الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب - ((ومما شُنِّع على مالك رحمه الله مخالفته لحديث بيع الخيار مع روايته له، وهو مَهْيع متسَّع، ومسلك غير ممتنع، فلا يوجد عالم إلا وقد خالف من كتاب الله، وسنة نبيّه عليه الصلاة والسلام أدلةً كثيرة لمعارضٍ راجحٍ عليها عند مخالفها. . .)) (1) .
جـ - ((ينقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العوائد، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع. وليس كذلك. . .)) (2) .
لكنه رحمه الله لم يكن متعصباً للمذهب على حساب الحق وهو في معرض بيان المسائل الأصولية، فمثلاً يقول:
أ - ((فتأمَّل ذلك، فقد غلط فيه جماعة من أكابر الفقهاء المالكية وغيرهم. . .)) (3) .
ب - ((تنبيه: قال مالك والشافعي وابن حنبل: إن النهي يدل على الفساد، وقال أبو حنيفة: هو يدل على الصحَّة، فالكلُّ طردوا أصولهم إلا مالكاً)) (4) .
ولم تقتصر عناية القرافي على نقل آراء علماء مذهبه بل شملت عنايته كذلك رَصْد آراء علماءٍ أفذاذٍ من فحول الأصوليين، ممن لا تعرف لهم تآليف يُعوَّل عليها:
كأحمد بن حنبل، وأبي إسحاق الإسفراييني، وعيسى بن أبان، وأبي الحسن الكرخي، وأبي بكر الصيرفي، وابن سريج وغيرهم. ومن المعتزلة كأبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم، والنظَّام، والجاحظ، والقاضي عبد الجبار وغيرهم.
خامساً: بروز شخصية القرافي الفذَّة في هذا الكتاب
، وفي سائر كتبه عامةً. فلقد وُهِبَ شخصيةً فريدةً مستقلة لم تكن منساقةً وراء الأقوال دون تمحيص، ولم تَنْجرَّ خلف أحدٍ بدافع التبعيّة والتقليد، ومع كونه مالكياً إلاّ أن اختياراته ومناقشاته، وترجيحاته وتنقيحاته، ونقوده وردوده، توحي بانخلاعه عن ربقة التعصّب المذهبي، فكانت نظراته عند عرضه لمسائل الخلاف موضوعيةً حياديةً.
وتلازمنا هذه الشخصية المتميزة دائماً في ثنايا الكتاب من خلال مخالفته لآراء بعض العلماء، وإصداره أحكاماً عليها، وانفراداته في بعض المسائل العلمية.
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 507.
(2)
انظر: القسم التحقيقي ص 504.
(3)
شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 212.
(4)
المصدر السابق ص 176.
ولنأخذ أمثلة سريعة تبرهن صحة الادعاء باستقلالية شخصية القرافي، وبروزها بصورة واضحة في جوانب عديدة:
(1)
مخالفته لبعض آراء العلماء، من ذلك:
أ - مخالفته للجمهور والأكثرين:
- قال: ((اختلف الفضلاء في مسمى لفظ " المضمر " حيث وجد، هل هو جزئي أو كلِّي؟ فرأيت الأكثرين على أن مسماه جزئي - ثم ساق حججهم وقال - والصحيح خلاف هذا المذهب، وعليه الأقلون، وهو الذي أجزم بصحته، وهو أن مسمّاه كلِّي. . .)) (1) .
وقال: ((وأما النكرة في سياق النفي، فهي من العجائب في إطلاق العلماء من النحاة والأصوليين، يقولون: النكرة في سياق النفي تعم، وأكثر هذا الإطلاق
باطل)) (2) .
ب - مخالفته لجمهور المالكية إن لم يكن جميعهم، كما في مسألة التعليل بالاسم، فالقرافي لم ينقل سوى الاتفاق على عدم جواز التعليل بالاسم، بينما أكثر المالكية على جوازه مطلقاً (3) .
جـ - مخالفته للقاضي عبد الوهاب في قوله باشتراط تقدُّم الوجوب في القضاء (4) .
د - مخالفته لأبي إسحاق الشيرازي في بيان المراد بالقياس في اللغات (5) .
هـ - مخالفته لشيخه العز بن عبد السلام في الجواب عن إشكال وهو أن القول بأن النهي لا يقتضي التكرار يلزم منه ألا يوجد عاصٍ في الدنيا ألبتة (6) .
