الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[1255] باب إثبات تلبس الجن بالإنس والرد على من أنكر ذلك
مع الإنكار على من يتوسع في هذا الباب كذلك
"يا شيطان اخرج من صدر عثمان! [فعل ذلك ثلاث مرات] ".
[قال الإمام]:
هو من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه، وله عنه طرق أربعة:
الأولى: عن عبد الأعلى: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عبد الله بن الحكم عن عثمان بن بشر قال: سمعت عثمان بن أبي العاص يقول: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسيان القرآن، فضرب صدري بيده فقال: فذكره. قال عثمان: "فما نسيت منه شيئا بعد، أحببت أن أذكره ".
وفي الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان ويدخل فيه ولو كان مؤمناً صالحا، وفي ذلك أحاديث كثيرة، وقد كنت خرجت أحدها فيما تقدم برقم (485) من حديث يعلى بن مرة قال:"سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأيت منه شيئا ًعجباً .. " وفيه: "وأتته امرأة فقالت: إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين، يأخذه كل يوم مرتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أدنيه "، فأدنته منه، فتفل في فيه، وقال: اخرج عدو الله! أنا رسول الله ". رواه الحاكم وصححه.
ووافقه الذهبي، وهو منقطع. ثم خرجته من طرق أخرى عن يعلى، جود المنذري أحدها! ثم ختمت التخريج بقولي:" وبالجملة فالحديث بهذه المتابعات جيد (1). والله أعلم ". ثم وقفت على كتاب عجيب من غرائب ما طبع في العصر
(1) وله شواهد كثيرة يزداد بها قوة، قد ساقها المؤلف الآتي ذكره، وسلم بصحته في الجملة، ولكنه ناقش في دلالته، ويأتي الرد عليه. [منه].
الحاضر بعنوان (طليعة " استحالة دخول الجان بدن الإنسان")! لمؤلفه (أبو عبد الرحمن إيهاب بن حسين الأثري) -كذا الأثري موضة العصر! - وهذا العنوان وحده يغني القارئ اللبيب عن الاطلاع على ما في الكتاب من الجهل والضلال، والانحراف عن الكتاب والسنة، باسم الكتاب والسنة ووجوب الرجوع إليهما، فقد عقد فصلا في ذلك، وفصلا آخر في البدعة وذمها وأنها على عمومها، بحيث يظن من لم يتتبع كلامه وما ينقله عن العلماء في تأييد ما ذهب إليه من الاستحالة أنه سلفي أو أثري - كما انتسب - مائة في المائة! والواقع الذي يشهد به كتابه أنه خلفي معتزلي من أهل الأهواء، يضاف إلى ذلك أنه جاهل بالسنة والأحاديث، إلى ضعف شديد باللغة العربية وآدابها، حتى كأنه شبه عامي، ومع ذلك فهو مغرور بعلمه، معجب بنفسه، لا يقيم وزناً لأئمة السلف الذين قالوا بخلاف عنوانه كالإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم، والطبري وابن كثير والقرطبي، والإمام الشوكاني وصديق حسن خان القنوجي، ويرميهم بالتقليد! على قاعدة (رمتني بدائها وانسلت)، الأمر الذي أكد لي أننا في زمان تجلت فيه بعض أشراط الساعة التي منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» (1). ونحوه قول عمر رضي الله عنه: " فساد الدين إذا جاء العلم من الصغير، استعصى عليه الكبير، وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير، تابعه عليه الصغير "(2). وما أكثر هؤلاء (الصغار) الذين يتكلمون في أمر المسلمين بجهل بالغ، وما العهد عنا ببعيد ذاك المصري الآخر الذي ألف في تحريم النقاب على المسلمة! وثالث أردني ألف في تضعيف قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين "، وفي حديث تحريم المعازف، المجمع على صحتهما عند المحدثين، وغيرهم وغيرهم كثير وكثير!!
