المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إيوان كسرى و «سر من رأى» - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌إيوان كسرى و «سر من رأى»

-101 -

‌إيوان كسرى و «سُرّ مَن رأى»

كنت يومئذ شاباً، لا زوجة لي ولا ولد، ولا أَرَب لي في لهو أرتاد أماكنه ولا شغل من أشغال الدنيا أسعى وراءه، فكان وقتي كله للمطالعة وللتدريس. كنت مع الطلاّب دائماً، في غرفة الدرس وفي الفرصة بين الدرسين، وفي الطريق إلى البيت بعد الدروس. يلحقونني، يحفّون بي يسألونني، أدلّهم على كتب فيقرؤونها ثم يأتون إليّ ليناقشوني فيما قرؤوا فيها. ولم تكن سنّي تزيد كثيراً على أسنانهم، فلقد كنت على عتبة الثلاثين وكان أكثرهم فوق العشرين، فما بيني وبينهم إلاّ بضع سنين. ويكون معنا غالباً أنور رحمه الله، وهو سَنيني (أي في مثل سِنّي).

وسألتهم مرّة: أين إيوان كسرى؟ قالوا: قريب.

ولم أدرِ أنهم في هذا على طريقة البدو في بوادي الشام؛ إذا قالوا قريب أو قالوا على رمية حجر يكون المكان على مسيرة يوم أو أكثر ساعات اليوم! قلت: وكيف لنا بالذهاب؟ قالوا: نحن نذهب معك، نركب من الباب الشرقي. وهم يلفظون القاف جيماً معطّشة (وبعض العرب يلفظونها كافاً فارسية، وأهل الشام ومصر

ص: 15

يجعلونها همزة). أي أنهم قالوا: من الباب الشرجي!

ولمّا وصلنا بغداد أنا وأنور استوقفنا عربة، فقلت لصاحبها: خذنا إلى محلّ نَزِه، فقال: تروحون باب شرجي؟ فحسبته يسخر منّا ويشتمنا لأنه ذكر باب الشرج، وكادت تكون بيننا معركة لولا أنه كان ذكياً فأدرك وقال: أعني الباب الشرقي.

خرجنا من الباب الشرقي، ولم يكن عنده يومئذ بنيان كثير إلاّ في حيّ البتاويين حيث تقوم بعض البيوت الأنيقة، ثم مشينا بين صفّين من النخيل إلى الهنيدي، وكان فيه المعسكر البريطاني الذي صار -بعد- معسكر الرشيد. وعبرنا نهر ديالي، أحد روافد دجلة، وهو يمرّ في حدائق الرستمية التي لم أرَ مثلها إلاّ قليلاً، في سعتها وفي جمالها وفي ترتيبها وفي روعة حدائقها وجمال أشجارها، كأنها القناطر الخيرية في مصر. وكان فيها دار المعلّمين الريفية التي كان يدرّس فيها رفيقنا أحمد مظهر العظمة رحمه الله، والأستاذ العالِم الزراعيّ الأثري وصفي زكريا رحمه الله، وهو صاحب الكتاب العظيم «جولة أثرية في شمال سورية» ، وقد كان عندي فضاع مني، وفتّشت عن نسخة أخرى له فلم أجدها، ويا ليت بعض الناشرين يعود إليه فيطبعه.

وفي دار المعلّمين الريفية وقعت حادثة من حوادث التضحيات والمروءات لم تدوَّن، وما أكثر مروءاتنا وتضحياتنا التي لم ندوّنها فنسيناها. إن دجلة ارتفع ماؤها في إحدى السنين وأوشكَت بغداد على الغرق، فاجتمع الأساتذة والطلاّب في دار المعلّمين الريفية، واستعدّوا لكسر نهر ديالي ليفيض عليهم

ص: 16

فينقذوا بذلك بغداد، ولو هلكوا في سبيلها.

* * *

مشينا بعد ديالي طويلاً في برّية ما فيها شيء حتّى طلعت علينا قرية سلمان باك، أي سلمان الطاهر، القائمة على قبر سلمان الفارسي رضي الله عنه، تلوح على حاشية الأفق تَضِح (1) وتغيب، ثم تبينّاها واضحة ورأينا قبّة مسجدها، ورأينا بجانبها بناء ضخماً كأنه جبل. فقلت: ما هذا؟ قال مَن معي: هذه قبّة سلمان الفارسي، وهذا إيوان كسرى.

