المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقتل الملك غازي ورثاؤه - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌مقتل الملك غازي ورثاؤه

-109 -

‌مقتل الملك غازي ورثاؤه

جاءتني رسالة من المنصورة في مصر يقول مرسلها «ع. م. ل» : لقد تركناك في المستشفى في دمشق، فكيف عُدت إلى بغداد وحدّثتنا عن مظاهرة بغداد؟

هذه خلاصة الرسالة. لقد عدت إلى بغداد لأن الله قدّر عليّ أن لا أحطّ الرحال إلاّ لأجدّد الارتحال، كأنني «موكَلٌ بفضاءِ اللهِ أَذْرَعُهُ» كما قال ابن زُرَيق. «يوماً بحُزوى ويوماً بالعقيق»

وإن كنت ما أعرف ما حُزوى هذه ولا أدري أين هي من الأرض (1). فهل أبقى دهري كله متنقلاً مرتحلاً؟

وهل مِن سبيلٍ للشآمِ؟ ونظرةٌ

إلى برَدى قبلَ المماتِ سبيلُ؟

وإلى قاسيون وداري فيه؟ وهل أرى الربيع في الغوطة؟ والثلج على شعفات جبال المزة؟ أم انقطع به عهدي فلا أمل

(1) لا يعرف أحدٌ ما هي «حُزوى» على التحقيق؛ قال ياقوت إنها موضع بنجد في ديار تميم أو جبل من جبال الدهناء أو نخل باليمن أو رمل بالدّهناء. والبيت لأبي محمد الخازن، من أبيات أنشدها بين يدي الصاحب (مجاهد).

ص: 129

لي فيه؟ وهَبُوني عُدتُ، فهل أرى في الشام دار شبابي ومنازل أهلي وأصحابي؟ إن عُدت إليها فهل تعود أيامي فيها؟ هل أقف على القبرَين المتجاورَين النائمَين متعانقَين على كتف الساقية في «الدحداح» كما كان يتعانق ساكناهما في الحياة؟ إن فيهما أبي وأمي. لقد دفنت مسرّات حياتي في هذين الجدثين، أصبحتُ كنبتة قُطعت جذورها. وجدَث ثالث فيه مَن هو أعزّ عليّ منهما، ما عرفت الطريق إليه حتّى أقف عليه. وماذا يفيدني أن أقف عليه وقد حال التراب بيني وبين قطعة عزيزة من قلبي أُودِعَت هذا القبر؟ إني لأريق الدمع كل ليلة أسقي بها هذا القبر البعيد في طرف بلاد الألمان حيث لا يراني أحد، ثم أنتبه فأجد أنه لا الدمع ينفع من فيه ولا الأحزان، ما ينفعني ولا ينفعها إلاّ الرحمة من الله والغفران. فاللهمّ قد أكرمتها بالشهادة فارزقها ثواب الشهداء، وارزقنا الصبر على البلاء.

* * *

لمّا دهمتني آلام المرض وذهبت إلى دمشق كان قد بقي من السنة الجامعية أقلّ من شهر، فكلّفني المفتي الشيخ توفيق خالد رحمه الله (وكان هو الرئيس الأعلى للكلّية) أن اختار من الشام من يدرّس الطلاّب عني هذا الشهر، فاخترت الصديق الشيخ صالح فرفور. وتذكرون أني لمّا كنت معلّماً في الغوطة واضطُررت أن أغيب عن المدرسة لحضور امتحاناتي في كلية الحقوق وكلته لينوب عنّي فيها ووافقَت وزارة المعارف.

خرجت من المستشفى فلم أعُد إلى بيروت، بل إلى بغداد!

ص: 130

ذلك أن السفر كلّ أسبوع من دمشق إلى بيروت ومن بيروت إلى دمشق لم يكن سهلاً ولا ميسوراً، لأن الطريق لم يكن قد سُوّي وعُدّل كما ترونه اليوم بل كان كله لفّات ودورات وطلعات ونزلات، ولم تكن السيارة مريحة مكيّفة كالتي ترونها اليوم، بل كانت في الصيف فرناً يلتهب وفي الشتاء صندوقاً مدفوناً في الثلج، وكانت كلها من سيارات فورد القديمة الصغيرة.

لذلك رضيت بالعودة إلى بغداد، إلى المدرسة الغربية. وكانت في المنزلة دون المدرسة المركزية التي كنت فيها، ولكن كرامة المرء بذاته، بعلمه وخلقه، لا بمنصبه ومرتّبه.