(1) حديث صحيح مخرج من طرق فيما تقدم برقم (1887 و2238 و2253). [منه]
(2)
رواه قاسم بن أصبغ بسند صحيح كما في " الفتح "(13/ 301).] منه].
وإن من جهل هذا (الأثري) المزعوم وغباوته أنه رغم تقريره (ص 71 و138) أن: " منهج أهل السنة والجماعة التوقف في المسائل الغيبية عندما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه ليس لأحد مهما كان شأنه أن يضيف تفصيلا، أو أن ينقص ما ثبت بالدليل، أو أن يفسر ظاهر الآيات وفق هواه، أو بلا دليل ".
أقول: إنه رغم تقريره لهذا المنهج الحق الأبلج، فإنه لم يقف في هذه المسألة الغيبية عند حديث الترجمة الصحيح. بل خالفه مخالفة صريحة لا تحتاج إلى بيان، وكنت أظن أنه على جهل به، حتى رأيته قد ذكره نقلا عن غيره (ص 4) من الملحق بآخر كتابه، فعرفت أنه تجاهله، ولم يخرجه مع حديث يعلى وغيره مما سبقت الإشارة إليه (ص 1002). وكذلك لم يقدم أي دليل من الكتاب والسنة على ما زعمه من الاستحالة، بل توجه بكليته إلى تأويل قوله تعالى المؤيد للدخول الذي نفاه:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة:275) تأويلا ينتهي به إلى إنكار (المس) - الذي فسره العلماء بالجنون - وإلى موافقة بعض الأشاعرة والمعتزلة! الذين فسروا (المس) بوسوسة الشيطان المؤذية! وهذا تفسير بالمجاز، وهو خلاف الأصل، ولذلك أنكره أهل السنة كما سيأتي، وهو ما صرح به نقلا عن الفخر الرازي الأشعري (ص 76 و78):" كأن الشيطان يمس الإنسان فيجن "! ونقل (ص89) عن غيره أنه قال: " كأن الجن مسه "! وعليه خص المس هذا بمن خالف شرع الله، فقال (ص 22):" وما كان ليمس أحد (كذا غير منصوب!) (1) إلا بالابتعاد عن النهج المرسوم "! ولو سلمنا جدلا أن الأمر كما قال، فلا يلزم منه عند العلماء ثبوت دعوى النفي، لإمكان وجود دليل آخر على الدخول كما في هذا الحديث
(1) قلت: ومثله كثير، انظر بعض الأمثلة في آخر هذا التخريج. [منه].
الصحيح، بينما توهم الرجل أنه برده دلالة الآية على الدخول ثبت نفيه إياه، وليس الأمر كذلك لو سلمنا برده، فكيف وهو مردود عليه بهذا الحديث الصحيح، وبحديث يعلى المتقدم وبهما تفسر الآية، ويبطل تفسيره إياها بالمجاز. ومن جهل الرجل وتناقضه أنه بعد أن فسر الآية بالمجاز الذي يعني أنه لا (مس) حقيقة، عاد ليقول (ص 93):" واللغة أجمعت على أن المس: الجنون ". ولكنه فسره على هواه فقال: أي من الخارج لا من الداخل، قال: " ألا ترى مثلا إلى الكهرباء وكيف تصعق المماس لها من الخارج
…
" إلخ هرائه. فإنه دخل في تفاصيل تتعلق بأمر غيبي قياساً على أمور مشاهدة مادية، وهذا خلاف المنهج السلفي الذي تقدم نقله عنه، ومع ذلك فقد تعامى عما هو معروف في علم الطب أن هناك جراثيم تفتك من الداخل كجرثومة (كوخ) في مرحلته الثالثة! فلا مانع عقلا أن تدخل الجان من الخارج إلى بدن الإنسان، وتعمل عملها وأذاها فيه من الداخل، كما لا مانع من خروجها منه بسبب أو آخر، وقد ثبت كل من الأمرين في الحديث فآمنا به، ولم نضربه كما فعل المعتزلة وأمثالهم من أهل الأهواء، وهذا المؤلف (الأثري) - زعم - منهم.
