الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقائدهم:
في معرفة الله:
قالوا: "إن معرفة الله تبارك وتعالى واجبة بالعقل قبل ورود الشرع، فلما ورد الشرع زادها إيضاحا وأعلن إيجابها"1. وقال أحد أئمتهم نظما:
معرفة الباري من العقول
…
فكيف بالسماع والنقول
ولا يجوز جهلها لجاهل
…
طرفة عين عند ذي الدلائل2
أما في الصفات فقالوا: "لا يخفى على أهل العلم أن الله عز وجل خاطبهم بلسانهم وحاورهم بما يجري بمعقولهم، فهم يفهمون الخطاب من نفس القرائن قبل التحقق لفحوى الخطاب، ولما تقرر في الشريعة أن الله عز وعلا مباين لمخلوقاته في الذات والصفات والأفعال لم يعد لهم وهم أو جهل في شيء من وحي الله عز شأنه، فإن صفات المخلوق تخالف صفات الخالق تبارك وتعالى فلا يرتبك الفهم العربي مهما كان في معرفة اللسان. فلذا لما كان الأخذ في اللغة باليد ومراقبة الأشياء المبصرة بالعين، وهكذا عبر الله تبارك وتعالى عن معانيها بمثل ما عبر به عن نفس ما في الإنسان فقال:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 3، فالعين في حق الله عز وعلا معروفة بأنها حفظه واليد مفهومة في حقه قدرته لما قدمنا من استقرار الفهم باستحالة صفة الإنسان أن تكون صفة الرحمن، وهكذا بقية الصفات كالقبضة والاستواء والمجيء والجد والمكر والجنب، فإن هذه عبارات يتخاطب بها البشر فيما بينهم فخاطبهم الله عز وجل فيما بينهم وإياه لاستقرار معانيها عندهم في حق الله، فلا يذهبون بها إلى غيرها، وقد علموا أن الله جلت قدرته مباين لهم في الأحوال كلها، كما وضع لهم ذلك في قوله:
1 طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الأباضي: سالم بن حمود بن شامس السيابي ص91.
2 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام ج1 ص6 و7؛ عبد الله بن حميد بن سلوم السالمي.
3 سورة طه: من الآية 39.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، 2.
ثم قالوا: "فمن حاد عن نهجهم فقد رمى نفسه في لجة لا يرى خلاصه منها أبدا، ومعنى جد الله عظمته وجنبه أمره كما صرح به العلماء، والمكر عقوبتة واستوى على العرش معناه القهر والغلبة
…
ووجهه تعالى ذاته"3.
وقالوا: "إنه موجود بغير مشاهدة، قديم بلا بداية أوجد منها نفسه، دائم بلا نهاية، حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، عالم بما كان وما يكون، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا يخفى عليه شيء في الظلمات، قادر بلا تكلف متكلم بلا لسان، سميع بلا آذان بصير بلا حدقة ولا أجفان، إله كل شيء وخالقه وإليه منتهاه، اخترع الخلق من غير مثال، سبحانه من قادر حكيم بفعل ما يشاء ويحكم ما يريد"4.
إنكار الرؤية:
مذهبهم في الرؤية الإنكار بشدة حيث قالوا: "لا يخفى أن القول بالرؤية يهدم التوحيد من أساسه، ويقضي عليه من أصله فإن الرؤية توجب الحلول والله منزه عنه وتثبت التحيز، وتقرر الظرفية وتحقق التلون، وتقضي بالجهة ونحو ذلك، فهذه كلها قوادح في صحة الألوهية يتعالى الله عز وجل عنها، ولم تبق صفة من الصفات الإلهية ثابتة على أساسها ولا قائمة على قواعدها، فالذي يرى لا يصلح أن يكون ربا "!! " فإن الرؤية للمخلوقات، ورب الأرض والسموات منزه عنها، والتكييف لا يليق بجلال الله وعظمته وهو من لوازمها والتمييز للذات العلية غير ممكن، والقائل بالرؤية مخطئ خطأ لا يغتفر أو يتوب إلى الله ويستغفره، وما ورد مثبتا لها فقد أنكره المسلمون "!! " وحكموا بوضعه،
1 سورة الشورى: من الآية 11.
2 طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الأباضي: سالم بن حمود بن شامس ص99 و100.
3 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص100.
4 المرجع السابق: ص101.
فإن أصله في دسائس اليهود لفهم الله" "!! "1.
