيني الشيرازي ألف كتابا في ذلك أسماه:"المهدي في القرآن" ذكر فيه الآيات الكثيرة زعم أنها في المهدي. قال في مقدمته: "وبعد: فهذه عشرات من الآيات القرآنية البينات التي نزلت تفسيرا أو تأويلا أو تنزيلا أو تطبيقا أو تشبيها في ثاني عشر أئمة أهل البيت ولي أمر الله الإمام المهدي المنتظر عليه السلام
…
وعجل الله فرجه الشريف"6. ولقوة
1 المرجع السابق: ص13.
2 الكافي "عن منتخب الأثر: لطف الله الصافي ص499".
3 منهاج الكرامة: ابن المطهر الحلي ج2 ص69.
4 تحرير الوسيلة: الخميني 1/ 231.
5 تحرير الوسيلة: الخميني 1/ 240.
6 المهدي في القرآن: صادق الحسيني الشيرازي ص5.
هذا المعتقد في نفسه قال: وكان شروعي لجمع هذه الآيات في ليلة ميلاد الإمام المهدي المنتظر سلام الله عليه من عام 1396هـ، حيث يمضي على ولادة الإمام "1141هـ" ولنذكر هنا أمثلة مما ذهب يتعسف في تأويلها.
في تفسير قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 1.
قال: "أقول: يعني أن المتقين هم المؤمنون بالإمام المهدي عليه السلام ويعني الغيب هو نفس الإمام المهدي"2.
وفي تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} 3، يقول:"هم الشاكون في الإمام المهدي، عجل الله فرجه الشريف"4.
وإن شئت شيئا من المضحكات المبكيات فاستمع إلى تفسيره لقوله تعالى حكاية لقول الوط عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} 5 قال في ذلك: "أقول إذن: "القوة" و"الركن الشديد" في هذه الآية الكريمة تأويلها الإمام المهدي، عليه السلام وأصحابه6.
حتى قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} 7، لم يسلم من تعسف هذا في التفسير، فقال في ذلك:"أقول: الخنس بمعنى الاختفاء وتفسير الآية وارد في النجوم التي يختفي بعضها في وقت اختفائها، وتأويلها وارد في الإمام المهدي عليه السلام لأنه يختفي حيث يأمره الله بالاختفاء، ويظهر -كالشهاب الثاقب- حيث يأمره الله بالظهور"8.
أما في قوله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا
1 سورة البقرة: من الآيتين 2 و3.
2 المهدي في القرآن: ص10.
3 سورة هود: من الآية 21.
4 المهدي في القرآن: ص73.
5 سورة هود: من الآية 80.
6 المهدي في القرآن: ص75.
7 سورة التكوير: الآية 15.
8 المهدي في القرآن: ص253.
يَحْذَرُونَ} 1. فقد أورد رواية تقول: "إن فرعون وهامان هنا شخصان من جبابرة قريش، يحييهما الله تعالى عند قيام القائم من آل محمد في آخر الزمان، فينتقم منهما بما أسلفا". وقد علق على هذا قائلا: "أقول إذن: تكون هذه الآية الكريمة محققة في عصر الإمام المهدي عليه السلام ومن علامات ذلك العصر وسمات ذاك الزمان"2.
وزعم -ولبئس ما زعم- أن المهدي سيتحقق على يديه ما لم يتحقق على أيدي الأنبياء من قبله، بل عجزوا عنه حيث قال في تفسير قوله تعالى:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} 3. قال المؤلف: "روى الحافظ القندوزي "الحنفي"
…
عن جعفر الصادق رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يقول: إذا أقام "القائم المهدي" لا يبقى أرض إلا نودي فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله "أقول" يعني أن هذه الآية الكريمة إشارة إلى عهد "المهدي" المنتظر عليه السلام إذ في زمانه الكلمة كلها لله على وجه الأرض كلها؛ لأن كل من في الأرض يسلم ويخضع لله تعالى ولم يتم هذا حتى اليوم لا في عهد الأنبياء السابقين عليهم السلام ولا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهود بعده أن يكون كل من على وجه الأرض مسلما لله خاضعا لدين الله {طَوْعًا وَكَرْهًا} 4.
ولم ينفرد بهذا الزعم الباطل، فقد ذهب إليه الخميني في كلمة وجهها في 15 شعبان "1400هـ" من إذاعته في طهران5، وقد استنكرت بعض الصحف الإسلامية ذلك وأصدرت رابطة العالم الإسلامي بيانا بهذا الصدد6.
1 سورة القصص: من الآية 6.
2 المهدي في القرآن: ص 144.
3 سورة آل عمران: الآية 83.
4 المهدي في القرآن: ص21.
5 جريدة الرأي العام الكويتية 17 شعبان 1400هـ.
6 جريدة المدينة المنورة 4 رمضان 1400هـ.
وذهب إلى هذا الباطل أيضا محمد الصادقي في تفسيره حيث قال في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1 قال: "فلا يبقى دين إلا دين الإسلام، وكما وعدناه في دولة القائم المهدي محمد بن الحسن العسكري عليه السلام الذي به يملأ الله الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا".
إن جذور ومؤهلات هذه الغاية متواجدة في شريعة الإسلام مهما لم تتحقق زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه حتى الآن ظهورا على الأديان، ولكنها سوف تتحقق في الدولة المحمدية الأخيرة التي يبتدئ بها مؤسسا لها حفيده المهدي المنتظر، عليه السلام2، ويقول:"إن الديانات الأخرى، من حق وباطل ليست لها مؤهلات الغلبة الشاملة وتأسيس دولة موحدة عالية لا في ذواتها، ولا في زعاماتها، ولكنما الإسلام يملك هذه الأهلية فيها معا فدستوره العالمي هو قرآنه الكامل، الحافل لكافة متطلبات الحياة وقيادته العالمية هي الظاهرة في رسوله وأوصيائه والباهرة أخيرا "!! " في القائم المهدي، عليه السلام"3.
ومن عجائب تفسيرهم، تفسير محمد الصادقي لقوله تعالى:{وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} 4، حيث يقول: فما هو الفجر هنا؟ إنه هو كل فجر من كل ليلة، وفجر شمس الرسالة المحمدية وفجر قيام المهدي عليه السلام من ولده، وفجر العقول عن ظلمات الأهواء، وفجر العيون والأنهار5. ثم نقل رواية عن الصادق "ع" قال:{وَالْفَجْرِ} هو القائم، والليالي العشر الأئمة من الحسن إلى الحسن {وَالشَّفْعِ} أمير المؤمنين وفاطمة، {وَالْوَتْرِ} هو الله وحده لا شريك له
1 سورة الصف: الآية 9.
2 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج28 ص316.
3 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج28 ص316.
4 سورة الفجر: الآيتان 1 و2.
5 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج30 ص305 و306.
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} هي دولة حبتر1، فهي تسري إلى دولة القائم2.
ويعلق الصادقي على هذا التفسير قائلا: "أقول: وهذا تأويل لطيف "!! " لا ينافي تفسيره بغيره، فالليالي العشر هم الأئمة العشرة اعتبارا بما ظلموا وأظلمت عليهم حياتهم ولكن عليا "ع" مهما ظلم، فقد حكم ردحا من الزمن ثم القائم المهدي هو فجر الإسلام حيث يحيا ويتسع في زمنه"3.
رابعا: الرجعة
وترتبط بالعقيدة السابقة.
ويريدون بالرجعة "أن الله تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعز فريقا ويذل فريقا آخر، ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين"4.
أما زمن ذلك فقالوا: "وذلك عند قيام مهدي آل محمد، عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام"4.
1 قال في القاموس ج1 ص3: الحبتر كجعفر: الثعلب، والقصير. ويريد به الشيعة أبا بكر أو عمر رضي الله عنهما على خلاف بينهم. وفي تفسير العياشي أحد أئمتهم لقوله تعالى:{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 44] قال: "عن أبي بصير بن جعفر بن محمد عليه السلام قال: تؤتى بجهنم لها سبعة أبواب بابها الأول للظالم وهو زريق "يريد أبا بكر، رضي الله عنه" وبابها الثاني لحبتر "يريد عمر رضي الله عنه" والباب الثالث للثالث "يريد عثمان، رضي الله عنه" والرابع لمعاوية "رضي الله عنه" والباب الخامس لعبد الملك والباب السادس لعسكر بن هوسر "كناية عن بعض خلفاء بني أمية أو بني العباس، كذا قال المجلسي" والباب السابق لأبي سلامة "كناية عن أبي جعفر الدوانيقي" فهم أبواب لمن اتبعهم" تفسير العياشي ج2 ص243. قال المجلسي في بحار الأنوار ج4 ص378:"يحتمل أن يكون عسكر كناية عن عائشة وسائر أهل الجمل إذ كان اسم جمل عائشة عسكرا، وروي أنه كان شيطانا" بقي أن أقول: إن المجلسي والعياشي من أئمة الشيعة!!.
2 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج30 ص305 و306.
3 الفرقان: محمد الصادقي ج30 ص306.
4 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص109 و110.
أما من يرجع فقالوا: "ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب"1.
أما موقفهم من تلك العقيدة فقالوا: "والإمامية بأجمعها عليه، إلا قليلين"1، ونذكر من تأويلهم للآيات في ذلك.