ولما وصلنا إلى الإيوان لم نجد إلاّ طاقاً عالياً متهدّماً وجداراً شامخاً متصدّعاً أحسب أن علوّه عمارة من سبع طبقات، وهو مائل ميلاً خفيفاً جداً بحيث يستطيع الإنسان أن يتسلّقه إذا مد يده إلى آجرّةٍ فيه (وهو مبني بالآجر كسائر أبنية العراق) فتثبّت من قوّتها فأمسك بها، ونقل قدمه من آجرّة إلى أخرى أعلى منها.

وصعدت وكدت أقطع ثلاثة أرباع الجدار، وأنا ابن الجبال نشأت بين صخور قاسيون وعلى سفوحه، وإذا بأحد الطلاّب يصيح بي من الأرض: ياأستاذ، ياأستاذ! يريد أن ألتفت حتّى يصوّرني. فلما تلفّتُّ ونظرت تحتي ورأيت الناس بحجم طيور الحمام دار رأسي ولم أعُد أعي على نفسي، وكدت أسقط. ولكن الله أودع في الإنسان ذخيرة كامنة من القوّة يستخدمها عند الشدائد، فنزلت وأنا لا أشعر كيف نزلت فما وعيت إلاّ وأنا على الأرض.

(1) وَضَحَ يَضِحُ مثل وَعَدَ يَعِدُ.

ص: 17

وقبل ذلك بقليل كان صديقنا الجليل الأستاذ عبد الرزاق السنهوري (الذي عملت معه أنا والأستاذ نهاد القاسم في بعض اللجان القانونية رحمه الله ورحم القاسم) كان قد صعد كما صعدت حتّى صار على سطح الطاق، فلم يعُد يستطيع النزول ولم تصل السلالم إليه، واهتمّت الحكومة به فجاؤوا بطيارة أدلوا منها سلّماً من الحبال، وجعلَت تحوم فوقه وتدنو منه ليتمسّك بالحبل فلا يستطيع، ومرّت ساعة طويلة، والناس مزدحمون على الأرض ينظرون، حتّى أمسك بالحبل فسحبوه إلى الطيارة. ثم وكلوا مَن يمنع الناس من صعود الجدار.

هذا الذي قلته هو الهيكل العظمي لزيارتنا للإيوان، فمن أراده مكسواً باللحم والشحم، لابساً ثيابه متحلياً بحليته، وجد ذلك في مقالتي في «الرسالة» في العدد الصادر يوم 12 ذي القعدة 1355هـ (1).

* * *

ولم تكن في العراق في تلك الأيام (1936 - 1937) جامعة، إنما كان فيها مدرسة المعلّمين العالية، وكانت يومئذ في طور التأسيس لم يتمّ إنشاؤها ولم تكتمل فروعها. وهذا النوع من المدارس موجود في فرنسا، فمنه المدرسة المركزية للهندسة (إيكول سنترال) ومدرسة «البوليتكنيك» للفنون الهندسية العسكرية، وكانت شهادة إحداها أعلى رتبة من الإجازة

(1) وهي مقالة «على إيوان كسرى» المنشورة في كتاب «بغداد» (مجاهد).

ص: 18

(الليسانس)، أو هكذا كانت على عهدي بها.

درّست في دار المعلّمين هذه مع عملي في الثانوية المركزية ودار العلوم الشرعية، وكان من أساتذتها الصديق الدكتور كامل عيّاد، وهو والدكتور منير العجلاني والدكتور جميل صليبا وقبلهما الدكتور نجيب الأرمنازي من أوائل الذين حملوا شهادة الدكتوراة في سوريا، أي قبل أكثر من خمسين سنة.

ولست أكتب الآن للحديث عن دار المعلّمين، ولكن عن سفرة قصيرة المدى على الأرض عميقة الأثر في النفس، وجدت بين أوراقي مقالة عنها. لا أنقل لكم المقالة فهي في مجلّة «الرسالة» عدد يوم الإثنين الثامن صفر 1356، فمن كان عنده مجموعة من «الرسالة» استطاع أن يقرأها (1). ولكن آخذ فقرات منها فأضعها خلال كتابتي الآن عنها. والحقيقة واحدة فيما نشرتُه في المقالة وما أكتبه الآن، كالبنت في ثياب التفضّل (أي ثياب الدار) هي البنت نفسها في ثياب استقبال الضيوف. ألا تلبس لضيوفها أجمل أثوابها وتأخذ أفضل زينتها؟ بلى، وإن كانت لا تبدّل جسدها ولا طولها ولا لون عينيها ولا شكل أنفها وشفتيها. كذلك الكاتب، يُلبِس الحقيقة من غلائل الخيال ومن أردية البيان ما يجمّلها به ويحسّنها، ولكن لا يبدّلها. فإن ازداد التزويق ووصل «الماكياج» إلى الحدّ الذي يكاد يُخفي حقيقتها (فلا يبدو منها إلاّ قناع التجمّل التي قنّعوها به، ولا تكاد تُعرَف إلاّ بقامتها ومشيتها وحركاتها، يستدلّ بها الناظر عليها ولا يتأكد منها ويُكمِل بتخيّله