القرآن الكريم:
ترى الأباضية أن القرآن مخلوق، فقال أحد علمائهم المعاصرين:"الأباضية يقولون: إن الله خالق كل شيء والقرآن شيء من الأشياء، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} 2. والقرآن كما قلنا شيء من الأشياء، وهو كلام الله خلقه الله وقدره بحسب الحوادث التي ستكون من العباد كما اقتضاها قضاؤه وقدره، فإن دلائل الحدوث في نفسه ظاهرة وهي شاهدة بخلقه ولو كان غير مخلوقلكان قديما، ولو كان قديما لكان مشاركا لله في صفة القدم، ولو شاركه في صفة القدم لتعددت القدماء ولو تعددت القدماء انتفى قدمه الخاص به الذي اتصف به، فإنه صار له فيه شركاء وهذا ظاهر الفساد ساقط الاعتبار، ولو كان متكلما كخلقه للزم له ما يلزم لخلقه من اللسان الذي هو آلة الكلام ولزم له أشداق وفم يخرج منه الكلام، وهذا باطل عقلا، ثم وصفه الله بأنه حادث في قوله عز وجل: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} 3 ووصفه بأنه منزل من اللوح وكان حالا فيه والتنزيل صفة الحدوث، وكونه حالا في اللوح، فاللوح حادث ولا يحل في الحادث إلا حادث عقلا وبديهة، وهذه الصفات كلها تعطي معنى الحدوث، ووصفه بأنه آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وصدورهم حادثة والحال في الحادث حادث قطعا؛ لأن القديم منزه عن الحوادث فالله عز وجل لا يطرقه معنى الحدوث ولا يليق به تعالى وإلا لم تصح الصفات الكمالية له تعالى، وكلام الله ليس على وتيرة كلام الخلق وإن كان الكلام المعروف هو ما على المنهج المألوف تتألف كلماته من الحروف، فإن الله جل جلاله خالق الحروف والأصوات والآلات التي بها يتكون، والله منزّه عن هذا كله قطعا"4.
1 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس العماني ص107.
2 سورة الفرقان: من الآية 2.
3 سورة الأنبياء: الآية 2.
4 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس "أباضي" ص27.
مسألة الخلود:
يعتقد الأباضية أن "داخل النار من عصاة الموحدين مخلد فيها لا يخرج منها أبدا، فهو في الخلود مثل داخل الجنة، إلا أن الموحد أخف عذابا من غيره"1 وقال ناظمهم:
ومن يمت على الكبير عُذِّبا
…
وذاك في القرآن حكما وجبا
........................
…
........................
لكنه في النار قطعا يخلد
…
فهو بها معذب مؤبد
خروجهم في الذكر قد نفاه
…
ربي، فيا ويل لمن يلقاه2
وقال أحد علمائهم المعاصرين: "إن ثواب الله لعباده المؤمنين الجنة وإن عقاب الله لأعدائه النار، وإن الجنة والنار لا تفنيان، ومن اعتقد فناءهما كفر شركا؛ لأن الله قال في الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا} ، وكذلك قال في النار والعياذ بالله منها، في مئات من الآيات وصرح جل وعز بذلك فالثواب والعقاب أبديان، وكذلك ثبت في السنة النبوية، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، جيء بالموت فيذبح بين الجنة والنار وينادي منادٍ: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود" 3. وعلى هذا عقيدة الأباضية متابعة القرآن وسنة المصطفى من آل عدنان صلى الله عليه وسلم، ومن خالف هذه العقيدة متأولا فهو فاسق ضال منافق كافر نعمة، ومن خالفها بغير تأويل فهو كافر شركا"4.
1 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني "أباضي" ص65.
2 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد بن سلوم "أباضي" ج1 ص12.
3 صحيح البخاري، كتاب التفسير ج5 ص236؛ وصحيح مسلم، كتاب الجنة ج4 ص2189.
4 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس السيابي "أباضي معاصر" ص29 و30.
مسألة الشفاعة:
ويرون أن الشفاعة لا تنال أصحاب الكبائر من الأمة المحمدية، ولا ينالها إلا من مات منهم على الوفاء والتوبة النصوح1.
قال أحد علمائهم نظما2:
ومن يمت على الكبير عذبا
…
وذاك في القرآن حكما وجبا
ليس له شفاعة من أحد
…
من الورى حتى النبي أحمد
ارتكاب الكبيرة:
يطلق الأباضية على الموحد العاصي كلمة كافر، ويعنون بها كافر النعمة ويجرون عليه أحكام الموحدين. فالكفر عندهم كفر نعمة ونفاق وهو هذا، وكفر شرك وجحود وهو الذي يخرج الإنسان من الملة الإسلامية3.
فالعصاة من الموحدين عندهم "قد خرجوا من الشرك بلا إله إلا الله محمد رسول الله، وخرجوا عن المؤمنين بفعل المعاصي، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" 4
…
الحديث، وذلك فرع على قوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ} لهم يا محمد {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 5. ومعنى قولوا: إنا مسلمون بقولكم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أما الإيمان فلا لأنكم تفعلون ما لا يرضاه، فأنتم باعترافكم بوحدانية الله حين قلتم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبهذا أسلمتم فحرمت دماؤكم وأموالكم إلا بحقها وحسابكم على الله، إما عفو، وإما عقاب"6.
1 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني "أباضي معاصر" ص66.
2 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد بن سلوم "أباضي" ج1 ص12.