تفسير سلطان بن حيدر لقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2، قال:"وهذه الآية تدل على جواز الرجعة كما وردت الأخبار بها وصارت كالضروري في هذه الأمة، وقد احتج أمير المؤمنين عليه السلام بها على ابن الكوافي إنكاره الرجعة"3.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} قال محمد حسين الطباطبائي: وظاهر الآية أن هذا الحشر في غير يوم القيامة؛ لأنه حشر للبعض من كل أمة لا لجميعهم، وقد قال الله تعالى في صفة الحشر يوم القيامة:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47] 4، ثم قال:"فقد بان أن الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة وإن لم تكن نصا لا يقبل التأويل4، ثم ذكر رواية عن حماد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما يقول الناس في هذه الآية: {يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} ؟ قلت: يقولون: إنه في القيامة قال ليس كما يقولون، إنها في الرجعة أيحشر الله في القيامة من كل أمة فوجا ويدع الباقين؟ إنما آية القيامة: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} 5. ثم علق قائلا: "أقول: وأخبار الرجعة من فرق الشيعة كثيرة جدا"5.
1 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص109 و110.
2 سورة البقرة: الآية 55.
3 بيان السعادة في مقامات العبادة: سلطان محمد بن حيدر الجنابذي ج1 ص54.
4 الميزان في تفسير القرآن: ج15 ص397 و398.
5 المرجع السابق ج15 ص406.
وفي تفسير قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} 1 قال محمد الصادقي في تفسيره: "علمان متتابعان يفوق بعضهما البعض بعد الجهل المتمادي -العامد- يوم الدنيا: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} : عند سكرات الموت وهو بداية العلم، وفي الكرة2: يوم قيامة القائم "ع" بعد "الموت" {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} في المحشر"3، وقال أيضا:"أقول: الكرة هنا هي الرجعة في دولة الإمام المهدي "ع" وليست للكل وقد يقال بما أن المخاطبين هنا هم الكفرة الذين محضوا الكفر محضا، فهم كلهم حسب الروايات يرجعون ثم أقول: لا مانع من كون المرة الأولى للعلم شاملة للكرة ولسكرات الموت وما بعد الموت، وبذلك يجمع بين الروايات. إلا أن العلم بعد الكرة -إذن- تحصيل للحاصل قبل الكرة بعد الموت، إذن فما العلم هنا إلا عند الموت وبعده"4.
خامسا: التقية
ويريدون بها كما يقول أحد علمائهم المعاصرين: "أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد لتدفع الضرر عن نفسك أو مالك أو لتحتفظ بكرامتك"5. وأدلتهم كما يقول: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [الآية 28 من سورة آل عمران] فالآية صريحة في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء إلا في حال الخوف واتقاء الضرر والأذى، واستدلوا بالآية "106" من سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ، واستدلوا أيضا بالآية "28" من سورة غافر: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} فكتم الإيمان وإظهار خلافه ليس نفاقا ورياء كما زعم من نعت التقية بالنفاق والرياء
1 سورة التكاثر: الآيتان 3 و4.
2 الكرة والرجعة بمعنى واحد.
3 الفرقان: محمد الصادقي ج30 ص434.
4 الفرقان: محمد الصادقي ج30 ص434.
5 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص48.
وبالآية "195" من سورة البقرة: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 1.
أما منزلة التقية عندهم فبينها أحد معاصريهم فقال: "روي عن صادق آل البيت عليه السلام في الأثر الصحيح: "التقية ديني ودين آبائي" و"من لا تقية له لا دين له"، وكذلك هي لقد كانت شعارا لآل البيت عليهم السلام دفعا للضرر عنهم وعن أتباعهم، وحقنا لدمائهم واستصلاحا لحال المسلمين وجمعا لكلمتهم، ولمًّا لشعثهم"2.
وفي التفسير لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 3، قال الطباطبائي: "وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام
…
وبالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقلي يؤكده"4، يقول: "أقول: والأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا، ربما بلغت حد التواتر"5.
ونقل في تفسيره ما ورد في الصافي عن كتاب "الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث: "وآمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله يقول "!! " وإياك ثم إياك أن تتعرض للهلاك وأن تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك
…
""6.
وللتقية عندهم حدود يبين بعضها الخميني فيقول في رواية سابقة عن الإمام الصادق "ع": ترون أن الإمام بالرغم من ظروف التقية المحطية به وفقدانه للسلطة يبين للمسلمين أو يعين لهم الحاكم والقاضي ويأمرهم بالرجوع والتحاكم إليه"7.
1 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص50.
2 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص114.
3 آل عمران: من الآية 28.
4 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج3 ص153.
5 المرجع السابق: ج3 ص163.
6 المرجع السابق: ج3 ص162 و163.
7 الحكومة الإسلامية: الخميني ص129.
ويقول: "فرض الأئمة عليهم السلام على الفقهاء فرائض مهمة جدا وألزموهم أداء الأمانة وحفظها، فلا ينبغي التمسك بالتقية في كل صغيرة وكبيرة، فقد شرعت التقية للحفاظ على النفس أو الغير من الضرر في مجال فروع الأحكام، أما إذا كان الإسلام كله في خطر فليس في ذلك متسع للتقية والسكوت"1.
وللتقية فيهم آثار خطيرة على الإسلام والمسلمين، ولولا أن المقام هنا مقام عرض للتفسير وإثبات لعقائدهم فيه مجرد إثبات، لولا ذلك لذكرنا من آثار تلك العقيدة الكثير الكثير مما يحز في نفس المسلم ولا يخطر له ببال أن يصدر هذا عن فرقة أي فرقة، تعلن انتماءها للإسلام.
سادسا: في القرآن الكريم
أ- للقرآن ظهر وبطن:
ويريدون بذلك كما اسلفنا "أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم، وأن الظهر والبطن أمران نسبيان، فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره وبالعكس"1.
ويوضح الطباطبائي هذا فيقول: "يقول الله تعالى في كلامه المجيد: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 2 ظاهر هذه الآية الكريمة أنها تنهى عن عبادة الأصنام كما جاء في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} 3، ولكن بعد التأمل والتحليل يظهر أن العلة في المنع من عبادة الأصنام أنها خضوع لغير الله تعالى وهذا لا يختص بعبادة الأصنام، بل عبر عز شأنه عن إطاعة الشيطان أيضا بالعبادة، حيث قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا
1 المرجع السابق: ص142.
2 تفسير الميزان: ج3 ص73.
3 سورة النساء: 36.
4 سورة الحج: 30.
الشَّيْطَانَ} 1 إلى أن قال الطباطبائي: "نرى بالنظرة البدائية في قوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} أنه تعالى ينهى عن عبادة الأصنام وعندما نتوسع بعض التوسع نرى النهي عن عبادة غير الله من دون إذنه، ولو توسعنا أكثر من هذا لنرى النهي عن عبادة الإنسان نفسه باتباع شهواتها. أما لو ذهبنا إلى توسع أكثر فنرى النهي عن الغفلة عن الله والتوجه إلى غيره.
إن هذا التدرج -ونعني به ظهور معنى بدائي من الآية ثم ظهور معنى أوسع وهكذا- جارٍ في كل من الآيات الكريمة بلا استثناء"2.
"هذا الذي ذكره الطباطبائي هنا مثالا للتفسير الباطن تجده يستند إلى آيات أخرى في بيان الآية الأولى، إضافة إلى هذا فإن هذا التفسير تربطه بالآية روابط قوية من حيث المعنى في الآيات جميعا ومن حيث العموم والخصوص.
ولكن: هل قول الشيعة بأن للقرآن ظهرا وبطنا على هذا النحو؟ الحق أن الكثير والكثير من تفسير الشيعة من التفسير الباطني، وأن أغلبه من النوع الذي لا تربطه بالآية رابطة وكأن القرآن طلسم من الطلاسم أو ضرب من المعميات والألغاز.
ويكفي أن نذكر هنا مثالا أو مثالين لولا خشيتنا أن يقال: هذان قولان شاذان لا عبرة بهما؛ لذا فسأستطرد بعض الاستطراد في الأمثلة حتى يزيد المؤمن إيمانا، ويزول شك من في قلبه كبير شك قبل هذا.
في تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3، يورد الطباطبائي في ميزانه عن ابن شهر آشوب عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه وزيد بن علي بن الحسين، عليه السلام:{وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، يعني: ولاية علي بن أبي طالب،
1 سورة يس: 23.
2 القرآن في الإسلام: محمد حسين الطباطبائي، ص27 و28.
3 سورة يونس: الآية 25.
ويعلق على هذا قائلا: "أقول: إن كانت الرواية موقوفة فهي من الجري أو من الباطن من معنى القرآن، وفي معناها روايات أخر"1.
وفي قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 2، يقول في الفقيه وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال:"الصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السلام"3.
وهذا عبد الحسين شرف الدين الموسوي يقول في مراجعاته عن أئمتهم: "أليسوا حبل الله الذي قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} الصادقين الذين قال: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وصراط الله الذي قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} وسبيله الذي قال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
…
إلى أن قال: "وأشار في السبع المثاني والقرآن العظيم إليهم، فقال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ألم يجعل المغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا مشروطة بالاهتداء إلى ولايتهم، إذ يقول:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} ، ألم تكن ولايتهم من الأمانة التي قال الله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ، ألم تكن من السلم الذي أمر الله بالدخول فيه فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، أليست هي النعيم الذي قال تعالى:{لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ؟ 4.
بقي أن أقول: إن هذه السفسطة لم ترد في مؤلف مستور، بل في أحد مؤلفاتهم الحديثة المنشورة والموجهة لأهل السنة لإقناعهم بمذهب الشيعة؟!!
فعلى أي أساس ذهب إلى هذه الأقوال؟ وأية رابطة بين الآية وما فسرها به؟
1 الميزان في تفسير القرآن: ج10 ص41.