وكانت السنة مليئة بالأحداث؛ فالغضبة لسوريا والمظاهرة التي حدّثتكم حديثها لم تمرّ عليها عشرة أيام حتّى فوجئ الناس بموت الملك غازي، ثم تبيّنوا أنه ما مات موتاً ولكن قُتل قتلاً، وقال الناس إن الإنكليزي قتله بيديه وهو في لندن لم يبارحها وغازي في بغداد لم يخرج منها (1).

لا، ليست أُحْجِية (أي فزّورة) بل هي حقيقة، فيداه اللتان قتله بهما هما -كما كان يقول الناس- عبد الإله ونوري.

أمّا عبد الإله فلم أعرف عنه إلاّ القليل، وأما نوري باشا

(1) ذكرت كتب التاريخ أن الملك غازي كان شديد الاهتمام بالقضايا الوطنية والعربية، وأنه خصّصَ إذاعة من قصره تذيع البيانات الوطنية ضد الاستعمار الإنكليزي والاستعمار الفرنسي، ولذلك سعى الإنكليز إلى التخلص منه فقُتل في حادث غامض حين اصطدمت سيارته بعمود كهربائي مساء 3 نيسان من عام 1939 (مجاهد).

ص: 131

السعيد فعرفت عنه وإن لم ألقَه كثيراً. كان نوري رجل الإنكليز وكان يصرّح بذلك ولا يكتمه، وكان يدلّل عليه ويحتجّ له، ويرى أن العراق في تلك الأيام لم يكن ليستطيع القيام على رجليه فضلاً عن السير وحده، وأنه لا بدّ له ممّن يمسك بيده ويعاونه على مسيره، وكان يرى الإنكليز هم الذين يصلحون لذلك.

كانت لنوري مزايا، لا يمنعني أني كتبت عنه وأني هاجمته يوماً أن أذكر مزاياه (1). لقد مات الرجل وصار بين يدَي الله حسابه عليه، وصارت أعماله ملك المؤرّخين يحكمون في الدنيا بها عليه.

يقولون إنه كان جريئاً، يشهد بذلك أصدقاؤه وأعداؤه. ولقد رأيته بعيني يوم قَتْل غازي، الناس كالبحر يموج غضباً وأصواتهم كالرعد تملأ ما بين الضفّتين تطالب برأسه، وقد وصلَت سيارته إلى رأس الجسر من جهة الكرخ وغدَت بين الحشود تحيط بها من كلّ جانب، إن وصلوا إليه قطّعوه تقطيعاً، فلم يكن منه (وأنا أراه من قريب) إلاّ أن أطلق بوق السيارة بزئير قوي ثم اقتحم بها الناس، فخافوا على أرواحهم فأوسعوا له فنَجَا. ولولا هذا ما كان لينجو منهم. فلست أدري: أأسَمّي هذا الذي رأيته بعيني جرأة وإقدام بطل، أم صنيع يائس، أم فعل مجنون؟

وكان كريماً. لمّا كنت مدرّساً في العراق أول سنة قالوا إن له قصراً مقابل البلاط الملكي، على يمين الذاهب إلى الأعظمية،

(1) انظر مقالة «نوري السعيد» في كتاب «بغداد» (مجاهد).

ص: 132

أراه من بعيد وأنا أمشي في الطريق ما اقتربت منه لأصفه. قالوا إنه لمّا زوج ابنه (وأظنّ أن اسمه -إن صدَقَتني الذاكرة- صباح) دعا «الجَفَلى» ، وهي الدعوة العامّة. ألم تسمعوا قول طرفة:

نحنُ في المَشتاةِ ندعو الجَفَلى

لا ترى الآدِبَ فينا يَنْتَقرْ

ومُدَّت البسط ونُصبت الموائد، فأكل عنده ربع أهل بغداد (كما سمعت لا كما رأيت). وكان بغدادياً أصيلاً عارفاً بمواضعات أهل بغداد وأسلوبهم في كلامهم ومصطلحاتهم فيما بينهم، وطالما أنقذه ذلك من مآزق.

ولكني مع ذلك لا أبرّئه ولا أبرّئ عبد الإله، وهو ابن عمّ غازي، من دم غازي.

