الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-118 -
ثورة في دوما: نار شَبَّتْ ثم خمدت
أثارت جريدة «الشرق الأوسط» (في عدد 11/ 8/84) مسألة: هل من الأفضل في كتابة المذكّرات التركيز على الأحداث والوقائع، أم تسجيل المبادئ التي يعتنقها صاحب المذكّرات؟ وأنا أسوق السؤال بعبارة أخرى: هل المذكّرات مجرد سرد للأحداث، أم أن يبيّن الكاتب أسبابها وعللها ويحكم عليها أو لها؟
ولكي أجيب على هذا السؤال أحدّد معنى الذكريات: الإنسان يُحِسّ؛ يسمع صوتاً أو يرى لوناً. «يُحِسّ» ثم «يدرك» أن هذا الصوت صوت إنسان أو حيوان، وأن هذا اللون لون نبات أو جماد. «الإحساس» أولاً ثم «الإدراك» ، ثم يأتي الفهم والمعايشة. ثم يبتعد الإنسان عن هذه الأحداث فينساها كلها أو بعضها، فما بقي منها في الذاكرة فهذه هي الذكريات.
أنا قد «أذكر» الحادثة فقط وأنسى ظروفها: زمانها ومكانها وناسها، وربما كان الوضوح في ذهني للناس دون الحادثة، أو الحادثة دون أبطالها وأصحابها. فإذا أردت أن أكتب ذكرياتي
(وهذا ما أصنعه الآن) أنظر، فما أجده في ذاكرتي أنقله منها إلى الورق، أو إلى المسجّلة، أثبته بصوتي في شريطها فيطبعه أخونا طاهر أبو بكر، أحسن الله إليه وإلى الجريدة وأصحابها.
وفي الذاكرة ما لا أُحصيه من الحوادث والمشاعر وأوصاف الناس وأخبارهم، ولكنها لا تحضر إلاّ من طريق تداعي الأفكار؛ فالشيء يُذكّر بمثيله أو بنقيضه، أو بما هو مقترن به، أو بما هو متفرع عنه أو مرتبط به.
وبعد، فهل رأيتم حبّات العقد الجميل، مصفوفة فيه متناسقة، مؤتلفة ومختلفة، يأتي جمالها من اختلافها وائتلافها لأن «الضدّ يُظهر حُسنَه الضدُّ»
…
فانقطع خيط العقد وتناثرت حبّاته، فأقبلت تبحث عنها، تجمعها، فأمسكت بأقلّها وضاع منك أكثرها، تدحرج حتّى سقط في النهر أو وقع في البئر.
هذا مثال ذكرياتي في دوما وما سيأتي بعدها؛ انقطع خيط التاريخ الذي يربطها فلم أعُد أعرف المتأخر منها من المتقدّم، ولقد غاب عني الكثير منها، طواه النسيان، وما طواه النسيان قلّما ينشره الإنسان. لذلك أسرد ما يحضرني من ذكريات دوما، لا أراعي فيه ترتيب السنين لأني صرت أعجز عن أن أراعيه.
أهل دوما مشتغلون بالزراعة، مُقبِلون عليها بارعون فيها، يُحبّون الأرض فيأخذون منها بمقدار ما يعطونها، فهم عاملون جادّون، قلّما يعرفون اللهو وقلّما يفرّطون في ساعات العمر. لذلك لم يَجِد القانون الذي ابتدعوه بعد ذلك بزمن طويل وسمّوه
كذباً قانون «الإصلاح الزراعي» (1)، لم يجد سبيلاً إلى دخول البلد، لأن الأرض مقسّمة بين أهلها من غير تقسيم رسمي، ليس فيها ملكيات كبيرة فكلّها قطع صغيرة، يملك كلَّ قطعة منها واحدٌ منهم يقوم عليها ويرعاها.
ولذلك كانوا يقولون عن أهل دوما قديماً: «إنهم يعيشون فقراء ويموتون أغنياء» ، أي أنهم يصرفون همّهم كلّه للأرض فلا يستمتعون استمتاع الغنيّ بماله، فإذا ماتوا عنها كانوا أغنياء بما تركوا لورثتهم منها.