2 الفاتحة: الآية السابعة.
3 الميزان: ج1 ص41.
4 المراجعات: عبد الحسين شرف الدين الموسوي، ص54-57.
وهذا الدكتور محمد الصادقي يفسر قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} 1، بقوله:"أقول: فقد اتصل بحر النبوة بفاطمة الصديقة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ببحر الإمامة علي "ع"، بحران ملتئمان متلاقيان، بينهما برزخ الرسالة القدسية المحمدية، إذ اتصل بحر الإمامة والنبوة روحانيا مسبقا، أن تربى علي في حجر النبي وفي جو الوحي والتنزيل، ثم اكتمل الاتصال الروحاني بوصلة جسمانية في زواج علي بفاطمة والنبي هو البرزخ بين البحرين إذ جمع الولاية والنبوة، وعلي له الولاية دون النبوة والوحي، وفاطمة هي بضع النبوة، دون الرسالة والإمامة والخارج منهما اللؤلؤ والمرجان: الحسنان هما مجمع الولاية روحانيا والنبوة نسبيا"2.
وقال الطباطبائي: "وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} قال: علي وفاطمة، {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، قال: الحسن والحسين". "أقول" ورواه أيضا عن ابن مردويه عن أنس بن مالك مثله، ورواه في مجمع البيان عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري. وهو من البطن"3.
وقال بهذا أيضا من المعاصرين محمد حسين الكاشف الغطاء حيث قال في تفسيرها: "علي بحر نور الإمامة، وفاطمة بحر نور النبوة والكرامة"4.
وقال محمد الصادقي في تفسير قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 5: "ما يتوجه به إلى الله: ذوات قدسية ربانية، منهم باقون؛ لأنهم منه "!! " وهم عند الله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} 6، فهو هنا انصرف عن المعنى المتبادر الظاهر
1 سورة الرحمن: الآيتان 19 و20.
2 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج27 ص32.
3 الميزان ج10 ص103.
4 حياة الإمام الحسن بن على: باقر شريف القرشي، تقديم محمد حسين آل كاشف الغطاء.
5 الرحمن: 27.
6 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادق ج27 ص35 و36.
"لوجه" إلى معنى التوجه، ويستدل لذلك بما ورد في تفسير القمي عن علي بن الحسين "ع": نحن الوجه الذي يؤتى الله منه"1.
ويزيد الطباطبائي فيقول في تفسيره: "وفي مناقب ابن شهر آشوب"، قوله:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} قال الصادق عليه السلام: نحن وجه الله2.
ب- أسلوب الجري في القرآن:
وهو نوع من أنواع التفسير الباطني للقرآن إلا أنه مخصوص بتطبيق الآيات القرآنية على أئمتهم أو على أعدائهم كما قال الطباطبائي في تفسيره: "واعلم أن الجري -وكثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب- اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت عليهم السلام"، وقال:"والروايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم عليهم السلام وعلى أعدائهم، أعني روايات الجري كثيرة في الأبواب المختلفة"3.
وهو كما قال في كثير من تفاسيرهم وما ورد من رواياتهم، ومن العجيب أنهم يحرصون على إيراده والقول به في تفسير الآية ولكنهم لا يعدونه تفسيرا، بل ينصون على أنه من الجري وسنذكر هنا أمثله لذلك.
في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 4، يقول محمد حسين الطباطبائي:"وفي المعاني عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، قال: من آمن بقيام القائم عليه السلام أنه حق أقول وهذا المعنى مروي في غير هذه الرواية، وهو من الجري"5.
وفي موضع آخر يضرب مثالا للأخبار الواردة في جري القرآن وانطباقه فيقول: "كما ورد في قوله: "وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم"، وما ورد من
1 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادق ج27 ص35 و36.
2 الميزان ج19 ص103.
3 المرجع السابق ج1 ص41 و42.
4 سورة البقرة: من الآية 3.
5 الميزان ج1 ص46.
قوله: "ومن يطع الله ورسوله في ولاية علي والأئمة من بعده فقد فاز فوزا عظيما"، وهي كثيرة جدا"1.
ويعلق على ما ورد في تفسير العياشي عن المفضل قال: سألت الصادق عليه السلام عن قوله: {أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} ، قال: التقية.. إلخ، فيقول:"أقول: الروايتان من الجري وليستا بتفسير"2.
وفي تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} 3، يقول:"أقول: وفي العيون عن الرضا عليه السلام، تطبيق الآية على منكري الولاية وهو من الجري"2.
وعلى ما في تفسير القمي في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} ، قال:"الحسنة والله ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، والسيئة والله عداوته". علق الطباطبائي على هذا بقوله: "أقول: وهو من الجري وليس بتفسير"4.
أما المدعو صادق الحسيني الشيرازي فيقول في تفسير قوله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود: 86] : أخرج العالم "الشافعي" السيد المؤمن الشبلنجي في "نور الأبصار" قال عن أبي جعفر، رضي الله عنه، قال في حديث طويل ذكره وفيه:"فإذا خرج "يعني المهدي" أسند ظهره إلى الكعبة واجتمع إليه 313 رجلا من أتباعه، فأول ما ينطق به هذه الآية: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، ثم يقول: أنا بقية الله وخليفته وحجته عليكم". "أقول": ولا ينافي هذا التأويل نزول الآية فعلا عن النبي شعيب عليه السلام؛ لأن التنزيل والتأويل شيئان والقرآن له ظاهر وله باطن فلا ينافي قصد أحدهما كون المراد في الآية الآخر أيضا"5.
1 الميزان: 12 ص113.
2 الميزان ج13 ص337.
3 سورة الكهف: الآية 101.
4 الميزان ج15 ص406.
5 المهدي في القرآن: صادق الحسيني الشيرازي ص76.
وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
…
} الآية1، قال الشيرازي:"لا منافاة بين ورود تأويل هذه الآية تارة من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليهما "كذا" السلام" وتارة في أصحاب الإمام المهدي المنتظر "عليه السلام" وذلك لأن عليا القائم مع أصحابه، كلاهما مصدقان لهذه الآية.. وكم لمثل ذلك من نظائر في القرآن، فالقرآن ظاهر وباطن وتنزيل وتأويل وتفسير ومعنى"2.
وهذا الدكتور محمد الصادقي يقول في تفسير قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} 3: "والوتر بين الأوصياء الأوفياء هو علي عليه السلام والشفع الحسنان عليهما السلام"، ويقول:"أقول: وقد وردت روايات أخرى في تأويل الشفع والوتر كلها من باب التطبيق، تشملها الآية الكريمة"4.
أما الليالي العشر عنده، فيورد ما جاء في البرهان عن الصادق "ع" قال: والفجر هو القائم والليالي العشر الأئمة من الحسن إلى الحسن والشفع أمير المؤمنين وفاطمة والوتر هو الله وحده لا شريك له، والليل إذا يسر هي دولة حبتر فهي تسري إلى دولة القائم، ثم يقول:"أقول: وهذا تأويل لطيف لا ينافي تفسيره بغيره، فالليالي العشر هم الأئمة العشرة اعتبارا بما ظلموا وأظلمت عليهم حياتهم"5.
وفي قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} ، وقوله سبحانه:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} يقول: "ومن باب الجري والتأويل قد يشمل البحران واللؤلؤ والمرجان بحري النبوة والإمامة، بحري عذب فرات لا ملح ولا أجاج"6.
1 سورة المائدة: من الآية 54.
2 المهدي في القرآن: صادق الشيرازي ص39 و40.
3 سورة الفجر: الآية 3.
4 الفرقان: ج30 ص308.
5 تفسير الفرقان: ج30 ص306.
6 الفرقان ج27 ص32.
وأخيرا ففي تفسير قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 1، يقول: "قد وردت أحاديث أن الأئمة من آل محمد هم النور، وهذا من التأويل والجري
…
"2.
والأمثلة هنا كثيرة جدا وربما تبلغ المئين، كما قال محمد حسين الطباطبائي في تفسيره3.
ولا شك أن هذا من الإلحاد في آيات الله سبحانه ولا يخفى حكم الله على الملحدين في آياته: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 4.
قال القاسمي: شملت الآية من يضع الكلام في الآيات على غير مواضعه كما فسرها ابن عباس، قال في الإكليل: ففيها الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه جوهر اللفظ كما يفعله الباطنية والاتحادية والملاحدة وغلاة المتصوفة5.
ولأن القرآن الكريم إنما أنزل لهداية الناس وفيما سلكوه إلغاء لهذه الهداية وإبطال لها، ولكن والحمد لله لن تبلغه أنفاسهم. أما الغزالي رحمه الله فقد عد هذا من الطامات، حيث قال: "وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح، وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الإفهام فائدة، كدأب الباطنية في التأويلات فهذا أيضا حرام وضرره عظيم، فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع، ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل، اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى كلام رسوله صلى
1 سورة التغابن: الآية 8.
2 الفرقان ج28 ص378.
3 الميزان ج1 ص42.
4 سورة فصلت: الآية 40.
5 تفسير القاسمي ج14 ص5211، وانظر الإكليل للسيوطي ص354.
الله عليه وسلم، فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له، بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى، وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر"1.
ومن العجيب أنهم لما شعروا أن باب التأويل الباطني باب واسع يستطيع كل من دخل منه أن يصل إلى كل ما يدور بخلده ويجيش بخاطره2، وأن يدخل على القرآن ما ليس منه وخشية من أن ينافسهم في هذا الباب منافس، قصروا هذا الحق على أنفسهم، بل على أئمتهم فبوبوا الأبواب على:"أنه لا يعرف تفسير القرآن إلا الأئمة"3، وقالوا:"إن جميع التفاسير الواردة عن غير أهل البيت لا قيمة لها، ولا يعتد بها"4.