3 مختصر تاريخ الأباضية: للباروني "أباضي" ص66.
4 رواه ابن ماجه في سننه، أبواب الفتن ج2 ص461.
5 سورة الحجرات: الآية 14.
6 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد بن سلوم "أباضي" ج1 ص14.
وهم ينكرون ما قال به المعتزلة من أن مرتكب الكبيرة قد خرج من الإيمان بكبيرته ولم يدخل الكفر لإقراره بشهادة: أن لا إله إلا الله، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، ينكر الأباضية هذه المنزلة حيث يقول ناظمهم في "باب في الكفر":
من لم يكن متقيا لله
…
فهو أخو كفر بلا اشتباه
لأنه ما بينهن منزله
…
كذاك في القرآن ربي أنزله
وكشفه بأن تقسمنه
…
للشرك والنعمة فأفهمنه1
والخلاصة عندهم: أن الدرجات عندهم إيمان، كفر نعمة كفر شرك.
الميزان والصراط:
ويرى جمهور الأباضية أن الميزان ليس بحسي والله غني عن الافتقار إليه، وإنما هو تمييز معنويللأعمال:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} 2 كيف والأعمال ليست بأمور محسوسة حتى توزن بميزان من نوعها والصراط أيضا ليس بحسي، وإنما هو دين الله الحق وطريقه القويم، فمن اتبعه فاز ونجا ومن حاد عنه خسر وهوى، ومن الأباضية من يجيز أن يكون الميزان والصراط حسيين3.
الولاية والبراءة:
تعتقد الأباضية أن كلا من الولاية والبراءة تنقسم إلى قسمين: ولاية أشخاص وولاية جملة، وكذا البراءة براءة الأشخاص وبراءة الجملة قالوا:"ولا يخفى أن الولاية والبراءة تجبان للأفراد كما تجبان للجماعة، ومن خصهما بالجماعة دون الأفراد وقع في قصور وتقصير"4.
ومن ولاية الأشخاص ولاية أم موسى وامرأة فرعون وكذلك مؤمن آل فرعون والرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى.
1 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس "أباضي" ص86.
2 سورة الأعراف: من الآية 8.
3 مختصر تاريخ الأباضية ص66 و67.
4 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص117.
وفي البراءة ما يقابل هؤلاء كالذي حاج إبراهيم في ربه، وكالذي جاء في قوله تعالى:{الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} 1، فهذه أدلة واضحة كالشمس ولا توجد هذه الأحوال إلا مع الأباضية2.
هذا شأن الولاية والبراءة للأشخاص عندهم، أما الولاية أو البراءة للجملة، فقالوا:"لا يخفى أن وجوب الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات موجب لولايتهم، إذ لا معنى للأمر بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات في مثل هذا المقام إلا الوجوب ولا يصح الاستغفار لغير الولي"2، ولا يخفى أن البراءة تجب من أهل المعاصي مطلقا سواء كانت كبائر كفر نعمة، أو كبائر شرك كما نص على ذلك القرآن وإجماع المسلمين مطلق على ذلك، والبراءة الشرعية توجب البغض، أي: إن البغض ثمرة البراءة من أهل المعاصي مطلقا وكذلك الشتم أي: شتم العاصي لعصيانه ولعن الكافر لكفره3.
أما صورة الولاية فهي: "أن يتولى المكلفون من تثبت ولايته وهو الطائع الوفي بما أمره الله فيحبونه لذلك ويستغفرون له ويساعدونه في شئونه الدنيوية من بيع وشراء وسائر المعاملات، وأما البراءة فصورتها أن يتبرءوا من العاصي ويقطعون معاملته ويهجرونه بحيث يصير كأنه بمعزل عن العالم إلى أن يتوب إلى الله، فإذا تاب وأقلع عن معصيته أعيدت إليه هذه الحقوق وعُومل بما يعامل به سائر إخوانه"4.
ولذلك وجد عندهم اصطلاحات الخطة والهجران والإبعاد والطرد وهي "ألفاظ تترادف على معنى واحد وذلك متى أجرم واحد من أهل الطريق أو ظهرت عليه خزية أو أتى بنقيصة في قول أو عمل فإنه يهجره أهل الصلاح، فلا يكلم ولا يحضر جماعة ولا يؤم ولا يؤاكل ولا يجالس، وكانت خطة حالت
1 سورة الأعراف: من الآية 175.
2 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص118.
3 المرجع السابق ص119.
4 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص65.
بينه وبين أهل الخير، فإن تاب واستغفر قبل منه ورجع إلى الجماعة وزال عنه شين ذلك الوسم، ويكون بقاؤه في وحشة الهجران بقدر عظم الذنب وصغره وتوبة المجرم وإصراره"1.
