الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس
مكانته العلمية
وثناء العلماء عليه
* مكانته العلمية:
مما لا ريب فيه أن القرافي تبوأ منزلة عالية، واعتبر من أكابر علماء عصره، قد شهد له بذلك معاصروه، ومن تلوه ممن قرأوا كتبه.
لقد أظهرت مصنفاته العديدة المتنوعة سمّو مكانته، وعلّو درجته في كثير من ميادين العلوم والفنون التي خاضها ودرسها.
فهو المتكلم الضليع، والمنطيق البارع، له دراية فائقة بعلم العقائد والتوحيد، وهو منافح صِنْديد عن عقيدة الإسلام وشريعته ضد شبهات اليهود والنصارى وأهل الزيغ والضلال (1) .
وهو المفسِّر المتمكِّن، له أقوال مبثوثة في مصنفاته (2) ،
ونقل عنه بعض المفسرين في تفاسيرهم (3) .
وهو لغويٌ كبير، أحاط بكثير من دقائق اللغة، وسبر غورها، وفهم سِرَّها. وتحريراتهُ ومصنفاتهُ تشهد له بذلك (4) .
وهو فقيهٌ متبحِّر، ومدقِّق متفرد، حسبك بموسوعته الفقهية الزاخرة " الذخيرة " فهي من أشهر كتب الفقه المالكي بل الفقه الإسلامي عامَّةً، وناهيك بكتابه الفذ
" الفروق " الذي يعتبر من أعظم مبتكراته الفريدة في علم القواعد الفقهية.
وهو أصوليٌ نظَّار نحرير، عقليته الأصولية بارعة قوية، ويكفيك برهاناً على إبداعاته الأصولية تصدِّيه لشرح أجلِّ كتب الأصول وهو " المحصول " للرازي. فقد أودع القرافي دُرَره ونفائسه في كتابه الموسوعي " نفائس الأصول في شرح المحصول ".
(1) انظر: ما ألفه من كتب في علم العقائد وأصول الدين ضمن مؤلفاته: ص 49 - 50.
(2)
أشار الصفدي في: الوافي بالوفيات (6 / 234) بأن للقرافي مصنَّفاً في تفسير الآية (8) من سورة
الأنبياء. وكتابه: " الاستغناء في أحكام الاستثناء " حافل بالعديد من تفسيراته للآيات. انظر: ص 240، 310، 401، 458، 517، 638.
(3)
انظر على سبيل المثال: تفسير ابن جزي الكلبي المسمى: التسهيل لعلوم التنزيل 1 / 305، روح المعاني للألوسي 13 / 322.
(4)
انظر: مصنفاته في اللغة ضمن مؤلفاته: ص 57، 58.
وبجانب إمامة القرافي في العلوم النقلية والعقلية الشرعية، كانت له معرفة ثاقبة ببعض العلوم التجريبية، ومشاركاته في هذا المضمار تُعْلن عن تبحُّره وتفنُّنه.
فله اطلاع واسع بالطب، فها هو يقول في " نفائس الأصول "(6 / 2602) بأن الترياق (1) نافع إلا إذا استعمله الممتلئ، أو صغير السن، أو أُخذ منه مقدار كبير، فإنه يقتل. وقال في النفائس (1 / 459) عن " ماء الهِنْدِباء " (2) : إنها تفتح سَدَد الكبد. وقال عن الَبَقْلة الحمقاء (3) المسماة بالرِّجْلة بأن عادة الأطباء يصفون بَزْرَها لتسكين العطش (4) .
وقد استعمل الحساب والجبر والمقابلة في باب " الفرائض " من كتابه
" الذخيرة "(5) وهو أمر لم يُسْبق إليه من قَبْلُ في كتب المالكيين. كما له تصنيف في الرياضيات (6) .
وتحدث عن علم الفلك والمواقيت حديث العالم الخبير، فبيَّن ما يشتمل عليه من العروض والأطوال والقطب والكوكب والشمس والرياح، وذلك عند الكلام على تحديد القبلة للمصلِّي في كتابه:" الذخيرة "(7) .
(1) التِرْياق: ما يستعمل لدفع السُم من الأدوية والمعاجين، قيل: مأخوذ من ريق الحيات. انظر لسان العرب، المصباح المنير كلاهما مادة " ترق ".
(2)
الهِنْدباء: نبات بري معمّر، زهوره زرقاء، سماه بعضهم: صديق الكبد، يصنع منه شراب، وهو فاتح للشهية، ومفرِّغ للصفراء، ومنقٍّ للدم وغير ذلك. انظر معجم الأعشاب والنباتات الطبية د. حسان قُبيْسي ص 326.