وقد أدى بهم هذا إلى التخبط حتى فيما نسب من التفسير إلي إمام واحد!! أورد الطباطبائي في تفسيره كما رواه العياشي في تفسيره عن جابر قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني، ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم، فقال: يا جابر إن للقرآن بطنا وللبطن بطن، وظهرا وللظهر ظهر، يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية تكون أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متصل ينصرف على وجوه"5.
أليس هذا تخبطا وأليس من الطامات كما قال الغزالي، رحمه الله؟!
ج- التفسير العقلي:
قلنا: إن الشيعة تأثروا تأثرا بينا بالمعتزلة في هذا المنحى ويرجع هذا التأثر
1 إحياء علوم الدين: الغزالي ج1 ص43.
2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص32.
3 الفصول المهمة: الحر العاملي ص57.
4 الشيعة والرجعة: محمد رضا النجفي ص19.
5 الميزان: ج3 ص73.
إلى أن عددا كبيرا من سلف الشيعة تتلمذ لبعض شيوخ المعتزلة، كما يظهر لنا جليا أن هذا الارتباط في التفكير شيء قديم غير جديد1.
يقول محمد جواد مغنية في تفسير قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 2 الآية: "والمراد بالحكمة والموعظة الحسنة الاعتماد على العقل فيما يستقل بإدراكه كالألوهية التي يتوصل الإنسان إلى معرفتها بالإمعان والتأمل في خلقه وفي خلق السموات والأرض، وكنبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي يعرفها الباحثون من سيرته وطبيعة رسالته. أما منهج الإسلام في معرفة ما لا يستقل العقل بإدراكه من أصول العقيدة كبعض المغيبات فهو الاعتماد على وحي من الله إلى نبيه الذي ثبت بدليل العقل نبوته وصدقه فيما أخبر به عن الله جل وعز، أما المنهج لإثبات الشريعة فهو الكتاب والسنة والعقل
…
"3.
ومن المعلوم أن الشيعة لا توافق المعتزلة في كل ما ذهبت إليه من آراء وإلا لاتحدت الفرقتان وشق التمييز بينهما، ولكن الوشائج -لما ذكرنا- قوية ووجوه الشبه بارزة في الآراء الكلامية.
فذلكم محمد جواد مغنية يقول في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} 4، وتسأل: ظاهر الآية يدل على أن الله سبحانه هو الذي جعل أكابر المجرمين يجرمون ويمكرون بأهل الحق مع العلم بأنه تعالى ينهى عن المكر والإجرام، ويعاقب عليهما، فما هو التأويل؟ الجواب أن القصد من هذه النسبة إليه -جل ثناؤه- هو الإشارة إلى أن مشيئة الله قضت بأن تقوم السنن الاجتماعية على أساس التناقض بين المحقين والمبطلين، بين أرباب السلطان المعتدين وبين الناس المعتدى عليهم، ولا مفر من هذا التناقض
1 التفسير والمفسرون: الذهبي ج2 ص25.
2 سورة النحل: من الآية 125.
3 تفسير الكاشف: ج1 ص51.
4 سورة الأنعام: من الآية 123.
والصراع إلا بالقضاء على المجرمين ولا بد أن يتم ذلك وتعلو كلمة الحق على أيدي دعاة العدل والصلاح، مهما تضخم الباطل واستطال1.
ويظهر رأيه أكثر وضوحا عند تفسيره لقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الآية2، حيث يقول:"قال الرازي: تمسك أصحابنا -يريد السنة الأشاعرة- بهذه الآية في بيان أن الضلال والهداية من الله تعالى"، أما أصحابنا فيقولون: لو كان الضلال والهداية من الله لسقط التكليف وبطل الحساب والجزاء؛ لأنه تعالى أعدل من أن يفعل الشيء ويحاسب غيره عليه، كيف وهو القائل:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؟ أما الآية التي نحن في صدد تفسيرها فلا تدل على دعوى الرازي وأصحابه؛ لأنها لم ترد لبيان مصدر الضلالة والهداية وأنه من الله أو من غيره، وإنما وردت لبيان أن الناس فريقان:
الفريق الأول: تتسع صدورهم للحق ويتفاعلون معه ويطمئنون إليه.
الفريق الثاني: لا تتسع صدورهم للحق لجهلهم وضيق أفقهم
…
3.
ولنسلم جدلا بما يقول في دلالة الآية ولننتقل معه إلى تفسيره لقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَالْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 4، ولنقرأ تفسيره حيث يقول: "ليس المراد أن من يخلق الله فيه الهداية فهو المهتدي ومن يخلق فيه الضلال فهو الضال. كلا، إن هذا تأباه الفطرة والبديهة
…
لأن الله ليس بظلام للعبيد.."، إلى أن قال: "والذي نراه أن المعنى المقصود من الآية أن المهتدي حقا هو من كان عند الله مهتديا "!! " ولو كان عند الناس ضالا، وليس من شك أن الإنسان لا يكون من المهتدين في الميزان الإلهي إلا إذا آمن وعمل صالحا:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
1 تفسير الكاشف: محمد جواد مغنية ج3 ص259.
2 سورة الأنعام: من الآية 125.
3 تفسير الكاشف ج3 ص261 و262.
4 سورة الأعراف: الآية 178.
الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] . وكذلك الضال فإنه من كان ضالا في حساب الله لا في حساب الناس، وبكلمة إن الآية تحدد معنى كل من المهتدي والضال بأنه من كان كذلك عند الله تماما كما قال الإمام علي "ع":"الغنى والفقر بعد العرض على الله"1.
وكذا في تفسير قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} 2، يقول:"ليس المراد بمن أضل الله ويضلل الله خلق الإضلال فيهم، كلا، وإنما المراد أن من حاد عن طريق الحق والهداية بإرادته، وسلك طريق الباطل والضلال باختياره، فإن الله يعرض عنه ويدعه وشأنه"!! ""3.
د- رؤية الله:
وكذا في الرؤية نجد مفسري الشيعة ينكرون جوازها ووقوعها، ونورد هنا آراء ثلاثة من مفسريهم في القرن الرابع عشر.
فهذا محمد بن حيدر يقول في تفسيره لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 4: "وجوه يومئذ ناضرة جواب سؤال مقدر عن حال الآخرة، إلى ربها ناظرة، أي: إلى ربها المضاف لظهور الولاية وصاحبها في ذلك اليوم أو إلى ربها المطلق لظهور آثاره، أي: إلى آثاره ناظرة أو منتظرة إلى ثواب"5.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 6، يقول مغنية: "وحيث جاء في الآية الكريمة: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} نشير إلى النزاع القائم بين أهل المذاهب الإسلامية وفرقها من أن العقل: هل يجيز رؤية الله بالبصر أو يمنعها؟ قال الأشاعرة السنة: إن رؤية الله بالبصر
1 تفسير الكاشف ج3 ص424.
2 سورة النساء: من الآية 88.
3 تفسير الكاشف: ج2 ص400.
4 سورة القيامة: الآيتان 22 و23.
5 بيان السعادة في مقامات العبادة: محمد بن حيدر الجنابذي ج2 ص294.
6 سورة البقرة: من الآية 55.
جائزة عقلا؛ لأنه موجود وكل موجود يمكن رؤيته، وقال الإمامية والمعتزلة: لا تجوز الرؤية البصرية على الله بحال، لا دينا ولا دنيا؛ لأنه ليس بجسم، ولا حالا في جسم ولا في جهة. وبعد أن منعوا الرؤية عقلا حملوا الآيات الدالة بظاهرها على جواز الرؤية، حملوها على الرؤية بالعقل والبصيرة لا بالعين والبصر، وبحقائق الإيمان، لا بجوارح الأبدان على حد تعبير الفيلسوف الشهير الكبير محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بالملا صدرا، وبصدر المتألهين. ومما استدل به الملا صدرا على امتناع الرؤية قوله:"إن الإحساس بالشيء حالة وضعية للجوهر الحاس، بالقياس إلى المحسوس الوضعي، ففرض ما لا وضع له أنه محسوس، كفرض ما لا جهة له أنه في جهة".
ثم يستدل بقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك فيقول: "وانتقل ذهني وأنا أقرأ عبارة هذا العظيم -يعني الملا صدرا- إلى الفيلسوف الإنجليزي جون لوك القائل بالواقعية النقدية، وملخصها أن للشيء صفات أولية ثابتة له واقعا، ولا تنفصل عنه إطلاقا، سواء أوجد من يدركها أم لم يوجد، كالعناصر المقومة المكونة للشيء
…
وأيضا له صفات ثانوية نسبية لا توجد مستقلة عن ذات تحسها وتدركها كاللون والصوت والطعم، فاللون ليس صفة للشيء، كما يتراءى وإنما هو موجات ضوئية خاصة بين الشيء والعين عند العلماء، وأيضا الصوت موجات هوائية، والطعم لا وجود له لولا الفم، ومن هنا يختلف باختلاف الذائق صحة ومرضا
…
واختصارا أنه لا لون بلا عين، ولا صوت بلا أذن، ولا طعم بلا فم، وليس من شك أن نور الله سبحانه يطغى على الموجات الضوئية وغيرها، وإذا انتفت هذه الموجات انتفت الرؤية"1؟!