قالوا عن سبب موت غازي: «صدمة سيارة» ، ورتّبوا الأمر وأعدّوا المسرح وأخرجوا الرواية، ودعوا الناس إلى مشاهدتها. وقد ذهبت مع من ذهب، وإن كنت في العادة أهرب من كل مكان تزدحم فيه الأقدام، فرأيت سيارة محطّماً مقدّمُها قد هُشّمت واجهتها، وعموداً من الحديد طويلاً ثقيلاً كان غائصاً في الأرض مترَين أو نحوهما، لم أعُد أذكر، قد اقتلعته السيارة من أساسه وقلعت معه كتلة ضخمة من الإسمنت كانت تمسك الأساس، وسقط العمود على السيارة التي كان يسوقها غازي.

وأخذ الناس يتساءلون: كيف قُلع العمود؟ وهل تستطيع سيارة ركوب عادية أن تقتلع مثل هذا العمود؟ وإذا قلعَته فكيف يسقط هذا السقوط؟ ولماذا لم يحطّم إلاّ واجهة السيارة وموضع السائق منها؟ وكان دليل السرعة واقفاً على 120 والمكان لا يبعد

ص: 133

عن القصر بأكثر من أربعمئة متر أو نصف كيل، فهل يمكن أن تصل سرعة السيارة إلى مئة وعشرين وهي لم تمشِ إلاّ هذه المسافة القصيرة؟ وأجمع الرأي على أنها رواية تأليفها ضعيف وإخراجها سيّئ، وأن المشهد كله قد رُتّب ترتيباً.

وقد خبّرني مفتي بغداد الشيخ قاسم القيسي، وهو الذي تولّى غسل غازي قبل دفنه، أن الضربة كانت في قَذَاله، أي في أسفل جمجمته من الخلف. فكيف أصابه العمود بالقذال؟ وبدأ الهمس ثم ارتفع الصوت، ثم صار له دويّ خافت، وصدرَت نشرات تتّهم عبد الإله ونوري بقتل الملك.

وأنا أدوّن هنا ما رأيت وما سمعت، وأنشر الآن ما لم أنشره من قبل. فمن ذلك مشهد تألّمت له وتكلّمت فيه، ولكن بمقدار ما استطعت الكلام، وكان كلامي هذا من أسباب نقلي من بغداد إلى كركوك.

ذلك أنه بعد أيام من قتل الملك جمعوا الطلاّبَ (وكان في مدرستنا نحو من ألف طالب) والأساتذةَ جميعاً في باحة المدرسة، وجاؤوا بخشبة لها سطح مائل فأقاموها وسط الباحة، وجاء ضابط كبير معه جنود وطالب صغير من طلاّب المدرسة، فقرأ الضابط حُكماً من المحكمة العسكرية (أو قراراً من القيادة، لم أعُد أذكر) بأن الطالب قد ثبت أنه اشترك في طبع هذه المنشورات التي تنشر -كما قالوا- الشائعات وتُفسِد المجتمع وتضعف الأمن، وأنه كذا وكذا

وهي أسباب يسهل على من شاء أن يعدّدها. وأنه قد حُكم عليه بخمس جلدات.

ص: 134

خمس جلدات ليست شيئاً يُذكَر، ولكن الشيء الذي يُذكَر ويُنكَر ولا يُنسى (بدليل أني ما نسيته وقد مرّ عليه نحو نصف قرن) هو الطريقة التي نُفّذ بها الجَلد. طريقة أغمضت عينَيّ فلم أستطع مشاهدتها، بل لم أستطع أن أمسك لساني عن نقدها، وإن لم يسمع ما قلته إلاّ من كان حولي.

لقد أوقفوا الطالب أمام هذه الخشبة، وجهه إليها، وقيدوا يديه بسيور من الجلد مثبّتة فيها، وحلّوا زناره وأنزلوا بنطاله وما تحت البنطال، حتّى كشفوا إليتيه أمام الحاضرين جميعاً، ووضعوا عليهما خرقة قالوا إنها معقمة مبلّلة بمحلول برمنغنات، ثم جلدوه فوقها.

ولم يكن الجَلْد مؤلماً، ولكن المؤلم كشف عورته وفضيحته، حتّى إنه انقطع عن المدرسة فلم أرَه من بعدُ فيها، فكان في هذه الجلدات الخمس القضاء عليه وقتله نفسياً.