(3)
البقلة الحمقاء: هي نبتة عشبية لَحمْية من فصيلة " الرجْلياَت " تسمى في لبنان: فرفحين، وتسمى: فَرفْخ، وتسمى في مصر والحجاز: رِجْلة. سميت بالحمقاء؛ لأنها تنبت في مسيل الماء فإذا جاء السيل ذهب بها. إذا خلط بزرها بالخل فإنه يصبر على العطش طويلاً، ولهذا يستصحبها المسافرون معهم. انظر: قاموس الغذاء والتداوي بالنبات لأحمد قدامة ص 80.
(4)
انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 8، وانظر ما قاله عن " السَّكَنْجَبِين " وأنه نافع للصفراء
ص (13) من المرجع السابق.
(5)
انظر: الذخيرة 1 / 39، 13 / 91.
(6)
وهو: ((المناظر في الرياضيات)) . انظره ضمن مؤلفاته: ص 59.
(7)
انظر: الذخيرة 2 / 13، 125، وللقرافي كتاب " اليواقيت في علم المواقيت " انظر: ص 56 القسم الدراسي.
كما له معرفة بعلم الفيزياء يدلُّ عليها تفسيره للصوت وكيفية خروجه، فهو يقرِّر: بأن الصوت عبارة عن هواء خارج عبر مَجَارٍ هندسية دقيقة ذات تجويفات مُحْكمة، وليس شرطاً أن يصدر هذا الصوت عن حيٍّ، بل قد يصدر عن جماد (1) .
وفي الضوء أسهم بكتاب فريد مفيد فيه، وهو: " الاستبصار فيما تدركه
الأبصار " شرح فيه صفة الإبصار وانعكاس الصور، وتشريع العين، وخداع البصر (2) .
…
كما كان للقرافي مهارة صناعية عجيبة، وقدرة اختراعية بديعة (3) ، فقد ابتكر صناعة آلات وتماثيل على هيئة إنسان أو حيوان، قال في " نفائس الأصول "
(
1 / 441) : ((وكذلك بلغني أن الملك الكامل (4) وُضِع له شَمْعدان (5) ، كلما مضى من الليل ساعة انفتح باب منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة السلطان، فإذا انقضتْ عشر ساعات، طَلَع شخص على أعلى الشمعدان، وقال: صبَّح الله السلطان بالسعادة، فيعلم أن الفجر قد طلع. وعَمِلْتُ أنا هذا الشمعدان، وزِدْتُ فيه أن الشمعة يتغيَّر لونها في كل ساعة، وفيه أسَدٌ تتغيَّر عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد، ثم إلى الحُمْرة الشديدة، في كلِّ ساعةٍ لهما لون، فيُعْرف التنبيه في كل ساعةٍ، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص، ويخرج شخص غيره، ويُغْلق بابٌ ويُفتح باب، وإذا طلع الفجر طلع شخص على أعلى الشمعدان وأصبعه في أذنه يشير إلى الأذان، غير أني عجزْتُ عن صنعة الكلام. وصنعْتُ صورة حيوانٍ يمشي ويلتفت يميناً وشمالاً، ويُصفِّر، ولا يتكلم)) (6) .
(1) انظر: باب اللغات في كتابه: نفائس الأصول 1 / 440 - 441
(2)
انظره ضمن مؤلفاته: ص 59.
(3)
انظر مقالاً طريفاً عنوانه: " علماء فنانون: الإمام القرافي " للأستاذ / عبد المجيد وافي، في مجلة الوعي الإسلامي - وزارة أوقاف الكويت عدد (40) السنة الرابعة، عام 1388 هـ، ص 54 - 59.
(4)
هو أبو المعالي الملك الكامل محمد بن الملك العادل محمد بن أيوب من سلاطين الدولة الأيوبية ولد سنة 576هـ كان عارفاً بالأدب، وسمع الحديث ورواه، حكم سنة 615هـ حتى وفاته سنة 635هـ. انظر الوافي بالوفيات 1 / 193.
(5)
الشَّمْعدان: هو عمود طويل له مراكز يوضع عليها الشمع للإنارة. انظر: المعجم الوسيط مادة " شمع ".
(6)
معلوم من الشريعة حرمة صنعة التماثيل، ولكن لسنا ندري كيفية هذه التماثيل وهيئاتها، والظن بالقرافي امتناعه عن صناعة المُحرَّم. ويظهر لي أن صناعته هذه كانت في الصبا قبل بلوغه السنة التاسعة من عمره؛ لأن وفاة الملك كانت سنة 635هـ، وولادة القرافي كانت سنة 626هـ. فانظر - يالبيب - بماذا كان يشتغل أشبال المسلمين بالأمس وقارنه بترهات شبابنا اليوم!!