انظروا إلى هذا الكون تروا فيه نهاراً مضيئاً وليلاً مظلماً، وربيعاً ضاحكاً بالزهر وشتاء باكياً بالمطر، وورداً وشوكاً، وتروا في الناس إيماناً وكفراً، وفضيلة ورذيلة، ونقصاً وشيئاً يشبه الكمال
…
هذا هو حال الإنسان وهذه هي صورة الدنيا. ولو شاء الله لجعل الناس أُمّة واحدة تمشي كلّها في طريق الجنّة، تسلك جادة الصواب، تأتي الخير كلّه وتدع الشرّ كلّه، وإذن يكون في الأرض ملائكة يمشون لأن الملائكة {لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} ، ولكن الله لم يُسكِن الأرضَ ملائكةً بل أسكنها بشراً، ولكل مجتمع بشري عيوبه ونقائصه وله حسناته وكمالاته.
فمن عيوب المجتمع في دوما أنهم كانوا مشهورين قديماً بكثرة الحلف بالطلاق، حتّى رووا أن قاضياً جاء أيام الدولة العثمانية فأراد أن يمنع هذه الخلّة القبيحة، فأخرج منادياً ينادي
في الناس أن من حلف بالطلاق عاقبه القاضي. وليؤكّد المنادي كلامه قال لهم: "عليه هو الطلاق من امرأته إنّ هذا هو كلام القاضي، لم يتزيد به ولم يبالغ"! وقد تكون هذه القصّة متخيَّلة لا أصل لها وربما كانت مَسوقة مساق النكتة، ولكن لديّ حقيقة سمعتها بأذني:
كنت في غرفتي في قصر الحكومة، وكان بين جدار القصر والشارع حديقة ضيقة فيها أشجار تظلل الطريق، فسمعت نسوة قاعدات فيها، مستندات إلى جدار القصر تحت شبّاكي يتناقشن في أمر، فإذا واحدة منهن تحلف بالطلاق أن الذي تقوله صواب!
امرأة تحلف بالطلاق، سمعتها بأذني! وشهرة دوما قديماً بالحلف بالطلاق كشهرة أهل لبنان بسبّ الدين، وهي أبشع وأشنع من الحلف بالطلاق، وقد قلّ هذا وذاك فصاروا يقولون بدلاً من كلمة الطلاق «الطرباق» أو «الطرشاق»
…
كلمات لا معنى لها يُجرونها على ألسنتهم بحكم عادتهم على الحلف بالطلاق، ليتخلصوا من تلك العادة، وأهل لبنان صاروا يقولون «يحرق ديكك» بدلاً من سبّ الدين.
* * *
وكان في دوما أوائل عهدي بالوصول إليها أمر بشع جداً، لا يأتيه إلاّ الطغام وسَفَلة الناس والفسقة السفهاء منهم، شيء اسمه «الشكار» . موجود كما سمعت في الشام، عشت ولم أرَه بحمد الله ولا رأيت من رآه، ولولا أني قرأت وصفه في مذكّرات الرئيس خالد العظم لما عرفت ما هو. ولن أشرحه ولن أوضّحه، فإنني
إن فعلت أكون داعية سوء ودالاًّ على الشرّ بدلاً من أن أكون داعية خير ودالاًّ عليه.
وجاء وأنا قاضي دوما رئيسٌ لمخفرها، شركسي قوي حازم يغار على الفضيلة ويدافع عنها، فصار يتعقب من يعمل هذه «الشكارات» (التي قُضي عليها الآن ولم أعد أسمع لها ذكراً). ولقد بثّ عيونه وأرصاده فعلم أن منزلاً من المنازل يقام فيه شكار، فداهمه وطوّقه بجنده، وأراد أن يقبض على من قام به فقاوموه وأطلقوا عليه وعلى جنده الرصاص، فلم يكن يقدر أن يدافع عن نفسه إلاّ بإطلاق النار، فأصاب واحداً منهم فقتله.
فلما كان اليوم التالي، وكنت في محكمتي أنظر في قضية من القضايا، وأذكر أن أحد المحامين الواقفين أمامي كان الأستاذ داود التكريتي، وكان الأستاذ التكريتي والأستاذ ظافر القاسمي رحمه الله والأستاذ عاصم الإنكليزي قد أنشؤوا داراً للنشر وطبعوا كتباً مفيدة.
كنّا في نظر القضية، وإذا أصوات تأتي من الشارع وجلبة وصياح وضوضاء، فنظرت فإذا جموع أولها يكاد يبلغ باب القصر وآخرها لا يبدو لنا من كثرتها. فوَقفتُ المحاكمةَ وبعثت أنظر ما الذي جرى، فقالوا: إن دوما ثائرة وإن آلافاً مؤلفة من أهلها الذين غضبوا لقتل رئيس المخفر لهذا الرجل منهم قد حملوا ما وجدوا من أسلحة، وتوجهوا ثائرين مهدّدين إلى قصر الحكومة.