(1) وهي مقالة «سُرّ مَن رأى» المنشورة في كتاب «بغداد» (مجاهد).

ص: 19

وتذكّره الذي يراه منها ببصره) كان شيئاً يشبه -ولو من بعيد- الأدب الرمزي.

* * *

لما اجترح المعتصم هذه السيّئة التي جرّت أذيالها الوسخة المسمومة قروناً على تاريخنا، واستقدم غلمان الأتراك واتخذهم درعه وحصنه وجعل عليهم اعتماده، ودلّلهم حتّى عاثوا في بغداد فساداً وآذوا الناس، ذهب أهل بغداد إلى المعتصم يشكونهم، فلما لم يسمع منهم هدّدوه بالحرب، فقال: وكيف تحاربونني؟! كأنه يريد أن يقول إن الجيش معه والسلاح في يديه والمال تحت أمره. قالوا: نحاربك بسِهام الأسحار. قال: وما سهام الأسحار؟ قالوا: ندعو الله عليك. قال: هذه والله حرب ما لي بها طاقة. ووعدهم خيراً، وذهب فبنى «سُرّ مَن رأى» ونقل جنوده وحاشيته إليها.

فيا أيها المظلومون في أرجاء الأرض، يا من قَوي عليهم عدوّهم وعدوّ دينهم ونالهم بالأذى وسامهم الخسف، وطغى فيهم وبغى حتّى ظنّ أن الله غافل عمّا يعمل. أقول لهؤلاء: ما لكم نسيتم هذا السلاح؟ ولماذا لا تحاربون بسهام الأسحار، بعد أن تبذلوا جهدكم في العودة إلى دينكم والقيام بما أوجبه الله عليكم من جهاد عدوّه وعدوّكم؟

* * *

أنا مولع بالوقوف على الآثار لأني أحسّ أمامها كأني عشت عمري وعمر غيري، أتصوّر كأني مع مَن مضى، أتخيلهم كيف

ص: 20

كانوا يعيشون حين أرى ما خلّفوا وراءهم من الآثار، أعيش تاريخهم كأنني عُدت إليه، فإن التاريخ زمان ومكان وناس، أمّا الزمان الذي مضى فلا يعود، وأما الناس الذين ماتوا فلا يرجعون، ولم يبقَ إلاّ المكان؛ فأمكنة الآثار هي أوعية التاريخ.

لقد رأيت الأهرام وأعمدة بَعْلَبَكّ وتَدْمُر وبابل، وأكثر الآثار الإسلامية. ورأيت مسجد قوّة الإسلام ومنارة قطب الدين في دهلي، وزرت قصر شارلمان في آخن (أكس لا شابيل)، وعرفت الآثار العمرانية الباقية في مصر والشام وغيرهما، في الأموي وقبّة الصخرة ومسجد عمرو، وفي المدارس والقلاع والأسوار في كثير من البلدان. لكن ما رأيت مثل «سُرّ مَن رأى» .

إن المدن تخرب بالحروب وبالزلازل وبالأحداث الطبيعية والبشرية، تخرب شيئاً بعد شيء بعد أن تكون قد عاشت حتّى أدركَتها الشيخوخة ونال منها البِلى. ولكن سُرّ مَن رأى ماتت فجأة؛ ماتت وهي شابّة لمّا تكمل الخمسين، وخمسون سنة في عمر المدن خمس ساعات من عمر الإنسان. ما أعرف مدينة ماتت مثلها فجأة إلاّ بومبي (في إيطاليا) لمّا ثار بها بركان فيزوف، فغطّاها بلحاف من الحمم برد فتجمّد فدُفنَت فيه حيّة، فصار قبراً لها. لقد لبثَت تحته حتّى كُشف عنها الغطاء بعد قرون وقرون، فعادت كما كانت ولكن بلا روح: الذي كان قاعداً في داره مع امرأته ظهر كما كان حين نزلَت عليه حمم البركان، والذي كان يشتغل في دكّانه، والماشي في طريقه، والعاري يغتسل في حَمّامه! وكذلك يُبعَث الناس يوم القيامة على ما ماتوا عليه.