ومخالفته لعيسى بن أبان في قوله يشترط في قبول الخبر ألاّ يخالف الكتاب (7) .
(1) انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 34 - 35.
(2)
انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 181.
(3)
انظر: المسألة: ص 381 من القسم التحقيقي مع التعليق رقم (5) .
(4)
انظر: القسم التحقيقي ص 389 - 390.
(5)
انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 169.
(6)
انظر: القسم التحقيقي، ص 260.
(7)
انظر: القسم التحقيقي، ص 178.
ز - مخالفته لأهل الظاهر في قصرهم حجيّة الإجماع على الصحابة (1) .
ح - مخالفته للباجي في تجويزه لنسخ المتواتر (الكتاب) بالآحاد (2) .
ط - مخالفته للشافعي في قوله بعدم جواز نسخ السنة بالكتاب (3) .
ي - مخالفته للإمام الرازي، وهي كثيرة نبّهت على جملةٍ منها في المبحث التاسع من هذا الفصل (4) .
(2)
تصريحه باختياراته وترجيحاته، من ذلك:
أ - قوله: ((الصحيح أن عرض الطعام وتقديمه للضيف إذنٌ له في تناوله)) (5) .
ب - قوله في مسألة التعليل بالأوصاف المقدَّرة بعد مناقشته للرازي: ((فإنكار الإمام منكر، والحق التعليل بالمقدرات)) (6) .
جـ - في مسألة: هل يكتفى بالظاهر في أمر العدالة؟ قال: ((فالحق مذهب القاضي)) (7) .
د - قال في مسألة تعبُّد النبي صلى الله عليه وسلم بشرع من قبله قبل البعثة، قال:((هذه المسألة المختار فيها أن نقول: متعبِّداً بكسر الباء على أنه اسم فاعل. . .)) (8) .
هـ - قال في مسألة حصول الاتفاق بعد الاختلاف في العصر الثاني، قال:((فيه قولان مبنيان على أن إجماعهم على الخلاف يقتضي أنه الحق، فيمتنع الاتفاق. أو هو مشروط بعدم الاتفاق، وهو الصحيح)) (9) .
(1) انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 74.
(2)
انظر: القسم التحقيقي ص 84.
(3)
انظر: القسم التحقيقي ص 87.
(4)
انظر: القسم الدراسي ص 183، 195.
(5)
انظر: القسم التحقيقي ص 533.
(6)
انظر: القسم التحقيقي ص 384.
(7)
انظر: القسم التحقيقي ص 248.
(8)
انظر: القسم التحقيقي ص 25.
(9)
انظر: القسم التحقيقي ص 138.
(3)
إصداره أحكاماً على بعض الأقوال التي يوردها في كتابه، ويعطيها ما تستحقه من التقدير، من مدحٍ أو قدح. ومن أمثلة ذلك:
أ - لمَّا أورد كلاماً لإمام الحرمين في الإجماع عقَّب القرافي بقوله: ((فهذا تفصيلٌ حسن)) (1) .
ب - ولمّا أورد كلاماً فيه تفصيل لأبي الحسين البصري، قال:((فهذه التفاصيل أولى من التعميم الأول)) (2) .
جـ - قال في مسألة التقليد في أصول الدين: ((والغزالي يميل إليه)) (3) .
د - لمّا أورد قولاً للمصوّبة، قال:((فهذا منع حسن أيضاً على دليل المخطِّئة)) (4) .
هـ - وقال: ((والجنوح إلى مفهوم الصفة هو قول القاضي عبد الجبار، وهو مع تدقيقه قد فاته هذا الموضع)) (5) .
ووقال: ((فلهذه القاعدة قال مالك: أحدُّه للمعصية، وأردُّ شهادته لفسقه، وهو أوجه في النظر من قول الشافعي، لما تقدم من الإشكال على قول الشافعي)) (6) .
ز - وقال: ((وكثير من فقهاء الشافعية يعتمدون على هذا، ويقولون: مذهب الشافعي كذا؛ لأن الحديث صحَّ به، وهو غلط، فلابد من انتفاء المعارض)) (7) .
حـ - ولمّا أورد قول الأصمّ في مسألة تصويب المجتهدين قال عنه: ((إنه في غاية العسر من جهة تصوُّره - ثم قال - فهذا المذهب مشكل)) (8) .
