الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معانيه، بل جمع بين الشرفين، واستولى على الطرفين، يُحْتاج فيه إلى الرواية والدراية، ويجتمع فيه معاقدُ النظر، ومسالكُ العِبَر، مَنْ جَهِلَه من الفقهاء فتحصيله أُجَاج، ومن سُلِب ضوابطُه عَدِم عند دعاويه الحِجَاج، فهو جدير بأن يُنَافس فيه، وأن يُشْتغل بأفضل الكتب في تلخيصاته ومبانيه)) (1) .
ولمَّا رأيتُ أنَّ تعلُّم مسائل الأصول معقودٌ بدراسة كتب الأوائل الفحول، تطفَّلتُ على موائدهم، واكتفيتُ بالكشف عن فرائدهم، وخِلْتُ أنَّ تحقيق كتبهم أيسرُ الدروبِ وأسهلُ الخطوبِ، وما درى المسكينُ أنَّ دون ذلك رُكوبَ الصِّعاب، والضرْبَ في وَعِر الوِهَاد والهِضَاب، حتى لقد أشفقْتُ بعد أن قُدِّر عليَّ ما يكون، أن أصِيْر فيه حَصْراً ممن لا يستطيعون مُضيّاً ولا يرجعون.
لكن بعد استحضار ما للعلم من مآثر، وتشجيعِ أهل الفضل والمفاخر، شمَّرتُ عن ساعد الجدِّ لتحقيق كتاب " شرح تنقيح الفصول " لعَلَمٍ شامخٍ من علماء الأصول، الإمامِ الهمامِ أبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن يَلِّين، الشهير بالقرافي، ذي الشرَف الوافي، والعقل الصافي، علماً بأن قِسْطي من تحقيق الكتاب هو القسم الثالث منه، ابتداءً من الباب الثالث عشر: في أفعاله صلى الله عليه وسلم، وانتهاءً بالباب العشرين في جميع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين، وهو آخر الكتاب (2) .
دواعي اختيار تحقيق الكتاب
لقد نَهَزَني (3) إلى اختيار كتاب شرح تنقيح الشهاب عِدَّةُ أسباب، منها:
أولاً: القيمة العلمية الرفيعة للكتاب، فإن مادته عميقة غزيرة، ومصادره أصيلة وفيرة، حوى نقولاتٍ نادرةً كثيرة، بعضها في غياهب (4) النسيان، لتعرُّض مظانِّها للفقدان: ككتاب الإفادة وكتاب الملخّص كليهما للقاضي عبد الوهاب البغدادي، وكتاب الأوسط لابن بَرْهان، وشرح البرهان للمازري، والجدل للحصكفي وغيرها (5) .
كما أن الكتاب امتاز بحسن التبويب والترتيب، والتقسيم والتنظيم، والتفنن في
(1) نفائس الأصول للقرافي 1 / 89 - 90.
(2)
قام أخي الفاضل / سعيد بن صالح بن عفيف بتحقيق القسم الأول من الكتاب، ابتداءً من أوله حتى نهاية الباب الثالث: في تعارض مقتضيات الألفاظ.
ثم يبدأ القسم الثاني، من الباب الرابع: في الأوامر إلى نهاية الباب الثاني عشر: في المجمل والمبيَّن، تحقيق أخي الفاضل / حسن بن إبراهيم بن خلوفة.
(3)
نَهَزَه: دَفَعه. القاموس المحيط مادة " نهز ".
(4)
الغَيْهب: الظلمة والغفلة. لسان العرب، مادة " غهب ".
(5)
انظر: ص 134 القسم الدراسي.
إيراد السؤال والإشكال، والجوابِ عنه في أحسن مقال، فإن لم يُسْعِفْه الجوابُ بقي ماثلاً في انتظار حلِّ أولي الألباب. كما حشد القرافي كتابَه بالفروق بين المسائل، والتمييز بين المتشابه والمتماثل، هذا مع تَوْشِيَة (1) الكتاب بفوائد مهمة، وتحليته بزوائد جمَّة، وتوشيحه بنكتٍ جميلة، وتَدْبيجه بقواعد جليلة.
فلا جَرَم أن أضحى الكتابُ مَعِيْناً ارتوتْ منه كتبٌ عديدة، وينبوعاً نَهِل منه أصوليون نابهون مادةً فريدة، كالطوفي في شرح مختصر الروضة، والسبكي وابنه في الإبهاج في شرح المنهاج، والعلائي في كتبه، والإسنوي في منهاج السول، وابن جزي في تقريب الوصول، والزركشي في البحر المحيط وتشنيف المسامع، وحلولو المالكي في الضياء اللامع، وابن أمير الحاج في التقرير والتحبير، وابن النجار في شرح الكوكب المنير، وغيرهم جَمٌّ غفير (2) .
ثانياً: شهرة مؤلِّف الكتاب، ونبوغُهُ في علم الأصول، حتى عُدَّ أحدَ ثلاثة علماء عصره الذين انعقد الإجماع علة أفضليّتهم قاطبةً في الديار المصرية (3) .
ولمَّا مات القرافي عليه رحمة الله قال فيه ابن دقيق العيد رحمه الله: ((مات من يُرجع إليه في علم الأصول)) (4) ، ولهذا سجَّله الإمام السيوطي رحمه الله ضمن طبقة من كان بمصر من الأئمة المجتهدين (5) .
فالإمام القرافي بحقٍّ تميَّز بانفراداتٍ في مسائل أصوليةٍ بارزةٍ، وبتحريراتٍ نفيسةٍ راسخةٍ راكزةٍ، فيها جِدَّةٌ وحداثة، نبعتْ من جِهْبذٍ بَحَّاثة، تمتَّعتْ شخصيته بذكاءٍ خارق، وعبقرية فذَّة، تشهد له اختياراته ومناقشاته، وترجيحاته وتصحيحاته، ونقوده وردوده، ونظراته الثاقبة، وتقريراته الصائبة.
ولقد رأيتُني وأنا حَفيٌ بالبحث في الكتاب، كَلِفٌ بحَزْنه وسَهْله، شَغِفٌ بقراءته ودراسته أزداد قناعةً بعد قناعة ساعةً بعد ساعة ببراعة الشهاب القرافي وشموخِهِ، وتألُّقِ نجمِهِ وسطوعِهِ.
ثالثاً: الرغبة في الاطلاع على أصول فقهاء المدينة، دولةِ الإسلامِ، ومنبعِ العلم
(1) التوشية: التحسين والتزيين، مصدر وَشَّ. معجم المقاييس في اللغة، مادة " وشي ".
(2)
انظر: ص 148 - 153 القسم الدراسي.
(3)
انظر: ص 48 القسم الدراسي.
(4)
انظر: ص 48 القسم الدراسي.
(5)
انظر: ص 48 القسم الدراسي.