الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألف كتابه الرائع: " الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة "(1) في الرد على اليهود والنصارى. فرَحْمةُ الله عليه رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
ثانياً: مذهبه الفقهي:
…
لا يساور أحداً الشكُّ بأن الشهاب القرافي مالكيُّ المذهب، بل زعيم المالكية في عصره بإجماع من تَرْجَم له. وإليك عَرْضَ الدلائل القاطعة بمالِكِيَّتِهِ:
(1)
قال في أول كتابه الذخيرة (1/34 - 36) ((أما بعد: فإن الفقه عماد الحق، ونظام الخلق، ووسيلة السعادة الأبدية، ولباب الرسالة المحمدية، مَنْ تحلَّى بلباسه فقد ساد، ومن بالغ في ضبط معالمه فقد شاد. ومن أجَلِّه تحقيقاً، وأقْربِه إلى الحق طريقاً: مذهبُ إمام دار الهجرة النبوية، واختياراتُ آرائه المرضيَّة. لأمور - ثم ساقها
وقال -: ولمَّا وهبني الله من فضله أن جعلني من حَمَلة طلبته، الكاتبين في صحيفته، تعينَّ علَيَّ القيامُ بحقه بحسب الإمكان، واستفراغ الجهد في مكافأة الإحسان. . . ثم قال: وقد آثرْتُ أن أجمع بين الكتب الخمسة التي عكف عليها المالكيون شرقاً وغرباً، حتى لا يفوت أحداً من الناس مطلب، ولا يعوزه أرب. . .)) .
- وقال أيضاً في الذخيرة (1/39)((وبنيت مذهب مالك رحمه الله في أصول الفقه ليظهر عُلوُّ شرفه في اختياره في الأصول كما ظهر في الفروع. . .)) .
(2)
وقع من القرافي في مواطن كثيرة من كتبه أنه إذا أراد حكاية قولٍ من علماء المالكية ولا سيما الباقلاني أن يُعقَّب بقوله: " مناَّ "(2) أو " من أصحابنا "(3)، كما أنه إذا أراد الاستدلال لرأي المالكية عَبَّر بقوله:" لنا "(4) أي: معشر المالكية، وهكذا.
(
3) نصَّ القرافي بنفسه على اعتزائه إلى المذهب المالكي في مقدمات بعض كتبه، منها: كتاب الاستغناء في أحكام الاستثناء ص (85)، قال:((يقول العبد الفقير إلى مغفرة ربه أحمد بن إدريس المالكي عفا الله عنه. . .)) وتكررت نفس العبارة بحروفها تقريباً في مقدمة كتابه: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام. . . ص (30) .
(1) انظره ضمن مؤلفاته ص 49.
(2)
انظر: القسم التحقيقي، الصفحات: 4، 42، 223.
(3)
انظر: القسم التحقيقي، الصفحات: 5، 55، 341.
(4)
انظر: القسم التحقيقي، الصفحات: 24، 32، 499.
وفي مقدمة كتابه: الأمنية في إدراك النية ص (3) قال: ((أما بعد: فيقول الشيخ الفقيه الإمام شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي. . .)) ولا شك بأن عبارات الثناء التي سبقت اسمه ليست من عنده، بل من زيادة النسَّاخ.
(4)
أجمع كل من ترجم له بأنه ينتسب إلى المذهب المالكي، ولهذا جاءت ترجمته في كتب طبقات المالكية (1) دون طبقات المذاهب الأخرى.
هذه الدلائل كافية تماماً لإثبات مذهبه الفقهي، فلا حاجة لجلب النصوص والاستدلال على ما هو مشهور ثابت بالإجماع.
وبالرغم من كونه على المذهب المالكي لم يجْرِمنَّه شنآن قوم على ألَاّ يعدل مع المخالفين لمذهبه بل لم يظلّ متعصباً لمالكيته على حساب الحق الذي يدين به.