ولا شك أن مثل هذا الزعم يخالف الشرع والعقل، أما مخالفته الشرع فإن الأدلة الكثيرة جاءت بإثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وهو نفسه يعترف بهذا، لكنه صرفها إلى الرؤية بالعقل والبصيرة مع أن ألفاظها لا تقبل أن تنصرف إلى الرؤية بالعقل والبصيرة.
1 تفسير الكاشف: محمد جواد مغنية ج1 ص107 و 108.
أما مخالفته العقل، فإن ذات الله تعالى لا تشبه الذوات فلا يصح أن تقاس على مخلوقاته عز شأنه، فكيف نقيس رؤية الخالق على رؤية المخلوق، وذات الخالق على ذات المخلوق:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} .
وهذا ينطبق أيضا على تفسير محمد الصادقي لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} 1، حيث قال:"نسبة الظن إلى الوجوه الباسرة والنظر إلى الرب للوجوه الناضرة هذه النسبة وتلك تصرفها عن وجوه الأبصار إلى وجوه البصائر، فالوجه الظاهر لا يظن وإنما يبصر، والبصر الظاهر لا ينظر إلى الرب ذاته إذ: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [6: 103] ، وإنما البصيرة الباطنة هي التي تراه رؤية المعرفة دون كيفية ولا إحاطة، إضافة إلى أن النظر لا يستلزم الأبصار: {تَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [7: 198] ، وأحرى بعدم الأبصار إذا كان المنظور إليه غير مبصر! ثم النص بعد ذلك كله: {إِلَى رَبِّهَا} ، لا إلى الله والربوبية هي الرحمة والثواب والنعمة، وأهمها المعرفة الناتجة عن غاية الربوبية" إلى أن قال: "فرؤيته تعالى بالبصر وحتى إدراكه والحيطة به بالبصيرة أنها مستحيلة في كافة العوالم لكافة العالمين
…
فلا يمكن رؤيته بالبصر إلا إذا صار مبصرا كخلقه "!! " ولا إدراكه بالبصيرة إلا إذا صار خلقه مثله في الألوهية "!! " استحالة مزدوجة في خرافة الرؤية والإدراك والإحاطة، إذن فالمعنى من نظر الوجوه هو نظر المعرفة "!! " وانتظار الثواب والرحمة
…
"2.
ولا نستطرد بعد هذا في بيان تأثرهم بالمعتزلة في بعض الآراء الكلامية، وقد سبق الإشارة إلى سببه.
1 سورة القيامة: الآيات 22-25.
2 الفرقان: محمد الصادقي ج29 ص285-287.
سابعا: في آيات الأحكام
كثيرة هي مواضع الخلاف في الفقه بين أهل السنة والشيعة، وليس في الإمكان في مثل هذا الموضع الإشارة إليها فضلا عن دراسة كل موضع وقد
سبقت الإشارة إلى رأيهم في إقامة صلاة الجمعة ما دام الإمام غائبا، وكذا الخمس، وغير ذلك.
ومما لا شك فيه أن نكاح المتعة وشذوذ الشيعة في القول به من بين سائر المذاهب، حتى أصبح سمة من أهم سمات المذهب الشيعي، لا شك أن مثل هذا يوجب علينا هنا الإشارة إليه كمثال لمنهج الشيعة في تفسير آيات الأحكام وصرفها؛ لتأييد آرائهم الفقهية كما صرفوا آيات العقائد لتأييد آرائهم العقائدية، ونحو ذلك.
ونظرة في تاريخ نكاح المتعة في الإسلام تكشف لنا أنه كان قد أبيح في فترة من الفترات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقد اختلف في مدة الإباحة وزمانها حتى قالوا: إنها أبيحت ثلاثة أيام1.
عن إياس بن سلمة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثم نهى عنها2.
عن قتادة عن الحسن أنه قال: والله ما كانت متعة النساء إلا ثلاثة أيام ما كانت قبلها ولا بعدها، زمن اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا في زمانها، فمن قائل: عام خيبر أو عام الفتح أو في حجة الوداع أو عام أوطاس، ولم يزل الناس حينذاك بين القول بالإباحة والقول بالتحريم.
حتى حسم ذلكم النزاع الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله على المنبر: "لا أوتى برجل تزوج بنكاح المتعة إلا غيبته تحت الحجارة".
ثم توفي عمر رضي الله عنه وظهرت بعد ذلك فرق، كالشيعة والخوارج ونحوهم، فأخذت المتعة كغيرها شائبة الطائفية حيث نهى عنها عمر واختلفت الرواية فيها عن علي رضي الله عنهما فتعصب لها الشيعة وأخذوا
1 أخرجه مسلم ج4 ص131؛ والبيهقي ج7 ص204؛ والدارقطني ج3 ص258.
2 أخرجه عبد الرزاق ج7 ص505 في مصنفه، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه ج2 ص208 من مرسل الحسن البصري.
يدافعون عنها حتى أصبحت شعارا لهم1، وكثرت الروايات الموضوعة في ذلك حتى رووا فيما رووا:"أن من خرج من الدنيا ولم يتمتع، جاء يوم القيامة وهو أجدع"2، ورووا:"ليس منا من لم يؤمن بكرتنا "يعني الرجعة" ويستحل متعتنا"3 وزعموا فيما زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تمتع مرة كانت درجته كدرجة الحسين عليه السلام ومن تمتع مرتين فدرجته كدرجة الحسن، ومن تمتع ثلاث مرات كانت درجته كدرجة علي، ومن تمتع أربع مرات كانت درجته كدرجتي"4.
وبلغت درجة تمسكهم بالقول بنكاح المتعة أنهم لا يقبلون فيه التقية، فقال محمد حسين آل كاشف الغطاء:"ومن طرقنا الوثيقة عن جعفر الصادق عليه السلام أنه كان يقول: ثلاث لا أتقي فيهن أحدا: متعة الحج، ومتعة النساء، والمسح على الخفين"5.
ولا عجب بعد هذا وقد بلغوا في التمسك بهذا القول هذا الحد، أن يبحثوا له عن سند في القرآن الكريم.
ففي تفسير قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 6 يقول محمد بن حيدر الجنابذي من علماء القرن الرابع عشر: "وفي لفظ الاستمتاع وذكر الأجور وذكر الأجل على قراءة إلى أجل، دلالة واضحة على تحليل المتعة فريضة فرضت، أو حالكونها7 مفروضة عليكم بالعقد، {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} من إعطاء الزيادة على الفريضة
1 نكاح المتعة عبر التاريخ: عطية محمد سالم ص16.
2 تفسير منهج صادقين: الملا فتح الله كاشاني ص356.
3 تفسير الصافي 1/ 347؛ والوسائل للحر العاملي ج7 ص438.
4 تفسير منهج صادقين: الملا فتح الله كاشاني ص356.
5 أصل الشيعة وأصولها: محمد حسين كاشف الغطاء ص100.
6 سورة النساء: من الآية 24.
7 هكذا وردت، ولعلها: أو حال كونها.
أو إسقاطهن شيئا من الفريضة: {مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} ، وفيه إشعار بكون الأجر من أركان عقد التمتع كما عليه من قال به، وروي عن الباقر "ع": لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما تقول: استحللتك بأجل1 آخر برضى منهما ولا تحل لغيرك حتى تنقضي عدتها وعدتها حيضتان: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فحلل المتعة عن علم، ولغايات منوطة بالمصالح والحكم2.
وقال محمد جواد مغنية في تفسير الآية نفسها: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} : "إذا تم الزواج المؤقت بين الرجل والمرأة وانقضى الوقت أو أوشك ثم بدا لهما أن يزيدا في الوقت والأجرة، فلا بأس في ذلك"3.
وبعد:
فتلكم نماذج لمنهج الشيعة في القرن الرابع عشر في تفسير القرآن الكريم ومحاولتهم تطبيق آياته على أصولهم وينطبق عليهم قول ابن تيمية -رحمه الله تعالى: "إن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المفسرين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم"4.
وما أصدق الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- حين قال: "فغالب ما في كتب الإمامية الاثني عشرية في تأويل الآيات وتنزيلها وفي ظهر القرآن وبطنه، استخفاف بالقرآن الكريم ولعب بآيات الذكر الحكيم
…
وإذا كان لهم في تأويل الآيات وتنزيلاتها أغلاط كثيرة فليس من المعقول أن تكون كلها صادرة عن جهل منهم، بل المعقول أن بعضها قد صدر عن جهل، والكثير منها صدر عمدا عن هوى ملتزم وللشيعة -كما بينا- أهواء التزمتها"5.
1 كذا وردت ولعلها: بأجر آخر.
2 بيان السعادة في مقامات العبادة: سلطان محمد حيدر ج1 ص195.
3 التفسير المبين: محمد جواد مغنية ص89.
4 مجموع فتاوى ابن تيمية: عبد الرحمن بن القاسم ج13 ص358.
5 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص41.
أهم كتب التفسير عند الإمامية الاثني عشرية في القرن الرابع عشر:
للإمامية الاثني عشرية في القرن الرابع عشر الهجري عدد كبير من المؤلفات في التفسير، منها ما كان شاملا للقرآن الكريم كله، ومنها ما اقتصر على تفسير سورة واحدة أو سور محدودة، ومنها ما لم يكمل بعد فصدرت بعض أجزائه دون الباقي.
وليس من السهل أن أذكر كل هذا وكل ما ألف فيه، ولعلي أكتفي هنا بذكر بعضها باختصار ثم أقدم دراسة مختصرة عن أهمها.
فمن المؤلفات:
1-
تفسير الميزان في تفسير القرآن ، في عشرين مجلدا: تأليف علامتهم السيد محمد حسين الطباطبائي، وسنفرده بحديث.