(4)
انفراداته عن سائر الأصوليين في بعض المسائل، هذه الانفرادات لا أزعم تفرّده بها عن غيره، ولا أجزم بذلك، ولكن باستقراءٍ غالب، واطلاع واسع لكتب الأصول، ظهر لي تميّز هذه الآراء وتفردها، مع ما تتَّسم به من جدَّةٍ وحداثة. فمن ذلك:
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 120.
(2)
انظر: القسم التحقيقي 121.
(3)
انظر: القسم التحقيقي ص 489.
(4)
انظر: القسم التحقيقي ص 476.
(5)
انظر: القسم التحقيقي ص 109.
(6)
انظر: القسم التحقيقي ص 239.
(7)
انظر: القسم التحقيقي ص 508.
(8)
انظر: القسم التحقيقي ص 475.
أ - تعريفه للحكم الشرعي بأنه: ((كلام الله القديم المتعلِّق بأفعال المكلفين على وجه الاقتضاء أو التخيير أو ما يوجب ثبوت الحكم أو انتفاءه)) ثم قال: ((فيجتمع في الحدِّ " أو " ثلاث مرات، وحينئذٍ يستقيم وتجمع جميع الأحكام الشرعية، وهذا هو الذي أختاره، ولم أرَ أحداً ركَّب الحدَّ هذا التركيب)) (1) .
ب - جرت عادة الأصوليين تقسيم الحكم الوضعي إلى السبب، والشرط، والمانع، والصحة، والفساد، وبعضهم يزيد الرخصة، والعزيمة. والشهاب القرافي زاد قسماً جديداً إليها، وهو:" التقادير الشرعية ": وهي إعطاء الموجود حكم المعدوم، وإعطاء المعدوم حكم الموجود (2) .
جـ - قرَّر القرافي قاعدة جديدة في العموم، وهي:((العام في الأشخاص مطلق في الأزمان والأمكنة والأحوال والمتعلَّقات)) (3) .
د - تقسيمه للخبر قسمةً ثلاثية، وهي: خبر متواتر، وخبر آحاد، وخبر لا متواتر ولا آحاد، وهو: خبر الواحد المنفرد إذا احتفَّتْ به القرائن حتى أفاد العلم. وقال القرافي عن هذا الثالث: ((وهذا القسم ما علمت له اسماً في الاصطلاح)) (4) .
(1) شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 70. لكن نبه فضيلة شيخنا الدكتور عياض السلمي إلى أن القرافي ليس أول من نصَّ على إدخال الأحكام الوضعية في تعريف الحكم، بل سبقه ابن الحاجب إلى ذلك، فقال: ((هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع)) [مختصر ابن الحاجب بشرح العضد 1 / 220] ، فيصعب التوفيق ولاسيما أن ابن الحاجب شيخ القرافي ولا يُظنُّ عدم اطلاعه على كتابه. انظر كتابه: شهاب الدين القرافي حياته وآراؤه الأصولية ص 82 وما قبلها. لكن يظهر لي أن سَبْق القرافي في محلِّه، إذْ عبَّر بـ" كلام " بدلاً من " خطاب "، وزاد قيد " القديم " وقد أوضح ذلك القرافي في شرحه ص (67) من المطبوع. فهذا موطن السَّبْق والجِدَّة علاوةً على إضافة الأحكام الوضعية في التعريف لكن بصياغة وتركيبٍ يغاير ما عليه عبارة ابن الحاجب التي ربما اطّلع عليها القرافي ولم تعجبه. والله أعلم.
(2)
انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 80. وممن نوَّه إلى أن هذه الزيادة كانت من القرافي تقي الدين الحصني (829 هـ) في كتابه: القواعد 1 / 199.
(3)
انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 200، وقد أشار شيخنا الدكتور عياض السلمي إلى أن القرافي أسبق المتكلمين فيها، ومن عداه من المتقدمين إنما تفهم استنتاجاً لا تصريحاً. وذكر بأن الذين أتوا بعد القرافي اختلفوا وخاضوا فيها وأطالوا وانقسموا ما بين مؤيد ومعارض. انظر: شهاب الدين القرافي حياته وآراؤه الأصولية ص127
(4)
انظر التعليق عليه في: هامش (6) ص 197 من القسم التحقيقي.