كيف لا وقد تعامى عن حديث الترجمة، فلم يخرجه البتة في جملة الأحاديث الأخرى التي خرجها وساق ألفاظها من (ص 111) إلى (ص126) - وهو صحيح جدا - كما رأيت، وهو إلى ذلك لم يأخذ من مجموع تلك الأحاديث ما دل عليه هذا الحديث من إخراجه صلى الله عليه وآله وسلم للشيطان - من ذاك المجنون -، وهي معجزة عظيمة من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم، بل نصب خلافاً بين رواية " اخرج عدو الله " ورواية " اخسأ عدو الله "، فقد أورد على نفسه (ص 124) قول بعضهم:" إن الإمام الألباني قد صحح الحديث "، فعقب بقوله:" فهذا كذب مفترى، انظر إلى ما قاله الشيخ الألباني لتعلم الكذب: المجلد الأول من سلسلته الصحيحة ص 795 ح 485 ". ثم ساق كلامي فيه، ونص ما في آخره كما تقدم: " وبالجملة
فالحديث بهذه المتابعات جيد. والله أعلم ". قلت: فتكذيبه المذكور غير وارد إذن، ولعل العكس هو الصواب! وقد صرح هو بأنه ضعيف دون أي تفصيل (ص 22)، واغتر به البعض! نعم، لقد شكك في دلالة الحديث على الدخول بإشارته إلى الخلاف الواقع في الروايات، وقد ذكرت لفظين منها آنفا. ولكن ليس يخفى على طلاب هذا العلم المخلصين أنه ليس من العلم في شيء أن تضرب الروايات المختلفة بعضها ببعض، وإنما علينا أن نأخذ منها ما اتفق عليه الأكثر، وإن مما لا شك فيه أن اللفظ الأول: " اخرج " أصح من الآخر " اخسأ "، لأنه جاء في خمس روايات من الأحاديث التي ساقها، واللفظ الآخر جاء في روايتين منها فقط! على أني لا أرى بينهما خلافاً كبيراً في المعنى، فكلاهما يخاطب بهما شخص، أحدهما صريح في أن المخاطب داخل المجنون، والآخر يدل عليه ضمنا. وإن مما يؤكد أن الأول هو الأصح صراحة حديث الترجمة الذي سيكون القاضي بإذن الله على كتاب " الاستحالة " المزعومة، مع ما تقدم من البيان أنها مجرد دعوى في أمر غيبي مخالفة للمنهج الذي سبق ذكره. ولابد لي قبل ختم الكلام على هذا الموضوع أن أقدم إلى القراء الكرام ولو مثالاً واحد على الجهل بالسنة الذي وصفت به الرجل فيما تقدم، ولو أنه فيما سلف كفاية للدلالة على ذلك! لقد ذكر الحديث المشهور في النهي عن اتباع سنن الكفار بلفظ لا أصل له رواية ولا دراية، فقال (ص 27): " وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: " لتتبعن من قبلكم من الأمم حذاء القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم. قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟ ". أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم "! ومجال نقده في سياقه للحديث هكذا واسع جداً، وإنما أردت نقده في حرف واحد منه أفسد به معنى الحديث بقوله (حذاء)، فإن هذا تحريف قبيح للحديث لا يخفى على أقل الناس ثقافة، والصواب (حذو). وليس هو خطأ مطبعيًّا كما قد يتبادر لأذهان البعض،
فقد أعاده في مكان آخر. فقال (ص 34) مقرونا بخطأ آخر: " حذاء القذة بالقذة "! كذا ضبطه بفتح القاف! وإنما هو بالضم (1). ونحو ذلك مما يدل على جهله بالسنة قوله (ص 240): "يقول السلف: ليس الخبر كالمعاينة ".