2-
التفسير الكاشف، في سبعة مجلدات: تأليف محمد جواد مغنية، صدرت طبعته الأولى في بيروت سنة 1968 وبين يدي الطبعة الثانية الصادرة في 1978م، الناشر دار العلم للملايين.
3-
التفسير المبين: تأليف محمد جواد مغنية.
قال عنه صاحبه: "إن هذا الكتاب تفسير وجيز لا نقاش فيه ولا مقارنة بين أقوال المفسرين ولا إسرائيليات ومطولات؛ لأن الهدف منه أن يتصور قارئ القرآن الكريم موضوع الآية ويتمثله، ولو من بعض جوانبه"1.
1 التفسير المبين: محمد جواد مغنية ص3.
وكان في أول أمره يريد أن يختصر تفسير: جوامع الجامع لشيخهم الفضل بن الحسن الطبرسي، ثم عدل عن الاختصار وألفه تأليفا.
الكتاب نشرته دار التعارف للمطبوعات، بيروت سنة 1398هـ في مجلد، عدد صفحاته 730 من القطع الكبير.
4-
البيان في تفسير القرآن، لإمامهم الأكبر زعيم الحوزة العلمية السيد أبي القاسم الخوئي، صدر منه المجلد الأول في "ص557" ويحتوي على مدخل، وتفسير فاتحة الكتاب.
صدرت طبعته الأولى سنة 1957م، وبين يدي الطبعة الرابعة وقد صدرت سنة 1395هـ 1975م، والناشر دار الزهراء، بيروت.
5-
الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة: تأليف محمد الصادقي.
وصدر منه حتى الآن أربعة مجلدات هي الأجزاء 30، 29، 27، 28 وهما في مجلد واحد، 26.
وعلل المؤلف بدايته بالجزء الثلاثين من القرآن بقوله: "لأن السور التي يضمها هي بداية الوحي الشامل لما يحتاجه البدائيون في معرفة الإسلام فلنبدأ بها كلنا، علنا ندخل المدينة من بابها"1.
أما هذا التفسير فهو "دراسات
…
ألقيناها على طلاب علوم الدين في الحوزتين المباركتين "قم والنجف الأشرف"!! على زيادات وتنقيحات لفظية ومعنوية تفسيرا للقرآن بالقرآن متنا، وبالحديث هامشا"1.
وقد صدرت طبعات الكتاب ما بين عامي 1395-1397.
6-
بيان السعادة في مقامات العبادة، في مجلدين كبيرين: تأليف سلطان محمد بن حيدر محمد بن سلطان محمد، الجنابذي الخراساني.
1 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج30 ص7.
انتهى مؤلفه من كتابته في 14/ 2/ 1311هـ وصدرت طبعته الأولى والأخيرة إذ لم يطبع بعدها، في 4/ 9/ 1314هـ.
وقد كنت أنوي الحديث عنه بتفصيل، لولا أن الشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله قد تناوله بتفصيل لا يحتاج إلى مزيد.
7-
آلاء الرحمن في تفسير القرآن، في 3 أجزاء: محمد جواد البلاغي، توفي سنة 1352هـ، طبع في صيدا سنة 1933-1934م.
هذا بعض ما اطلعت عليه وقرأت فيه من تفاسيرهم ولم أشأ أن أذكر غير هذا، إما لأني لم أطلع عليه أو لأنه غير مستوفٍ للقرآن كله، بل هو في سور أو آيات أو موضوعات دون غيرها.
وأحسب أني لست بحاجة أيضا إلى الكتابة عن كل مؤلف منها، بل سأكتفي بذكر تفسير واحد كبيان لمنهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم في العصر الحديث، فأكتفي بتفسير الميزان في تفسير القرآن.
"الميزان في تفسير القرآن":
المؤلف:
هو محمد حسين الطباطبائي. ولد سنة 1321-1903م في تبريز وبها أكمل تعليمه الابتدائي، ثم انتقل إلى النجف في العراق حيث واصل دراسته وغادرها بعد أن نال درجة الاجتهاد إلى إيران، وتصدر للتدريس في مدينة "قم".
من آثاره تفسير "الميزان في تفسير القرآن" قيل: إنه استغرق منه عشرين سنة متتابعة، توفي سنة "1404"1. أما التفسير فالنسخة التي بين يدي هي الطبعة الثانية وجاء فيها أنها تمتاز عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف. وقد صدرت هذه الطبعة بين عامي 1391-1394هـ وهي من منشورات الأعلمي للمطبوعات ببيروت، وتقع في عشرين مجلدا.
وفرغ المؤلف من تأليفه كما يقول: "في ليلة القدر المباركة، الثالثة والعشرين من ليالي شهر رمضان من شهور سنة 1392هـ".
طريقة المؤلف:
لا شك أن هذا الكتاب يعتبر من أهم مؤلفات الإمامية الاثني عشرية في التفسير في القرن الرابع عشر، بل أهمها على الإطلاق نظرا للشمولية التي سلكها مؤلفه فيه، فلم يقتصر فيه على لون من ألوان التفسير للقرآن فحسب، بل هو كما وصفه مؤلفه على غلاف كل جزء:"كتاب علمي، فني، فلسفي، أدبي، تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن" وقد حدد المؤلف في مقدمته خطته فقال: "وقد اجتنبنا فيها عن أن نركن إلى حجة نظرية فلسفية، أو إلى
1 معجم المفسرين: عادل نويهض ج2 ص777.
فرضية علمية، أو إلى مكاشفة عرفانية، واحترزنا فيها عن أن نضع إلا نكتة أدبية يحتاج إليها فهم الأسلوب العربي أو مقدمة بديهية أو علمية لا يختلف "كذا" فيها الإفهام"1.
ثم قال: "وأما آيات الأحكام فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك إلى الفقه
…
ثم وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية نورد فيها ما تيسر لنا إيراده من الروايات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت -سلام الله عليهم أجمعين- من طرق العامة والخاصة، وأما الروايات الواردة عن مفسري الصحابة والتابعين، فإنها على ما فيها من الخلط والتناقض لا حجة فيها على مسلم2، وسيطلع الباحث المتدبر في الروايات المنقولة عنهم عليهم السلام أن هذه الطريقة الحديثة التي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب أقدم الطرق المأثورة في التفسير التي سلكها معلموه، سلام الله عليهم.
ثم وضعنا أبحاثا مختلفة، فلسفية وعلمية وتاريخية واجتماعية وأخلاقية، حسب ما تيسر لنا"3.
وقد جرى المؤلف على هذا النحو، وهذه أمثلة من تفسيره:
الإمامة:
في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 4. ربط
1 الميزان في تفسير القرآن: ج1 ص12 و13.
2 كذا زعم المؤلف، والحق أن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين- هم أعلم الناس بالتفسير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الاختلاف الواقع في بعض أقوالهم فهو من باب اختلاف قوى الفهم والإدراك والتدبر والتأمل في آياته سبحانه، ثم إن علماء المسلمين جعلوا مقاييس يعرف بها الصحيح من الضعيف والسمين من الهزيل، وبها أدركنا ضعف وهزال -بل وضع- ما لجأ إليه المؤلف.
3 تفسير الميزان: ج1 ص13 و14.
4 سورة البقرة: الآية 124.
المؤلف بين هذه وما بعدها فقال عنها: "إنها شروع بجمل من قصص إبراهيم عليه السلام وهي كالمقدمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحج وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الإسلامي"1، ثم بين المراد بهذه الآية فقال: فقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} .. إلخ إشارة إلى قصة إعطائه الإمامة وحبائه بها1. ثم بين المراد بالإمامة في الآية فقال: قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، أي: مقتدى يقتدي بك الناس ويتبعونك في أقوالك وأفعالك، فالإمام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس؛ ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة لأن النبي يقتدي به أمته في دينهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 63] ، لكنه في غاية السقوط2.
وهو يرى أن الإمامة أعلى درجة من النبوة، فيقول: "وبالجملة فالإمام هادٍ يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية الناس للناس في أعمالهم وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إرائه الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4]، وقال تعالى في مؤمن آل فرعون:{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [مؤمن: 38]، وقال تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]3.
ولا يخفى ضعف الاستدلال بالآيات المذكورة، بل عدمه فيما ذهب إليه من التفريق بين الإمامة والنبوة وإن كان مراده الاستدلال على الجملة الأخيرة: كل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة، فليس هذا محل النزاع، بل هو محل تسليم، وإنما محله ما زعمه من فرق بين الإمامة والنبوة.
1 الميزان: ج1 ص261.
2 الميزان: ج1 ص270.
3 الميزان: ج1 ص272.
التقية:
وفي تفسير قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 1، قال: الاتقاء في الأصل: أخذ الوقاية للخوف ثم ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالا لمسبب في مورد السبب، ولعل التقية في المورد من هذا القبيل.
والاستثناء منقطع، فإن التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير عقد القلب على الحب والولاية، ليس من التولي في شيء؛ لأن الخوف والحب أمران قلبيان متباينان ومتنافيان أثرا في القلب، فكيف يمكن اتحادهما؟ فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع.
وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار وأبويه ياسر وسمية وهي قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .
وبالجملة، الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقلي يؤكده، إذ لا بغية للدين ولا هم لشارعه إلا ظهور الحق وحياته وربما يترتب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين وحياة الحق، ما لا يترتب على تركها وإنكار ذلك مكابرة وتعسف2.
وقال أيضا: "أقول: والأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا، ربما بلغت حد التواتر، وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع"3.