ولا يزال هذا الأمر يطبق في بعض جهاتهم، قال الأستاذ حافظ رمضان عن هؤلاء:"لا تزال بقية هؤلاء في بلاد الجزائر وهم يعيشون على وتيرة منظمة وتقاليد عريقة ولا تحكم بينهم محاكم الدولة، وإذا ماطل مدين دائنه دخل المسجد وأعلن ذلك، وحينئذ يقاطع الناس المدين فلا يسلمون عليه ولا يعاملونه حتى يوفي ما عليه"2.
وهو أيضا حال الميزابيين اليوم بالجزائر "فإنهم ما زالوا في تطبيق أحكام الولاية والبراءة"3.
الإمامة:
قلت: إن الأباضية ترفض كل الرفض انتماءها أو نسبتها إلى فرقة الخوارج، مع أنهم يوافقون فرقة الخوارج في كل مواقفهم مما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ومع أن الخوارج لم يطلق عليهم هذا الوصف إلا لمواقفهم تلك.
وعلى كل حال، فالأباضية ترى أن عليا رضي الله عنه حين قبل بالتحكيم بينه وبين معاوية رضي الله عنه فإنه بهذا قد خلع نفسه عن الإمامة وولاها الحكمين على عهد الله وميثاقه، ولهما أن يوليا من شاءا ويعزلا من شاءا، وقد اتفق الحكمان على خلع علي واختلفا في تولية معاوية فولاه إياها عمرو بن العاص ولم يولها إياه أبو موسى الأشعري. وهم لا يرضون معاوية إماما في الدنيا فضلا عن أن يكون إماما للدين؛ لذلك تسرعوا إلى بيعة عبد الله بن
1 الأباضية بالجريد: صالح باجية ص186.
2 أبو الهول قال لي: حافظ رمضان ص150.
3 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص66.
وهب الراسبي المعروف بذي الثفنات، ولما وقعت البيعة منهم له لزمت وحرم تركها بغير موجب، فإذا فعل الإمام موجب فسخها لزم خلعه منها، وإن أصر عليها وجب على المسلمين قتاله، وذلك كما إذا فسخ إمامته أو جار أو ظلم أو ترك واجبا دينيا، وذلك بعد تتويبه فإذا تاب قبل منه1.
وبهذا يتبين أن خروجهم على علي رضي الله عنه إنما هو لقبوله التحكيم وهم يعتبرون هذا القبول فسخا لإمامته، وفسخه لإمامته يوجب عندهم خلعه وإن أصر على الإمامة وجب قتاله بعد استتابته.
ولا ريب بعد هذا أن تكون الإمامة عند هؤلاء في منزلة كبرى وأصلا من أصولهم، يضعون له ويبنون عليه الأحكام.
ولذلك قالوا: "وعندنا أن الإمامة من الأصول لما صح عن عمر وغيره من الأمر بقتل من تعين نصبه إماما، فأبى من قبولها "!! " إلا أنها ليست مما يقدح تخلفه في صفة الله. فمعنى كونها من الأصول أنه لا يجوز الخلاف فيها"2.
والإمامة عندهم واجبة "ووجوب نصب الإمام في الأمة معروف من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ألا ترى أن الصحابة اشتغلوا بعلاج قضية الإمامة عندما تحققوا موت النبي صلى الله عليه وسلم لما يرون من لزوم أمرها، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدفن بعد وهم في أمر الإمامة
…
وفي القرآن الأمر بالحدود في الزنى والخمر3 والقذف والسرقة وقتل القاتل وقطاع الطرق وغير ذلك والمخاطب بذلك الإمام ومن في معناه من سلطان وأمير وإمام، فإذن هذه ألقاب لا معول عليها بل المعول على العدل ولا يخفى أن الإنسان لا يحكم على نفسه، وليس له أن ينفذ حدا على غيره فضلا عن نفسه ما لم يكن إماما أو سلطانا عادلا. فإن السلطان العادل ظل الله في أرضه، سواء كان إماما
1 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس ص16 بتصرف.
2 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني "ص68" نقلا من شرح محمد بن يوسف أطفيش للعقيدة.
3 ليس في القرآن حدّ للخمر، فلعله سهو.
أو أميرا أو خليفة أو سلطانا بحسب الاصطلاح، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"الحدود والجمعات والفيء والصدقات إلى الأئمة"، والمراد من هؤلاء كلهم العادل، قال الله عز وجل لنبيه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام:{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1. وكذلك الأمر في تعجيل إمامة عمر رضي الله عنه لولا وجوبها لكان لقائل أن يقول: ما حاجة على الإمامة "كذا" وليترك الناس على ما هم عليه ولكنهم لم يتركوهم بل بايعوا بعد عمر عثمان بن عفان، ثم بايعوا بعد عثمان علي بن أبي طالب
…
وهكذا
…
وبذلك أجمعت الأمة على وجوب الإمامة"2.
ولهم شروط في وجوب الإمامة إذا توفرت الشروط وجبت الإمامة، ولهم شروط أيضا في الإمام الذي تصح له البيعة.