* * *

أمّا ما كان في ذلك اليوم فإني أقرأ وصفه الذي كتبتُه أنا في «الرسالة» (عدد الرابع من ربيع الأول سنة 1358)، فوالله لولا أني رأيته بعيني وأني عشت فيه، وأني كتبته ونشرته، لشككت بصدقه، بل لحكمت بكذبه.

شيء عجيب لا يكاد يُصدَّق. إنها قد تُفجَع أسرة بعزيز لها مات فيكسو أفرادها كلهم لباس الحزن وتبكي عيونهم جميعاً من هول المصاب، أما أن تفقد مدينة كبيرة مثل بغداد رجلاً، فيبكيه رجالها ونساؤها جميعاً، ويستخفّ الحزن فيهم

ص: 135

كهولاً يقطر من أردانهم الوقار وشباباً صلداً يقحمون ضَرَم النار ويركبون الأخطار، ويُغشى على طلاّب يرفعون من قوّتهم الأثقال ويستهينون بالأهوال، وطالبات لهنّ مع طُهر الجمال مثل عزائم الرجال، وعجائز رأين من الأهوال والمصائب الثقال ما لا ينال منهن بعده تحوّل الأحوال

فهذا هو العجب، وهذا ما كان.

حسبت ما رأيت -بادي الرأي- تصنّعاً وظننته تمثيلاً، فاشمأزّت نفسي منه، ثم لمّا توالت المشاهد وتعاقبَت، وأبصرت طرق البلد وأزقّتها (أي درابينها كما يقولون) تتلاحق فيها المواكب كلها يحمل صورة الملك الشابّ القتيل، ابن الستّ والعشرين سنة، ويبكي، ويتقدّم كلَّ موكب عريفٌ منهم يقول شعراً عامّياً، لكنه يسمو بصدقه أحياناً حتّى ليعلو على كلّ شعر بليغ. وليتني حفظت هذه الأشعار

منها موكب كان يقول عريفه ويردّد الناس بعده:

الله أكبرْ يا عربْ

غازي انفقدْ من دارَه

واهتزّت اركان السّما

من صدمةِ السّيارهْ

والبنات، يا لمواكب البنات:

حُطّ القناعُ فلمْ تُستَرْ مخدَّرةٌ

ومُزّقت أوجُهٌ تمزيقَ أبرادِ

وسفرت وجوه ما حسرت عنها يوماً جدرانُ بيوتأهليها، ولُطمت خدود ما طمعَت بلمسها شفاه عاشقيها، وبرزت للناس مخدَّرات ما أبصرَتها إلاّ عيون أرحامهاوذويها. ولاتعجبوا، فهذه عادة الجاهلية رجع بها الحزن إلى مجتمع إسلامي أبطل الإسلامُ فيه عادات الجاهلية. ألا تذكرون ما قال الشاعر العبسي:

ص: 136

أو لعلي أفسدت بروايتي البيتين فإنني أحفظهما من أيام الصغر (1).

هذا الحزن الجماعي الصادق والفرح الجماعي الصادق لا يكاد يعرفه الناس في غير هذا الشعب العاطفي، الشعب العربي الذي يعيش بقلوب أفراده، على حين خلت صدور أكثر الشعوب من القلوب!

لقد أخذوني إلى الإذاعة لألقي كلمة عن غازي ما أعددتها ولا فكّرت فيها، فوَقَفتُ (2) السيارةَ ربع ساعة فقط، فقعدت في طرف مقهى في الكرخ وأخذت ورقة من البقّال المجاور للمقهى

(1) الشعر للرّبيع بن زياد العبسي. والبيتان على ما ذُكرا هنا، إلا أن في عجز البيت الثاني اضطراباً بين المصادر؛ فهو في الأغاني:«قد قُمْنَ قبل تَبَلُّج الأَسْحار» ، وفي الأمثال للمُفضَّل الضَبّي:«يضربْنَ أوْجُهَهنّ بالأَسْحار» ، وفي الحماسة البصرية:«بالصُّبْحِ قبل تَبَلّج الأسْحار» ، وفي التذكرة الحمدونية:«يَلْطُمْنَ أوجُهَهنّ بالأسْحار» ، وفي نهاية الأرَب للنّويري:«يلطُمْنَ حُرَّ الوَجه بالأسحار» . وبعدهما:

قد كُنّ يَخبأن الوجوه تستّراً

فاليوم حين بَدَوْنَ للنُّظّار

والأبيات في رثاء مالك بن زهير بن رَواحة العبسي، في خبر طويل تجدونه في كتب الأدب (مجاهد).