وكان منهم من يحمل بندقية صيد، ومنهم من يحمل مسدساً، ومنهم من يحمل سيفاً أو يلوّح بسكِّين أو عصاً، وكان
الغضب ظاهراً على وجوههم وأصواتُهم بالتهديد والوعيد تملأ الفضاء من حول القصر، ثم رأيت الدرك (أي شرطة القرى والأطراف) قد أغلقوا باب القصر وأحكموا رِتَاجه، فذهبت إلى قائم المقام (وكان صديقنا الدكتور عبد الكريم العائدي رحمه الله، وهو رجل وطنيّ شارك في الثورة السورية وله مواقف)، فقلت له: أنا أرى أن تفتح الباب لأن إغلاقه يزيد هذه النار ضراماً ويدفعهم إلى اقتحام القصر، وإذا فعلوا لا يدري إلاّ الله ماذا يكون منهم. فأبى وظهر عليه الخوف، فقلت: يا دكتور، أنت تخاف؟ وأنت الذي شارك في الثورة وخاض معامع القتال؟ قال: لا أستطيع أن أواجه هؤلاء، بل أستنجد بدمشق.
ورفع سماعة الهاتف يطلب النجدة منها. قلت: إلى أن تصل النجدة يكون المحذور قد وقع، والأَولى أن تفتح الباب وتواجههم. فلما أبى قلت: أنا أفتح الباب وأخرج إليهم. فحاول أن يثنيني عن هذا وخاف عليّ فحذّرني من النتائج، وكان الموظفون قد اجتمعوا عنده، فقلت له: هؤلاء كلهم شهود على أنني خارج إليهم على مسؤوليتي أنا وليس عليك من تبعة ذلك شيء. قال: افعل ما تراه.
فتحت الباب وخرجت إليهم. وكنت بالعمامة البيضاء لأنني قاضي البلد، وكان أكثر الناس يُحبّونني. فوقفت أشير إليهم بيدي أن يسكتوا وهم يصيحون ويصخبون، ولقد همّ بعض سفهائهم بإلقاء الحجارة عليّ، ففتحت لهم صدري وقلت: افعلوا ما ترون. فلما رأى ذلك عقلاؤهم ثنوهم عنّي وأسكتوهم وانتظروا ما الذي
أقوله لهم. فألقيت عليهم خطبة بيّنت فيها أن الله لا يريد الظلم وأن الدماء مَصونة، وأن كل مجرم يعاقَب في الدنيا وفي الآخرة، فإذا كان هذا الذي قُتل إنما قُتل مظلوماً فأنا أضمن لكم أن يعاقَب القاتل حتّى ترضوا.
وكانوا يحملون القتيل معهم، فلما رأيته قلت لهم: أهكذا يُشيّع الميت المسلم إلى مدفنه؟ أهكذا تكون الجنائز؟ أهذا هو جلال الموت؟ هل يقابَل الموت بالصياح وبالسخط على الله أم يقابَل بذكر الله والاستغفار لمن مات والصلاة عليه والاعتبار به، ثم يكون التحقيق وعقاب من يثبت أنه مجرم؟
وما زلت بهم حتّى مالوا إليّ، واستمعوا مني وجعلناها جنازة شرعية، ودعوت الموظفين ومشينا وراء النعش كما يمشي الناس في الجنائز حتّى بلغنا مكان الصلاة على الأموات، فنظّمت الناس صفوفاً وتقدمت فصلّيت عليه. وشاركوني جميعاً (أعني من كان منهم على طهارة) تكبيرات الصلاة على الميت، ثم عدت فوعظتهم حتّى لانت قلوبهم وسالت مدامعهم وندموا على ما صنعوا. ثم عدنا وكأنها لم تكن مظاهرة ولم تكن فوضى، ولم يكن في القلب غِلّ ولا غضب ولا رغبة في الانتقام.