أما شروط وجوب الإمامة: "فأن يكون أهل الحق3 نصف عدوهم المتخوف منه أو أكثر، ولهم ما يكفيهم من علم ومال وسلاح وكراع، وإذا عقدت الإمامة لمن هو لها أهل لم يجز له تركها"4، ولم أجد بيان الحكم إذا كانوا أقل من نصف عدوهم.
أما شروط الإمام فـ"أن يكون ذكرا بالغا عاقلا عالما بالأصول والفروع متمكنا من إقامة الحجج وإزالة الشبه ذا رأي وخبرة في الحروب شجاعا ولو كان لا يباشرها بنفسه لا يلين ولا يفشل من أهوالها ولا يهاب إقامة الحدود وضرب الرقاب في سبيل الله ونصرة الحق، وإذا توفرت هذه الشروط في القرشي فهو أولى وإلا فغيره ممن رضيه أهل الحل والعقد من المسلمين، ولا يفهم من هذه الشروط أن نصب الإمام غير واجب إذا فقد شرط منها، لا بل يتعين عليهم نصبه ولو كان
1 سورة البقرة: الآية 124.
2 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس ص23-25 باختصار.
3 المراد بهم هنا الأباضية.
4 مختصر تاريخ الأباضية ص66 عن الشرح الكبير على العقيدة، للشيخ محمد بن يوسف أطفيش.
دون هذه المنزلة، إذ العبرة بالشروط الأساسية التي لا يشاد صرح الإمامة بدونها"1.
قالوا: "والقوة والعلم من ضروريات صفات الإمام الذي يصلح أن يكون قائد أمة أو زعيم عامة فإنه إذا كان ضعيفا فإن ضعفه يؤخره عن القيام بالواجبات التي تناط به
…
والعلم هو الأساس الذي يجب على المسلم أن يمشي عليه ما عاش. وبالأخص أهل المناصب إذ تتوجه إلى الإمام حدود وولاية وبراءة وما إليها من جباية الزكاة وبيوت الأموال والقيام بمصالح الأمة إلى أشياء عديدة، فينظر بالعلم من يقدم على العمل ومن يؤخر، فإن بالعلم يقوم الدين؛ ولهذا أوجب الأباضية العلم في الإمامة"2.
أما شرط القرشية فلا يقولون به، بل قالوا: "إن وجد المستقيم في قريش حسنت بيعته، وإذا بويع وجبت طاعته لا من حيث إنه قرشي بل من حيث إنه صالح، فإن المطلوب في الأمة الصلاح وهل لقريش مزيد فضل بدون الصلاح؟ فإن الله عز وجل أمر بالصلاح ودعا
…
والواقع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يول قريشا فقط وإنما ولى من عدة قبائل في العرب، وصحة الإمامة أصل لصحة الولاية فإنها فرع عليها، وما جاز في الأصل جاز في الفرع ولم يجعل الله عز وعلا الأمر في أمة خاصة أو في قبيلة خاصة أو في بلد خاص"3.
بل يكفي أن يكون الخليفة متصفا بالفضيلة، سائرا بموجب الكتاب والسنة لتصح خلافته، فإن انحرف عنهما أي: الكتاب والسنة، فقد تهور في أعماله ورجع القهقرى، ولا بد أن يكون تعلق بالهوى وخلع ربقة التقوى فلا يصح أن يبقى على هذا الحال إماما
…
وليس من الحق أن نترك المنحرف عن واجب الكتاب والسنة لا عقلا ولا نقلا فيما علمنا4، وتجب طاعته ما دام على الحق والعدل شعاره، فإن جار في الحكم وخالف الحق ولم يتب جاز، بل وجب الخروج عنه5.
1 المرجع السابق.
2 الحقيقة والمجاز ص22 و23.
3 المرجع السابق ص25 و26.
4 المرجع السابق: ص26 و27.
5 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص68.
موقفهم من الصحابة، رضوان الله عليهم:
إن الأباضية يوالون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أما الأول فقد كان: "عاملا بما جاءت به النبوة، تابعا لأوامرها، قائما بما قامت به الأمة، محافظا لسيرتها، وبذلك لم يفقد من النبي عليه الصلاة والسلام إلا شخصه الكريم ونزول الوحي بعده1. ومات والأمة الإسلامية كلمة واحدة راضية عنه عند موته"2.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد: "سار مسيرة صاحبه وأعطى القوس باريها وأجرى الأمور مجاريها"1 حتى مات شهيدا مبكيا عليه مأسوفا على مآثره وعلى سيرته المرضية وأيامه الزاهية البهية3.