ص: 21

فاللهمّ أمِتْنا على الإيمان. ربّ تَوَفّني مسلماً وألحقني بالصالحين، وإن لم أكن منهم.

والذي نقّب عن «سُرّ مَن رأى» وكشفها للناس هو هرسفلد الألماني الذي حفر فيها سنة 1911 طول السنة وبعض 1912 بإشارة من أستاذه سار. أفليس من أعجب العجب أن آثارنا لم يبحث عنها ولم يكتشفها لنا إلاّ غرباء عنّا؟ إن في جوار دمشق قريتين هما مَعْلولا وجَبَعْدين؛ هاتان القريتان وحدهما دون أهل الأرض جميعاً تتكلمان اللغة السريانية، واللغة السريانية لهجة من اللغة الآرامية. فما فكّر أحد منّا في درس هذه اللغة ومعرفتها حتّى جاء مستشرق شابّ من آخر الدنيا، من ألمانيا، اسمه رايخ ليدرسها!

أما إن هذه الآثار لو كانت لغيرنا لحًرثت هذه البقاع حرثاً، ثم أُخرجت كنوزها فملأت نفوسَ أهلها عِزّة بماضيهم، ثم كانت لهم أجنحةً يطيرون بها في معارج العلاء في مستقبلهم.

إن تحت هذه الأرض عِلْماً ومجداً وجلالاً، ولكن ليس فوقها مَن يحفل العلم والمجد والجلال.

* * *

سرنا إلى «سُرّ مَن رأى» في قافلة من كبار طلاّب دار المعلّمين العالية في بغداد، ومعهم الدكتور كامل عياد وأنا، فجزنا بالأعظمية وعبرنا النهر إلى الكاظمية، ثم استقبلنا الفضاء. رأينا على طريقنا جسراً قائماً وحده في الفلاة ذا قناطر ثلاث، عليه كتابة ظاهرة تدلّ على أنه بُني في أواخر العهد العباسي على نهر دُجَيل

ص: 22

ليسقي مدينة حَربي. فتلفّتنا حولنا فإذا النهر قد جفّ، والمدينة قد مُحيت، والعهد العباسي قد انقضى. وإذا بلاد الله تتقدّم ونحن أحياناً نتأخر ونرجع إلى الوراء.

سرنا بعدها قليلاً فطلعت علينا «المَلْويّة» على حاشية الأفق، وهي منارة جامع المتوكّل، عالية تبدو من بعيد كالصرح الهائل. وهي علَم البلد، كما أن قبّة الصخرة علَم القدس وبرج إيفل علامة باريس وتمثال الحرية علامة أمريكا.

ثم بلغنا النهر فعبرناه ودخلنا قرية كبيرة هي سامرّاء، نستريح في مدرستها ساعة بعد مسيرة ثلاث ساعات في السيارة. ثم ولجنا حرم التاريخ، يصحبنا معلّمو المدرسة الذين أولونا من أياديهم وأرونا من كرمهم وحسن أخلاقهم ما أذكره لهم بالشكر بعد هذا الزمن المديد، فلولاهم ما رأينا شيئاً ولا عرفنا من أين ندخل أو نخرج في هذا العالم الواسع. هذا ما كان في تلك الأيام، ولعلهم وضعوا الآن عند الآثار أدلاّء وطبعوا مطبوعات تُرشِد السائحين، لأنه عالَم، لأنه شيء عظيم.

سرنا أكثر من خمسة وعشرين كيلاً بمقياس السيارات (بالكيلومتراج) وما قطعنا إلاّ نصف البلد من المسجد الجامع إلى الدور العليا؛ هذا كله نصف البلد وعلى الضفّة الأخرى مثله! وأنا لم أستطع أن أتصوّر كيف كانت هذه البرّية الواسعة التي يضلّ فيها البصر مدينة عامرة، وكيف كان الناس يقطعونها، وأن بين أولها وآخرها كما بين أول بغداد اليوم وآخرها، بل كالمسافة بين طرفَي القاهرة أو أمثالها من المدن الكبرى.