فلما بلغنا قصر الحكومة عائدين كانت القوّة التي طلبها قائم المقام قد وصلت من الشام، فاشتدّ بهم ساعده وقوِيَ بهم ظهره، وأراد أن يُظهِر عِزّة الحكومة وجبروتها فيقبض على المتسبّبين فيما كان. فأخذته جانباً وقلت له: لقد سمعتَني أعدهم أنهم إذا تركوا ما هم فيه وعادوا إلى ما يأمرهم به دينهم ويوافقه نظام حكومتهم فإنه
لن ينالهم سوء، أفتريد الآن أن تُخلِف وعدي وتُظهِرني أمامهم بمظهر من يَعِد ولا يفي؟
قال: لا بُدّ من ذلك. فقلت: آلآن بعد أن صرفتُ عنك بإذن الله السوء وخلّصتك من أزمة ما كان يعلم ما تجرّ إليه إلاّ الله؟ آلآن أظهرتَ قُوّتك وشِدّتك، ولمّا كانوا محيطين بالقصر يطوّقونه ويريدون أن يهجموا عليه ويضرموا النار فيه هربت إلى غرفتك؟
وغضبتُ وقلت له: والله لئن لم تعُد هذه القوّة من حيث جاءت لأقودنّ أنا مظاهرة أخرى أسوقها عليك وعلى مَن وراءك، وأنت تعلم أن هذه كانت صناعتي قديماً وأنني طالما قُدت طلاّب الشام في المظاهرات وفي نضال الفرنسيين، وستحمل أنت نتائج ما سيكون. وكان عاقلاً فعاد إليه عقله، وقال: ماذا تريد؟ قلت: ندخل أولاً إلى الغرفة فلا يحسن أن نتكلم في الطريق والقوم يحيطون بنا. فدخل معي إلى غرفتي واتفقنا على أن تعود القوّة التي جاءت من الشام إلى الشام، وأن يُطوى بساط الحادث على ما كان فيه. وتمّ ذلك.
وكنّا في تلك الأيام نسهر -معشر القُضاة- مساء الثلاثاء عند القاضي الكبير عبد الرؤوف بك سلطان، المفتّش العامّ لوزارة العدل، ونجتمع صباح الجمعة عند شيخ قُضاة الشام مصطفى بك بَرْمَدا، الذي لم أرَ قاضياً مثله في سعة علمه وفي سداد حكمه وفي هيبته وفي علوّ منزلته. فقصصت عليه ما كان فقال لي: احمد الله أنك نجحت ولم تُصَب بسوء فاستحققتَ الشكر على ذلك، ولو أنك أُصِبت بشيء للامك الناس على أنك عرّضت نفسك لما
ليس من شأنها وما ليس واجباً عليها. قلت: صحيح، والشاعر يقول:
والناسُ مَنْ يلقَ خيراً قائلونَ له
…
ما يشتهي، ولأُمِّ المُخطئِ الهَبَلُ
* * *
ومن طرائف الحوادث أن الدكتور عبد الكريم العائدي، الذي كان قائم المقام يومئذ في دوما، أطول رجل في دمشق. فلما حوّلنا المظاهرة إلى جنازة ومشينا وراءها قرّبني منه تكرمة لي ولأن القاضي الشرعي يلي قائم المقام في الدرجة، فنظرت فإذا ذروة عمامتي تبلغ ثديه لا تصل إلى كتفه، فابتعدت عنه، فصار يمدّ يده يمسك بيدي ليقرّبني منه، فقرصت يده (وكان صديقي) قرصة مؤلمة وقلت له هامساً: ابتعد عني الله يرضى عليك، لا تفضحني بين الناس.
وله في طوله أخبار عجيبة، منها أن الدكتور سعيد فتّاح الإمام، وهو طبيب أسنان قديم صديق للعائدي وزميله في طبّ الأسنان، كانت له سيارة من سيارات الشعب (فولكس فاغن) وكان يمشي بها، فرأى الدكتور العائدي واقفاً فدعاه ليوصله. فقال له ضاحكاً: كيف أدخل في هذه السيارة الصغيرة، وهل تتسع لي؟ فأجابه: آخذك على نقلتين!