(2)

وقف الثلاثي يتعدّى بنفسه، ومنه كلمة الوقف والأوقاف. أما أوقف فلم تُسمَع عن العرب.

ص: 137

وسطرت كلمات، ما كان لعقلي فيها عمل بل عملها كلها قلبي. فلما وصلت إلى الإذاعة نسيت الورقة التي كتبتها وقرأت ماكان مسطّراً في عيون من كانوا حولي. ولم تكن قد عُرفت هذه الأشرطة المسجّلة لأسمع ما قلت، ولكن خبّرني الناس أنني كنت أتكلم وأنا أبكي والناس يسمعون وهم يبكون. ثم حاولت أن أدوّن ما قلت، ولكن هيهات!

لقد أودعت مجلّة «الرسالة» (عدد 27 صفر 1358) صورة ميّتة عنها، تمثالاً لها يحكيها ويشبهها ولكنه من الشمع! الذي يقرؤها في «الرسالة» يقرأ معاني الكلمة التي قلتها وألفاظاً ربما كانت شبيهة بألفاظها، ولكن الذي سمع مني سمع هذه الألفاظ وهذه المعاني بشكل آخر وسمعها ثلاث مرّات: مرّة في صوتي الذي كان فيه معنى الحزن جلياً ظاهراً لا خفياً مستتراً، ولهجتي التي كانت تمثّل الحزن، لا تمثيل المسرح بل تمثيل المرآة لمن هو قائم أمامها، وظروف البلد التي كانت كلها ظروف الحزن جعلت قلوب السامعين متفتحة للازدياد من الحزن.

لقد كان شيء إذا شكّ فيه من يقرأ وصفه الآن لَما كان مبالغاً في هذا الشكّ، لأن الأمر كان غريباً، ولكن واقعاً. إني لأفكّر الآن: فيمَ كان هذا كله وما الذي سبّبه؟ هل كان غازي المثل الأعلى للحاكم الصالح؟ هل كان الصورة الكاملة للإنسان المثالي؟ أنا ما لقيته ولا أدري ماذا كان في خلواته، ماذا كانت صلته بربه؟ ماذا كان حفاظه على فضائل أمته ووفاؤه لأمجاد ماضيه؟ هل كان شاباً همّه المتع الرخيصة يشغله سفساف الأمور عن معاليها أم كان صالحاً يراقب ربه ويخدم شعبه؟

ص: 138

كل هذا لا أدريه، ولكن الذي أدريه وأثق به أنه صنع في شهوره الأخيرة ما قرّبه من شعبه وحبّبه إليهم، ودلّ على أنه بدأ يخرج على إرادة مستعمري بلاده وعلى وكلائهم في هذه البلاد. ولكلّ مستعمر (مع الأسف) ولكلّ عدوّ لنا وكلاء منّا يعيشون بيننا، نقول هذا والأسى يملأ قلوبنا. لقد ربّاه الإنكليز، ولكنه أراد أن يكون لهم كما كان موسى عليه السلام لفرعون عليه اللعنة، فلما أحسّوا منه ذلك قتلوه.

لقد طبعت سنة 1380 الدفعة الثانية من كتبي، وكان فيها كتاب سَمّيته «بغداد» ، أودعته هذه المرثيّة لغازي (1) فمنعته حكومة العراق يومئذ من دخول العراق وصادرَت ما وصلَت إليه من نسخه. لا تسألوني لماذا. أنا لا أدري لماذا!

ولو كان غازي يومئذ حياً لأرجف قوم فقالوا إني أتزلف إليه، ولو كان له وارث لقالوا إني أتقرّب من وارثه. ولكني نشرت الكتاب بعدما مات غازي وابن غازي، وخلت لأرض من كل وارث أو وليّ لغازي. فماذا تظنون أني أقصد بالثناء عليه بعد موته؟

وهل ماتت المروءات، وخلت الدنيا من الوفاء حتّى صار من يذكر ميتاً بخير يُضطرّ إلى أن يدافع عن نفسه؟ وهل فسد الناس حتّى ما يَمدح مادحٌ حاكماً من الحكّام إلاّ لجلب مصلحة ولا ينقده أو يذمّه إلاّ قصد انتقام؟ لقد عرفتم أني هجوت الشاعر الأديب شفيق جبري يوم كان أستاذي في كلية الآداب سنة 1931 وكان رئيسي وأنا موظف في وزارة المعارف، يوم كان المتزلّفون

(1) انظر مقالة «يا غازي عليك رحمة الله» في كتاب «بغداد» (مجاهد).