بل إنك تلمس في هذا الرجل المنصف محاربته السافرة للجامدين المتعصِّبين ولو كانوا من ذوي قرباه في المذهب. فعندما تعرَّض لما نقله عن " المدونة " من أن القائل لامرأته: أنت عليَّ حرام، أو أنت خَلِيَّة، أو وهبتك لأهلك، أنها تطلق منه بالثلاث، ولا تنفعه النية أنه أراد أقلّ من الثلاث (2) ناقش هذه المسألة ولم يرضها، وقال:
((
فهذه الأحكام حينئذٍ بلا مستندٍ، والفتيا بغير مستند باطلةٌ إجماعاً، وحرامٌ على قائلها ومعتقدها - ثم قال - لكن أكثر الأصحاب وأهل العصر لا يساعدون على هذا وينكرونه. وأعتقد أن ما هم عليه خلاف إجماع الأئمة، وهذا الكلام واضحٌ لمن تأمَّله بعقل سليمٍ، وحُسْن نظرٍ سالمٍ من تعصبات المذاهب التي لا تليق بأخلاق المتقين لله
تعالى)) (3) .
ولهذا لا غرو أن حرص القرافي رحمه الله في موسوعته الفقهية " الذخيرة " على بيان مذاهب الفقهاء عامةً والأئمة الثلاثة خاصةً بجانب مذهب الإمام مالك رحمه الله.
(1) كالديباج المذهب ص 128 - 130، شجرة النور الزكية 1/188 - 189، الفكر السامي للحجوي
2 / 273.
(2)
انظر: المدونة 5 / 393، 397، وانظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص 222 وما بعدها.
(3)
انظر: الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام ص 225.
قال في مقدمة الذخيرة (1/35) ((وقد آثرت التنبيه على مذاهب المخالفين لنا من الأئمة الثلاثة، ومآخذهم في كثير من المسائل؛ تكميلاً للفائدة، ومزيداً في الاطلاع، فإن الحق ليس محصوراً في جهةٍ، فيعلم الفقيه أي المذهبين أقرب للتقوى، وأعلق بالسبب
الأقوى
…
)) .
ومن الدلائل المشيرة إلى إنصافِهِ وتجرُّدِهِ للحق ما يلي:
(1)
جاء في الفروق (1/12) قوله ((وهنا سؤالان مشكلان على المالكية. . .)) . وفي موضع آخر من الفروق (3 / 171) قال: ((وهذا موضع مشكل على
أصحابنا)) .
(2)
بعد مناقشته لمسألة بيع الطعام قبل قبضه قال في الفروق (1/193)
((فبقيت المسألة مشكلة علينا، ويظهر أن الصواب مع الشافعي)) .
(3)
قال في كتابه: الاستغناء في أحكام الاستثناء ص (620)((ولا ينبغي أن ينازعهم (يقصد الشافعية) أصحابنا في هذا؛ فإنه على القواعد)) .
وأخيراً الإمام القرافي رغم وصوله منزلةً علميةً رفيعةً نجده لا يتردد في الاعتراف بعجزه عن ضبط مسألةٍ ما، وهذا في الحقيقة من كمال تواضعه وتجرده، فمثلاً:
لمَّا تأمَّل تعريفه للرخصة في " تنقيح الفصول " قال: ((والذي تقرر عليه حالي في شرح المحصول، وها هنا، أني عاجز عن ضبط الرخصة بحدٍّ جامعٍ مانعٍ، أما جزئيات الرخصة من غير تحديدٍ فلا عُسْر فيه، إنما الصعوبة في الحدِّ على ذلك الوجه)) (1) .
وهكذا إذا أخطأ القرافي وتبيَّن له وجه الصواب، لا يستنكف أن يرجع
عن خطائه. قال في شرح تنقيح الفصول ص (43)((وقولي في الكتاب (يعني المتن) : الحقيقة استعمال اللفظ في موضوعه. صوابه: اللفظة المستعملة أو اللفظ
المستعمل. . .)) .
رحمة الله على الإمام القرافي، وعلى علماء الأمة أجمعين. آمين.
(1) انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 87، نفائس الأصول 1 / 331 - 336.