كان مدار فخر العرب إن فخروا، ومدحهم إن مدحوا، على قطبَين اثنين:
إنّا إذا اشتدّ الزمانُ ونابَ خَطبٌ وادلهمّ
ألفَيت حولَ بيوتِنا عددَ الشجاعةِ والكرمْ
وهما نتيجتان لازمتان لحياة العرب قبل الإسلام. كانوا يعيشون في صحارى مقفرة في مجموعة من الخيام، أو في قرى لا تبلغ أمُّها (أم القرى: مكّة المكرمة) مبلغ قرية من قرى هذه الأيام. فإذا نزل أحدهم بقبيلة أو أوى إلى قرية لم يجد مطعماً يأكل فيه ولا بيّاعاً يشتري منه ولا فندقاً ينزله، فإن لم يكرموه ويطعموه مات جوعاً، فكان الكرم ضرورة لا بد منها، وكان كما يُقال الآن «مسألة حياة أو موت» . ولم تكن لهم حكومة ولا كان فيهم قوّة تكفل الأمن وتحقّق العدل وتأخذ على يد الظالم لتنصف منه المظلوم، فكان اعتماد الواحد منهم في حفظ حياته على شجاعة نفسه وقوّة ساعده.
ولكني ما قلت الذي قلته عن موقفي من المظاهرة فخراً بنفسي ولا مدحاً لها، فلماذا قلته إذن؟ لأن الذكريات صورة لصاحبها، لا يكفي فيها أن يعرض أحداث حياته بل صورة نفسه: خلائقه وعاداته. والحياة طريق طويل مليء بالمفاجآت وبالمصائب التي لا تتوقعها ولا تحسب حسابها، فكيف يكون موقفك أمامها إن واجهتَها؟
الموقف الذي تقفه عفواً بلا تفكير، هذا الذي يُسمّى بردّ الفعل (رِفلكس). فمِن الناس مَن إذا واجه الخطر جَمُدَ فكره وجسده فلا يصنع شيئاً، ومنهم من يقابل الخطر بالهرب، ومنهم من يواجهه بالهجوم
…
وأنا من النوع المهاجم.
وكل إنسان يتردّد لحظات قد تطول أو تقصر قبل أن يقرّر ماذا يصنع، وكلّما كان وقت التردّد أقصر كان الرجل أجرأ وكان
أقرب إلى الظفر. وأنا أنتقل في أقلّ من لحظة من حالة الهدوء إلى حالة الغضب، أي من السكون إلى الحركة. يكون نبضي عادياً، ففي هذه اللحظة تسرع ضرباته وأكون كمحرّك السيارة الذي يشتغل ويدور من لمسة واحدة يلمسها السائق بمفتاحه. ومن السيارات ما هو أقوى وأسرع ولكن محرّكه لا يحمى ولا يتحرك إلاّ بعد مدّة أطول.
الذي يُقدم في لحظة التردّد قبل أن ينتبه خصمه منها ينجح غالباً، وربما جاءته مرّة من المرّات وجد فيها أمامه مَن هو أسرع منه قراراً وأشدّ قوّة فينهزم.
ولا تحسبوا هذا الهجوم جرأة وشجاعة، بل هو تعبير عن الخوف. الخوف إما أن يدفعك إلى الأمام فتهجم أو إلى الوراء فتنهزم. كلاهما مظهر له وتعبير عنه، حتّى إن وليم جيمس يبالغ فيقول بأن الذي يواجهه الخطر يهرب أو يهجم ثم يخاف؛ أي أن الخوف إذا خلا من هذه المظاهر الجسدية لا يكون خوفاً.
وفي هذا ردّ على من يقول بأن الإيمان في القلب، فيزعم أن قلبه ممتلئ بالإيمان ولكنه لا يصلّي ولا يصوم ولا يقوم بعمل من الأعمال التي يستلزمها الإيمان ويقتضيها والتي هي نتيجة له. كالعاشق المتيّم تدخل عليه محبوبته فلا تزداد نبضات قلبه ولا يتغير لون وجهه ولا يتحرّك من مكانه، هل يصدق أحد أنه عاشق؟
ولكن ما لي تركت ذكرياتي وقعدت أتفلسف؟ سامحوني،
فلعل في هذه الفلسفة شيئاً من التسرية عني والمنفعة لكم.
* * *
كانت أكثر قضايا المحكمة الشرعية هيّنة، دعاوى نفقة تطالب بها المرأة فيدفعها الرجل بدعوى المتابعة. وأكثر دعاوى النفقة لا تريد المرأة منها النفقة بذاتها، ولكنها تعبير عن ضيقها بالحياة الزوجية وألمها منها وشكواها من معاملة الزوج، فلا تجد أمامها إلاّ واحداً من طريقَين: دعوى النفقة، أو إذا يئست فدعوى التفريق. وكنت لا أكتفي بمنطوق الدعوى وإنما أحاول البحث عن أسباب إقامتها. وفي كثير من الحالات كنت أوفَّق إلى الإصلاح بين الزوجين.