ص: 23

كان أول ما رأينا المسجد الجامع. وهو كبير جداً، لو وُضعت قرية سامراء الحاضرة (كما رأيناها يومئذ) فيه لوسعها وفضل عنها. لم يبقَ منه إلاّ السور، وهو مبنيّ من اللبِن تدعمه من ظاهره أبراج مستديرة، ووراء السور المنارة، وهي تُعرف عند الناس بالملويّة، أي المدوَّرة (من لوى يلوي). سلّمها من ظاهرها ليس فيه درجات، ولكنه طريق حلزوني ملتو، عريض في أوله ثم يضيق في أعلاه، مؤلف من سبع طبقات. صعدت أنا أربعاً منها ثم دار رأسي فلم أعُد أستطيع الصعود، وبلغ إخواننا ومعهم الدكتور عياد ذروتها، وأخذوا صورة لهم من الأرض وهم واقفون في أعلاها.

وتحتها قاعدة مربعة أقيمت حديثاً لتقويتها، طول كل ضلع من أضلاعها أربعون متراً. وارتفاع المنارة قريب من خمسة وثمانين متراً، أي أنها تكاد بعلوّها تحاذي منارات المسجد الحرام! وقد بُنيت على غرارها منارة جامع ابن طولون في القاهرة، لا أنها ملويّة مثلها بل أن دَرَجها من ظاهرها. وبينهما نحو خمس وأربعين سنة فقط. ثم تُركت هذه الصفة في المآذن واتُّخذ لها سلّم من جوفها، ثم تفنّنوا فيه، ففي مسجد تنكز في دمشق منارة لها سلّمان لا يلتقيان، يصعد الصاعد من أحدهما فلا يرى النازل من الآخر.

تركنا المسجد وسرنا في جهة واحدة لئلاّ نضل وسط هذه الأطلال، وكان حولنا تلال من التراب، كانت قبل 1150 سنة دوراً عامرة وقصوراً فخمة، فجزنا بها حتّى بلغنا أنقاضاً حول

ص: 24

سور كبير أخبرَنا معلّم المدرسة أنها أنقاض قصر أم عيسى بنت الواثق (والواثق هو الخليفة العباسي الذي جاء بعد المتوكّل).

وعلا بنا على تلّ عال وقال: انظروا. فنظرت فلم أرَ إلاّ برية واسعة لا شيء فيها، فقال: أمعن النظر ودقّق في الأرض. ففعلت فرأيت تلالاً صغيرة منتظمة على شكل دوائر متقاطعة على نمط هندسي بديع، يمتدّ إلى ما لا يُدرِك بصري آخره. فقلت وأنا مشدوه: ما هذا؟ قال: ميدان تجري فيه الخيل أكثر من خمسة آلاف متر، فلا تغيب عن عينَي الخليفة وهو يرقبها من هنا، من مرقبه العالي.

ومضينا نمرّ على الأطلال حتّى بلغنا آثار سور كأنه -من سعته وامتداده- سور مدينة. قال دليلنا: هذا قصر الخليفة. ولم يكن قصراً واحداً ولكنها قصور عددت منها أكثر من عشرة. فسرنا خلالها في طريق مبلَّط، لا تزال آثار بلاطه ظاهرة وقد مرّ عليها نحو اثني عشر قرناً، فجعلت أتخيل كم مشى على هذا الطريق من خلفاء وأمراء وكم شهد من جلال وجمال، حتّى بلغنا القصر الصيفي للمتوكّل.

أيّ نظام للتهوية في عصر ما كان فيه كهرباء ولا مراوح ولا مكيفات؟ كنّا فوق الأرض نكاد نهلك من حرارة الشمس، فلما نزلنا رُدّت الروح إلينا، فوجدنا برد الظل وسريان النسيم، بل لقد أحسسنا بالبرد. وفيه البِرْكة، بِركة المتوكل التي كنت أدرّس الطلاب قصيدة البحتري فيها فآخذ ما قال على أنه من مبالغات الشعراء وإلاّ فما عسى أن تبلغ هذه البركة حتّى تظلّ دجلة

ص: 25

«كالغَيرى» منها، تنافسها وتباهيها، وحتى تبدو في الليل كأن سماءً رُكِّبت فيها؟ لقد قِسْتُ قطرها قياساً تقريبياً بخُطاي من أوله إلى آخره فإذا القطر نحو مئتَي متر، كما قاسه البحتري من قبل، ولكن البحتري لم يَقِسْه بالمتر فما كانت قد عُرفت الأمتار، ولم يقِسْه بالذراع فالذراع مقياس ميت وكلّ ما في عالَم الشعر حيّ، لقد قاسها بالسَّمَك!