أما عثمان رضي الله عنه فليس له عندهم مثل منزلة صاحبيه رضي الله عنهما ونذكر هنا ما يتعلق به رضي الله عنه من رسالة بعث بها إمامهم عبد الله بن أباض إلى عبد الملك بن مروان قال فيها: "فولوا عثمان فعمل ما شاء الله بما يعرف أهل الإسلام، حتى بسطت له الدنيا وفتح له من خزائن الأرض ما شاء الله، ثم أحدث أمورا لم يعمل بها صاحباه قبله وعهد الناس بنبيهم حديث، فلما رأى المؤمنون ما أحدث أتوه فكلموه وذكروه بكتاب الله وسنة من كان قبله من المؤمنين، فشق عليه أن ذكروه بآيات الله "!! " وأخذهم بالجبروت وضرب منهم من شاء وسجن ونفى"4، وقال أحد معاصريهم:"فإن كان عثمان على حق فالخارجون عليه المحاربون له ضالون بذلك تجب منهم البراءة، فما لكم تقولون: رضي الله عنهم، وهم خارجون على إمام الحق وإن كان عثمان ظالما وخرجوا عليه لظلمه، فمن الواجب القيام على الظالم حتى يرجع عن ظلمه" إلى أن قال: "أما كون عثمان أمير المؤمنين وكل ما يفعله أمير المؤمنين من الحق والباطل
1 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص73.
2 مختصر تاريخ الأباضية ص15.
3 مختصر تاريخ الأباضية ص16.
4 المرجع السابق ص21.
مقبول عند الله وهو لذلك يجب أن يحترم. وإذا كان كذلك فما بال مائة ألف سيف في المدينة بأيدي المهاجرين والأنصار الذين وصفهم الله عز وجل بالاستقامة في الدين، لا تدافع عن الإمام المحق، فما لهؤلاء الناس لا يأتون بالحق1 الذي يجب على كل مسلم أن يكون عليه؟! "2.
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهم يعتقدون أنه إمام بالإجماع، بايعه المسلمون عن رضى به واختيار له من بين أقرانه؛ لما يرون فيه المناسبة لمنصب الإمامة
…
وزاد على أقرانه الستة بكونه من بيت النبوة، فهو العالم العابد الزاهد الأمين الثقة التقي الذي سلم من الأهواء والتحيزات العنصرية، متجردا لله، قائما بحقوق الله، ثابتا على سلطان الله، يتساوى معه البعيد والقريب في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. وهذه هي صفة علي بن أبي طالب وهو لم يزل كذلك حتى دخل عليه داخل3 في سياسته ليضله عن طريقه، وهو يعتقد فيه أنه يريد الحق ويدعو إليه، وهو بطانة سوء لعلي بن أبي طالب فلذلك أثر عليه
…
1 أما وقد دعا إلى الإتيان بالحق، فإنا نقول: إن المائة ألف سيف التي بأيدي المهاجرين والأنصار لم تغمد عبثا ولا تخليا عن عقيدة ولكنها بعثت واحدا منها هو المغيرة بن شعبة رضي الله عنه إلى عثمان وهو محاصر تخيره بثلاثة أمور: إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عددا وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق لك بابا سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على راحلتك فتلحق بمكة فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية. فقال عثمان رضي الله عنه: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم" فلن أكون أنا إياه، وأما أن ألحق بالشام فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم "رواه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص67 من مسند عثمان بن عفان رضي الله عنه". بل إن عثمان رضي الله عنه كان ينهى أهل بيته عن تجريد السلاح. إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، محمد الخضري ص198.
2 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس ص21.
3 يقصد: الأشعث بن قيس رضي الله عنه.
ولا نعتقد في علي ما تعتقده فيه الشيعة، بل هو عبد من عباد الله وهو هكذا يقول، وبسبب بطانته السيئة وقع ما وقع1.
أما خلاصة رأيهم فيه رضي الله عنه بعد ذلك، فإنهم يرون أنه بقبوله التحكيم قد خلع نفسه عن الإمامة وولاها الحكمين على عهد الله وميثاقه أن يوليا من شاءا ويعزلا من شاءا، فقد اتفقا على خلعه واختلفا في التولية له، فولى أحدهما معاوية واحرنجم الثاني فلم يفعل شيئا وافترقا على ذلك، ولما رأى أولئك المؤمنون نهاية الواقع وما كانوا يرضون معاوية إماما في الدنيا، فضلا عن أن يكون إماما للدين فلذلك تسرعوا إلى البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي المعروف بذي الثفنات، فلما وقعت البيعة لزمت، وحرم تركها بغير موجب"2.
ولذا فهم يعتقدون أن البيعة انتقلت بعد علي رضي الله عنه إلى عبد الله بن وهب الراسبي، الذي بايعوه بعد التحكيم.
"ولما بايعوه بعثوا إلى أصحابهم مسرورين ببيعتهم مبتهجين برضاه وقبوله على يقين واطمئنان أن علي بن أبي طالب لا يعود يطالبهم بإمامة أو يدعيها"3.