وهذا حديث مرفوع رواه جماعة من الأئمة منهم أحمد عن ابن عباس مرفوعاً، وفيه قصة. وهو مخرج في " صحيح الجامع الصغير "(5250).
ومن أمثلة جهله بما يقتضيه المنهج السلفي أنه حشر (ص 74) في زمرة التفاسير المعتبرة " تفسير الكشاف "، و" تفسير الفخر الرازي "، فهل رأيت أو سمعت أثريًّا يقول مثل هذا، فلا غرابة بعد هذا أن ينحرف عن السنة، متأثراً بهما ويفسر آية الربا تفسيراً مجازيًّا! وأما أخطاؤه الإملائية الدالة على أنه (شبه أمي) فلا تكاد تحصى، فهو يقول في أكثر من موضع:" تعالى معي "! وقال (ص 131): " ثم تعالى لقوله تعالى "، وذكر آية. وفي (ص 129):" فمن المستحيل أن تفوت هذه المسألة هذان الإمامان الجليلان "! و (ص130). " أضف إلى ذلك أن الإمامين ليسا طبيبان "! فهو يرفع المنصوب مراراً وتكراراً.
وفي الختام أقول: ليس غرضي مما تقدم إلا إثبات ما أثبته الشرع من الأمور الغيبية، والرد على من ينكرها. ولكنني من جانب آخر أنكر أشد الإنكار على الذين يستغلون هذه العقيدة، ويتخذون استحضار الجن ومخاطبتهم مهنة لمعالجة المجانين والمصابين بالصرع، ويتخذون في ذلك من الوسائل التي تزيد على مجرد تلاوة القرآن مما لم ينزل الله به سلطاناً، كالضرب الشديد الذي قد يترتب عليه أحياناً قتل المصاب، كما وقع هنا في عمان، وفي مصر، مما صار حديث الجرائد والمجالس.
(1) وهو مخرج في " الصحيحة " من طرق بألفاظ متقاربة (3312). [منه].
لقد كان الذين يتولون القراءة على المصروعين أفرادا قليلين صالحين فيما مضى، فصاروا اليوم بالمئات، وفيهم بعض النسوة المتبرجات، فخرج الأمر عن كونه وسيلة شرعية لا يقوم بها إلا الأطباء عادة، إلى أمور ووسائل أخرى لا يعرفها الشرع ولا الطب معاً، فهي - عندي - نوع من الدجل والوساوس يوحي بها الشيطان إلى عدوه الإنسان {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} ، وهو نوع من الاستعاذة بالجن التي كان عليها المشركون في الجاهلية المذكورة في قوله تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} . فمن استعان بهم على فك سحر - زعموا - أو معرفة هوية الجني المتلبس بالإنسي أذكر هو أم أنثى؟ مسلم أم كافر؟ وصدقه المستعين به ثم صدق هذا الحاضرون عنده، فقد شملهم جميعاً وعيد قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد "، وفي حديث آخر:" .. لم تقبل له صلاة أربعين ليلة "(1). فينبغي الانتباه لهذا، فقد علمت أن كثيراً ممن ابتلوا بهذه المهنة هم من الغافلين عن هذه الحقيقة، فأنصحهم - إن استمروا في مهنتهم - أن لا يزيدوا في مخاطبتهم على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" اخرج عدو الله "، مذكرا لهم بقوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} (النور:63). والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
"الصحيحة"(6/ 2/999 - 1010).
(1) رواه مسلم وغيره، وهو مخرج في " غاية المرام " (رقم 284) ورواه الطبراني من طريق أخرى بقيد: " غير مصدق لم تقبل
…
"، وهو منكر بهذه الزيادة، ولذلك خرجته في " الضعيفة " (6555). والحديث الذي قبله صحيح أيضا، وهو مخرج في " الإرواء "برقم (2006) وفي غيره. اهـ. [منه].