لا يبلغُ السّمَكُ المَحصورُ غايتَها

لِبُعْدِ ما بينَ قاصيها ودانيها

هذا وهي جافّة، فكيف تكون لو عادت وامتلأت بالماء تنصبّ فيها وفوده «كالخَيلِ خارِجةً مِن حَبلِ مُجرِيها» ؟ وقامت حول الماء بيوت «الآنِساتِ إذا لاحَتْ مَغانِيها» ؟ (1) إذن لرأيت أكثر ممّا قال البحتري.

ثم وقفنا في الإيوان الكبير، وهو مبنيّ على شكل إيوان كسرى، ولكنه أجمل وإن كان أصغر. وقفنا صامتين خاشعين تتقاذفنا عواطف وذكريات لا يُدرى مداها، نتخيل هذا الإيوان وكم عُقِد فيه من مجالس، وكم وقف فيه من ملوك، وكم كُتب

(1) من قصيدة للبحتري فيها:

يا مَن رأى البِرْكَةَ الحَسناءَ رُؤيَتَها

والآنِساتِ إذا لاحَتْ مَغانيها

ما بالُ دجلَةَ كَالغَيرى تُنافِسُها

في الحُسنِ طَوْراً وأَطواراً تُباهيها؟

تَنْحَطُّ فيها وُفودُ الماءِ مُعْجَلَةً

كَالخَيلِ خارِجَةً مِن حَبلِ مُجريها

كأنّما الفِضَّةُ البَيضاءُ سائِلَةً

مِنَ السَبائِكِ تَجري في مَجاريها

(مجاهد).

ص: 26

فيه من تاريخ السؤدد والنصر. إنا نتخيل هذا القصر كيف كان يعجّ بالحياة ويفيض بالحبّ، حتّى إننا كنّا نسمع الأصوات ونُبصِر الألوان ونشمّ عبق العطر! ونحسّ كأننا نرى الخليفة ونشهد مجالس الأدب والغناء. كم عاش في هذا المكان من عواطف! كم خفقَت فيه من قلوب! كم امتلأ بالحياة!

إن في هذا القصر من الذكريات التي تحتويها هذه الجدران الخرساء وهذا اللبِن البارد ما لو حدّثَت به لجاءت بالعجب العُجاب. إن سؤال الديار وأخبار الأطلال أقدمُ فنون الشعر العربي، وهو أصدق هذه الفنون.

* * *

وخرجنا من القصر ونحن نحسّ كأننا قد خرجنا من أنفسنا، وانتقلنا من العالَم الشعري الساحر إلى عالم الحقيقة الوعر البارد. ومررنا على جُبّ واسع للماء خبّرنا مَن معنا أن بعض الجاهلين من الأدلاّء والتراجمة يدّعون بأنه سجن ويختلقون عنه الأكاذيب. وهؤلاء الأدلّة والتراجمة بلاء أزرق، يُفسِدون تاريخنا ويشوّهون ماضينا؛ في جامع بني أميّة منارة يسمّيها الناس مئذنة عيسى، سمعت مرّة أحد هؤلاء التراجمة يقول بالفرنسية لبعض السياح:"هذه المنارة هي التي بناها الوليد بن هارون الرشيد ليسوع، ولذلك سُمّيت منارة عيسى"، وهؤلاء السياح يكتبون في دفاترهم ما يقول فينشرونه على أنه كتاب علمي عن الشرق وأهله!

ولقد قرأت مرّة لكاتبة فرنسية زارت دمشق وكتبت كتاباً عنها قالت فيه: "ويخرج أهل دمشق كل مساء لزيارة قبر النبي في مكّة،

ص: 27

ثم يرجعون ليناموا في بيوتهم"! وما قبر النبي في مكّة، ولا مكّة في دمشق، ولا يخرج أهل دمشق ولا يدخلون، ولكن الحماقة ألوان والجنون فنون.

* * *

يا أيها القرّاء، إن آثارنا كثيرة تملأ الأرض، ولكن ليس فيها مثل «سُرّ مَن رأى» ، لأنها لم تعِش إلاّ مدة قصيرة، ثم رحل ساكنوها عنها فبقيَت كما كانت. فيا أيها القراء، قولوا لمن يزور العراق: لا تنسَ أن ترى آثار «سُرّ مَن رأى» ، فإنه إن فاتك مرآها لم تجد في الآثار مثلها.

* * *

ص: 28