ولكن عليا رضي الله عنه توجه إلى عبد الله الراسبي وأباد جيشه في النهروان، وكان عبد الله من بين القتلى، قال أحد مؤرخيهم:"ولا أظنه أمر بقتلهم ولا أشار إليهم ورأى السكوت يسعه حيث قال له القائمون بأمره عن القوم ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم حيث نسبوا إلى أهل الحق ما نسبوا؛ ليتوصلوا إلى الباطل بما حصلوا، ولا أرى عليا إلا خليا من دماء القوم ولا ألومه، وهو قاصدهم ليتفاهم معهم ويتفاوض هو وإياهم"4.
لكنهم مع هذا لا يتبرءون من عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عنه.
1 الحقيقة والمجاز ص21 و22.
2 المرجع السابق ص15.
3 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص21.
4 الحقيقة والمجاز ص17.
أما معاوية رضي الله عنه فإنهم يعتقدون أن أولئك القائمين بالنهروان، كل واحد منهم أفضل من معاوية بمسافات1، "كذا" وهم يعتقدون أنه "خرج على الإمام محاربا له، شاقا عصا المسلمين يريد أن يفرق جمعهم ويهدم بناءهم ويقلب أمورهم ظهرا لبطن؛ ليسيطر عليهم فيكون ملكا فيهم وزعيما عليهم"2، وقالوا:"فخرج معاوية على علي وعلى المسلمين، بل خرج على الدين لما كان علي بن أبي طالب إمام عامة، ثبتت إمامته بإجماع خرج عليه يشق عصا المسلمين ولا يبالي بما يكون من خصام وما يكون من دماء تسفك على غير حق، بل خرج على الإمام يشق طريق الخصام ولا يبالي بسفك دماء المسلمين"2، هكذا زعموا في معاوية رضي الله عنه أما طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة رضي الله عنهم أجمعين- فقالوا عنهم بعد بيعتهم لعثمان، رضي الله عنه: "وبايعه فيمن بايع طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ثم نكثا ما بعنقهما من البيعة، واستنفرا معهما أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، فحاربهم علي وقهرهم
…
أما السيدة عائشة فقد تابت من عملها بعد ذلك، وندمت أشد الندم"3.
موقفهم من مخالفيهم:
سأكتفي هنا بإيراد جزء من خطبة أبي حمزة المختار بن عوف أحد كبار أئمتهم، التي وجهها إلى أهل المدينة المنورة بعد استيلائه عليها فقال: "أيها الناس، نحن من الناس والناس منا إلا عابد وثن وملكا جبارا، وصاحب بدعة يدعو الناس إليها، وإن امتنعوا من ذلك دعوناهم إلى أن نجري عليهم حكم الله تعالى من دفع الحقوق والخضوع لواجب الأحكام، فإن أذعنوا لذلك تركناهم على ما هم عليه ووجب لهم من الحقوق والأحكام ما يجب لنا وعلينا إلا ما كان من الاستغفار، فلا حق لهم فيه ما داموا متمادين على ما هم عليه ووسعنا وإياهم
1 الحقيقة والمجاز ص14.
2 المرجع السابق ص11 و12.
3 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص16 و17.
العدل ولهم حقوقهم من الفيء والغنائم والصدقات على وجوهها، ولهم علينا دفع الظلم عنهم كما يجب لسائر المسلمين، والعدل في الأحكام والدفاع عنهم وإن غزوا معنا فلهم سهامهم كما لنا، ومن امتنع منهم مما وجب عليه من الحقوق أدبناه بما يقمعه ونرده إلى سواء السبيل، وإن جاوزوا ذلك سفكنا دماءهم واستحللنا قتالهم وإن اعترفوا بطاعتنا وانفردوا ببلادهم وأجروا فيها أحكامهم تركناهم وذلك ما لم يكن رد على آية محكمة أو سنة قائمة ونستقضي عليهم منهم من يقوم بواجب الحقوق عليهم ولهم ونقبل قوله في ذلك على أسلوب القضاة كلهم، ولا يمنعنا من ولايتهم إلا ما هم عليه ونأخذ منهم كل ما يجب من الحقوق ونردها في فقرائهم وذوي الحاجة منهم وإن اتهمناهم في شيء أعذرنا إليهم، ولا نتركهم يظهرون منكرا بين أيدينا إذا كان عندهم منكرا ديانة ونمنعهم أن يحدثوا في أيامنا ما لم يكن إلا أن يكون أمرا لا مكروه تحته، وإن خرجوا علينا وهزمناهم، فإنا لا نتبع مدبرا ولا نجهز على جريح وأموالهم مردودة عليهم إلا ما كان عائدا لبيت المال، فإنا نأخذه ونصرفه في وجوهه
…
وإن قدرنا عليهم قتلنا منهم كل من قتل أحدا منا بعينه قصاصا ونسرح سبيل الأسارى ولا نتبع المنهزمين ولا نعترض أحدا منهم إلا من طعن في الدين أو قتل من المسلمين أو دل عليهم، فهؤلاء يقتلون إذا قدرنا عليهم إلا من تاب قبل ذلك، ونصلي على قتلاهم وندفنهم ونجري المواريث بيننا وبينهم على وجوهها، والأموال والحرمات على وجوهها"1.
