الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[1326] باب من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله وسلم تظليل الغمام له ومَيل فيء الشجرة عليه والرد على من أنكر ذلك
[قال الإمام تحت عنوان]:
حديث تظليل الغمام له أصل أصيل (1)
قرأت في العدد السادس من المجلد السادس من مجلة "المسلمون" الغراء كلمة الأستاذ الطنطاوي بعنوان "صناعة المشيخة" فَسرَّني ما فيها من الصراحة والشجاعة في محاربة الباطل الذي انطلى أمره على كثير من الناس فبارك الله فيه وزاده توفيقاً.
بيد أنني استنكرت قوله في التعليق: "وما يقوله القوالون من أنه (المظلل بالغمام) لا أصل له ".
ذلك لأن حديث تظليل الغمام للنبي عليه الصلاة والسلام ثابت في غير ما كتاب من كتب السنة، فكيف يصح أن يقال فيه:"لا أصل له "؟ نعم لو قال: " لا يصح سنده " لكان أقرب إلى الصواب، وأبعد عن الغلو في الخطاب، وإنما قلت:" أقرب " لأن الصواب أن الحديث صحيح، وإن ضعَّفه بعضهم، لأنه لم يأت عليه بحجة مقنعة وإليكم البيان:
أخرج الترمذي (4/ 296 بشرح التحفة) وأبو نعيم في (دلائل النبوة 1/ 53) والحاكم (2/ 615 - 616) وابن عساكر في (التاريخ 1/ 187/1 - 188/ 1) عن قراد أبي نوح، أنبأ يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه،
(1)"مجلة المسلمون"(6/ 793 - 797)، بواسطة "مقالات الألباني".
قال: خرج أبو طالب إلي الشام وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب
…
قلت: فذكر القصة وفيها «فأقبل صلى الله عليه وآله وسلم وعليه غمامة تظله، قال: انظروا إليه غمامة تظله! فلما دنا على القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، قال انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه» الحديث بطوله، وفي آخره «وبعث معه أبو بكر بلالاً» قلت: فهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح: أما أبو بكر بن أبي موسى فثقة بلا خلاف واحتج به الشيخان.
وأما يونس بن أبي إسحاق فاحتج به مسلم، وفيه كلام لا يسقط حديثه عن رتبة الاحتجاج به، وقد قال الذهبي فيه:"صدوق ما فيه بأس ".
وأما قراد، واسمه عبد الرحمن، فثقة أيضاً احتج به البخاري.
قلت: فتبين أن الإسناد صحيح من الوجهة الحديثية، وقد تناقضت فيه آراء العلماء ما بين مفرط ومفرِّط، فهذا الحاكم يقول فيه:"صحيح على شرط الشيخين"! وقال الجزري: «إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح أو أحدهما» .
وفي الجانب الآخر قول الذهبي في تعقيبه على الحاكم: " قلت: أظنه موضوعاً، فبعضه باطل ".
فهذا الغلو من القول لا ينفق في ميدان العلم والبحث الحر، فأين الدليل على وضعه بطوله، ومن المعلوم أن الوضع إنما يحكم به إما من جهة السند، وذا منفي هنا لما علمت من ثقة رجاله، وإما من جهة متنه، وهذا مفقود أيضاً إذ غاية ما يمكن أن ينكر منه ما ذكره الذهبي في ترجمة قراد أبي نوح من " الميزان " فقال:
" أنكر ما له حديثه عن يونس بن أبي إسحاق
…
ومما يدل على أنه باطل
قوله: " وبعث معه أبو بكر بلالاً" وبلال لم يكن بعد خلق، وأبو بكر كان صبياً ".
وقال في "تاريخ الإسلام "(1/ 39):
"تفرد به قراد، واسمه عبد الرحمن بن غزوان، ثقة احتج به البخاري والنيسابوري (1)، ورواه الناس عن قراد وحسنه الترمذي، وهو حديث منكر جداً، وأين كان أبو بكر؟! كان ابن عشر سنين فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسنتين ونصف، وأين كان بلال في هذا الوقت، فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث ولم يكن ولد بعد".
وذكر نحو هذا وأبسط منه ابن القيم في فصل له في هذا الحديث مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق (عام- 5485/ 100 - 103).
قلت: وهذا النقد للمتن لو سلم به لم يقتض الحكم على الحديث كله بالوضع، ذلك لأن رواته ثقات كما عرفت، وحينئذ إنما يجوز أن يردَّ من حديث الثقة ما ثبت خطؤه ويبقى باقيه على الأصل وهو القبول، ويؤيده أن البزار لما روى هذا الحديث لم يسم "بلالاً" وإنما قال:"رجلاً" وعلى هذا يطيح الإشكال الذي اعتمد عليه الذهبي في إنكاره للحديث، ويدل على أن تسمية الرجل بلالاً سهو من بعض الرواة، وهذا لا بد من الاعتراف به، إذ الثقة قد يخطيء والجواد قد يكبو.
وتوسط آخرون فحسنوا الحديث كالترمذي، فإنه قال:" حديث حسن غريب".
(1) يعني الإمام مسلماً صاحب الصحيح فإنه من نيسابور، ولكن قرنه مع البخاري هنا وهم، فإن مسلماً لم يخرج له كما أفاده الذهبي نفسه في الميزان. [منه].
وهذا هو الحق عندي لما عرفت من سلامة إسناده من قادح، وما أشرنا إليه من الكلام في بعض رواته لا ينافي القول بحسنه لا سيما إذا علمنا مجيئه من طرق أخرى، فقد قال السيوطي في "الخصائص الكبرى" (1/ 84):
"قال البيهقي: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازي.
قلت: ولها شواهد عدة سأوردها تقضي بصحتها، إلا أن الذهبي ضعف الحديث لقوله في آخره:"وبعث معه أبو بكر بلالاً"
…
وقد قال ابن حجر في "الإصابة":الحديث رجاله ثقات، وليس فيه منكَر سوى هذه اللفظة، فتحمل على أنها مدرجة فيها مقتطعة من حديث آخر وهماً من أحد رواته".
ثم ساق السيوطي الشواهد التي أشار إليها فليراجعها من شاء فإن الكلام عليها مما يطيل البحث، ولا مجال لذلك الآن.
بقي علينا أن ندفع شبهة أخرى على هذه المعجزة وقد تعلق بها الذهبي أيضاً، فإنه قال عطفاً على قوله السابق في "التاريخ":
"وأيضاً فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة لأن ظل الغمامة تقدم فَيْءَ الشجرة التي نزل تحته".
فأقول: إنما يصح هذا الاستشكال لو كان في الحديث التصريح بأن الفيء مال مع بقاء الغمامة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وليس في الحديث شيء من هذا، فمن الجائز أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما جلس عند الشجرة عليه ليظله بدل الغمامة، عليه فيكون قد ظهرت له صلى الله عليه وآله وسلم في هذه القصة معجزتان الأولى تظليل الغمامة له، والأخرى ميل الفيء عليه، وهو صلى الله عليه وآله وسلم أهل لذلك ولما هو أكثر منه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم، نقول هذا وإن كنا لسنا والحمد لله من الذين ينسبون إليه صلى الله عليه وآله وسلم ما هب ودب مما لم يصح من المعجزات،