1 آل عمران: من الآية 28.
2 الميزان في تفسير القرآن: ج3 ص153.
3 المرجع السابق ص163، ولمعرفة الحق في هذا وغيره من العقائد انظر ما كتبناه في منهج أهل السنة.
رؤية الله:
وفي تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، يقول:"والمراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى، بل المراد النظر القلبي ورؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان، ويدل عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمة عليهم السلام"2.
الخلود في النار:
في تفسير قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 3، قال: "ومسألة انقطاع العذاب والخلود مما اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقلي، ومن جهة الظواهر اللفظية.
والذي يمكن أن يقال: أما من جهة الظواهر فالكتاب نص في الخلود قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} الآية، والسنة من طرق أئمة أهل البيت مستفيضة فيه، وقد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع ونفي الخلود وهي مطروحة بمخالفة الكتاب"4، ثم ذهب يعدد بعض الإشكالات ويرد عليها.
التفسير الباطني:
وفي تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 5 الآية، يقول: "وفي تفسير العياشي عن محمد بن منصور قال: سألت عبدا صالحا عليه السلام عن قول الله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال: إن للقرآن ظهرا وبطنا، فأما ما حرم به في الكتاب
1 سورة القيامة: الآيتان 22 و23.
2 الميزان ج20 ص112.
3 سورة البقرة: من الآية 167.
4 تفسير الميزان ج1 ص412.
5 سورة الأعراف: من الآية 33.
هو في الظاهر والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل في الكتاب هو في الظاهر والباطن من ذلك أئمة الحق.
أقول: ورواه في الكافي عن محمد بن منصور مسندا، وفيه: فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله في القرآن هو الظاهر والباطن من ذلك أئمة الحق. أقول: انطباق المعاصي والمحرمات على أولئك والمحللات على هؤلاء؛ لكون كل واحد من الطائفتين سببا للقرب من الله أو البعد عنه، أو لكون اتباع كل سببا لما يناسبه من الأعمال.
ومن هذا الباب ما في التهذيب بإسناده عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: الغسل عند لقاء كل إمام1.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} 2، قال:"أقول: وروى تسميته صلى الله عليه وآله وسلم بالنجم بإسناده عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام وهو من البطن"3.
فرض الرجلين في الوضوء:
وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 4، قال: "وأما قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} فقد قرئ بالجر وهو لا محالة بالعطف على رءوسكم
…
وقرئ {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب وأنت إذا تلقيت الكلام مخلي الذهن5
1 تفسير الميزان: ج8 ص94 و95.
2 سورة النجم، الآية الأولى.
3 تفسير الميزان: ج19 ص33.
4 سورة المائدة: من الآية 6.
5 القرآن الكريم لا يتلقاه المؤمنون بخلو ذهن، بل لا بد أن يضموا إليه بيان من أرسله الله ليبين لهم ما نزل إليهم ولا يعد هذا شائبة!!
غير مشوب الفهم لم يلبث دون أن تقضي أن {وَأَرْجُلَكُمْ} معطوف على موضع رءوسكم وهو النصب، وفهمت من الكلام وجوب غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ولم يخطر ببالك أن ترد {وَأَرْجُلَكُمْ} إلى {وُجُوهَكُمْ} في أول الآية مع انقطاع الحكم في قوله:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، بحكم آخر وهو قوله:"وامسحوا بوجوهكم"1، فإن الطبع السليم يأبى عن حمل الكلام البليغ على ذلك "إلى أن قال": وعلى ذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وأما الروايات من طرق أهل السنة فإنها وإن كانت غير ناظرة إلى تفسير لفظ الآية وإنما تحكي عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفتوى بعض الصحابة، لكنها مختلفة: منها ما يوجب مسح الرجلين ومنها ما يوجب غسلهما.
وقد رجح الجمهور منهم أخبار الغسل على أخبار المسح ولا كلام لنا معهم في هذا المقام؛ لأنه بحث فقهي راجع إلى علم الفقه، خارج عن صناعة التفسير"2؟!
وهكذا لما أعيته الحيلة وعجز عن رد أدلة الجمهور المستندة إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم زعم أنها خارجة عن صناعة التفسير، وما درى أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله ما هو إلا التفسير الصحيح للقرآن الكريم.
إرث الأنبياء:
وقال في ميراث الأنبياء ما قال به المذهب الشيعي، ففسر قوله تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 3، بقوله: "أي: ورثه ماله وملكه وأما قول بعضهم: المراد به وراثة النبوة والعلم ففيه أن النبوة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، والعلم وإن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنه إنما يصح في العلم الفكري
1 كذا وردت وهو لا شك يقصد: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} .
2 تفسير الميزان ج5 ص222.
3 سورة النمل، من الآية 16.
الاكتسابي. والعلم الذي يختص به الأنبياء والرسل كرامة من الله لهم وهبي ليس مما يكتسب بالفكر، فغير النبي يرث العلم من النبي لكن النبي لا يرث علمه من نبي آخر، ولا من غير نبي"1.
وكذا في تفسير قوله تعالى حكاية لقول عبده زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 2 نحا المؤلف في تفسيرها هذا النحو3.
نكاح المتعة:
والطباطبائي يجزم وبلا شك في جواز نكاح المتعة بناء على مذهبه، وها هو يفسر قوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 4.
فيقول: "والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك، فإن الآية مدنية نازلة في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها، وهذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك -وقد أطبقت الأخبار على تسلم ذلك- سواء كان الإسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن، فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي ومسمع منه لا شك فيه، وكان اسمه هذا الاسم ولا يعبر عنه إلا بهذا اللفظ.
فلا مناص من كون قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} محمولا عليه مفهوما
1 تفسير الميزان ج15 ص349.
2 سورة مريم: الآيتان 4 و5.
3 لمعرفة الحق في هذا، انظر تفسير الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- لهذه المسألة في الفصل الأول: الاتجاه الفقهي في التفسير، من الباب الثاني ص431، فإنه أجاد وأفاد رحمه الله تعالى.
4 سورة النساء: من الآية 24.
منه هذا المعنى كما أن سائر السنن والعادات والرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلما نزلت آية متعرضة لحكم متعلق بشيء من تلك الأسماء، بإمضاء أو رد أو أمر أو نهي لم يكن بد من حمل الأسماء الواردة فيها على معانيها المسماة بها من غير أن تحمل على معانيها اللغوية الأصلية
…
فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية، سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنة، أو لم نقل، فإنما هو أمر آخر.
وجملة القول أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة، وهو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة والتابعين، كابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة ومجاهد والسدي وابن جبير والحسن وغيرهم، وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام"1.
ثم أنكر أن تكون هذه الآية منسوخة وتتبع الأقوال في نسخها وناسخها ورد عليها بمزاعم يطول ذكرها وتفنيدها، وقال بعد أن أورد التفسير الروائي للآية:"وأما حديث النسخ بالكتاب أو بالسنة فقد عرفت عدم رجوعه إلى محصل، على أن بعض الروايات يدفع البعض في جميع مضامينها إلا في أن عمر بن الخطاب هو الناهي عنها، المجري للمنع المقرر حرمة العمل وحد الرجم لمن فعل"2.
وإن شئت الحق في هذه المسألة وغيرها من المسائل التي شذ بها الإمامية أو غيرهم من الفرق الضالة، فعليك بما ذكرته في تفسير أهل السنة والجماعة وفي منهج التفسير الفقهي، فقد جعلتهما ميزانا تزن به الأقوال الشاذة، وترجع إليهما عند التباس السبيل، والله الهادي.
1 تفسير الميزان: محمد الحسين الطباطبائي ج4 ص271 و272.
2 المرجع السابق: ج4 ص299.
التفسير العلمي:
نص المؤلف في مقدمة تفسيره على أنه سيجتنب في بياناته عن أن: "نركن إلى حجة نظرية فلسفية أو إلى فرضية علمية أو إلى مكاشفة عرفانية"1.
والحق أنه التزم الابتعاد عن النظريات العلمية فندر أن أجد فيما اطلعت إليه من تفسيره حديثا عن هذه النظريات لا بالنفي ولا بالإثبات ومن النادر هذا ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2 فقال فيها:
"ثم إن هذه الأجرام الجوية المختلفة بالصغر والكبر والبعد والقرب "وقد وجد الواحد في الصغر على ما بلغه الفحص العلمي ما يعادل: 33 0.000000000000000000000000 من سنتيمتر مكعب والواحد في الكبر ما يعادل الملايين من حجم الأرض وهو كرة يعادل قطرها 9000 ميل تقريبا، واكتشف من المسافة بين جرمين علويين ما يقرب من ثلاثة ملايين سنة نورية، والسنة النورية من المسافة تعدل: 365×24×60×60× 300000 كيلومتر تقريبا".
فانظر إلى هذه الأرقام التي تدهش اللب وتبهت الفكر، واقض ما أنت قاض في غرابة الأمر وبداعته"3.
أقول: وإن هذه المعلومة العلمية التي قالها لم يذكرها من باب التفسير القائم على ألفاظ الآية، وإنما من باب الاستشهاد وقد أحسن -والحق يقال- بهذا الصنيع.
1 المرجع السابق: ج1 ص12.
2 سورة البقرة: الآية 164.
3 تفسير الميزان: ج1 ص396.