ص: 139

يحفّون به ويلتفّون حوله، فلما عُزل وجاؤوا بالدكتور كامل أشرفية انفضّ عنه من كان يحفّ به (وما يحفّون على الحقيقة إلاّ بالكرسي الذي كان يجلس عليه). انقطعوا عنه لما انقطع أملهم فيه، كنت أنا وحدي الذي كتبت في جريدة «ألف باء» أثني على جبري وأذكر أدبه وفضله، وأهجو أشرفية وأسرد صادقاً معايبه ومثالبه.

ولما كان انقلاب بكر صدقي الذي حدّثتكم حديثه وجاء حكمت سليمان (وهو أخو محمود شوكت باشا الذي تولّى خلع السلطان) هاجمتُ حكمت سليمان في كل مكان. فلما تركت العراق ولم تعُد لي صلة به ولم يبقَ لحُكّامه طريق إلى نفعي ولا إلى ضرّي، كتبت في «ألف باء» في دمشق أدافع عن حكمت سليمان الذي لم أعرفه ولم أكلّمه، ولكني رأيته مظلوماً فرأيت من المروءة أن أقف في جانب المظلوم.

ولي مواقف كثيرة مثل هذه. لكن لماذا أذكرها؟ فخراً بها؟ ربما فخرت بها، ولكن المقصد الأول أن أثبت للناس أن هذه الأمة فيها خير، فيها من يمدح صادقاً من غير طمع بفائدة وينقد صادقاً من غير تشفٍّ ولا انتقام.

* * *

كنت أدرّس في الغربية طلاّباً أذكياء، أحببتهم فأحبّوني ومحضتهم النصح فأكبروني، ونبغ منهم جماعة كان أظهرهم شخصية (وإن كان أصغرهم سناً وجسماً) طالب اسمه نجدة فتحي صفوت. كان أبوه مدرّس رسم، وورث عنه الحاسّة الفنّية كما يقولون. وهو -كما يدلّ اسمه- من أسرة يبدو أن أصلها تركي، وإن كان اسم نجدة قديماً، وحسبكم نجدة بن عامر البكري الذي

ص: 140

كان بطلاً وكان أميراً، وكانت له مزاياه، لولا أنه من الخوارج.

نجدة فتحي صفوت طالب ذكي حاد الذكاء، جادّ صادق الجدّ، وكان لا يكاد يفارقني؛ يكون معي يُصغي إليّ في غرفة الدرس، ويمشي معي بين الدروس، وربما صحبني في الطريق. ولمّا تركت بغداد بقي مدة طويلة يراسلني، ولمّا انقطعت «الرسالة» عن الشام أيام الحرب الثانية جمع الأعداد التي لم تُرسَل إلى الشام فبعث إليّ فهارسها لأعرف ما نُشر لي فيها. صار أديباً وصدرت له كتب، ثم ربطه السلك الخارجي، ثم تدرج في مناصب وزارة الخارجية، ثم انقطع عني خبره.

وقعت لي في هذه المدرسة حوادث صغار ولكنها عميقة الآثار، منها أني كنت يوماً أجتاز باحتها الواسعة خارجاً من محاضرة قاصداً إلقاء أخرى، وأنا أُمضي دائماً هذه الفسحة بين المحاضرات في الباحات لا أكاد ألج غرفة المدرّسين إلاّ نادراً، لأن الطلاّب يمشون معي يسألونني، وتتوالى الأسئلة والإجابات فتضيع هذه الفسحة بين المحاضرات.

أقول إني كنت يوماً أجتاز الباحة، فرأيت ركناً فيه مدرّب رياضي ألماني والطلاّب يتدرّبون على مبادئ الملاكمة، فلما رآني (وكنت شاباً قوي الجسد متين التركيب، وكانت مقاييس جسمي: العنق والصدر والبطن والأطراف، لا تختلف عن المقاييس المثالية لأبطال كمال الأجسام إلاّ بسبعة في المئة فقط)، فقال لي ضاحكاً: هل تدخل معهم فرقة الملاكمة؟ قلت بلا تردّد: نعم.

ص: 141