وأول شروط الإصلاح أن أرفع أيدي الأهل عن الزوجين. كنت أجد الزوج يدخل ومعه جماعة من أهله ومن أقربائه (فزعة يفزعون له)، وتدخل المرأة ومعها فزعة من أهلها، هؤلاء الذين يوقدون نار الخلاف كلّما أوشكت أن تنطفئ، مع أن الله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا انفردا تصالحا. فكنت أصنع شيئاً عجيباً، أؤخّر الدعوى ساعة أو نصف ساعة وأُدخِل الزوجين إلى غرفة منفردة وأدعهما ينتظران موعد المحاكمة والنداء عليهما باسْمَيهما. فإذا انفردا بدآ بالخلاف والسباب، ثم تدرّجا إلى العتاب، ثم اقتربا من المصالحة، فلا يخرجان غالباً إلاّ وهما مصطلحان.
فأنا أنصح القراء -ثمرةً لتجارِبي الطويلة في المحكمة وتجارِبي التي هي أطول منها في الحياة- ألاّ يدخل أهل الزوج
وأهل الزوجة بينهما إلاّ في حالات الخلاف الشديد، أو لدفع ظلم لا يجوز السكوت عن مثله.
تستحقّ المرأة النفقةَ نقداً إذا لم يقدّم لها الزوج حاجتها من الطعام اللائق بأمثاله، واللباس الذي تلبسه زوجات أمثاله، والمسكن الذي يسكن فيه مَن هو مثله في مورده المالي ومنزلته الاجتماعية. فإذا ادّعت النفقة تحقّقنا أولاً من قبضها معجَّل مهرها، ثم من صلاح المسكن الذي أعدّه لها. فإذا كانت قد استوفت معجّل مهرها وكان المسكن هو من اللائق بأمثاله من الناس أُجبرت على المتابعة.
كنّا قديماً في الشام نصنع ما كانوا يصنعونه في مصر إلى عهد قريب، أي أنهم يُكرِهون الزوجة إكراهاً عن طريق الشرطة إلى دخول المسكن الشرعي (بيت الطاعة). ثم وجدنا من أكثر من خمسين سنة أنها طريقة عقيمة لا فائدة منها. تصوّروا لو أن الزوجة دخلَت المسكن الشرعي بإكراه الشرطة، فمَن الذي يمنعها أن تخرج منه؟ إمّا أن نغلقه عليها فيكون مسكن الزوجية سجناً، والمرأة ليست مجرِمة ليُحكَم عليها بالسجن، أو أن نقيم على كلّ مسكن زوجي شرطياً يحرمها من الخروج، وكلاهما غير ممكن. فلم يبقَ إذن من ثمرة للحكم عليها بالمتابعة إلاّ حرمانها النفقة واعتبارها ناشزة (1).
(1) لا أقول «ناشز» كما هو شائع، لأنها ليست من الصفات الخاصّة بالنساء كطالق وحائض، بل إن الرجل قد ينشز {وإنِ امرأةٌ خافَتْ من بعلِها نُشوزاً} . وهذه فائدة استفدتها من المحامي الحلبي الأستاذ عبد القادر السيسبي رحمه الله، أقرُّ بذلك اعترافاً له بالفضل.
وقد كان بعض القُضاة هنا يعتبرون المرأة ناشزة مُدّة هم يحدّدونها، وهذا لا أصل له في الشرع ولا في القانون، فالنشوز هو أن تترك المرأة دار الزوجية بعد صلاحها (صلاح الدار) وبعد قبضها معجّل مهرها، وبيدها هي وحدها أن تُنهي النشوز وأن تعود إلى دار الزوجية.
يلي دعاوى النفقة في أهمّيتها وفي كثرتها دعاوى الحضانة، ثم دعاوى النسب، ثم الدعاوى المالية التي تكون أحياناً على مبالغ كبيرة جداً ويحضرها كبار المحامين من دمشق، وهي دعاوى الإرث، ودعاوى الأوقاف (قبل أن يُلغي حسني الزعيم الأوقاف الذرّية، المسماة في مصر الأهلية) ودعاوى الحَجْر وفكّ الحَجر، وأنواع أخرى كثيرة من الدعاوى التي تدخل في اختصاص المحكمة الشرعية. وربما عدت خلال هذه الأحاديث إلى الإشارة إليها وبيان طرف من أخبارها، والحديث طويل وستأتي بقيته إن شاء الله في الحلقات الآتيات.
* * *