رأيي في هذا التفسير:
قراءة قصيرة في هذا التفسير تدرك منها أول ما تدرك، أن هذا الكتاب لم يؤلف للعامة وإنما للعلماء نظرا لما فيه من أبحاث دقيقة عميقة، ويقال فيه ما قيل في تفسير الكشاف، أنه من أحسن التفاسير لولا ما فيه من الاعتزال، أما هذا التفسير فهو من أحسن التفاسير في العصر الحديث ولولا ما فيه من التشيع المتطرف.
ومن مزاياه هذه الأبحاث الواسعة الشاملة التي يوردها في تفسير بعض الآيات مستقصيا مستوفيا لأطراف القضية التي يبحثها، فمن ذلك مثلا تفسيره لقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 الآيات، فقد جاء تفسيره لها في 137 صفحة، وجاء تفسيره لقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 2 الآيات في حوالي 70 صفحة وتفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} 3 الآيات في حوالي 86 صفحة، وغير هذا كثير.
وإني لأعجب حقا من هذه العقلية التي تغوص بك في عويص المعاني وتجلو لك غامض الحقائق أعجب منها إذا ما طفت إلى السطح كيف يلتبس عليها الأمر؟ وكيف تختلط عليها الحقائق وتلتبس السبل؟ وكيف تقبل هذه الخرافات والمهازل؟!
صحيح أن المؤلف أورد غالب هذه الأمور تحت عنوان بحث روائي، وصحيح أن المؤلف يجعل بعضها من أسلوب الجري الذي قال عنه:
"روايات الجري كثيرة في الأبواب المختلفة وربما تبلغ المائتين. ونحن بعد
1 سورة المائدة: الآية 116.
2 سورة آل عمران: الآية 7.
3 سورة الأنعام: الآية 74.
هذا التنبيه العام نترك إيراد أكثرها في الأبحاث الروائية؛ لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلا ما تعلق بها غرض في البحث، فليتذكر"1.
إن هذا التنبيه لا يعفيه من مسئولية إيرادها، ولا يبرئه من انحراف اعتقادها.
وليست هذه الروايات هي المأخذ عليه فحسب، بل يؤخذ عليه كل ما يؤخذ على العقيدة الإمامية، فما تفسيره إلا على مذهبها، وما منهجه إلا منهجها، ولعل في هذا غنى عن استعراضها.
رأيي في هذا المنهج:
وما مثلي وأنا أريد الحديث عن منهجهم في التفسير إلا كمثل رجل وقف أمام قصر منيف انهدَّ عموده فتساقطت أركانه، وانطمرت معالمه فلم يظهر إلا العيوب والفجوات.
لست أقول هذا تعصبا، ولست أقوله حقدا، ولكني أرى منهجا أسقط من حسابه العمود الذي تقوم عليه أصول التفسير وأركانه وهم يعترفون بهذا.
فقد أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم مبينا للقرآن الكريم، فقال سبحانه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2، وقال سبحانه:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3 والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
ولا يشك عاقل أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم، هم الذين تلقوا هذا البيان منه، وهم الذين نشروه بعد ذلك بين المسلمين كافة، فالطريق إليه لا يكون إلا عن طريقهم.
فإذا ما قامت فرقة وأعلنت أنها لا تثق بهذا المروي عن طريق الصحابة رضي الله عنهم فإنما تعلن جهلها وتعلن انحرافها وقد نقلنا نص أحد
1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج1 ص42.
2 سورة النحل: من الآية 44.
3 سورة النحل: من الآية 64.
علمائهم المعاصرين الذي صرح فيه بقوله: "إنهم لا يعتبرون من السنة "أعني الأحاديث النبوية" إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت عن جدهم، يعني ما رواه الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن الحسين عن السبط عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله، سلام الله عليهم جميعا. أما ما يرويه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب ومروان بن الحكم وعمران بن حطان الخارجي وعمرو بن العاصي ونظائرهم، فليس لهم عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة، وأمرهم أشهر من أن يذكر"1.
ولا أدري لِمَ خص هؤلاء بالذكر مع أنه في أول حديثه لم يعترف إلا بطرق أهل البيت، وما عداهم فلا يصح عندهم؟!
ولا شك أن طرق أهل البيت لو سلمنا جدلا صحتها كلها، فإنه لم ترد بها كل أحكام الإسلام؛ ولهذا النقص الكبير قامت طائفة، بل طوائف بسد هذا النقص بالروايات الموضوعة والافتراءات ونسبتها زورا وبهتانا إلى أهل البيت، إذ كيف يقصرون الناس على طرق غير وافية!
وأحسب أن هذا الانحراف في مصادر التشريع هو سبب كل انحراف في منهجهم هذا، إذا نظرنا إلى هذا المنهج نظرة من بُعد تظهره بصورة كاملة. وإذا ما قربنا الصورة إلى أعيننا ظهر لنا عدد من رجال الباطنية الذين أدخلوا في هذه العقيدة ما زادها شطنا عن الحق وأهله، وقد كنت أظنهم اندثروا وهلكوا فإذا بهم ما يزالون بين أظهر المسلمين، يتزيون بزيهم ويأكلون معهم.
وقد كنت إلى عهد قريب من أولئك المخدوعين بهم الذين يؤرق مضاجعهم ويقلق راحتهم أن يقوم على منبر أو يكتب في كتاب رجل فيذمهم ويكشف سترهم وكنت أقول: يكفي ما أصاب المسلمين من سهام الأعداء فلنتجه إليهم ولنترك خصوماتنا فيما بيننا، فإذا بي والأيام تكشف لي كيدهم ومكرهم وقرأت في كتبهم الحديثة قبل القديمة مما جعلني أوقن بأنه يجب أن نعلن الدعوة إلى الإسلام بين صفوفهم، في نفس الوقت الذي نعلنه عند غير المنتسبين إلى
1 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص79 و80.
الإسلام إن لم يكن قبل ذلك، وأنه من الواجب أن نكشف خطرهم قبل أن نكشف خطر أولئك؛ إذ هم أشد وأنكى.
وليس المقام هنا مقام كشف لهذه الحقائق، ولكنه ومضة قصدت فيها لفت انتباه من لم ينتبه، فسيرى بعد ذلك الحقيقة.
عودة إلى منهجهم في التفسير:
قلت: إن عدم اعتبارهم لما رواه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مصدر انحراف منهجهم وسقوطه؛ ولذلك لجئوا إلى أمور عدة يسدون بها ما انثلم:
1-
فرووا الروايات الموضوعة، ونسبوها إلى أئمتهم.
2-
اعتبروا كل رواية لأحد أئمتهم تشريعا؛ لأنهم بزعمهم معصومون.
3-
لم يساعدهم ظاهر القرآن الكريم على ما انتحلوه من آراء وانحرافات، فقالوا بالباطن وقالوا بالجري.
4-
ولم تكف هذه الأمور كلها، فقالوا بتحريف القرآن الكريم وهم وإن أنكره بعضهم فإنما ينكره تقية؛ فكتبهم التي بها يؤمنون وبأقوالها يعتقدون، مليئة بروايات التحريف.
5-
وقالوا بالتقية والرجعة والبداء والإمامة والعصمة
…
إلخ، مما لا يقوم على الأصل ولا يستند إلى كتاب ولا إلى سنة صحيحة، هذا كله بل بعضه يكشف زيف منهجهم وضلاله وحين يعودون إلى القرآن الكريم ويعترفون -حقا- بسلامته من الزيادة أو النقصان وحين يعترفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها أصحابه العدول الثقات حينئذ يكون الاتجاه السليم، بل بدايته وحينئذ يؤخذ من تفسيرهم ويرد، أما والحالة هذه فلا ولا كرامة.
وغني عن القول بعد هذا أن أصولهم في التفسير، بل في العقيدة كلها لا يقوم لها أصل ولا تقوم لها قائمة، ما دام عمودها منهدّا وركنها الأساس ساقطا، والله المستعان.
منهجه في التفسير:
الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، أي: لا يزني وهو مؤمن إيمانا كاملا بل ناقصا، فحينئذ يقال له: آمن ولا يقال: مؤمن كما نفى عنه في الحديث اسم مؤمن؛ لأنه يوهم كمال إيمانه إلا بقيد، فيجوز: مؤمن ناقص الإيمان"1.
إذن: فالخلاف بين الفريقين لفظي، هؤلاء سموه ناقص الإيمان وهؤلاء قالوا: إن ناقص الإيمان لا يسمى مؤمنا لتوهم كمال الإيمان، فيجوز: ناقص الإيمان، وسموه هم كافر نعمة لا كافر شرك.
لكن الخلاف الشديد بين الفريقين في عقاب مرتكب الكبيرة، وهو حتما ليس خلافا لفظيا.
لا يغفر لصاحب الكبيرة ما لم يتب:
هذا أول خلاف بين الفريقين، ذلكم أن الأباضية يرفضون قول أهل السنة بأن صاحب الكبيرة تحت المشيئة، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
فالشيخ أطفيش مثلا في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} 2 يقول: "ولا دليل في الآية على جواز المغفرة لصاحب الكبيرة الميت بلا توبة منها، كما زعم غيرنا لحديث: "هلك المصرون""3، وكذا قال في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4: "والمراد بالآية التنبيه على أنه لا يجوز لمن عصى الله -أي عصيان كان- أن يظن أنه لا يغفر له ولا تقبل توبته، وذلك مذهبنا معشر الأباضية، وزعم القاضي -يقصد البيضاوي- وغيره أن غير الشرك يغفر بلا توبة، ومشهور مذهب القوم -يريد أهل السنة- أن الموحد إذا مات غير
1 هميان الزاد ج1 ص202.
2 سورة البقرة: من الآية 284.
3 هميان الزاد: ج3 ص443.
4 سورة الزمر: من الآية 53.