مصادر التشريع:
مصادر التشريع عند الأباضية هي مصادره عند أهل السنة، أعني: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، لا ينكرون شيئا منها ولا يجحدونه كما وصفهم بعض من كتب عنهم، قال أحد علماء الأباضية: "وأحكام الشريعة كلها مأخوذة من طريق واحد وأصل واحد، وهو كتاب رب العالمين، وهو قوله تبارك وتعالى:
1 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص72 و73.
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُم.....} 1 الآية، والسنة مأخوذة من الكتاب، قال الله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 2.
والسنة علم بكتاب الله عز وجل وبه أوجب اتباعها والإجماع أيضا علم بكتاب الله عز وجل وبالسنة التي هي من كتاب الله؛ لأن الإجماع توقيف، والتوقيف لا يكون إلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم3.
وعندهم أن ما ذكر في الكتاب أو السنة أو الإجماع، فهو نص والنص أصل يقاس عليه قالوا:"فما وجد في هذه الثلاثة الأصول فهو أصل، وما لم يوجد فهو فرع ويقاس عليهن ما لم يذكر في إحداهن4 وقالوا: لا تقاس الأصول بعضها ببعض، والأصول ما جاء من الكتاب والسنة والإجماع، ويقاس ما لم يأت في الأصول على الأصول، والأصول مسلمة على ما جاءت"5.
وقال ناظمهم:
يستخرج الحكم من الكتاب
…
وهكذا من سنة الأواب
كذلك الإجماع فيما اجتمعوا
…
كذلك القياس فيما فرعوا6
والمراد بالكتاب القرآن الكريم لا يقولون بتحريفه لا بزيادة ولا نقصان، أما عمادهم في السنة فهو ما جمعه أحد علمائهم وهو:"الجامع الصحيح"، مسند الإمام الربيع بن حبيب، قال عنه أحد علمائهم المعاصرين:"اعلم أن هذا المسند الشريف أصح كتب الحديث رواية، وأعلاها سندا"7، وقال:"فجميع ما تضمنه الكتاب صحيح باتفاق أهل الدعوة "يقصد الأباضية" وهو أصح كتاب بعد
1 سورة الأعراف: من الآية 3.
2 سورة النساء: من الآية 59.
3 المصنف لأبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي السمدي النزوي "أباضي" ج1 ص50 و51.
4 المصنف لأبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى "أباضي" ج1 ص50.
5 المصنف لأبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى "أباضي" ج1 ص50 و51.
6 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد السالمي ج1 ص21.
7 الجامع الصحيح: مسند الربيع بن حبيب، ومن مقدمة عبد الله بن حميد السالمي ص2.
القرآن العزيز، ويليه في الرتبة الصحاح من كتب الحديث"1.
ويقصد بكتب الحديث كتب أهل السنة، فهم يقدمون مسند الربيع بن حبيب أولا ثم صحيح البخاري ومسلم وغيرهما ثانيا. فهم يقبلون ما جاء في كتب الحديث عند أهل السنة ولكن ليس بنفس درجتها عندهم، بل هي تالية لمسند الربيع، وعلى هذا فإن وقع خلاف بين مسند الربيع مثلا وصحيح البخاري أخذوا بما في مسند الربيع.
الآراء الفقهية:
ولا تكاد تجد كبير فارق بين أهل السنة والأباضية إلا كما تجد الفارق بين المذاهب الأربعة، ويرجع ذلك للاتفاق على أصول التشريع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، زد على هذا اعترافهم بالكتب الصحاح عند أهل السنة، ولا تكاد تجد لموقفهم من الصحابة -رضوان الله عليهم- من أثر على اتجاههم الفقهي؛ لأنهم لا يردون رواياتهم، وإن ردوا فقليلا لا يكاد يبين له أثر بخلاف الشيعة الذين لا يقبلون إلا ما يرد عن أئمة أهل البيت؛ فكان الاختلاف بينهم وبين أهل السنة في الأصول والفروع.
ولا أرى من داعٍ لذكر أمثلة على ذلك، فالفروع كثيرة. أما في الأركان فقال أحد علمائهم:"ولا أعلم بين الفريقين -يعني الأباضية وأهل السنة- خلافا في الصلاة ووجوبها وأدائها في الأوقات الخمسة وعدد الركعات، ولا في الحج وأركانه ومناسكه، ولا في الزكاة ونصابها ومواضع صرفها، ولا في الصوم ووجوبه وأغلب مصححاته ومفسداته"2.
قلت: وإذا كان الاتفاق في الأصول، فإن الاختلاف في الفروع أمر مقبول إن شاء الله، ما دام الاجتهاد فيها مستندا إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما داموا يرجعون إلى كتب أهل السنة والجماعة.
1 الجامع الصحيح: مسند الربيع بن حبيب، من مقدمة عبد الله بن حميد السالمي ص2.
2 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص71.